حسام يحيى
” أحضروا ولد الجعافرة الملطوش من البندر”
“جدتك قالت ذلك” قالها الولد القادم من البلد البعيد وغادرني، أمَّا الحلمُ الذي راودني تلك الليلة، فيما يبدو لم يعنِ شيئًا، قد ترك القلب مقبوضًا، والحلم الذي يترك القلب مقبوضًا، على الأرجح حلم زائف.
أعلى منحدرات البيت العتيق، الموسيقى هادئة (حيث تجلس أمينة)، ومن قبلها جدتها، لست مشغولًا بذلك الأمر، صفوف الحشود طويلة، تبدو عيناها في بياض الثلج، وثورة الأمواج، فتأتي وتنفخ في كفيها الصغيرين، العجوزين، فتبرئ الأكمه والأبرص، أمشي بين الحجاج إليها “اتركوا مكانًا للملطوش أبن الملطوش” ولما سمع الناس كلامها، أفسحوا مكانًا لي، توقفنا لنصلي، وكانت هي الإمام، منبر الإمام عاٍل جدا، أنتظر أن يخرج الموتى من القبور، أنتظر أبي، أنتظر كثيرًا. لا يحدث شيء. وسناء تسألني مصاريف المدارس، وتسألني السلام من أحلامي، وأقول إن السلام والأحلام نقيضان، والراحة لمن لا يتذكر حلمه، ولا راحة لي، سناء وجهها أحمر، وجسدها جسد بطة بلدي، وأقسم أنني ما دخلتها منذ أن نادتني الجدة، كل ليلة أسقط من التعب، أحلم، ثم تكون المعجزة.
(أمينة) من الجعافرة، ولم تكن راضية عن زواجي ببنت البندر (سناء) أخبرتني أن اللعنة التي هربت منها ستلاحقني، وأن الأبناء سيكونون (كسرة نفس)، وسناء لم تحب الجدة، تخشاها، تخشى أحلامها، وأحلامي، ولم تحب زيارة البلد، يحب الأولاد الجري وراء دبابير الغيطان، ويخافون صوت العواء، ونعيق الغربان، أمينة كانت ترقيهم كلما أتيحت لها الفرصة، تشعل النار في الجرن وتلقي بـ”عروس ورقية”، مخرمة بدبوس طرحتها، وتبخرهم ببخور العود الأزرق، بعين العفريت والكزبرة، توصيني بتلك الشعائر، وتقول إن العفاريت يكرهون رائحة العود الأزرق، وتقول إن شيطان البندر قد مس الأولاد، لذا هم كالشياطين لا يهمدون ليلَ نهارَ.
قال شيخ من البدو لمَّا حكى لي عنها: إن لها قوة النار والنور، ولما خذلها الذي ملك قلبها، أحرقت مملكته التي كانت أعلى الجبال، وسارت ليلتها فوق الرماد، ومياه الترعة الصغيرة، ولما رأت كل شيء أدركت الاسم الأعظم، سقط قمران في عينيها، فكان القمر والعفاريت والجان وأهل القرية طوع أمرها، قال إن المطاريد يسكنون أطلال المدينة المحترقة، يسمعون أنين الخائن وأجيج النيران المشتعلة في الليالى القمرية، يسلب المطاريد الماشية من (زرائب) أهل القرية، يسمع كبيرهم النداء، وعندما أمسكت الحكومة بهم، قال كبيرهم في التحقيق إنه عبد المأمور، والنار حق، ومن عشق النار ذاب قلبه فيها، ومات ليلتها في الزنزانة بوجه محترق.
تجلس أمينة في خلوتها مقرفصة، تعشش الحمامات بالنافذة المكسورة، عرير صرصار الحقل عالٍ، والريح خفيفة على النفس، ورائحة أشجار الكافور والجوز منتشرة، المطر يبعث البهجة في قلبي، فأنسى حلمي المزعج الذي يطاردني، حضرت أمينة، وكان لحضورها هيبة، ولصمتها احترام، من كان يحكي عن المدينة والبقرة والحلم والمطاريد صمت، على كل حال كان الجميع ينتظر أن تخرج عن الصمت بنبوءة، تجهز (هندية) الخادمة السمراء الماء الساخن لتنقع قدم “ستها”، تضيف أوراق الكافور وماء الورد. قالت أمينة ليلتها إن الحب معضلة كبيرة، وإن اللعنة القديمة ستلازم النساء والرجال بالعائلة لا مفر، تختار اللعنة الروح الصافية، رأت في ليلة سوداء حُلمًا شؤمًا، يقتلون بقرةً صفراءَ فاقعًا لونها، لا تسقي الحرث، وكان أهل القرية من الأتقياء والمهابيل والغجر، يذبحون الأبقار تحت ضوء القمر المستدير، فتسيل الدماء على رمال الجبل الشاهق، فترسم مملكة كانت، يصبح القمر بلون الدم، كنتُ آخر الرجال في العائلة، عمي شيخ كسيح، الخال ليس من الدم، أمينة أشارت إليَّ وقالت: “هذا الشيخ نور المبروك، سيكمل ما بدأ أجدادي” فأعطاني الغفير جلبابًا أبيض وعمة وقفطانًا، ثم انحنى وقَبَّلَ كفي، قَبَّلَ كف الجدة الصغير، جلس عن يمينها، كانت هندية عن يسارها، وجاء من كل بيت رجل، انحنى وأقر بقسم الدم على الطاعة العمياء، وسناء رحلت غاضبة وأخذت الأولاد، عندما ارتديت الجلباب الأبيض وأطلقت لحيتي، أقسمت سناء أنني لن أعرف لها طريقًا.
بحثت عن أمينة في أحلامي بعد ذلك، فوجدت السراب ورمال الشاطئ، وثعلبًا كبيرًا في وهج البركان، كان يجري ورائي طوال الحلم.
استيقظت “محصورًا” ومثانتي ممتلئة، وكلما رأتني هندية هكذا ضحكت، فتظهر أسنانها الأمامية مكسورة، تضحك وتقول إنني أشرب الشاي بكثرة، وهذا خطأ قبل الحلم، تنصحني بتغيير عاداتي القديمة، وبسرعة اختيار خادم لي، أخبرتني أنها ستلحق بستها في اليوم السابع بعد الموت.. وقد كان.