"نافذتان لذلك البحر" هي المجموعة الأولى للقاصر سيحيى سلام المنذري، التي صدرت في مسقط عام 1993م، استطاع من خلالها التعريف بقاموسه القصصي عبر مسح سردي لخوالج الذات الغارقة في غرف من الانكسارات والاحلام المعتمة (الرحيل الى كابوس مؤبد، الغرفة والمشهد الليلي، الابواب والقلعة، امي تكش عني الحمى، ناحية الامكنة البعيدة، الشبح الاخضر، جني الارق، ثقل الكائنات الليلية). وغيرها من القصص والعناوين التي تشي بالتصاق شديد بذات السارد وسعيه للكشف عن المغاير في العوالم واللغة، عبر أحداث ضبابية مغلقة لا تلمح بجلاء في ثنايا السرد ولغة تنقذف بخشونة حز دهاليز الذات وعتمتها،
لذلك كان علينا انتظار قرابة السنوات الست لنواها متسللة خارج اسرارها، في أحضان المحيط المباشر للحياة، (موظفين وباعة وأطفال مدارس وسيارات ولعب وأفراح) وذلك عبر مجموعته الثانية (رماد اللوحة) الصادرة هذا العام 1999م عن دار المدى بدمشق والتي أمكن للحدث القصصي من خلالها ان اساسي من أركان القصة القصيرة لا تستقيم في غيابه وتميعه، فالحدث في هذه المجموعة يبرز بجلاء في جل أجواء القصى رغم اصرار الكاتب على أن يظهر كجزء أساسي من أجزائها لا كمحرك ومنظم لايقاعها وبناء مكوناتها (لغة، محيط، حوار، شخوص مشاركة، شخوص رئيسة، فضاء، منمنمات،،،) فباستثناء قصص (قبة البرج، الحقيبة، حمالة الحطب، ليل بعيد) التي تند عن طائلة هذه القبضة باسترسالها النسبي وتحررها من عصى التحريك التي لا يني الكاتب يجهزها في مفاصل القصص.
فبالتوقف مثلا أمام القصة الأولى والتي تحمل اسم المجموعة، نلحظ ما تذخر به من تعدد صوتي وصراع رغم احتشادها بأنفاس الكاتب التي تطارد وتزاحم الوقوف حتى نهايته، حيث تبدأ القصة بدخول الفجر الى غرفة الشخصية – سلمان – كدلالة على بداية اليوم وكبوابة يستدل من خلالها الى عقدة القصة التي جاءت موحية وجلية في استقصاء عذ ابات الشخصية مع المحيط والقدر، الفجر المؤرق الذي يقتحم الغرفة ساحبا معه التداعيات المضطربة (يأتي الفجر وأنت يا سلمان لم تنم بعد، خواطر غامضة تراودك، تتشكل بسرعة في أحداث متوالية غير مترابطة، عن الليل والفجر والبيوت والطفولة وعن أشياء أخرى كثيرة، الفجر يذكرك بالماء البارد في وجهك قبل أن يحل الفجر بدقائق، ويتحول الى غيمة تداعب وجهك الصغير، والمؤذن لم يؤذن بعد والليل مازال في ظلامه الكثيف، تقوم من الفراش متثاقلا تشم رائحة الخبز الممزوجة برائحة الخشب المحروق، فتعرف ان امك تخبز في ذلك الوقت وأنها تدعك عينيها بلحافها بسبب خيوط الدخان التي تتسلل كي تزعجها بالحرقة" مسترسلا في ذلك العبق الطفولي القديم حيث الحياة على طينها وبساطتها، متأرجحة بين الظلال والماء، لنفاجأ بعدها براهن الشخصية الذي تحول الى موظف بسيط
يصوره الكاتب كمنفضة او سلة يلقي فيها بقية الموظفين عقدهم وضغائنهم،درن الجرس… تستيقظ من غفوة قصيرة تتأمل فيها خيوط السقف المشبعة بألوان باهتة.. طرقت باب المسؤول وفتحته ودخلت وبمجرد ما إن رآك قال لك: (تعال يا قرد.. لا أعرف أي امرأة ستقبلك زوجا) فتسقط كرامتك بين عينيك.. تتشظى الى الف قطعة وقطعة، يحمر وجهك، لا تقدر أن تفعل شيئا سوى حبس انفاسك وكظم غيظك خوفا على وظيفتك الرخيصة، بعد ذلك تجلس على كرسي العقاب تنتظر بقية الموظفين، منهم من يضربك على مؤخرة رقبتك، وآخرون يضربونك على ظهرك او رأسك او كتفك او أماكن أخرى، وانت ترتعد في كل مرة، روحك تأتي وتروح، تقفز عاليا، تتألم، تبكي، تسيل دموعك، تقول في رجاء وحسرة ماذا تريدون مني، دعوني.. دعوني يفتحون افواههم كي تظهر انيابهم التي زرعها المسؤول لهم يربتون على ظهرك يقولون لك.. ما بك يا سلمان انها مجرد دعابة، تجمع في فمك بصقة كبيرة لكنك تبتلعها في جوفك، كنت تتمنى أن تقذفها في وجوههم بما فيهم الكرسي والجرس،. ولكنك تخاف" تأثر واضح بمعطف جوجول، ولكن عبر اسقاطات لوضع خاص، حيث يتأرجح السرد بين ماضي الطفولة الرحب وحاضر قاس في غرفة اسمنتية كئيبة، بين استكانة الطفولة وهدوئها وهيجان الحاضر وقسوته، لتأتي القصة كشهادة على الوضع الذي يعيشه صغار الموظفين تحت قبضة مدرائهم من كبت عاطفي وفاقة وضيق وتعتم للحواس وأحوال تصطرع تحت وطأتها هذه العينة من البشر المطحونة بلا هوادة تحت عجلة النسيان والحرمان والاوامر العمياء، فرغم جلاء الحدث وتصاعد أجوائه الا ان الكاتب بتجزيئه الظاهر لجسد القصة – عبر عناوين فرعية – يعطي اشارة على ضلوعه في تحريك سير شخصياته ومصائرها، وذلك بعدم ارخائه لفيض الدفق الوصفي، لان هذه اللافتات التعريفية كفيلة بان تكبح الاسترسال الطبيعي لسير الاحداث ففي (اقاصيص حنين) يمكن لملمة أجواء القصة في صلب واحد بدل تقاذفها تحت لافتات وعناوين تجزيئية متعددة (شموع الحنين، الملكة، لمن هذا الحنين، الفقاعات الملونة تقبل خدي حنين) على خلاف ذلك فاننا نجد بعض القصص تحمل مبررا طبيعيا لتقسيمها، ففي قصة (نصفان) تتناوب السرد ثلاثة مواقع متباينة استطاعت القصة ان تنجح من خلالها في مغامرتها الى حد بعيد وان تستفيد من مساحة التقسيم ومن تدخلات الكاتب في آن، كذلك فان التقسيمات في (عشرة مقاطع) تجد ما يبررها لكونها مبنية على شذرات سردية مستقلة في مضمونها وفضائها.
محمود الرحبي (كاتب من سلطنة عمان)