شخصيات «أبعد مما نرى» تحكي فلا يسمعها أحد ولا يجيب عليها أحد وهي ترى ما لا يرده الآخرون. تقيم كما لو كانت في مكان مؤقت يؤهلها للانتقال الى مكان آخر دائم. هو المغارة في قصة "المغارة" وهو اليوتوبيا الدينية في قصة "أمين". وهو مكان غامض تحفره المرأة المتسولة "في العتمة" في قصة "المثوى"، أو هو الزمن الآفل او الصورة الضائعة image في "عناق" أو هو الوهم في "البطة"… الخ.
نشهد لدى بعض هذه الشخصيات احساسا بالانقطاع عن المجتمع فهي شخصيات هامشية منفية عن مجتمعها ومستدخلة في ذاتها، تقف دائما على طرف وهامش يجعلها تحاول تغيير هذا العالم بعالم آخر (قصة "أمين")، أو الانزواء عن هذا العالم باتجاه عالم آخر (قصة "المغارة").
لا يمكننا اللجوء ميكانيكيا لوصف هذه الشخصيات بالسلبية، فانصرافية أو عصابية هذه الشخصيات ليست بالضرورة ذات دلالات سلبية، فسلبيتها أحيانا هي عكس للاانسانية في المجتمع، وبعضها يرى السلبية في المجتمع نفسه، أو في ما تؤدي اليه أو أدت بها أسبابه الى انعزال وتقوقع.
أغلب هذه الشخصيات يتجنب المجتمع النظر اليها ويحاول اعتبارها غير موجودة بشكل يجعلها تتنافر مع المجتمع وتتنافر معه جذريا، أو تقوم هي نفسها بتجنب المجتمع والانصراف عنه، أو وضع نفسها على هوامشه وفي مغيباته. في قصة «حاجز» نجد حركتين متنافرتين بشكل جذري بين راوية القصة وبين موضوعها الذي هو شخص كل ما فيه يتعارض مع حركة الزمان والمكان حوله، فالمرأة في طريقها إلى العمل أما هو فلا نعرف الى أين يذهب، وفي حركة ذات دلالة كبيرة ينزل هذا الشخص الدرج بطريق معكوسة. إنه ذاهب بالاتجاه نفسه ولكني بطريقة عكسية، وبينما يركض الجميع للحاق بالقطار لا يستطيع هو إلا أن يعير ببطء شديد معاكس في شدته لروح المكان التي ليست مصادفة انها محطة قطار. وفيما يحافظ الجميع في هذا المكان على صمتهم فإن هذا الشخص يكرر في القصة القصيرة – مرتين – جملة: «إنه أسوأ يوم في حياتي». هذا الشخص بالنسبة لبطلة القصة مجرد «حاجز» يجب تجاوزه، وفي سبيل ذك تقوم البطلة بـ" تقليص كتلة وجودها" لكي تتجاوز هذا الحاجز وتمر به دون أن تلمسه وكي تنضم الى الحشد النازل ومعمم «ترى القطار الأتي».
وهكذا تتعارض منظومتا أشياء ودلالات بين عالمين فيغدو البطء بمواجهة السرعة والتذمر من سوء الحياة بمواجهة الصمت والاستسلام لسيرورتها، ويغدو ارتكاز الرجل على الداربزين واعتماده العاجز عليه متنافرا مع طلاقة الفتاة، الهابطة باتجاه القطار، وحيويتها.
واذا كانت القصة في«الحاجز » تتحدث عن فتاة ومشاعرها تجاه الرجل العاجز المارة هي به فإن العجز يتحول إلى نوع من الرغبة في التحرك يوقدها منظر فتاة وشاب يتغازلان في القطار عند المرأة الكهلة التي تدور عنها قصة «عناق»، وهكذا فإن الرجل العابر المفوت في «الحاجز» يتحول إلى امرأة كهلة ولكن جذوة الحياة لديها تريد الخروج من الداخل على شكل اندفاع جنسي، فهي تقرأ اعلانا في القطار يقول «تجنبي اعراض سن اليأس، تناول حبوب premancea فتقوم بكتابة الاسم في مذكرتها، كما انها عندما تسمع تزايد سرعة أنفاس الشابين تتسارع سرعة أنفاسها هي أيضا وتتصاعد الحرارة في جسدها».
غير أن المرأة العجوز عندما تخرج من القطار و"تبتسم بوجه سائح ابتسم بوجهها" ثم «يكاد لشدة الازدحام ان يلتصق بها» فإنها «تلملم جسدها ليأخذ شكل الزاوية» ويحركة تذكرنا بحركة الفتاة التي قامت في قصة «الحاجز» بـ "تقليص كتلة وجودها" لكي تتجاوز الرجل الذي يعوق طريقها إلى القطار. حركة (الكهلة) تتم وهي خارجة من(القطار) فيما تحاول حركة (الصبية) وهي متجهة الى (القطار)، وفيما تحاول الكهلة لملمة جسدها للابتعاد عن الحشد فإن الصبية تلملم جسدها لتتجاوز الرجل البطيء العاجز لتقترب من الحشد وتنضم اليه. الكهلة تخرج من جسدها للانضمام إلى الشابين اللذين رفعا نسغ الحياة فيها فيما الصبية تدخل في جسدها (تنكمش على حد تعبير الكاتبة) لتبتعد عن الرجل ولتنضم الى الحشد.
هناك إذن. ضمن هذه التفارقات بين المرأتين، شبه يتجسد برغبة بـ(الانضمام) إلى حالة انسانية معينة و(الابتعاد) عن حالة أخرى هي، في حالة الكهلة، رغبة الانضمام إلى حالة العشق التي يعيشها الشابان، والابتعاد عن الازدحام الذي يمثله السياح اليابانيون، وفي حالة الصبية رغبة الانضمام إلى الحشد المتجه الى القطار والابتعاد عن الرجل القميء الشكل وشبه المشلول.
هناك إذن رغبة تجمع بين المرأتين هي رغبة حيوية، يمثلها الدافع العاطفي أو الجنسي عند الكهلة، ويقابلها عند الصبية الابتعاد عن الرجل بما يمثله من بطء، وعجز وموت، لكن هذه الرغبة عند الكهلة تترادف مع حالة انكماش من الجموع، وما تمثله من استلاب (بما تجسده دلالات السياحة وألكاميرات) ومن الخوف من فقدان الذات ضمن حشد قطيعي منساق إلى مصيره دون تفكر أو تدبر، فيما تتبدى الرغبة الحيوية عند الصبية بالاندماج في الحشد الذاهب مع القطار (وما يمثله من حركية وسرعة وتطابق مع حركة الزمن) وليس المتأخر عنه.
في أغلب القصص هناك نقد للجموع والحشود المنساقة والذاهلة عما يحصل لحياتها ولحيوات الآخرين. نقد لازدراء ألام البشر الذي يؤدي الى «تقليص كتلة وجود» الإنسان واهتمامه بذاته بغض النظر عن الأخر، سواء كان هذا الأخر العراق الذي تكون الحرب ضده مناسبة لرفع العلم والحماس الوطني في قصة «انصراف»، أو «الفقراء الذين يزدادون فقرا» والأطفال الذين يقتلون والشباب الذين لا يجدون ما يشغلهم غير المخدرات… الخ، في قصة «آمين».
تتعدد مناظير الرؤية الى هذه الموضوعة المركزية في المجموعة، وشكلها في أغب الأحيان صادرة عن عين لشخصيات تنظر من هامش المجتمع أو الحياة، وهذا يكسب هذه الفطرة نزعة عصابية أحيانا، كما في حالة المرأة المتدينة في «آمين» ولكنها دائما تقدم لمسة شديدة الحزن والكآبة تجعل الشخصية أحيانا تنوء تحت وطأة حزن لا تحتمله الشخصية التي تمثلها كما في شخصية كارول في قصة "انصراف" فهي تتصرف وتعبر بطريقة امرأة أكبر بكثير من عمرها، كأن تقول: «تحس انها ضيعت حياتها كلها وهي تصغي للآخرين»، وتتساءل عن ثاتشر: "كم سنة حكمت؟ عشر سنوات! عشرين! أتذكر وجهها المصدوم ودموعها يوم استقالت"، فايراد هذه السنوات بهذه الطريقة يعطي للقارئ انطباعا بكبر عمر المتسائل، وكذلك جلوسها على سلم المدرسة نتيجة إحساسها بانهاك شديد وازدياد دقات قلبها وخراب ذاكرتها، كل هذه معطيات تنطبق على شخص كبير في العمر أكثر من فتاة شابة مثل كارول، ولعل هذه أحدى مشكلات هذه القصة بالذات ضمن مجموعة زنكنة، بحيث نحس بنوع من النزعة الارادوية كأنها تملي على الشخصية أراء الكاتبة أو أفكارها.
تنتقل هذه الفجوة في قصة مثل «خطوط متوازية» التي تقدم حكاية تسرد بضمير الغائب وتقدم استدخالا ذاتيا في روح امرأة تصف ليلتها السابقة التي لم تنم فيها جيدا، ومن هذه النقطة البسيطة يحصل نوع من التداعي الذي تغدو فيه اللية نوعا من الكولاج الذي تتقاطع فيه أسباب عدم نوم المرأة، الارادي أولا، نتيجة انتظارها عودة ابنتها، واللاارادي ثانيا، نتيجة ألام المفاصل، ثم سرد لما سمعته عرفضا من قيام قطع البحرية الأمريكية وقاذفات بي52 إطلاق 17 صاروخا على العراق.
تنتقل بطلة القصة من مشاهدتها لمشاهد القصف على مجموعة من الحركات الشبيهة بحركات المسرنم، ولنستعن بسرد زنكنة: «اقتربت من الشاشة، أصبحت لصقها تقريبا، لتقرأ الجداول، لا شعوريا مدت يدها ومسحت سطح الجهاز الذي تراكمت عليه كمية من الغبار.. غريب ! لقد نظفت الأثاث منذ يومين، رسمت خطا عريضا، حركت به دقائق الغبار، انتبهت إلي أن أوراق النبتة المجاورة لتليفزيون متربة أيضا. رسمت خطا على أكبر ورقة، مثل الأطفال كتبت على أكبر ورقة الحروف الأولى من اسمها. مدت يدها وجمعت التربة، يابسة، انها بحاجة إلى سقي وغذاء»، بعد هذا تقول البطلة مباشرة: "سبع سنوات من الحصار. "ليس هناك بديل أمام كلينتون". فرغم الدائرة الواسعة التي اندفعت فيها البطلة فيما يشبه الرغبة الارادية بنسيان الحدث وتشتيت معانيه المؤلمة فإن تذكر حاجة النبات للسقي والغذاء يدفعها مباشرة إلى تذكر العراق الذي بدا لها نبتة ممنوع عليها الماء والغذاء، ولتستدعي من ثم الموقف المؤلم والتبرير الاعلامي الجاهز: ليس هناك بديل أمام كلينتون.. سوى ضرب العراق مجددا!
في ما يشبه النواس نشهد خلال هذه القصة محاولات البطلة تشتت الموقف النفسي الذي يوشك، أن يعيبها ومعاودة المشهد المؤلم لها. كن تشتيت الموقف يحمل في داخله بذرة مقاومة وتذكير أيضا. اليست رغبة البطلة بتغذية النبات نوعا من المقاومة الإنسانية البسيطة للخراب البشري؟ هذه المحاولات لا تنفصل عن العودة المستمرة للمشهد فالسرد ينتقل مباشرة من الإخبار عن تعليمات استخدام هورمون النبات إلى نوع من التذمر من النظام الذي يقوم عليه البلد الذي تعيش فيه: تعليمات لكل شيء، وهكذا تتكرر جملة «خمس قطرات بلا زيادة ولا نقصان» ولكنها تنتهي بكلمة تهديد: وإلا، ثم بعودة للمشهد: صوت وزير الدفاع البريطاني مايكل بورتيللو مهددا بمزيد من الضربات.
هكذا وبنقلة بسيطة تكشف الكاتبة هذا الترابط الهائل بين أشد الأشياء بساطة، بدءا من التعليمات الموضوعة على علبة دواء النبات، وصولا إلى السياسة الخارجية لبريطانيا، وخلال ذلك لا تستسلم الكاتبة لأي نوع من الوطنية الفجة أو الاستقطابية المانوية التي تقسم العالم الى أسود وأبيض، ولكنها، اسلوب بسيط يشرح المشاعر البسيطة لامرأة تستيقظ منهكة من ليلة قليلة النوم تقوم بفضح آلية كاملة للعذاب !
عضو البساطة والإيجاز هذا يعاود ظهوره في أحدى أجمل قصص المجموعة وهي قصة "البطة".
تحكي هذه القصة عن انفصال بين زوجين عراقيين يعيشان في بريطانيا. سبب هذا الانفصال يبدو مضحكا: ظهور بطة على شاشة التليفزيون! لكن هذا الظهور، كما يرد على لسان الزوج عدنان: «لعلها البطة، وضحكت بصوت عال البطة التي قصمت ظهر البعير».
ظهور هذه البطة نقلة مركزية في حياة الزوجة سعاد. والبط، هو بالمناسبة، حسب علاقة سعاد بالأشياء نوعان: بط لندن، وبط شط الوشاش، المنطقة التي كانت تعيش فيها في العراق، ولكن سعاد ما كانت لتهتم بالبط أيا كان نوعه إلى أن رأت صورة البطة المغطاة بالنفط الخام على شاشة التليفزيون البريطاني.
صورة البطة مناسبة لتفجير ما كانت سعاد تخفيه خلف جدار أو تضعه تحت سجادة كرهها لمنطقتها وبلادها التي جاءت منها. كانت مناسبة لتفجير هذا الكرم المتراكم بطريقة حاسمة وقاطعة، سعاد بعد صورة البطة المغطاة بالنفط حسمت موقعها تماما وفصلت نفسهاب طريقة اعجازية عن كل ما يمت إلى العراق بصلة، وكان على علاقتها بزوجها العراقي أن تنتهي بالتالي حتى تصبح نظيفة من نفط الوطن ووسخه ورائحته. صحيح أن ذلك غير حياتها لتصبح أقرب الى الطريقة التي كان يحياها زوجها، من فاعلية سياسية ذات علاقة بالعراق، ولكن فاعلية سعاد فاعلية "نظيفة" وخارجية وتهتم أساسا بأفكار "نظيفة" ومعقمة وغريبة بامتياز، مثل: تلوث البيئة، حقوق الانسان في … العراق!
في هذه النقطة الرائعة تضع زنكنة يدها على ظواهر معقدة نفسية وثقافية واجتماعية. هناك لمس لقضية الآليات النفسية المعقدة التي يمر بها المواطن الشاعر بالاغتراب والاستلاب، والمهاجر المهروس في مسننات مجتمع جديد يضغط عليه بكل ثقله الإعلامي والثقافي، كما أن الكاتبة تلمس المفترقات الشعورية التي تترتب على هذه الأحاسيس الاجتماعية والثقافية وكيف تؤثر في العلاقات الحميمة وتفصمها أو تغيرها.
تغير سعاد لا يقدم تماما كعصر سالب، كما أن عدم تغير عدنان القريب من الجمود لا يقدم كعنصر موجب، هناك، فحسب، استشفاف إبداعي ممتاز للعناصر الصغيرة التي تهدم، وتكثف في الآن نفسه، بنى شعورية، واجتماعية كاملة.
تستخدم الكاتبة لقصصها عناوين تعتمد صفات وأسماء تحل دلالات سلبية، منها فكرة الإستدخال للداخل والشرنقة والعزلة، أو إيقاف صيرورة ما "حاجز" أو عدم إمكانية التقاء "خطوط متوازية"، وتتردد الأحاسيس السلبية في بعض القصص مثل الإحساس بالموت في قصة «انصراف» حيث يأخذ هذا الإحساس شكل التداعي أو المعادل الموضوعي فكارول تتذكر الموت عند رؤية تساقط الأوراق وعند تذكر المومياوات («تساقط الأوراق يجلها تفكر بالموت، هل ستذوق أجسادنا قسوة الأقدام عندما يغطيها اللحاف الترابي») وهناك أيضا الإحساس بلا جدوى الآخرين وعدم اهتمامهم (تحس أنها ضيعة حياتها وهي تصغي لآخرين، ومن يصغي اليها الآن؟ لا أحد، غير نفسها).
سلبية الشخصيات تتمثل مثلا بالامتناع عن الحوار، أو كره الذات والتقزز منها (تشبيه كارول نفسها بالكلبة) هذه السلبية هي نوع من مقاومة تجعل الشخصيات عصبية أو عصابية أو انصرافية في التعامل مع الخارج، وللتعبير عن هذه الحالات تستخدم الكاتبة أساليب عديدة منها أسلوب التداعي الذي ذكرناه وأسلوب التقطيع السينمائي كما في قصة "آمين" حيث يتقطع الصوت ثم تظهر مشاهد أشبه باللقطات السينمائية فتترافق مثلا صيحة الداعية: "الطفل جيمي من قتله؟" مع مشهد لـ" فطائر البصر والخضروات المسلوقة". وتنتقل الحالة الأدبية أحيانا الى حالة قريبة من السينما الفانتازية حيث نشهد راوي القصة الذي يسجل هذه اللقطات يقول مثلا: "تسقط الكلمات على الأرض بين ساقيه"، فكأن راوي القصة (أو راويتها) يشترك مع الجو الفانتازي الغارقة فيه القصة ويطفق هو أيضا بالتخيل القريب من حالة الذهول والسكر.
بل أن الراوية تتحد أسلوبيا مع الشخصية كما في هذه القصة التي ذكرناها حيث تنتهي القصة بجملة للداعية مأخوذة من العهد القديم، وبما يشبه النداء أو الاستغاثة: أيها الطبيون هل تسعونني؟ فيتوحد القارئ مع المستمع للداعية في السوق الذي هو الحياة نفسها والذي هو مجرى القراءة الذي نمشي فيه أيضا.
حسام الدين محمد (ناقد من سوريا يقيم في لندن)