لا يبدو أي من الكتّاب أكثر سعادة من هيلاري مانتل شتاء هذا العام، انها تتحامل على مرضها وتحتفي جذلى بفوزها بجائزة بوكر عن روايتها «ذئب الصالة» فيما سعادتها تتصاعد بعد ترشيح الرواية نفسها لجائزة (كوستا).
انها الآن أكثر مرحاَ وأقل وجعهاً فيما هي تقضي عيد الميلاد ورأس السنة بهدوء مفرط، مع ان الشهرة والاموال نزلت عليها أشبه بحلم اسطوري لتصبح روايتها «ذئب الصالة» الاكثر مبيعا خلال الاشهر الاخيرة من عام 2009.
هذه الرواية التي دفعت النقاد الى اطلاق التساؤل التاريخي، عما اذا كان الروائي قادراً على سرد مؤامرات التاريخ بذات الحس الموضوعي الذي يمتلكه المؤرخ؟
هيلاري مانتل أعادت صياغة التاريخ بخيالية جذابة وحرفية وصبر، يجعل القارئ في ورطة تاريخية لا تغادر الجغرافيا.
تتناول رواية «ذئب الصالة» عبر 650 صفحة من القطع الكبير، ما يشبه السيرة التاريخية المفعمة بالعذاب والتعذيب والدسائس والاهانات السياسية والدبلوماسية البدائية في حياة السياسي الانجليزي توماس كرومويل.
تبدأ الرواية بكرومويل كضحية لوالده العنيف ثم تسرد قصته عندما يتولى خدمة الكردينال وولسي، ويتقلد مناصب مختلفة حتى يصبح أبرز مساعدي الملك هنري الثامن، ويساعد الملك في محاولاته للانفصال عن البابوية في روما. كما يسعى لتنفيذ اجندته الخاصة ضد ارادة ملكة.
وتصف الرواية كرومويل الذي هرب من اسرته عندما كان عمره 15 عاماً، لكنه في الوقت نفسه لايعرف تاريخ ميلاده، بطريقة استالينية فاسدة كشخص عديم الرحمة، ومناور، وطموح في حياته السياسية العامة كما هو في حياته الخاصة.
يصل كرومويل إلى انكلترا في عمر الاربعين رجل موثوق به، حياته تشكلت من حزمة من الخبرات في فرنسا وايطاليا وهولندا، تسرد هيلاري كل ذلك بطريقة (فلاش باك) هنا وهناك لنتعرف عليه: كان جنديا، وهو تاجر ومحاسب لبنك فلورنسا، تعلم كيف يقدر ثمن اللوحات الايطالية، يتقن العديد من اللغات، ذكي ومقاتل على نحو لاعب سيرك، لكن النهوض الذاتي ليس الدافع الوحيد عند كرومويل. يشمئز من الخرافات التي يواجهها، ويأخذ وجهة نظر مادية بالانغماس في الحياة. يتصرف بعقلية الإقطاعي من النبلاء، في الوقت الذي يسخر فيه من أصله المتواضع.
كل ذلك دفع الصحفي جيمس نوتي رئيس لجنة تحكيم جائزة بوكر إلى القول «اختيرت رواية مانتل استنادا إلى عظمة الكتاب في حد ذاته وجرأة السرد… إنها رواية حديثة لكن أحداثها تدور في القرن السادس عشر».
واضاف رئيس اللجنة ان قرار اختيار مانتل لم يأت بالاجماع، وإن كان الجميع راضين عنه الآن.
وقال ايون تريوين المدير الأدبي لجوائز بوكر إن رواية «ذئب الصالة» بيع منها نحو خمسين ألف نسخة في بريطانيا بحلول نهاية (سبتمبر) 2009 بعد اشهر من صدورها، وهو عدد مرتفع للنسخة المجلدة بغلاف سميك التي تكون عادة غالية الثمن.
وتعد جائزة بوكر احدى اعرق الجوائز الادبية في العالم، تكافئ سنويا منذ عام 1969عملا كتابياً تخيلياً لمؤلف من دول الكومونولث او جمهورية ايرلندا.
وتنافس على الجائزة عام 2009 نخبة من الادباء. ووصل إلى القائمة النهائية الروائي الجنوب افريقي جيمس ماكسويل كوتزي من خلال كتاب «وقت الصيف» وكان اول روائي يتنافس للفوز بالجائزة للمرة الثالثة، والروائية البريطانية انتونيا سوزان بيات بكتابها «كتاب الاطفال».
ورواية «المتاهة المتسارعة» للكاتب البريطاني ادام بولدز الذي يعتبر اصغر المرشحين للفوز بالجائزة (34 عاما).
فمنحت جائزة بوكر لامرأة، لكنها ليست أية امرأة! هيلاري مانتل رأت الشيطان عندما كان عمرها سبع سنوات، نعم رأته كيف يصارع الريح ويتوجه بمحاذاة منزل اسرتها، وترددت عشرين عاما قبل ان تكتب روايتها «ذئب الصالة» لتنال بها المجد الادبي في منتصف عمرها الافتراضي والادبي.
ويمكن وصف مظهرها في قاعة استقبال لجنة ارفع الجوائز البريطانية الادبية قبل ليلة من حفل التتويج الذي أغدق عليها بالمال «ليس فقط ثمن الجائزة 80 الف دولار امريكي، بل بما ستدر عليها مبيعات الكتاب من اموال وشهرة مقبلة».
وصف مظهرها اشبه بامرأة قادمة من تاريخ الألوان والعطر، تجلس مع زوجها الجيولوجي جيرالد، تحتفظ بفرحها للساعات المقبلة.
انها سعيدة بطريقة جعلتها تطير، هكذا وصفت الفوز بجائزة بوكر مثل تصادم قطارين، فيما هي تحلق جذلى في الهواء!
سنوات في الخليج العربي
ولدت هيلاري مانتل في ديربيشير الانجليزية في السادس من يوليو عام 1952، ودرست القانون قبل ان تنتقل للعيش مع زوجها في بوتسوانا ثم المملكة العربية السعودية وتحديدا في مدينة جدة، حيث قضت اربع سنوات كتبت فيها تحقيقاً صحفياً مطولا عن الحياة في السعودية ونالت عنه احدى الجوائز المحلية، ثم عادت للعيش في بريطانيا في منتصف عام 1980 من القرن الماضي.
نشرت هيلاري روايتها الأولى بعنوان «كل يوم هو عيد الأم» عام 1985.
وحصلت على جائزة «وينفرد هولتبي» عام 1989 عن روايتها «فلود»، واختارت صحيفة صنداي اكسبرس روايتها «مكان أكثر أمنا» ككتاب العام 1993، وفي السنة التي تلتها فازت روايتها «تجربة في الحب» بجائزة هوثورندن.
ترى هيلاري ان جائزة بوكر لم تفقد جودتها الادبية وتسقط في المراهنات غير الادبية، «لم أكن متأكدة من الفوز، لكنني لا يمكن ان افرط بسعادتي به، كان ذهني منطقياً قبل اعلان النتائج، فثمة خاسر وفائز، وكنت أتقبل الأمرين، من دون أن أفرط بفرحي بالفوز، أما مشاعر الخسارة فهي أضحت أمراً غيبياً لا يمكن وصفه بعد ان فزت! لكن في النهاية الجائزة لن تغير حياتي المهنية».
تعتقد هيلاري ان من فاز بالجائزة هو الملك هنري الثامن، وليس كرومويل السيء!
وتعود هيلاري بذاكرتها إلى ثلاثين عاما إلى الوراء عندما كتبت روايتها الاولى «كل يوم هو عيد الأم» عن الثورة الفرنسية واعيد طبعها عام 1992، وترى ان ثمة مساحة خافتة في ذهنها عن الجوائز، لكن المعالجة المحتدمة والحميمية في آن واحد لحياة كرومويل جعلت هذه المساحة مضاءة جداً.
لا تؤمن هيلاري مانتل بالحكاية التقليدية عن الاميرة التي تتزوج وتسافر إلى البلاد البعيدة، فكل الانكليز مرضى بداء السفر، لكنها عندما سافرت إلى الشرق اتخذت خطوة بالتحرك إلى الامام على الاقل في ذهنها.
لم تعد مانتل إلى السرد التوراتي الشائع في كتابة «ذئب الصالة» ولم تود ان تكرر الافلام الوثائقية والمسرحيات وكتب السير التاريخية، كانت تبحث في تلابيب الشيخوخة كما كانت تحاور الطفولة، انطلاقا من طفولتها التي لا تنقصها الوحشة وسمات العذاب.
تعرفت هيلاري على القهر داخل اسرتها منذ ان كان عمرها 11 عاما عندما اطاح الاب بالأسرة برمتها، ولم تره بعد ذلك أبدا، حيث أخذت اسم عائلة زوج امها، وعانت بعدها من سوء التشخيص الطبي حول اصابتها بمرض في الرحم «كانت مريضة وغير مريضة في وقت واحد، اي تعذيب هذا؟»
ثم تزوجت جيرالد الجيولوجي الذي اصطحبها إلى بوتسوانا ثم إلى جدة في المملكة العربية السعودية.
عندما عادت إلى انكلترا من السعودية منتصف عام 1980 كان عليها ان تعرف حقيقة مرضها، وهو ما دفع الاطباء إلى اعتبارها امرأة متعجرفة لا تثق بتشخيصهم، لكنها لم تكن تدرك طبيعة مرضها هل ثمة ورم في الرحم، وهل ينمو خارجه، هل ستنجب ام لا؟
لكن الكتابة كانت حافزا للاستمرار في الحياة «سر المثابرة، كما تقول، هو الاحتفاظ بدفتر ملاحظات في السرير».
أول شيء تفعله هيلاري مانتل عندما تستيقظ هو الكتابة، لكنها احيانا تبقى أياماً من دون ان تكتب، حالتها الصحية السيئة جعلت منها كاتبة، كانت تقاوم المرض بالخيال. لكنها تجيب عن سؤال يتبادر إلى الذهن قبل ان يطلق عليها «بالطبع افضل صحتي على الكتابة».
تفاقمت الاسئلة لدى هيلاري مانتل عن علاقة الاسلام بالغرب عندما قضت سنوات في مدينة جدة السعودية مع زوجها الجيولوجي جيرالد، كان الاحباط لديها يتصاعد مع تطور الاحداث السياسية آنذاك، وكانت تتساءل مع نفسها «من أنا؟». أما الكتاب فكان الضحية في كل هذه الاحداث، كانت تفكر بقلق عما اذا كانت قادرة ان تكتب شيئاً عن السياسة من دون ان تكال إليها الاتهامات.
كتبت عن تجرتها في مدينة جدة رواية «ثمانية أشهر في شارع الغازية» عام 1988، ثم «اتجاه الريح في جدة» وأصدرت «فلود» 1989، «مكان أكثر آمناً» 1992، «مناخ متغير» 1994، «تجربة في الحب»، 1995، «العملاق اوبراين» 1998، «الكتابة المنزلية في اوروبا» 2002، «التخلي عن الشبح» 2003، «تعلم الكلام» قصص قصيرة 2003، «بيوند بلاك» 2005.
وتتناول رواية «العملاق اوبراين» قصة تشارلز أوبراين الذي يغادر منزله في ايرلندا لاستثمار أمواله في عمل ثانوي في لندن، فنكتشف علاقة المشاعر بالمكان، الملامح الحسية للضجر والتردد والمجازفة في الاوساط الطبية، انها رواية مكان لا مكان فيه للمال الا بقدر كونه هامشياً. كما تكشف عن اخلاقيات مهنة الطب عندما تتردى.
أما «التخلي عن الشبح» فهي اشبه بسيرة ذاتية واقعية مفعمة بالخيال تقود القارئ إلى طفولة الكاتبة المبكرة واستكشاف سنوات المراهقة التي دفعتها إلى الكتابة.
وتعالج موضوع الاصولية الاسلامية في رواية «ثمانية أشهر في شارع الغازية» مستثمرة اقامتها بمدينة جدة.
يبدو ان ايحاء الحرب في العراق يثير التساؤلات غير المباشرة في رؤى هيلاري مانتل، لكنها لا تود الحديث مباشرة عن العراق، وتكتفي بالتساؤل عما اذا كان احتلال هذا البلد نوعاً من الغزو التبشيري المسلح؟!
الصمت يورق في الكتابة
هيلاري أحد الروائيين الذين استثمروا غياب الاب الفعلي عن حياتهم في الكتابة، لتثير دلالة الهوية في حياة الانسان، وكيف جاء المرض اشبه بنتيجة عن غياب الأب، كانت في بعض الاحيان لا تعرف نفسها بسبب تعاطي العقاقير منذ ان كان عمرها 19 عاماً.
في سنوات دراستها كانت هيلاري غالبا ما تغيب عن المدرسة بسبب المرض، الامر الذي سبب لها نوعا من الصمت استثمرته لاحقا في الكتابة عندما تحول «البكم» إلى كلام على الورق.
كانت بين ثلاثة أشقاء، والدتها تذهب للعمل في مصنع وتطمح لابنتها هيلاري التفوق في الدراسة الجامعية، وعاشت الأم مع اولادها عند مستأجر مع انها لم تحصل على الطلاق بعد غياب الزوج، وتتظاهر انها ما زالت متزوجة.
عاشت هيلاري انذاك نوعاً من التهميش في المنزل حتى مغادرة والدها من دون عودة، لكنها عندما تتذكر ذلك لا تحزن أبداً على غيابه، مع انها لم تره مرة أخرى، وتفسر ذلك بنوع الحزن عندما يتعلق بمستوى منخفض من المشاعر الداخلية للمرء، اذ لم تكن هي سبب غياب الاب عن حياتها وحياة اسرتها.
كانت هيلاري اول شخص في العائلة يدخل الجامعة، اضطرت احيانا إلى التسول من اجل اتمام دراستها مثل العديد من فتيات بلادها آنذاك، بعد ان رفض زوج امها ان يتكفل بمصاريف دراستها حتى زواجها. وتقول عن ذلك انها لو لم تتزوج لما استطاعت اكمال دراستها.
وفر لها زوجها الجيولوجي فرصة اكتشاف الحياة المريرة في افريقيا أثناء عمله في بوتسوانا البلد الافريقي الذي استقل عن الاحتلال البريطاني عام 1966.
كل ذلك تزامن مع تدهور حالتها الصحية اثر خطأ بتشخيص مرضها في بطانة الرحم، وتعاطيها عقاقير مضادة للاكتئاب.
في بدايتها الادبية قدمت مخطوطة لأحد الناشرين من 350 الف كلمة لكنها رفضت، تقول هيلاري «لم أكن واثقة انه قرأها في الاصل!». لكنني أعدت نشر الرواية عام 1992 ونجحت.
لم تحاول هيلاري مانتل رثاء ذاتها في كل ما تكتب، كونها لم تنجب، وتأمل عندما تكتب مذكراتها ان تكون ساخرة أكثر مما هي مغالية.
على الكاتب التخلص من الخجل عند الكتابة بالتركيز على فعل الحواس، هكذا ترى «عندما يعمل الدماغ لا يهم ان كان الجسم عاطلاً!»، يمكن للكاتب ان يخطط في ذهنه، لكنه بمجرد الجلوس إلى لوحة مفاتيح الكمبيوتر يتلاشى الوقت للتفكير لصالح العمل وحده. ويتساءل في نهاية الامر «أواه.. ماذا فعلت؟».
مرضت هيلاري مانتل في غدتها الدرقية وزاد وزنها أكثر مما ينبغي الامر الذي جعلها تفقد ملابسها خلال اسبوع واحد! لكنها لم تفقد الأمل في حياتها، واصبح جسدها كما تصفه أشبه بقطعة أثاث من الدهون «الكاثوليك يرون ان الاسرار المقدسة تأتي من الخارج لتكون نعمة في الداخل».
تنظر إلى جسدها مثل كتاب فكاهي وتضحك، وهي عازمة على رواية ذلك في قصة عن الجسد وتفضلها على كتابة المذكرات.
تقول «سواء كنت كاتبة رواية ام مذكرات، وصلت إلى فهم معين في النهاية، انني ألقي بعض الضوء على خلفيتي وما زال هناك الكثير الذي لا يوصف».
كـــرم نعمـــة
كاتب وصحفي عراقي مقيم في لندن