تعريف هنري ميشونيك
(1932-2009): باحث وشاعر، وُلِد بباريس لأبوين من أصل روسي. وهو مشهور بأعماله في مجالات البحث الفلسفي واللسانيات والتّرجمة والشّعر. من أعماله في المجال الفلسفيّ: «لغة هيدغر»، «سبينوزا: قصيدة الفكر»، «من أجل الخروج ممّا بعد الحداثة»، ومن أعماله الشّهيرة في نطاق الشِّعْرِيّة: «من أجل الشّعريّة»، وهو في خمسة أجزاء… كما أنّه معروف بترجمته للتّوراة…
من أعماله الشّعريّة، نذكر: «في بداياتنا»، «أسطوريٌّ كلَّ يوم»، «مُسافرو الصوت»، «أبدًا ويوم»، «ما دمتُ هذا الدغَل»، «والتّراب ينساب»…
والقصائد التّالية تنتمي، في الأصل، إلى مجموعات عدّة لميشونيك.
– 1 –
الأموات تغطّيهم الكلمات
كلماتي هي للذين يحيون
إنهم لا ينهون حياة
لمْ أتجاوز بعد الابتداء
في أن أقولهم بأطراف الكلمات
التي بالكاد تخرج من أفواهنا
إذ هم مندمجون فينا كثيرا كثيرا
إلى حدّ أنّ الجملة التي ينبغي قولُها هي نحن
هي ليست للأحجار لا أعرف
ما الذي تقوله إنّها تستمرّ
إذا توقّفنا
وتصمت إذا أفرطنا في الكلام
– 2 –
من أجل إنقاذ مقبرة
تمّ دفنها
الحجارة أكثر منّا
قابليّة للعطب منذ
أصبحنا نجعلها في اتجاه السماء
لتدور مع الكواكب
لتحملنا في الزّمان
ليس لنا هذا الزمان لكنّنا
نحن زمان الزّمان
والحجارة لم تعد تحمل سوى كلمات
ضاع هواؤها
إنّنا نتقرّى دلالاتها نستمع
إلى الغياب الذي هو
نحن من دون نحن
قوَّةُ ما ليس
مكتوبا
اليد تلمس الكلمات وتعبر
– 3 –
نعم
إنّه أنا
الذي أنقص الكلمات
وليست الكلمات هي التي تنقصني
فقد حدثَ أن غفوتُ حين
كان لا ينبغي أن أفعل ولم أكن
حاضرا حين تمّ تقويلُها ما لمْ أكنْ أريده
منذ ذلك الوقت وأنا أشتغل في خدمة الصّمت
أكدّس غياب الكلمات
أترك مكانا فارغا في كل ما قيل إنّه
مكان الكلمة التي ينبغي أن تقال ليتوقف
البحر
الأحجار تصعد
أنا فراغ
هذه الكلمة
– 4 –
منذ الزمن الذي كنّا نتحدّثُ فيه
إلى الأحجار
أصبح لنا معناها زمنُها والآن
هذه ذاكرتها فينا تسير بخطانا
تتحرّك في حركتنا لم نعد
نميز بين ما تقوله ونحن
زمن الأحجار هو نحن إننا
مفعمون بالصرخات التي نتركها مثلما
حجارة
إذ نمر
والواحد منا يمسك الآخر
لنجد بين تلك الحجارة
طريقنا
– 5 –
ثم قام العالم
بدورةٍ دورةٍ دورَهْ
ظننتُ أنّه هو نفسه
ظننتُ أنني أنا نفسي
لكنّ نومي هو يقظتي
كما كان الحال في السّابق
كلماتي هي
وجهي عيناي فمي كلُّ
ما يسمعني والآخرون
يسمعونه
إذن فما يتغيّر
قليل الأهمية ومن يدري إن
كان أحدٌ حتّى قد رآه إنْ
كنتُ أنا نفسي قد عرفتُ عنه شيئًا
أنا الآن كُلُّ آخَر
أنا وأنت هو هي وهو
أنا إعادة بدء
العالَم
هنالك أماكن هي أكثرُ امتلاءً بالانتظار
من أُخْرى
رؤوس
أكثر امتلاء
بنارٍ للزّمان من غيرها إنّها
قصّة تمشي نائمةً
لقد توصلت بتميمة
من الطرف الآخر للانتظار
أنامُ على امتداد الزَّمَنَ
منذ أصبحت ألتهب دون أن أُمحق
ما دمتُ هذا الدّغل
– 6 –
العالَم
لم يبدأ
ما دام يكذب
نحن نبحث
عن البداية
نعم معي
نعم من طرفك
الكلمات لا تعرف أن تقول هذا
لا تعرف ماذا تقول
لهذا نحن نبدأ
العالم
منذ ذلك الزمن كله
– 7 –
كلمات أصبحت لها أثمان غير مقدور عليها
العيش صار باهظ التكاليف
عمّا قريب لن يستطيع المرء أن يقول أنا
أوجد هنا أو كنتُ هناك
نحن مطرودون من المكان
لقد دُفِع بنا خارج الزّمان
اللغة لم تتوقّع هذه الأشياء
منذ أن بدأنا نختلق
منذ أن أصبحت الصرخات تحلّ محل الأموات
منذ أن أصبحت أفواهاً من صمت
تعلك الهواء
ما عدنا نسمع
شيئا آخر
هذا الصمت يقترب
وصوتي ما الذي يصلح له صوتي إن كنتُ
لا أعرف بعدُ الكلمات
إنْ كانت ترحلُ مِنّا أيضًا
– 8 –
ريحٌ منذُ عوالم أخرى
تُغيّر اتّجاهات العصافيرِ الناسِ
أُدْخِلُ في ذاتي كلَّ حيواتي
كلّ الحيواتي التي أراها
هي حيواتي
– 9 –
نعم أنا في عوالم عديدة
في آن واحد
لذا يصعب على الإنسان أن يجد نفسه
أن يعثر من جديد على نفسه
لكنّي أبحث وأقضي حيواتي
ما بين لقاء ولا لقاء
وأرانا مرّة تلو أخرى
نمسك بعضنا البعض بالزمن
أقوالنا إنصاتٌ واحد يخترع
أيّامًا
ليس هنالك حساب يعرفها
نحنُ نَعَمْ في ظهر الزّمن
– 10 –
وجهٌ
لكنّ كلَّ وجه
هو شكلُ حياتي
وأنا أعتمدك وجها
كما تعتمدني وجها
فيما هو أعمق من الجلد كُلِّه
حتّى الدّاخل الذي
يعثر فيه الحزانى مجدّدا
مادّة
الأفراح
– 11 –
وينساب التراب
إنّه دم
لكثرة ما الأقوال
امتزجتْ به
منذ أن بدأنا نزعم أنّهم
تلك التي تعيش
التي تضحك
التي هي هنا دومًا في دواخلنا
أرانا كُلَّ يَدٍ
أمْشي كُلَّ عابر
ما دام الزّمن
الذي يُمَرِّرُنا
هو
النّوم
يقظةٌ
بالنسبة إلينا
والصرخات تُنْشِئ صمتا
ما دامت صرخة
تُخمِد صرخة
والأقوال الآن
هي دمٌ يخرج من الأفواه
وحين نريد
أن نقول النهار
إنّه ليلٌ
هو الذي يُكَلِّمنا
وحين نعتقد أنّنا نشرب نأكل
فهو تراب نبصقه
ذلك الذي ينساب دمًا
كُلَّ هذا
الدّم
– 12 –
لي حيوات في حياتك
أعتبرك الأرض كلَّها
أنا الليل
لأنيمك
أنا النهار
لأراك
ونحن ندور
حول العالم
النوم في اليد
لكن العيون يقظة
كل العيون
تشارك في الرحلة
إلى حدّ أنّ الأنسان لا يعود بإمكانه
أن ينام
لكثرة ما هي مضيئة
هذه الليلة
– 13 –
أنا الحياة أمشي
من شمس إلى شمس
من شَعْر إلى غيمة
بشجرة روائح
بين يديّ
أسمع كُلَّ الأزهار
أنا كلّ ما يُقال في
كلّ ما لم يُقَل
أقفز على أقوال
حتى حين تكون بلا معنى
لا يجعلونني أستسيغ حكايات
باسم كذا
وباسم كذا
هذه الحكايات تعيش الموت
وكل كلماتي
هي للحياة
– 14 –
لم ننته من كوننا نُولَدُ
وفي انتظار اكتمال ذلك نحن نصرخ
بشفاه مَشْدودة
إلى كلمات لم تُقَلْ
– 15 –
أعيد فتح أصابع طفولتي
على عيون تغطيها صرخات
السعادة تحتل مكانا ضئيلا
الشمس تزدرد دموعا
النهار يُخفي ديدانه
في كفّيّ أرى
أولئك الذين يعدّون حياتهم
– 16 –
أظهر يديِّ السّلام اللذان هما يداي
لقد أضعت حساب الآلام
الصرخات هنّ أمّ
الأموات ليسوا بحاجة إلى شراشف
أجسّ الحياة
بضحكي
الشمس
تُلْصِقُ الذباب بجلدي
فقري تنتج عنه حركات
تضغط خوفي على جلدي
وجه الحرب
اتّخذ شكل عظامي
– 17 –
أَمشي هجرتي
لم تعد هنالك أغانٍ
لم أعد أطلب شيئًا
أنا الجرح الذي تحترق فيه الأكاذيب
فتحت جلدي يتهزهز العالَم
الخوف يرتعش وقد تورط
إننا نتقدم
أنا أسير خلف حياتي
مثل خادم
لا أحتمل
أن أتفرج على وجهي
– 18 –
تسألينني عمّا سأفعله حين نكون معًا
ما دام لن يكون علي أن أكتب إليك
معا هذا لن يفعمني بعد بأقوال الآخرين
عيناي لن تضمّا بعض تشابهات
ولا قطعا زائفة منك
حيث بالكاد أصمد على المياه
ما الذي سأفعله حين ستكون كلّ هذه الأشياء معًا
سأكون ضمنها ماءً ممتزجًا بماء
سأتعرّف على نفسي
غير عارف بعد ما الفرق
أنا الذي حصلتْ لديّ إشراقات كثيرة منك
لن أكتب بعد إليك إنتِ التي سأكتبك
سأنثرك في كلمات هي التي أتجمّع فيها
نظراتي من أجل أن تدثّر
سيصعد من منفاها نحوك.
– 19 –
الأموات يُشَيّخونني أو يجعلونني أنبجس
إنهم يمزجونني بالآخرين
ويصقلون عزلاتنا
ليلحقوا بنا
– 20 –
كلّ عابر
هو شمس
نحن نمرّ
في ضوء
العيون المغمضة
مع القلق
من أننا قد لا نتعرف
على أنفسنا
وسط الحشد
أضمّك
بكلّ عيوني
ترجمة: خديجة الوسطي