توجد اشكالات متعددة في الرسم العربي الاسلامي لم يحسم بعضها حتى اليوم، البعض منها نظرية والأخرى تطبيقية. ان التعارض النظري بين تحريم تمثيل وتصوير الكائنات الحية وبين الآنجاز المتحقق والمعروف لا يبدو واضحا في أذهان لكثيرين، وهم يعتقدون أن التحريم الفقهي قد ألغى نهائيا أية امكانية جادة لتطوير فن الرسم التشخيصي في العالم الاسلامي حتى القرن الرابع عشر الميلادي على الأقل. سوى أن الاثار التصويرية، المنمنمات والفريسكات وأعمال التصوير على الورق والخزف، لا تبرهن مثل هذا التصور.
وفي الحقيقة فإن الواسطي المكرر اسمه كثيرا إنما هو مجرد مثال واحد على فنان وقع عملا، رسما بالمعنى التشخيصي. كان هناك فنانون بارعون أقدم من الواسطي بكثير ممن قد وقعوا صراحة أعمالا فنية تشخيصية، مثل الخزاف الايراني الأصل (أبي زيد) الذي كان (يرسم) على الخزف أعمالا تصويرية ملحمية جد باهرة.
كان الخزف بالنسبة اليه كما بالنسبة للخزافين المصريين في العصر الفاطمي وما تلاه من أمثال (أبو القاسم مسلم بن الدهان، سعد. وهو في الغالب مسيحي عربي.، شرف الأبواني، البيطار.وهو مسيحي عربي كذلك.، غيبي، عجمي، غزال)، مجرد حامل support مثله مثل غيره من الحوامل (الورق، الخيطان،الخشب،الرق أو الأبواب..) واذن فإن رسم الكائنات الحية كان حقيقة اجتماعية وفنية واقعة رغم جمع الاعتراضات المتشددة التي يمكن اللقاء بها على طول وعرض الأدبيات الاسلامية، ذلك أن الحياة الاجتماعية والثقافية لم تكن ميالة فحسب الى النمط التجريدي وأعمال الخط العربي السائدة والمروج لها. يبدو تمثيل الواقع وكأنه يجيب على حاجات جمالية ويمارس فتنة لم تستطع الآنواع الأسلوبية الأخرى منافستها أو الحد منها.
إننا نعلم أن جميع الثقافات والشعوب السابقة على الاسلام قد ساهمت بتطعيم ما سيصير الفن الاسلامي بروافد جديدة، وانها كانت تنقل معها إرث المنطقة التاريخي بتنوعاته وطبقاتة الأثرية وأديانه وتقنيات الحرفية. إن ما وصل الينا من الأعمال المنسوبة جهارا الى فنانيها هو قليل جدا بالمقارنة (كما يمكن أن نتخيل) مع نتاج فني يمتد على مساحة جغرافية وتاريخية واسعة. إننا نحسب أن ثمة نتاجا كثيرا مفقودا، بل إننا سنحاول هنا البرهنة على أن ثمة أعمالا منتجة في المنطقة الاسلامية على يد فنانين عرب من الأديان الأخرى، لم يجر منحها العناية التي تستحق ولا إدراجها ضمن إرث الفن الاسلامي، بل التمويه على أصولها الحقيقية.
يبدو هذا التمهيد ضروريا من أجل فحص بعض المنمنمات المدرجة في مخطوطة كبيرة موجودة اليوم في اسبانيا، نزعم أن بعضها قد أنجز في المنطقة العربية.
يتعلق الأمر بالمخطوطة المسماة (سكيليتزيس مارتيتنتس Matritensis (Skylitzes وهي المخطوطة المحفوظة في المكتبة الوطنية في مدريد التي كانت معروضة في الواجهة الزجاجية رقم 26/2 من قسم المخطوطات في المكتبة. العمل يضم مواد موحدة في مجلد واحد مع بضع أوراق مضافة لاحقا. انها تتضمن 233 ورقة من الرق تحتوي على نص يوناني يعالج تاريخ أباطرة القسطنطينية للفترة الممتدة منذ سنة 811 حتى سنة 1057 الميلادية. تحتوي المخطوطة على 574 منمنمة موزعة على الأوراق وتزين النص اليوناني.
سنحاول البرهنة على أن مجموعة ايستهان بها من المنمنمات الموجودة في هذا المجلد هي من عمل فنان عربي، مسيحي من سوريا في أغلب الظن. ولكي نكون في قلب الصورة فإن بعض المقدمات التاريخية تبدو ضرورية تماما:
1- شهدت الحقبة التي يعالجها النص توترا متناميا في العلاقات بين الامبراطورية البيزنطية والدولة الاسلامية، أمويا وعباسيا، لكن هذا التوتر كان يعني كذلك نموا متزايدا في العلاقات السياسية والاجتماعية بين الطرفين ومزيدا من التعرف على الاخر وتقبلة.
2 – ما يفسر لنا الحجم العددي للمنمنمات التي تقدم (ترسم) رسومات تفصيلية في المخطوفة المذكورة وتضع الطرفين جنبا الى جنب في لقطات وصفية مهمة يتأتى من ذاك النمو في العلاقات البيزنطية. الاسلامية. من النوادر التاريخية التي تدعم ما نقول ,تلك الواقعة التي يرويها الواقدي (748 – 822) في كتابه (فتوح الشام) والتي تتعلق في ان واحد بطبيعة العلاقات الإنسانية بين الطرفين وبالموقف من فن التصوير. فبعد أن يروي كيف أن الروم. أي البيزنطيين. قد توصلوا، أثناء هدنة مع المسلمين ,الى وضع صورة هرقل على عمود (صارية) لتكون حدودا بين جيشهم وجيش المسلمين الذي كان يقوده أبوعبيدة، يروي أن أحد جنود المسلمين فقأ عين الصورة بحربته "وكان عندها قوم من الروم وهم أصحاب قنسرين يحفظون العمود، فرجعوا الى البطريق وأعلموه بذلك فغضب غضبا شديدا..". ومن أجل تدارك الموقف رضي أبوعبيدة أن تصور صورته "وجعلوا على عينيه عينين من زجاج وأقبل فارس منهم. من الروم. ففقا عين الصورة " ص 117. نلاحظ عرضا أن المصورين كانوا فاعلين ويستعان بهم في مثل هذه الحالات.
3- ان ظهور الاسلام كحقيقة نهائية في المنطقه يفسر لنا من جهة أخرى أن بعض منمنمات مخطوطتنا ترسم الجانبين، البيزنطي والاسلامي, على قدم المساواة التامة. هذا كذلك هو مغزى النادرة التاريخية أعلاه.
ففي أحد أطراف الرسو مات في المخطوطة يمكننا أن نرى الامبراطور البيزنطي وعلى الطرف الاخر خليفة المسلمين في نوع من المعادلة الذهبية التي تدل على أن مصور الأعمال على دراية تامة ومعرفة وثيقة بأهمية ما يجري في الطرف الاسلامي.
4- لعب المسيحيون العرب دورا مهما في نمو هذه العلاقات. لقد كانوا جزءا حيويا من بيئتهم الثقافية التاريخية التي سيستوعبها الاسلام مانحا اياهم دورا واضحا. إننا نعرف أن واحدا من أكبر الواقفين جهارا ضد قرارات الامبراطور البيزنطي ليون، محطم الايقونات،هو العربي السوري منصور بن منصور (ولد سنة 675) المعروف في تاريخ الكنيسة باسم القديس حنا الدمشقي. وكان مقربا من الخليفة الأموي هشام ( 724-743) وموظفا بالدولة. لقد كتب منصور الدمشقي ثلاث رسائل بعنوان (ضد من يهاجمون الصور المقدسة) على اثرها ,ويا للغرابة ,بالعمالة للمسلمين. وبالطبع لن ننسى تلميذه المسيحي العراقي، صديق الرشيد ومن بعده والمأمون، ثاوذورس أبي قرة الحراني "ولد سنة 750 وتوفي حوالي 825 ميلادية" الذي كتب باللغة العربية كتابا مهما وصل الينا تحت عنوان "ميمر في إكرام الايقونات". لقد ساهم المسيحيون السوريون والنساطرة من قبلهم في دفع الرسم التشخيصي الاسلامي الى الامام منذ الراهب والرسام السرياني (رابولا) المؤرخة بتاريخ 586 والموجودة اليوم في أحدى مكتبات مدينة فلورنسا الايطالية Florence,Bib. Medicea-Laurenziana) Ms., Plut.1.56) والمنجزة في بلاد الرافدين.
5 – اننا نعلم من طرف أخر أن علاقة المسيحيين السوريين مع بيزنطة كانت تستند الى نوع من التضامن الديني الروحي، بالاضافة الى كونهم من الرعايا السابقين للامبراطورية البيزنطية. هذه العلاقات الوثيقة كانت تدفع مرات كما يقول مؤرخ الفن الاسلامي (أوريغ غرابر) الى اتهام بعض زعمائهم الروحيين بالعمالة كطابور خامس بيزنطي متغلغل في ثنايا الدولة الاسلامية.
6- نعلم جيدا أن النساطرة ومن ثم المسيحيين السوريين كانوا يتقنون اللغة اليونانية، لأسباب عدة منها ما يتعلق بالكنيسة الشرقية ومراجعها. كانت اليونانية والفارسية لغتين يتوجب على المثقفين والمترجمين اتقانهما كما هو الحال اليوم مع الآنجليزية والفرنسية. إذن فليس من العجب أن تكون التعليقات المحيطة بالمنمنمات التي ندرسها مكتوبة باللغة اليونانية،خاصة إذا ما جاءت من طرف شرقي متعلق روحيا بكنيسته ولغتها الرسمية، اليونانية. أمام أية محاولة مكتوبة بلغة أخرى غير العربية فإن تاريخ الاستشراق "ومن ثم تاريخ الفن الاسلامي" سيحيلنا الى مصدر اخر غير منطقتنا حتى لو توافرت الأدلة الساطعة على أن الأثر المعني منجز بين ظهر انينا. هكذا سيحتار مثلا في نسبة الأعمال المنجزة بالسريانية في العراق وسوريا ويخلط بشأنها. انه لا يرى العلاقة الوثيقة بين هاتين اللغتين وذينيك الشعبين، السريان والعرب اللذين من دون أن يكونا شيئا واحدا فإنهما يشتركان بمشترك جد عميق لغوي وتاريخي وجغرافي, بحيث ان الواحد منهما قد طلع من رحم الثاني بمعنى من المعاني.
تود هذه المقدمة التمهيد للأسباب التي تدفعنا الى نسبة بعض منمنمات هذه المخطوطة الى عربي (سوري؟) ثمة سببان رئيسيان الأول من طبيعة منطقية والثاني من طبيعة أسلوبية.
أولا: ان التوصيف الذي يقدمه الرسام للعرب في احدى المنمنمات هو من الدقة بمكان مذهل، ويدل على أن الرسام يعرف حق المعرفة السحنة العربية وأسلوب اللباس العربي.
ففي مرة نادرة حقا "ونحن نزن كلامنا بدقة " نرى صورة العربي بالعقال والعباءة. سنغامر بالقول أنه لا توجد في تاريخ الرسم (على حد علمنا) أية صورة أخرى تقدم العربي بهذا الزي. إننا أمام كشف تصويري مثير.
لكن هذه المعرفة التصويرية الدقيقة ستعبر عن نفسها لغويا عبر التعليق المجاور للصورة المكتوب باليونانية. هذا هو النص الكامل: "ظن الامبراطور أن القائد قد خسر (المعركة) كما أن العدو الأساسي قد ظن بأنه قد عاد الى اندرونيكو. وكان قد كتب رسالة من طرف الامبراطور كان عليه الوصول سريا الى سوريا، يعده فيها أن يبعث (المزيد) من الدفاعات وعدد من الهدايا. كانت الرسالة في داخل اسطوانة cirio (نوع من مخروط ربما كان معدنيا كانت توضع في داخله الرسائل المختومة. انظر صورة المنمنمة) وكان ينبغي ايصالها عبر عربي أسير الى اندرونيكو (المتواجد) في سوريا. سرا سأل ساموناس العربي فيما اذا كان يعرف المفاتيح ؟ أجاب (العربي): كلا لكن ساموناس أضاف: أن الاسطوانة تتضمن خراب سوريا وإذا كنت مهتما ببلدك وعلاقتنا فضع (الاسطوانة) في يد الوزير (نفسه). وعد العربي ساموناس بإيصالها لكي يسلمه الأخير الهدية. عندما وصل العربي الى سوريا أعطى الاسطوانة للوزير وكان في داخلها رسالة الى اندرونيكو، أما الاسطوانة فسلمت الى أمير المؤمنين (…) كانو اندرونيكو وجماعته قد سجنوا وأسيئت معاملتهم…) إن العبارة "أمير المؤمنين " مكتوبة فحسب بالحرف اللاتيني بنطقها وتصويتها العربي، وهو ما تحققنا منه , وإذن فإن الأمر يدل أن المعلق والرسام يعرفان تماما دلالة العبارة هذه. نشير الى أن التعبير "أمير المؤمنين" لا يرد في أي من الأدبيات البيزنطية التي تستخدم بدائل أخرى. من جهة ثانية فإن وضع العبارة في نص يوناني على هذا النحو يدل على احترام عميق من طرف قائلها لشخص خليفة المسلمين. إن التصويرة في هذا المنمنمة المختارة لا تشير الى تحقير ما للمسلمين ولا تقدم كاريكاتيرا لهم , على العكس من ذلك تماما فإنها تقدمهم بوضعية جد مقبولة تدل , مرة ثانية على معرفة عميقة من طرف الرسام بدينهم وبزيهم وعلى احترامه الجم لهم , وهو أمر لا يتهيأ، كما نفترض هنا, الا لرسام عربي سوري.
ثانيا: ثمة سبب مهم يبرر نسبة هذه المنمنمة وأخواتها الى عربي مسيحي هو أسلوبها الفني. إن ما يسمى في تاريخ الفن الاسلامي بمدرسة بغداد أو المدرسة الرافدينية المزدهرة في العصر العباسي بين القرنين 12و14للميلاد قد مدت تأثيراتها الى شمال العراق وسوريا من بين بلدان أخرى. نعرف أن أسلوب الرسام السوري غازي بن عبدالرحمن مصور نسخة المتحف البريطاني.تحت رقم ((OR.9718.من مقامات الحريري (دمشق 1300) متأثر بمدرسة بغداد ومثله الكثير من رسامي وفناني مدينة الموصل،وبعضهم من المسيحيين العرب. إن أسلوب العمل الذي نحن بصدده لا يخرج البتة عن. أسلوب المدرسة العباسية البغدادية. يتجلى ذلك الاسلوب في الاهتمام بالتفصيلات وفي دقة الملاحظة، وبوضعية الشخوص التعبيرية ويخلو خلفية الصورة من الخط أو اللون،ويتشابه سحن الشخوص المرسومة ولكن بقدرتها على الايحاء عبر الحركة، ثم الاهتمام بإبراز العمائر المحلية (وهو ما نراه واضحا لدى الواسطي). إن عمارات المنمنمة تمت بصلة وثيقة الى العمارة الاسلامية. كما أن الزخارف والتوريقات التي تبدو على الجدران لا تختلف كثيرا عن زخارف الوسادة التي يجلس عليها الخليفة. انها الزخارف الاسلامية عينهاف إن أهم ما يميز المدرسة العباسية هو نكتها شبه الواقعية (لأننا لا يمكن أن نتحدث عن الواقعية إلا بعد اكتشاف المنظور أو تطبيقا في عصر النهضة) وهذا ما نراه جليا في المنمنمة المنشورة هنا.
تتحاشى الشروحات الطويلة والتفصيلية للمعلق الاسباني المتخصص (سيباستيان سيراك استو بانيان (SEBASTIAN CIRAC ESTOPATNAN ذلك كله، أو أنه يمر عليها مرور الكرام. سوى أن الوضوح الشديد الاصول العربية لبعض المنمنمات كان يضطره الى التصريح بقول دال مثل:"من بين العناصر البيزنطية والغربية يتوجب التعرف على عناصر أخرى عربية " وهو يذكر كذلك: "في المنمنمة رقم 269. أي منمنمتنا نفسها. يمكن رؤية محاكاة représentations للبلاطات الشرقية، سلاطين وزعماء عرب كما ابنية تقليدية: المنابر، الأروقة والقبب.." لكنه يضيف مسرعا: (لكنها يمكن أن تكور مستلهمة من صقلية ". لماذا ؟ أن انتباهة أعمق للتأثير العربي الجلي كانت متحاشاة كليا من طرف المعلق الاسباني هذا التحاشي يتعلق بما نود أن نسميه بالعقدة الاسبانية المعاصرة إزاء التاريخ العربي الاسلامي خاصة في سنوات طباعة الجزء الأول من الكتاب الذي يحتوي على المنمنمات (برشلونة /مدريد سنة 1965). كانت هذه العقدة مستأصلة لكنها قد خفتت الان كثيرا ( نذكر القراء الكرام بما نشرته الصحف الاسبانية ثم العربية، السنة الجارية، عن عدم ادراج عمل لروائي اسباني مهم ضمن أعماله الكاملة بسبب مديحه للحقبة الاسلامية في اسبانيا). منذ سقوط غرناطة وحتى سنوات السبعينات , كان ثمة تقليل من شأن الثقافة العربية الاسلامية، في الوعي الاسباني بسبب رغبة الاسبان في الحضور القوي ضمن المشروع الامبريالي الأوروبي المتعالي على الشعوب الأخرى، خاصة العرب منها. هذا بالضبط هو ما يفسر عدم توغل الشارح في دلالة "العناصر العربية " البينة والتي لم يكن بإمكانه رغم ذلك القفز عليها.
واذا ما كنا نتوقف مليا أمام هذه المنمنمة فلأنها الأبرز من بين الجميع في تدعيم فرضيتنا. ثمة منمنمات أخرى لا تقل أهمية لأنها تندرج ضمن نفس الإطار الاسلوبي ويمكن الافتراض عبرها أن الرسام هو نفسه كلما تعلق الأمر بالحديث عن سوريا والعلاقات البيزنطية الاسلامية.
إن فحصا أوليا للعمل المطبوع الذي نقلبه بين أيدينا يشير الى وجود أكثر من رسام واحد ممن ساهم في بلورة المخطوطة. تندرج الأساليب المختلفة في رسم منمنماتنا في سياق الرؤية التشكيلية لعصر لم يكن يعرف المنظور وينهمك بخطاطات وصفية لموضوعه، رمزية في جوهرها أي ليست واقعية كما كنا نقول قبل قليل. وبشكل عام يمكن التفريق،حتى في المنجز التشكيلي القديم ذاك، بين منمنمة بغدادية وأخرى فارسية لاحقة وثالثة تركية متأخرة رغم جميع عناصرها الاسلوبية المشتركة، أو التفريق بين منمنمة عربية وأخرى بيزنطية حتى لو اشتركتا في عناصر محددة. بامكان الدراسة الوصفية التفريق إذن بين أسلوب فناننا العربي المسيحي المفترض وأسلوب من شاركه في تكوين المخطوطة الكاملة.
إن الاعتراض التقليدي على تحليلنا سيذهب الى القول أن العناصر التشكيلية المعتبرة عربية اسلامية انما هي مستلهمة جوهريا من الاسلوب المزدهر في ظل بيزنطة. هذه هي فرضية الباحث الكبير اتنغهاوزن مثلا الذي يحيل الى مميزات الفن البيزنطي ويردها واضحة في الانجازات الأولى للفن الاسلامي (الصفحات 67-71من عمله باللغة الفرنسية). على العكس فنحن نفترض أن الفن البيزنطي نفسه متأثر بأعمال المسيحيين الساميين اراميين , نساطرة ويعاقبة وسريانيين وعرب وما شئنا لهم من الاسماء التي لن تدل إلا على شيء واحد: اندراجهم بإرث تاريخي طويل وانخراطهم بمساحة جغرافية محددة المعالم. ان الفن البيزنطي نفسه يمكن أن يكون اختراعا سوريا، أي قادما من سوريا الارامية ثم العربية. مما له دلالة كبيرة هو اجماع الباحثين على أن الفن البيزنطي هو فن شرقي، ماذا يعني هذا بالضبط على المستوى الفني هل تأثرت بيزنطة بالعالم (السامي) والمصري المجاور؟ أليست هي نفسها جزءا لا يتجزأ من ثقافته ؟ لا توجد إيضاحات كاملة بدلا من أن يمنح هؤلاء الباحثون سوريا، الشرقية أيضا دورا واضحا في تكوين الفن البيزنطي الديني خاصة،فانها تنبر لسبب مجهول تابعا فنيا. وفي رأينا هذا الدور سهل الاستنباط للغاية. إن المسيحيين قد توصلوا، وهم يهتدون الى الديانة النصرانية قبل غيرهم، الى الأشكال التصويرية والتشكيلية الايقونية المعبرة عن اعتقادهم تدل على هذه اللغة التشكيلية المخترعة في منطقة التصاوير الجدارية في دورا. أوروبوس أو صالحية الفرات. يقول المتخصص بالفن البيزنطي اندريه غرابر "وهو ليس أوليغ غرابر المذكور أعلاه":"أن الاستعانة بالفن في دورا. أوروبوس في بداية القرن الثالث الميلادي على شكل صور دينية كان مسيحيا كليا". هذا يعني أن أسلوب صالحية الفرات المسيحي السوري قد وصل لاحقا فحسب الى بيزنطة التي طورته تطويرا كبيرا. هذه الفرضية تصدم التحليلالسائد والمقبول في تاريخ الفن الذي لن يقبلها رغم منطقيتها ووثائقيتها.ولعدم القبول هذا سبب من طبيعة ايديولحوجية تتعلق بالإرث اليوناني الذي يعتبر المرجع الأساسي لأوروبا المعاصرة، الذي ينبغي حصره في الحدود الجغرافية الأوروبية.
يستنتج الشارح الاسباني لمخطوطتنا ما يلي:
"من المحتمل أن يكون العمل قد أنجز في مدينة ميسينا (في صقلية)، في دير سلفادور على أيدي رهبان وكتاب ورسامين بيزنطيين وصقليين. (يبدو) أن المنمنمة قد ترجمت بين السنوات 1204. 1453 من قبل رهبان وكتاب ورسامي منمنمات…". نتوقف هنا لابداء الملاحظات التالية:
1- إننا نعلم أن مصطلح بيزنطة، في الأدبيات الغربية، ينم في حقل عمله المسيحيين العرب. لقد لاحظنا في أكثر من مناسبة ان هذا المسطح غامض للغاية. إن تسمية (السوريين) ملتبسة , فمن جهة تطلق على سكان الشام الأصليين الساميين من مختلف الملل واللغات واللكنات , ومن جهة أخرى تحاول منحهم وضعية خاصة يجري عبرها عزلهم عن تاريخ هذه المنطقة نفسها، وذلك لسبب كونهم مسيحيين ارتبطوا عاطفيا واستعمروا من قبل بيزنطة. وبعبارة أخري فإن السوريين قد اعتبروا بيزنطيين بسبب انتمائهم الديني الى الكنيسة الشرقية. في السياق السوري إذن فالتوصيف (بيزنطي) يبدو بدوره غامضا غموضا مطبقا في تاريخ الفن، ويحيل الى التباسات بعضها مقصود وعلى رأسها تجريد السوريين من إرثهم التاريخي الفني، المتواصل من دون انقطاعات كبيرة. المفارقة هي انه عندما يجري الحديث عن بدايات الفن الاسلامي فالاشارة تذهب غالبا الى القول أن الصناع الأوائل لهذا الفن كانوا من السكان الأصليين المتنصري (انظر اتنغهاوزن)، أو ممن استجلبهم الخلفاء الأمويون من الروم (كما يقول بذلك أكثر من مؤرخ عربي مثل المقدسي). هنا يعترف للمسيحيين السوريين كونهم السكان الأصليين ولكن توضع مسافة واضحة بينهم وبين أبناء عمومتهم العرب. يوازي المؤمن الفرنسي ليفيك véqueéL مثلا، مجاريا تقليدا طويلا , بين دمشق والايقونية المسيحية، لصالح بيزنطة بالطبع..
2- المسيحيون الشرقيون أنفسهم متفقون، حسب المونسنيور اللبناني نصرالله علي على أن "الفن البيزنطي لم يأخذ شكله النهائي واتقانه الا بعد أن مهد له الفن السوري الطريق".
3- إذن فإن الحديث عن عناصر بيزنطية فاعلة في صقلية بالذات وهي التي خضع جزء كيبر منها طيلة قرون طوال الى الحكم العربي الاسلامي، هو جزء من هذا الالتباس المحير لباحث المحايد أن يعتبر الحديث عن هؤلاء (البيزنطيين) حديثا كذلك عن (السوريين) أو المشرقيين من غير اليونان طالما أن الخلط المستمر في أدراجهم ضمن البيزنطيين هو القاعدة الغربية في الحديث عن تاريخ الامبراطورية البيزنطية.
4- ان الفترة المحددة ما بين 1204 و 1453 هي في الحقيقة فترة الانجاز التشكيلي البارزة في تاريخ المنطقة العربية، اسلاميا ومسيحيا. لقد استطعنا نحن في عمل غير منشور لنا تعداد 11 عملا منمنماتيا تشخيصيا موقعا من طرف رسامين , مسلمين في الغالب لفترة الواقعة بين 1009 – 1399، ناهيك عن الأعمال غير الموقعة في هذا الفترة نفسها لدينا أمثلة باهرة لأعمال تندرج فيما يسمى بالفنون التطبيقية (الخزف والنحاسيات..) موقعة كذلك، منها اثنان على الأقل موقعة من مسيحيين عرب هم: ابراهيم النصراني الذي وقع في مدينة الحيرة العراقية سنة 775 تقريبا , انية من الصلصال موجودة في المتحف الوطني في دمشق، ويعقوب بن اسحاق الدمشقي الذي وقع مبخرة معدنية موجودة اليوم في مجموعة دافيد في الدانمارك، وغيرهم.
5 – الامر الجدير بالتسجيل أخيرا هنا أن صقلية المعتبرة مكانا لانجاز العمل موضوع البحث قد شهدت في تلك الفترة عينها نشاطا ثقافيا عربيا غربيا مشتركا،خاصة في فترة حكم Roger كانت اليونانية لغة للثقافة كذلك في زمن هذا الملك. ففي أثناء الفتح كان رجار يستولي على الأرض التي فر عنها أهلها ويقسمها بين أصحابه في سنة 1093 عقد اجتماع في مازر حضره السادة من أصحاب رجار وسلم كل واحد منهم صحيفة أو جريدة مكتوبة بالعربية , وأحيانا بالعربية واليونانية معا، فيها وصف للأرض التي تخصه وبيان عدد الفلاحين والأرقاء في أملاكه. إننا نعرف أن يوجين البلرمي كان يترجم من العربية ويكتب الشعر باليونانية وانه قد ترجم مثلا كتاب (كليلة ودمنة). وكان الشريف الادريسي يرأس (الدائرة الجغرافية) في بلرمPalermo وإذا صح أن نتكلم عن أعمال فنية له في زمن رجار , فإنه قد قام برسم صورة الأرض في دائرة من الفضة. يذكر د.احسان عباس ان الملك رجار مع الادريسي قد وقع اختياره "على أناس الباء فطناء أذكياء، جهزهم الى أقاليم الشرق والغرب وسفر معهم قوما مصورين ليصوروا ما يشاهدونه عيانا". كان رجار بالاضافة الى ذلك يعتمد على المسلمين في الهندسة المعمارية وفي عمل دلالات من كل نوع منها آلات تدخل اليوم في حيز الفنون الجميلة. لقد "صنع أحد المسلمين لرجار آلة لرصد الساعات درست ولم يبق منها إلا كتابة باللغات الثلاث اللاتينية فاليونانية فالعربية , والنص في العربية هو: خرج أمر الحضرة الملكية العظيمة الرجارية العلية أيده الله أيامها وأيد اعلامها بعمل هذه الالة لرصد الساعات بمدينة صقلية المحمية سنة 536". من بين المهندسين المعماريين المسلمين في صقلية نسمي أبا الليث. كانت اليونانية تجاور العربية واللاتينية، الأمر الذي ربما يفسر سبب كتابة مخطوطتنا باللغة اليونانية بمساهمات عربية تشبه المساهمات المشتركة الموثقة.
6- فيما يتعلق بالآنجاز التشكيلي العربي المعروف والمدروس في مدينة باليرمو، وهو رسوم سقف كايبلا بلاتينا، فمن الواضح أن نسبتها الى المدرسة العباسية، الرافدينية لا يرقى اليه الشك اليوم. إن استنتاجات أوليغ غرابر بهذا الصدد ذات أهمية قصوى، من المستبعد بالنسبة اليه "أن يكون تصوير هذه اللوحات من ابداع فنان مسيحي أو صقلي، وأيده (مونريه دي فيار) فيما ذهب اليه في كتابه الجامع الذي أوقفه على لوحات السقف، بقوله ان "اسلوبه العراقي لابد وان يكون من ابداع فنانين وافدين من بلاد الرافدين، وهو ما تؤكده الخلفيات ذات اللون الواحد لعدد من اللوحات والتي كانت من تقاليد الموصل ".
7- إن فرضيتنا المتعلقة ببعض منمنمات هذه المخطوطة تستجيب للحقائق التاريخية. ذلك أن العمل المنمنماتي والايقوني المسيحي العربي هو حقيقة من حقائق التاريخ الفني. يرد ذكر الايقونة , كما كتبنا ذات مرة، في مصادر عربية قديمة , لعل أوضحها ما يورده ابن أبي أصيبعة (دمشق 1203- 1269م) في قصة طويلة تدور حول مؤامرة حيكت لبختيشوع بصدد عمله لايقونة صورتها مثل الصور التي كانت توجد (في الحمامات وفي البيع وفي المواضع المصورة..) أو ما يذكر عن حنين ابن اسحاق (الطبيب العربي النصراني 873م) الذي "أخرج من كمه كتابا فيه صورة المسيح مصلوبا، وصور ناس حوله…". الجدير بالذكر هنا أن المسيحيين في الشام، وفي فلسطين خاصة، مازالوا يستخدمون الى اليوم الكلمة "قونة" عينها التي يستخدمها بختيشوع.
شاكر لعبي(فنان وناقد تشكيلي عربي يقيم في سويسرا)