حين يبدأ اليمام البرِّيُّ في الهديل مع دُنُوِّ الغيوم الطّالعةِ من أعالي الأودية، يتجلّى في السماء قوسُ قزحِ الأملِ والخلاص.
الأملُ والخلاصُ والنور.
لا بُدَّ أن تتدافع هذه الكلماتُ بالمناكبِ وسطَ أمواجِ الصحراءِ المُدلهمّةِ والسّراب.
الصّقيع العارمُ هناك
والصّحو القاسي هُنا
الطبيعة والأيّام في اندفاع طيْشها وهي تنقضُّ نحو عامٍ آخرَ أكثر ريبةً وغموضًا.
جِنايةُ هذه الصّباحاتِ هنا أنّها بلا غُيوم
رتيبةً متشابهةً من غير تفاصيل ولا فروق
الغيوم التي تظلّل الأرض العطشى
بجمالِها المتغيّرِ الفريد سواء أمطرت أو حملت وَدْقها إلى بلدٍ مُتاخمٍ
هي تلك الومضةُ من برقِ الحنين إلى الجنّة المفقودة.
بدأ العمانيّون في الجبل الأخضر بمعرفة أشجار الزيتون، وبعد فترة بتحويلها إلى زيت عبر تقنيات حديثة، أولئك القاطنون في أعالي الجبل ووهاده يعرفون الشّجرة أنّها شجرة بريّة تنبت في البراري والسفوح ويدعونها (العتم)، يستخدمون أغصانها الصلبة كعصيٍّ صلبةٍ لا تلين، أتذكّر بلاد الشام كجزءٍ من فضاءِ المتوسّط الذي يُشكّل الزيتونُ لديهم ثقافةً وركنًا أساسيًّا في الحياة غذاءً ودواءً بطقوسه الجماعيّة البهيجة أيّما بهجةٍ وجمال. وتُلحّ عليَّ هذه اللحظة ذكرى تَفدُ من الأردن حين أخذتني ذاتَ صيفٍ الكاتبةُ والمثقفةُ سهير التّل صاحبةُ ذلك الكتاب النوعيّ (عَمّان مدينة الحجر) الذي قرأته في عجلون، مدينتِها التي أخذَتني إليها حيث إنّ والدها الأستاذ سلطي التلّ القياديّ اليساريُّ البارز، وشقيق وصفي التلّ رئيس وزراء الأردن الذي اغتيل مطلع السبعينيّات في القاهرة، يملك فندقًا هناك مُشرعَ النوافذ والأبواب على الأفق الشّاسع للخضرة والهواء المُنعش، ويمكن من إحدى جهاتِه أنّ ترى أضواء القدس الفلسطينيّة غيرَ بعيدة، أتذكّر السيّد سلطي وسهير كيف كانا يعتنيان عناية الأب بأبنائه بأشجار الزيتون المترامية، والميرمية، وغيرهما.
تفِد إليّ هذه الذكرى في خضمّ الأخبار الصّاعقة التي أتتني من الأردن برحيل العزيزَين: عز الدين المناصرة، وجريس سماوي بسبب وباء كورونا اللعين.
عز الدين الذي تمتدّ معرفتي به إلى صوفيا، عاصمة بلغاريا إبان حكم الحزب الشيوعي كجزء من تلك الإمبراطورية الحديديّة الشاسعة، التي أدركها الأفُول والاضمحلال.
النمرُ الحبيسُ في القفص المُحكم الإغلاق يخبطُ القضبانَ بجراحِ الشّكيمة الدامي
يخبطُ الآفاقَ والجهات
أحلامُهُ تسرح في مهبِّ الفضاء والغابات؛ لكن جسده مشدودٌ إلى وتدِ الحديد
وحين يشتدّ به الهياج يَعلِك القضبانَ بأنيابٍ صُنِعتْ من فولاذ
نمرُ البنغال الأرقط
نمرُ إفريقيا
النمرُ العربيّ حالِمًا «بشانبة» في زنجبار
نمرُ بورخيس عاشقُ المرايا والمتاهات والنّمور
نمرُ ريلكه المثقلُ بتاريخ القضبان والسكون
نمرُ الحكمة والجنون
ما زال يحلم بأنثاه التي حملتْها العاصفةُ إلى غابةِ المُستحيل.
كان عويلُ الواوِيِّ يُوقظ الموتى من أجداثِهم ويُميتُ الأحياءَ
كان «نعيشُه» يوقظ العواصفَ من مخابئها في الغابات وتزهر البروق
وعويل الذئب كان يطوف القرى والمضاربَ ويغزو أحلامَ النائمين بغزارةِ المياه، بينما الثعالب تنير دروب التائهين في الأودية، وتستدرج طيورَ المَبيت من على الشجرة
كانت الأحلام الضّاجّةُ في حيواتها تُسرجُ الفضاء بنشيدٍ من فرحٍ وعويل.
مطاردو العواصفِ والموج
طَريدو الأرقِ
رعاةُ النّجوم
المدثّرونَ بالغيوم والضّباب فوق جبال الخطرِ والمَوت.
حين تخطو المَنِيّة هادئةً مطمئنّة نحو الكائن المصْدوعِ بالموت والغياب
تكون الثمرةُ ناضجة للسّقوط
مستسلمةً بوداعةٍ، وربّما بفرحٍ لنداء ذلك الخالد الأزليّ.
حينما كان ينزل السُّلّم باتّجاه الزّقاق المهجورِ صَعَقتْه الذكرى:
شاطئٌ على ضفّةٍ من ضفاف الكون.
أشجارُ صفصافٍ وبتولا
حيواناتٌ تَسرَح بوداعة في الأرْجاءِ
ورفيفُ أجنحةٍ على أشجارِ جوز الهند المُتمايل في الرّيح
وهناك امرأةٌ لم يرَ إلا وجْهها الصّافي
كانت عاريةً في زَبَدِ الموجِ والضَّباب حين اختفتْ بكامل بهائها في العَتم المُحتدم، وضاعت في غياهبِ الذاكرة والزقاق.
حَلَّق النسرُ في سماءٍ مُقفرة من النّجوم يطاردُ غيمةً في حقولِ خيالِهِ المُعشبة، غيمةً ستمطر بعيًدا في البلاد العصيّة على الوصول.
أطبقَ بجناحيه على الآفاق التي كان يحلم بها طريدةً بعد عزلة السنين
نسرُ الأنديز أو النيبال
نسرُ الربع الخالي حين ساق الجبالَ والغاباتِ أمامه كقطيعٍ أدرَكهُ الهياج في الأمداءِ والمَتاه.
ينهض البستانيّ العجوز كلّ فجرٍ يحرُثُ الحقل، يوقظُ الأحلام التي توشك على الانطفاء والرّحيل
ينهضُ نحو الحقلِ مُفرِّقًا أفواجَ الوجوه الضاجّةِ في رأسِه
مفرقًا أفواجَ الوجوهِ الفانيةِ والأشْباح.
حينَ مَرِضت شُعوبُ الغَابةِ من النّمورِ والجِوارحِ واستبدّ بها الألمُ مع الزّواحف والطّيور غادرت الغابةَ من غير خرائط ولا مودِّعين إلى سماءٍ نجميّة مجهولة، وربما إلى العدم الأقصى.
«سِرِ إن استطعتَ في الهواء رُويدًا
لا اختيالًا على رفات العبادِ»
أيُّ إحساسٍ كاسرٍ بالفناءِ والاضمحلالِ في أعماق شيخِ المعرّة وحناياه
أيّ مشاعرَ بانفراطِ عقدِ الأزمان وهولِ المأساة
وهذا العبور الحتميّ إلى الضفاف الأخرى، حيث تتراكم الجبّانات والأجداثُ في الهواء الرّاكدِ أو في قلبِ العواصِفِ والأعاصيرِ التي تحمِلُ في مُهودها وتوابِيتها الأحياءَ والموتى متأرجحةً في الهواء العاصِفِ تتبادلُ الأدوارَ والحيوات.
أيّ بلاغةٍ إعجازية يُمليها الخيالُ الخصيبُ النّاهلُ من مَعين هواجسِ الموتِ التي لا تنضب ولا تجفّ.
الأرضُ التي لم تَعُد تَحملُ أيَّ سرٍّ مُسطحةٌ بسيطةٌ وبلهاءُ لم تعد قادرة على مواصلة السّير، كل هذه الأحمالُ والقروحُ والمظالمُ الباهظة، لقد احدودب ظهرُها، وافترسها الأرَقُ والهرمُ فأخذت تفكّر في الانتحارِ قبل النّهايات الحتميَّة وتنحرُ سَاكنِيها في جميعِ القارّاتِ والمحيطات، وتلاحق أولئك الذين فاضوا إلى أرض الفضاءات الأخرى ليفسدوا المجرات والنجوم التي ما زالت تضيء حتى في حالةِ موتِها السريريّ، تحتفظ بنفَسٍ من خيبة وغموض.
لقد سئمتْ أُمّنا الأرضُ ودمرتها الخيبة والإحباطُ من هؤلاء العابرين بصخبِ المجازر والإبادات واندفاعِ الجشع الوحشيّ حتى من غيرِ وقفةٍ سريعةٍ لواقعةِ موتٍ أو فناءٍ تتناسل أمام أعينهم التي كأنما خُلِقتْ خلفَ جدارٍ سميكٍ من الغشاوة والتبريرات لأُمثولاتِ فكرٍ إلهيٍّ وبشريّ تراكم منذ ولاداتهم المشؤومة على هذه التي حلت اللعنة عليها بسببهم فأضحتْ تتوسّل الأفول والمِحاق.
ذلك التّرابُ الذي ضمَّ في أحشائِه رُفات أبي وأمّي وإخوتي هو ترابُ أسئلتِنا الجنينيّة الأولى المُشرَعَةِ على العالم، التُرابُ الذي تُبدّده العَواصِفُ في الجِهاتِ الأربع، عاصفةٌ من أسئلة ومصائر.
البروقُ والرّعود نفُسها منذ انبلاج الأكوان تخصب منازل الأحياء والموتى حاملة أحلامها ورغباتها الموؤودة منذ الولادة، مثل سر إلى بحورٍ وجبال لا يطولها فضول بشر أو طير وحيوان.
أرضٌ مستحيلةٌ حتى على الآلهة والزّمان.
الموتُ في الأزمنة الخصيبَةِ ليس هو في أزمة القحط والجفاف
اليابانيون اعتبروه نبعًا متدفّقًا بالجداول يَسقي الحياة والفنون
اليابانيّون الوثنيّون، أما الموحّدون فتعويض القسوة بآخرةٍ سعيدة.
في أزْمنة القحطِ والأوبئةِ الصّاعقة سيكونُ أكثر وقعًا وجراحًا على الأحياءِ المُترنّحين بين قبرٍ قاحلٍ ومنازلَ تعصف بها رياحُ الغياب.
هذه الغيومُ الوَاعدة
التي تلّبد سماء الصيف
تمتدّ من قلوب أطفال عُمان
المرتعشةِ فرحًا
حتى تغمرَ فسيحَ العالمِ والمحيطات.
لم يأتِ المطر هذا العام رغم الانتظار الحارقِ وصلواتِ الاستغاثة
لم يأتِ
تصدّعتْ الأرضُ العطشى وأقفرت السماءُ من الغيمِ والنجوم
لكنّ الأفلاجَ المتحدّرة من أفئدة الجبال ما زالت تجري لتسقي النخيلَ والأشجارَ المثقلةَ بالثمار
تجري بوَهَنٍ مثل البشر الذين أنهكهم الانتظارُ والوباء
النخيلُ مثقلةٌ بالعثاكيل والحرارة
لم تأتِ (كوس حدرى) بَعدُ لتَغمُرَ الأجسادَ والحيواتِ بهبوبِها العليل
لم تحن مواسِمُ الحصادِ حين الرّطبُ يُنْشرُ على السّطوح في سفوح الجبال
وفي انبلاجاتِ الفجر تنزل طيور (الصبّا) من الأعالي لتأخُذَ رِزقها الوفيرَ من الحصاد
بالأمسِ رَحَل إلى جوارِ ربّه أخي يعقوب الذي كان في الطفولةِ يعشق القطا والحمام
كان ونحن معه ننصب لها الشّباك ثم نأخذها بحنانٍ عميقٍ إلى المنزل بمعيّة العناية والغذاء
نربّيها كما يربي الكبارُ البنات والبنين.
ذلك الحوتُ الخرافيُّ الذي ارتاحَ على ظهرهِ المنبسطِ السندبادُ البحريُّ بعد رحلته الطويلة ليس إلا (جبلَ الفحل) الذي أراه اللحظةَ أمامي شاخصًا وسْطَ غضبِ الموجِ ببحرِ عُمانَ المرتطمِ بالحوافّ والآفاقِ الفسيحة والضباب.
إله الهنودِ القدماءِ (شينو)
هو مصدرُ الأشياء
جوهرُها في المحيطِ الكونيِّ الذي لا شاطئَ له والبشرُ مادة أحلامه.
مما قبل البوذا تأمّل أولئك البعيدون الخلقَ والمخلوقاتِ وصاغوا رؤى ما زالت ضمنَ إلهامِ تلك القارة المتموّجة بنور الأديان والممالك المتعاقبة، والمُفعمة بالفروق والقذارة والظلمات.
منذ زمنٍ بعيد لم أسمع صوتَ صفردٍ في الجوار، ولا ذاك القادم من الأخاديد والشّعاب متماهيًا مع لونِ الشجر والتراب
كأنما الوباءُ جرَفَه مع الراحلين بكثرة هذا العام، عام الأفول السّاحق للبشر والحيوان.
أين ذلك الصوتُ الذي ينفضنا إليه الحنين
جرسُ الجبال المنحدرِ في صباحات القرى إلى الضواحي والسفوح
ترفّق بنا
أكرِمْنا بالفجاءة والوصول
القومُ ظمأى إلى صوتِ غابة أو إله.
حشرة (الصَرّوخ) أو الزيز
التي كانت بغنائها الصادحِ في أصيافِ عمانَ الآفلةِ
ها قد بدأ الصّيف وبالكاد نسمع شذرةً من نبع ذلك النشيد المتدفّق من ثنيّات الصّخور والأشجارِ الوَارفة للقرى والسّفوح.
(الصَرّوخ) الذي حار العلماءُ في ألغازِ حياته التي تنمو سبعة عشر عاما تحت سطح الأرض في العتم، تتغذى على جذور الشجر، ثم تندفع إلى خارج ذلك المحيط المظلم الرطب إلى السطح، حاملةً هديةَ الغِناء السّعيد الذي يَرهَف وينتشي أكثر في مناخِ التزاوج والتفقيس، ومن ثم الموت الدّاهم يباسًا على الجذوعِ والصّخور المزهرة بالمِياه.
أيّ سرٍّ أودعَ الخالقُ في الحياة الطويلة برهةَ عتَمتها العميقة والقصيرة في نشوة النور والغناء.
في المطعم ِ الياباني الأنيق
على الجدار صورةُ معبدٍ بوذيٍّ ربّما لطائفة الشنتو أو الزَّن.
والجدار الآخر للبوذا ذاتِه متضرّعًا وكأنّما إلى ربٍّ أعلى.
البوذا الذي ظلمه مريدوه ورفعوه إلى مستوى القداسة الأقصى، لم يكن يريدُ أو يدّعي أن يكون نبيًّا أو إلهًا.
لو حصل هذا وهو على قيد حياتِه لانسحب ربما، واختفى إلى عُزلةٍ لا يعرف عنها أحد.
فِكْرُه الأكثرُ عُمقًا وخفاءً وعدميّة من فكره التعليميّ ووصاياه الوعظيّة يدلّ على ذلك.
وهذا لم يحدث للبوذا المستنير فحسب، بل حصل للكثير من أمثاله في سياق التاريخ.
من الحب ما دمّر فكرًا عميقًا وسطّحَه، ومن الحبّ ما قتل.
هذا بجانب مصالح ونوازع أخرى.
أتأملكِ بعد سقطتي الخَشنةِ على الأرضِ الإسْمنتيّة
التي لم أكنْ أظنّ أنّني أنجو منها، فنجوت
أتأمّلك يا شجرةَ الغافِ في هذا الخلاء المضرّج بغيومٍ حنون.
يا رفيقةَ طفولتِنا البعيدة منحْتِني بعض عزاءٍ أنقذني من دُوار السّقطة كما لم يَمنحني بشرٌ قريبون.
طائرٌ كبيرٌ يحطّ بعد رحيلٍ ضوئيٍ على أعلى برجٍ بين القِمم التي أبدعَها البشرُ التّكنلوجيّون.
طائرٌ غريبٌ ربّما قَدِم من جبالِ ما قبل التّاريخ، ربّما كان ملِكًا أو راعيًا في تلك الأزْمِنة، ليستريحَ قليلًا من سَفَرِ العصور.
يَنظرُ إلى الأعلى وفي الأعماق السفليّةِ المأهولةِ ببَشرٍ عابرين، هاذيًا بأصواتٍ وكلماتٍ لا يفهمها طيرٌ أو حيوانٌ، وليس من علامة أو أثرٍ يدلُّ على هذه الكينونة الفريدة.
بقيَ هكذا فترة، والعيونُ تُحدّق نحوه، الكاميراتُ تُصوّر، الأقمارُ الصناعيّةُ تُسجّل.
ولا شيءَ غيرَ الغرابةِ والحَيرة لُيحلّقَ عائدًا إلى العصورِ التي فرَّ منها نحو مستقبلِ الماضي، لِينعم بالسكينة بين أشباهه ومخلوقاته الأثيرة.
من قال هذه العبارةَ التي بداهةً هي مفعمةٌ بالجَمال: أتمنى أن تقذفني الحياةُ إلى شاطئٍ ناءٍ مع امرأة وكتبٍ وأوراق بيضاء.
ماذا يريد الحكيم أو المجنون أكثر من هذه العزلة الروحيّة الجسديّة الخالقة!
قصْفَةُ الرعدِ مرَّتْ بقُربِنا
تَبِعتها بروقٌ خُلبيّةٌ بهيجةٌ
لم تكن رعودَ سماءٍ مدلهمّة بالمطر والغيوم
ولم يكن برقَ عاصفةٍ عابرة
إنّها طلائعُ أعيادُ ميلادِ البشرِ
على أرضٍ مزّقَتْها الأوبئة والنياشين.
أورَثَنا الأسلافُ ميراثَ التعبِ واللُّهاث
وأورثونا البغضاءَ والحربَ
تلك التي ما فَتِئَ لُعابُ شبقِها يسيلُ مع الأزمنةِ منذ صخرةِ الشقيقين حتى انفجار هيروشيما والشام والعراق
أورثونا البراريَ الشاسعةَ الجدباءَ
وتركوا لنا من رميمِ عظامهم النفطَ والكارثةَ
قصائدَ الفخر والغزل العُذْريِّ
وأورثونا الملحمة
شكرًا للأوائل والأواخر المعاصرين بنور الحداثة يُضيئونَ طريقَ الانتصار نحو الإبادةِ المُثلى والقيامة.
صباحَ هذا اليوم
من أواخر هذه الأعوامِ العِجاف
لا سُحبَ تلوحُ في سماءِ شبهِ جزيرةِ العَرب ولا أطياف غيومٍ
تنظرُ إلى الأعلى بتضرّعٍ وانكسار
حقولٌ مُتراميةٌ بالوحشةِ واليَباب
كأنما هَجَرَتْها الرحمةُ والأمطارُ منذ دهور
كأنّما لم تَعبُرْها غيومٌ ووعول
يُحدّقُ الأطفالُ في مراياها المشعّة باليأس والنّحيب
جوعى
يعْبرُون المطاعمَ والمقاهي والحانات
ولا يدخلون
تسقطُ الأمطارُ على الملابس الرَّثة
وتكرجُ الدموع في المحاجر
أولئك الذين شرّدتهُم الحروبُ والديكتاتوريات
يحلمونَ بسقفٍ يلجأون إليه
من البردِ والجِراح.
عمّا قريبٍ
سيتجوّلُ الماموثُ في غابته الأثيرة،
تلك التي كانت قبلَ قليلٍ عمائرَ شاهقةً وأبراجًا
قطاراتٍ وعرباتٍ ومطاراتٍ
(مأهولة ببشرٍ بالغي الأناقةِ والغرور)
وسنصافح (السيكلوب) يدًا بيد
وسننام في أحضان الزّواحفِ وطيورِ الرَّخ
عائلاتنِا السحيقةِ التي
أدركها الانقراضُ قبلَ الأوان
ها هي على سدّة الكونِ من جديد
تقودُ قِطارَ الأزلِ إلى حتفهِ الأخير
منْ غيرِ مُوَاربةٍ ولا خُطَبٍ رنّانةٍ ولا نَفير.
الغريبُ
يُقلّب النظرَ بين العمائر التي تلامسُ قممُها سماءً ملتهبةً
وبين شتلةِ نخيلٍ مأهولةٍ باليمامِ والعصافير
حتى جاءتْ العاصفةُ التي حملَتْهُ إلى براري الأسلاف
فامّحى وذابَ في شآبيبِ السّديم والغيوم.
تمنحني الأبراج ارتجافة الوعول الهاربة من وحشٍ يجثُم في الأعالي والشّعاب.
يحتمي الهاربون من نُباح الزمن بالأيام الخوالي
والطفولة
يلوذُ الهاربون من نَحيبِ السنواتِ بالصداقة والحبِّ والسفر
بالنهودِ المزهرةِ تحت شجر الأكاسيا والتفّاح
حينَ لا حلَّ إلا بالارتماءِ الكليِّ عنْ سبْقِ إرادةٍ وتصميم
في قعر جحيمٍ مُشتعلٍ
أو ضِمنَ جولةٍ محسومةٍ لحربِ خاسرة
وربما الطيرانُ العاصفُ بمحاذاةِ العدمِ والمغيب.
حين تداهمني أشباحُ ذلك النّفر الذي يكّرس جُلّ طاقتِه وإمكاناتِه لإيذاءِ الآخرين وتكريسِ الانحطاطِ بكافة صُعُدِه والجهل، أستعيد تلك العبارة التي اقتنصتُها من فيلمٍ سينمائيٍّ:
«بقعة من النفايات تعوم فوق بحرٍ من السموم».
المرضُ والجنون، في بلدانٍ كثيرةٍ ليسا فرصةً لتأمّل نعمة الحياة والصحة والوجود برمته، وإنّما لتعميق إذلال الكائن واستعباده وقتله.
إنّهما المرآة الأكثر مأساويةً لانحطاط أوضاعِ القانون والاجتماعِ والأخلاق.
أصداءُ هديلٍ في الظهيرة
أو زئيرُ وحوشٍ قادمةٍ من الربع الخالي
ذلك ما تترُكُهُ الحياةُ برهةَ الاحتضار
وهناك أيضًا
صوتُ المرأةِ التي غيّبها النسيانُ خلفَ جبالِهِ البعيدة.
سيجلسُ بكاملِ زينتِه
عاقدًا معك العزمَ
على الرّحيلِ والغياب.
ببطءٍ تمضي السحبُ المثْقلة فوق ضاحية (الشَعاشع) بسرور، محمّلةً بالأيّام الخوالي والمطر الغزير
محملةً باستغاثاتِ الضّحايا
في اليمن القريب.
اليمامة الوحيدة التي حطّت لتشرب من ماء البركة أعطت للمكان الموحش بهاءه، وما إن حدّقت بها العيون البشريّة حتى فرّت مذعورةً نحو البعيد،
ربّما إلى حقلٍ أو غابة.
دمعتْ عينُ الطّائر المُهاجرِ حين تَطاولت عليه المسافةُ وامتدّت إلى اللانهائي المُفزع خلف الآفاقِ والسّراب.
على مقربةٍ من رأسِ الأفعى
يلعب العصفورُ غيرَ مبالٍ بالخطرِ الدّاهم
نظرت إليه (الهامشةُ) بحنانٍ
ثم بكتْ وهي تمضغه بين أشداقها السحيقة.
لحظة الغرُوب على بحرِ عُمان
ودخول قُرص الشّمس المُنطفئ إلى عرينِه الأزليّ
لا تسمعُ إلا هذيانَ الرّاحلين إلى الأجداثِ
وأنينَ شعوبٍ تُبادُ على أسلاك المُدنِ والأسوار
أشباح أطلنطا الغارقة في الذّاكرةِ والزَّمان.
سيف الرحبي