يؤشر أودن (Wystan Auden) الشاعر والناقد الأمريكي، الإنجليزي المولد (1907- 1967)، في كتابه " محنة الشاعر في أزمنة المدن " واقع الانهيار التراجيدي لمكانة الشاعر في أزمنة المدن الحديثة وعمق المواجهة والاصطدام أن رؤيته الجمالية ، ونفعية المدينة ، ذلك الانهيار الذي جاء نتيجة "فقدان الفنون الجميلة لبعض وهمتها. فهو رمرى أنه منذ اخترا، الطماعة وانتشار القراءة والكتابة ، لم يعد للشعر قيمة منفعية كوسيلة لانتقال المعرفة والتراث من جيل الى آخر، وبذلك أصبح فنا " بحتا" بعبارة أخرى نشاطا لا يرجى منه كسب مادي، كما أن المجتمع الذي أصبحت تهيمن عليه "قيم تتماشى مع مصلحة العمال ". لم يعد فيه عمل الفنان مقدسا، خلافا لما كان عليه حال غالبية الحضارات السابقة ، حتى آن الآ عمال الفنية أصبحت موضع شك وريبة ، وفي أفضل الأحوال فان كتابة الشعر " أصبحت تعتبر هواية خاصة لا ضمور منها".
هكذا أصبح عصرنا يخجل من إنجازاته في ميدان الفنون الجميلة الصرفة ، مقارنة بما أنجز" في مجال تصنيع الأدوات التي تحقق فائدة عملية كالطائرات والمعدات الثقيلة والسدود، وكأن المدينة تقول للموظفه ن العاملين فيها "ان الجسم البشر ي أكثر تعقيدا مما يجب أن يكون عليه بالنسبة للعسل في هذا العصر، وستكونون أكثر سعادة وستعملون بشكل أفضل اذا كان أقل تعقيدا".
وإذ ينصح الشاعر بالا يساوم نفعية المدينة على رؤيته الجمالية ، يرى أردن "أن على الشاعر والرسام والموسيقي أن يقبلوا بالانفصال التام في فنهم بين الجميل والمفيد كحقيقة واقعة ، واذا تمردوا على ذلك فقد يقعون في الخطأ" حتى أنه يشك في أن تولستوي كان مقتنعا برأيه حين قال " إذا تم الفصل بين الجميل والمفيد لن يبقى هناك فن " فهو يرى أن نظرية الفن الملتزم والفن الدعائي هي امتداد للهرطقة ، "وعندما يقع الشعراء فيها لا يكرزن ذلك بسبب اهتمامهم بالتوافه ، بل لأنهم يحنون لماض كان للشعراء فيه مكان مرموق ".
كما يرى أن هناك نوعا آخر من الهرطقة ، تتمثل في " محاولة إسباغ منفعة سحرية خاصة على الناحية الجمالية ، الأمر الذي يؤدي بالشاعر الى التفكير بأنه يخلق عالمه الذاتي من لا شي ء، وإن العالم المرئي لا يعني شيئا بالنسبة اليه " من هنا يجد أردن أن مالا رميه (Mallarme) الذي فكر في وضع كتاب مقدس لدين عالمي جديد وكذلك ويلكه (Rilke) مهر طقان من هذا النوع ، فرغم أنه برى أن كليهما عبقري، ومع إعجابه بهما، فإن انطباعه الأخير عن أعمالهما "هو أنها زائفة ".
وحين ينحاز الى الشاعر المثقف – واكاديميا إذا أمكن – رغم إنه لا يعول على ذلك بأن يسهم في ثقافته الشعرية ، إلا بشكل عرضي وليس بموجب تخطيط ، فانه يسرح في أحلام يقظته ليتصور المنهج الدراسي لـ " كلية الشعراء" فيشترط في المنتسب إلمامه بواحدة على الأقل من اللغات القديمة كاليونانية بالإضافة الى لغتين حديثتين ، وأن يحفظ آلاف أبيات الشعر في هذه اللفات غيبا. ثم يرى بالا يوضع في مكتبة تلك الكلية أي كتاب في النقد الأدبي، والتمارين النقدية الوحيدة المطلوبة من الطلاب هي نظم أشعار المحاكاة ، ويرى بعد ذلك أن على الطلاب كافة دراسة مقررات في النثر والبلاغة والفلسفة والآداب المقارنة ، وعليهم اختيار ثلاثة مقررات في الرياضيات والتاريخ الطبيعي والجيولوجيا والأرصاد الجوية وعلم الآثار والميثولوجيا والطقوس الدينية والطبخ ،ثم يضيف الى ذلك أن على كل طالب أن يقوم بتربية حيوان أليف وفلاحة حديقة.
وإذ يرى أن على الشاعر الا يثقف نفسه فقط ، بل وأن يفكر في كيفية كسب رزقه ، فمن المثالي لديه ، أن يحصل الشاعر على عمل أدلا ينطوي بأي شكل من الأشكال على أي تلاعب بالكلمات. وإذا كان عليه ، وهو يفتش عن عمل يعيش منه ، أن يختار بين أن يكون مترجما أو معلما أو صاحب قلم في الصحافة الأدبية أو كاتب نصوص إعلانية فعليه أن يختار الأولى لأن المهن المتبقية ضارة بالشعر، وحتى الترجمة فانها لا تحرره من حياة أدبية بختة ".
ويرى أردن أن الاسلوب المميز في الشعر الحديث هو النبرة الصوتية الحميمة ، حديث شخص لشخص أخر لا لجمهور كبير، ذلك أن الشاعر الحديث عندما يرفع صوته يصبح دجالا. أما بطل أردن المميز، فهو ليس " الرجل العظيم " ولا " الثائر الرومانسي " ،بل هوا لرجل أو المرأة في أي ميدان من ميادين الحياة ، الذي يستطيع (على الرغم من الضغوط العامة في المجتمع الحديث ) الحفاظ على هويته وسمته الخاصة.
ويجد أردن أن نظرتنا العالمية الحاضرة التي جعلت العمل الفني أكثر صعوبة مما كان عليه نتجت عن أربعة أسباب : أولها؟ فقدان الايمان بأزلية العالم المادي، ذلك أن علوم الفيزياء والجيولوجيا والبيولوجيا قد استبدلت العالم الخالد بصورة للطبيعة ليس فيها الأن ما كان فيها بالأمس أو ما سيكون فيها مستقبلا. أما ثانيها فهو، فقدان الثقة في مغزى الظواهر الحسية وأهميتها، فالعلم الحديث قضى على إيماننا الساذج بما تدركه حواسنا، وأخذ يملي علينا بأن ليس في مقدورنا أبدا معرفة ماهية العالم وثالثها هو، فقدان الايمان بنموذج للطبيعة البشرية التي ستحتاج دائما الى العالم نفسه الذي ابتدعه الإنسان لتشعر فيه بالراحة والأمان. والسبب الأخير هو " اختفاء المفهوم التقليدي لعبارة " العالم العام " كمجال للكشف عن الأعمال الشخصية ".
ونتيجة لذلك ، يرى أردن بأن الفنون بعامة ، والآداب بخاصة ، قد فقدت الموضوع الإنساني التقليدي الرئيسي ، وهو الانسان الفاعل وصانع الأعمال العامة.
ويؤشر أن من أوجه غرابة عصرنا، أن الهدف الأساسي للسياسة في كل مجتمع متقدم ليس سياسيا، أي أنها لا تعني بالبشر كأفراد ومواطنين بل تتعامل معهم كأجساد بشرية فقط ، ومخلوقات ترجع الى عصور ما قبل التاريخ وما قبل السياسة.
وأخيرا يرى الشاعر ويستان أردن أن ميدان الشاعر هو " اللعب " الذي تضيق به مدينة تزداد عبوسا وسعيا وراء حاجات الغد،فيعلن إيمانه بمبدأ سياسي واحد هو : "أن من بين الأشياء القليلة التي يجب أن يبدي الانسان الشريف استعدادا للموت من أجلها اذا اقتضت الحاجة ، هو حق الانسان في اللعب والعبث ".
الهامش
* دار الساقي ـ لندن ط1 1994.
سلام سرحان (كاتب عراقي)