كمن أراد أن ينزل عليه الوحي صعدت إلى سطح العمارة وبقيت أتأمل السماء, كان الليل في أوله, نسمات باردة تغازل صدري العاري وتقذف بداخلي حالة ملتبسة من الانشراح والحزن الباهت الغامض الذي أحال نفسي إلى لحظات متوهجة من تلك الحياة سيئة الذكر, حياة روح تتخبط منذ سنين طوال داخل جحيم التنقيب وهي تحارب من أجل لحظة العيش المربكة وسعادة الحرية التي لا تأتي إلا في وسط ذبول الصوت.. أي صوت, مهما كان هذا الصوت مزعجا أومريحا أوغير قابل لأن يسمع. في هذا الليل الداجي والنجوم مبعثرة في السماء كأنها قلادة لؤلؤية تلمع وتختفي, كنت أنتظر شيئا ما, لحظة صفاء كاملة وحدوث ما من شأنه منح بصيرتي ضوءها المفقود.. أي ضوء مهما كان لونه ودرجة توهجه وقدرته على اختراق لحظتي. كنت أناجي شمسي الغائبة. رائحة المطر والتربة الطينية المبللة وأحلام مضى زمنها وهي تعاود بإلحاح شديد (أشعر به كضغط مسموم) التحرك في بقع الروح الملوثة بنقاط التعاسة والحشرجة اللعينة, تلك التي تسبق الموت بثوان معدودات.
– لماذا تلوث تفكيرك بالموت?
كانت ناريمان جالسة في الطرف الآخر من الطاولة المطاطية ذات اللون الأبيض, كنا بكافيتيريا الهلال التي تقع في وسط المدينة. محاطين بالعشرات من الطلبة والطالبات وموسيقى »مانو شاو« الماريخوانية بإيقاعاتها »الأمريكولاتينية« تفتح نوافذ الأجساد المعروقة, اللزجة والتي تحتفي بصمت مذهل بلحن الجسد المهمش, المسلوخ عن وعيه الكامل, المتشوه بأسئلة المرحلة, ببهتان الزمن, بتفسخ العمر, بثرثرة نهاية السنة والجامعة التي لم تعد إلا مزرعة لتفريخ الدجاج وتكديس الشهادات العليا والزيادة في أرقام البطالين أوالمتحررين أوالمتسلقين أوأصحاب العاهات الجنسية والشواذ الذين اكتشفوا طوال مكوثهم بالأحياء الجامعية أمراضهم النفسية وسوء أرواحهم وقلة زادهم وأن التعليم لا ينفعهم في شيء, اللهم إلا الإحساس المضاعف بالكآبة والملل واللاجدوى.
تفطنت إلى سؤال ناريمان المزعج. فقلت لها وأنا أنظر إلى الآفاق المسدودة والحياة المتسربة كفقاعات الدخان الهلامية :
– أتعتقدين حقا بأن هناك أحسن من الموت لنفكر فيه.. خاصة الآن..
انظري من حواليك.. تأملي هذه الوجوه الفارغة إلا من جوع الرغبة وخواء الروح وضعف الإرادة..سترين بنفسك كيف أن الحياة ليس لها من معنى الآن..
وصمت..
ثم رحت أراقب نظرتها للآخرين كأنها أفعى لدغتها فجأة فأصبحت تحس بأنياب الناس تنغرس في أحشائها بحدة وحرقة وشماتة, لا تعلم سبب ذلك الشعور الغريب ولا مصدره ثم عادت لتلقي نظرتها الأخيرة علي, لتتحسس وجودي معها, لتنقل إلي نفس الإحساس الذي باغتها فجأة وحملها ما لا تحتمل.
أعطيتها يدي فمسكتها بقوة وهي تضغط بأصابعها الرقيقة كمن يبحث عن الأمان كله, هناك فتحت حقيبة يدها وأخرجت منديلا ورقيا مسحت به حبيبات العرق التي تقاطرت من أعلى جبينها وسارت عبر الوجنتين الموردتين حتى لامست التي شيرت الأزرق, لم أفهم مصدر العرق هي التي تبدو نحيلة, مرهفة, بيضاء كأنها الثلج نفسه (هل كانت مريضة يا ترى وأنا لا أعلم بذلك وأي مرض الذي يهتك دواخلها ويضعف بريق نظرها, أي شيء هذا ? أي شيء ??).
ألزمني عرقها الصمت من جديد. طافت برأسي أفكار متناثرة عن الحياة والموت واللحظة المبهمة تلك التي يصعب تفكيك أسرارها ومعانيها. اللحظة التي تأسر الإنسان داخل سجن حديدي وتتركه يتخبط في الفراغات التي لا تمتلئ. النقاط الهلامية التي لا تتضح, لحظة كالجنون أو بريق العبقرية أوالسعادة الوهمية أوالانتصارات التي هي أقرب للاخفاقات الثورية.
– ما الذي يحدث لك يا ناريمان ?
بصوت متردد أجابت :
– كلامك..
– ما به كلامي.. دعك منه إنه لا يسمن ولا يغني من جوع.. إنه كلام فقط, لا يمكنه أن يعوض الحياة الحقيقية ولا أن يغير أي شيء في قانون الناس..
ثم توقفت عن الكلام وأخذت سيجارة وغرقت في تدخينها, متتبعا خيوطها المتذبذبة وهي تتصاعد إلى السقف لتتحول إلى لا شيء بعدها, في العدم في الفراغ الكبير الذي يحيط بنا فقلت من خلال ذلك :
– أرأيت..
بدت متوترة ساعتها كأنها لم تفهمني ( ربما لأنها لم تكن معي, كانت في عالم آخر ) فسألتني :
– ماذا قلت ?
– ألا يشبه الكلام دخان سيجارتي. إذ بمجرد تنفسه يقاوم قليلا ثم يغيب.
إنه لا شيء أمام الواقع, أمام ما اتفق الجميع على تسميته بالحقيقة.
كانت أغنية »مانو شاو« تدعونا لتجريب الماريخوانا. تحثنا على الصمود ضد من يوهموننا بأن العكس هو الصحيح وكان الصخب والهدير والمساء يقترب من نهايته. خطاطيف صغيرة تتزحلق فوق العمارات. من نافذة الكافيتيريا كان يمكنني رؤية العالم وهو يتوجه نحو النوم.
قالت ناريمان بعد أن جف عرقها وهدأت روحها قليلا:
– نذهب.
أومأت لها بالإيجاب فقامت ونهضت بعدها. خرجنا إلى الطريق.زعيق السيارات وحافلات البسطاء وشاحنات النقل والبضائع ووقع الأقدام المتحركة في كل اتجاه والأطفال الذين ضاقت بهم الشقق الصغيرة من عهد الفرنسيين يلعبون كرة القدم ببالونات مصنوعة من صاشيات الحليب وفتيات ليل بدأن العمل مبكرا وشرطة في أتم الاستعداد للقبض على كل من يشك فيه أولا يشك فيه. كل شيء وصلني من الباب الزجاجي ونحن نتجاوز عتبته دفعة واحدة.
أوصلتها حتى شارع باستور. توقفنا طويلا ننتظر سيارة أجرة. كان هناك شباب كثيرون ينتظرون هم أيضا لنفس السبب. رأيت في وجه نور مسحة غريبة من الكآبة والألم فسألتها بسرعة :
– هل أنت مريضة ?
لم تجبني ثم طلبت مني أن أحضنها بقوة ففعلت ذلك بالرغم من النظرات الشزراء التي انبعثت من كافة العيون الوقحة التي اصطادت اللحظة بخبث فيما شعرت بجسدها يتلاشى وعرقها يتصبب بغزارة وحرارتها تزداد ارتفاعا وبسرعة مذهلة.كانت كأنها تموت, تفقد كل قوتها وتدخل في تلك المنطقة التي هي بين الأرض والسماء. ناديت بأعلى صوتي »ناريمان« لكن يدها التي سقطت أخيرا كانت تعلن نهاية الأمر..
الصمت لفني من كل جهة. السواد الممزوج بصفرة الحزن مسح وجهي لحظة ما تفطنت إلى غيابها وحضورها كطيف وشبحها الذي لايزال يحمل ضوءه الملتمع بين راحتي يديها ورائحة موتها (كأنها أغنية بحار يغرق).
هل نزل الوحي علي أخيرا ? في الظلمة الدامسة وحرقة القلب والشعور بالفراغ الذي يحتلني ويهمس في أذني« توقف عن هذه اللعبة الماكرة ؛فأبصر متاهتي حتى نهايتها الأخيرة ورأسي مثلج مثل ذاكرتي التي غزاها الشيب وحفرت بصمتها ذاك أخاديد على وجع الرحلة..
كانت هنا ومضت
كنت هنا وسأمضي..
ليلة الثلاثاء 5/ 9/ 2001
بشير مفتي قاص من الجزائر