نجاة علي *
أظن أنّ الرواد العرب الأوائل في القرن التاسع عشر أدركوا مبكرا الدور الهائل الذي يمكن أن تلعبه المجلات الثقافية في دفع مسار النهضة العربية ومسارات التحديث في بلداننا العربية؛ فهي -بلا شك- أحد الأسلحة الفعالة في معركة التقدم لكي نتمكن من بناء عالم جديد ينهض على العلم ويحارب التخلف والجمود والخرافة، ويؤمن بالتعددية واحترام الآخر، ويرسي مبادئ الحريات واحترام حرية الاعتقاد والفكر.
ربما لهذا شهدنا حضورا مؤثرا للمجلات الثقافية التي اضطلعت بدور تنويري في الواقع الثقافي العربي وخاضت الكثير من المعارك السياسية والثقافية، وساندت الجديد في الفن والإبداع. كان هذا بالطبع قبل دخولنا عصر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت ساحة للعراك المجاني الذي لا ينتسب إلى الثقافة أو الأدب.
ويمكنني القول إن هناك عددًا من المجلات العربية (سواء القديمة منها التي توقفت عن الصدور أو التي لاتزال تصدر ونتابعها بشغف كبير) شكلت وعيي ووعي الكثيرين من أبناء جيلي، وأثرت في تكويني المعرفي والوجداني والثقافي، خاصة في سن المراهقة وهو سن شغف البدايات الأولى وأسئلة الوعي المؤرقة. وأذكر من هذه عددا من المجلات المصرية مثل : مجلة «الكاتب المصري» التي ترأس تحريرها عميد الأدب العربي طه حسين (1940) وقد توقفت عن الصدور عام (1948) لكنني قرأت أعدادها في بيت أستاذتي المترجمة الدكتورة فاطمة موسى -رحمها الله-، ومجلة «فصول» ومجلة «إبداع»، ومجلة «الهلال» العريقة، بالإضافة إلى عدد آخر من المجلات العربية مثل مجلة «العربي» الكويتية ومجلة «نزوى» العمانية، وغيرها من المجلات العربية المهمة.
ولا زلت أذكر ذلك الشغف الخاص الذي يتملكني حين يقترب موعد صدور مجلة «نزوى» العزيزة التي تحتفل هذه الأيام بمرور ربع قرن على صدورها. وتعلقي الشخصي بهذه المجلة مصدره أنها كانت من أولى المجلات التي أسهمت في تشكيل وعيي الثقافي والمعرفي، فقد كنت أتابعها منذ منتصف التسعينيات في السنوات الأولى من دراستي الجامعية بكلية الآداب، فشغلت عندي مكانة عاطفية وثقافية خاصة. ربما لا ينافسها في ذلك عندي -من حيث دورها الجذري في إحداث حراك ثقافي عربي هائل وكانت أشبه بالجسر الذي نقل لنا تيار الحداثة في الأدب والنقد- سوى مجلة «فصول» المصرية المتخصصة في النقد الأدبي، والتي مازلتُ إلى الآن أحتفظ بأعدادها الثمينة في مكتبتي الشخصية، وأعدّها بمثابة المراجع التي لا أستغني عنها أبدا، خاصة فترتها الذهبية التي تولى رئاسة تحريرها كل من الناقدين عز الدين إسماعيل أولا وجابر عصفور فيما بعد.
ظلت مجلة «نزوى» علامة فارقة في الثقافة العربية كمجلة داعمة لكل تيار جمالي حديث وواعد في الأدب واضطلعت كذلك بدور تنويري ليس في سلطنة عمان وحدها وإنما في البلدان العربية كافة.
وقد تميزت توجهات مجلة «نزوى» على مدى ربع قرن من الزمان بالانفتاح على الآخر وملاحقة كل جديد واعد من التيارات المختلفة، فعمدت إلى ترجمة أحدث الكتابات الأدبية والفكرية والنظريات في مجالات النقد الأدبي وعلم النفس والفلسفة والفن على مختلف أشكاله.
ولم يكن انشغال مجلة «نزوى» أبدا بمتابعة وملاحقة كل جديد في الإبداع والنقد والفن هي حال كل من أراد يتابع أو ينقل كل ما يستجد في عالم الموضة، بل إنها أرادت إطلاع القارئ العربي على التحولات الجمالية التي يموج بها العالم كي يواكب كل موجات التجديد في الأدب والفن لتدخل به إلى آفاق الحداثة المتعددة.
ومن تابع أعداد مجلة «نزوى» سوف يلاحظ أنها حرصت كل الحرص على أن تضع عينا لها على الكتابات الجديدة بلغات أجنبية أو ما يقدمه المبدعون العرب الذين يميلون إلى المغامرة والتجريب في كتاباتهم، مغردين بذلك خارج السرب بما يقدمونه من إبداعات واعدة، وعينا أخرى على التراث العربي القديم ومحاولة اكتشافه وقراءته بأدوات منهجية ووفق آليات جديدة تجعلنا نعيد النظر إليه.
ولعل من المزايا التي جعلت معظم أبناء جيلي من الأدباء يفضل مجلة «نزوى» عن غيرها من المجلات العربية الأخرى أنها اتسمت بالتعددية وظلت بعيدة عن التعصب أو الشوفينية المعروفة في بعض المجلات، أو الانغلاق على تيار واحد ووحيد، أو الانحياز لشلة أو مجموعة من المبدعين فحسب.
بل فتحت «نزوى» أبوابها للجميع من مختلف التيارات ومختلف الأجيال، وإن انتصرت بشكل حقيقي لكل ما جديد وجميل. وكثير من الأسماء اللامعة الآن في مجال الثقافة والأدب والفكر، كانت مجلة «نزوى» هي أول من قدمتهم وشجعتهم عبر نشر مقالاتهم وترجماتهم، ولم يكن الفيصل عند القائمين على المجلة كون الاسم معروفا بقدر ما يكون إسهامه جديرا بالنشر على صفحاتها.
ولربما اختلفت مجلة «نزوى» عن كثير من مثيلاتها من المجلات العربية التي صدرت معها في تلك الفترة أو حتى تلك التي صدرت في فترات لاحقة عليها، بكونها صمدت في وجه متغيرات شتّى أثرت سلبًا على كثير من المطبوعات الثقافية العربية، ربما أبرزها الهزات الاقتصادية التي اجتاحت كثيرا من بلدان العالم، وظلت محافظة على شكل طباعتها الأنيق الذي يجذب القراء لاقتناء أعدادها والاحتفاظ بها في مكتباتهم.
وكما عهدتُ مجلة «نزوى»، ولعلها لم تخيّب ظني في يوم من الأيام، فلم تتخلَّ عن دورها المهم في تعزيز قيمة الثقافة والفكر واحترام عقول قرائها، ولم تنحُ أبدًا باتجاه الخفة التي اتسمت بها بعض المجلات الثقافية التي اعتمدت على مواد صحفية سريعة التجهيز، لا تحمل أية قيمة ثقافية، لكنها سرعان ما انتهت سريعا ولم يعد يذكرها أحد الآن من القراء أو المثقفين.
ويمكننا القول إن المجلة بالفعل قاومت فعل الزمن الذي يجعل لأي مجلة عمرا افتراضيا ينتهي بانتهاء الدور الذي صدرت من أجله، ولعل هذا الصمود الكبير لهذه المطبوعة الثقافية أمام المتغيرات المتلاحقة التي جعلت عددًا من المجلات ذات التاريخ المهم يتوقف، ما كان ليحدث لولا وجود رؤية واستراتيجية واضحة تستند عليها مجلة «نزوى»، وتتعامل معها باعتبارها مشروعا ثقافيا كبيرا ليس له سقف محدد، يتجدد من حين لآخر، بفعل الدماء المتوهجة التي تُضَخُّ بالمجلة في أعدادها، عبر كتابات جديدة لعدد من المبدعين.
وفي حدود علمي، لم أرَ مجلة عربية مثل «نزوى» احتفت كل هذا الاحتفاء بكتابات المبدعين المصريين سواء كانوا من الأجيال القديمة أو من الأجيال الشابة بهذا القدر من المحبة والتقدير الذي شهدناه من هيئة تحرير المجلة خاصة من الشاعر الكبير سيف الرحبي رئيس تحريرها.
ولعلي أعتبر نفسي من الشعراء المحظوظين الذين شجعتهم مجلة «نزوى» ونشرت لهم ومنحتهم فرصة الوجود وسط أسماء كبيرة من الوطن العربي، ولازلت أذكر تلك الفرحة العارمة التي غمرتني حين رأيت قصائدي منشورة لي في أحد أعدادها عام 2004، فقد كانت مفاجأة سارة لشابة مثلي في ذلك الحين، ولازالت الفرحة تتكرر كلما شرفتني مجلتي العزيزة بنشر قصيدة أو مقال.
والحق يقال إن مجلة نزوى نحجت في تجاوزت حدود كونها مجلة عمانية لتصبح بيتا للمبدعين العرب جميعا فاحتفت بهم أكثر ما احتفت بأهل البيت نفسه من كتّابها العمانيين الذين أثبتوا حضورهم الإبداعي، حيث سعدنا جميعا هذا العام بفوز الكاتبة جوخة الحارثي بجائزة «مان بوكر الدولية» عن روايتها «سيدات القمر»، واعتبرناه نصرا كبيرا للإبداع العربي وللمرأة المبدعة بشكل خاص، لاسيما في بعض بلداننا العربية التي مازال البعض فيها أسير نظرة دونية للمرأة، ويقلل من قيمة الإبداع الذي تكتبه، ويراه دوما أقل قيمة مما يكتبه المبدع الرجل.