على ارض عرف فيها طمأنينة الانتماء، و في عائلة تفخر بعروبتها وتنعم بأجواء ثقافية كامنة في أصالة نسيجها، نشأ توفيق صايغ شاباً كريم الخلق، مرهف الحساسية، برزت ميوله للتوغل في عالم الكلمة منذ الصغر وتمتع بدراسة أهّلته لمستقبل يتجاوب مع تلك الميول.
في طفولته، انتقل والد توفيق، القس عبدالله صايغ من قرية “خربة” في حوران حيث ولد توفيق في أواخر عام 1923، انتقل وعائلته الى شمال فلسطين، قرية البصة أولاً، ثم وفي عام 1937 الى طبريا حيث بقي القس هناك حتى 1948 حين نزحت عائلة الصايغ بأكملها مهاجرة الى لبنان.
تلقى توفيق صايغ دراسة المرحلة الابتدائية في “البصة” قبل أن ينتقل في المرحلة الثانوية الى القدس حيث انتمى للكلية العربية واكمل دراسته الثانوية فيها. إثر تخرجه توجه توفيق الى الجامعة الأميريكية في بيروت، وهي جامعة تميّزت كونها نخبة الجامعات في الشرق الأوسط ليتخصص في مادة الأدب الإنجليزي.
هناك تعرّف توفيق صايغ على حضارة الغرب و تاريخها عن كثب و انهمك بالتعمّق في دراسة الأدب العربي و خاصة حركات التحديث فيه.
ارتاح توفيق صايغ في أجواء الجامعة وأتيحت له فرص ثمينة هناك، فبالإضافة الى اتّباع منهج أكاديمي يتجاوب مع ميوله وطموحاته قام بنشاطات عدّة، أهمها تحرير مجلة الجامعة “الآوتلوك” والإسهام في كتابات في الصحافة المحلية في بيروت والتعرف الى كتابات وإنجازات وجهات الأدب العربي فبنى معهم معارف وصداقات كانت لتنمو وتتطور لترافقه كينابيع الهام للإبداع طيلة حياته.
وجه آخر لارتياح توفيق صايغ في الجامعة في بيروت لا بد من ذكره، وجه عرفه الكثيرون منا، الا وهو تلك المتعة الفريدة، متعة التواجد في أجواء ذلك الثراء الثقافي الذي يحضر تلقائيّاً عبر لقاءات مع كبار الأساتذة والتلامذة والمفكرين، وصداقات مبنية على أسس تتعدى الشخصي لتتعاطى مع الفكر، الفن والثقافة والإنجاز.
نعم، توسعت آفاق توفيق صايغ في الجامعة الأميريكية في بيروت، وأرصدت المكان “بيروت”، كفردوس ثقافي وأرض خصبة للإنجاز الأدبي فكان عطاؤه مرموق فيها حين عاد الى بيروت و ساهم في حياتها الثقافية وأسس مجلة “حوار” و شارك في مجلة “شعر” وغيرها.
بعد تخرجه، عاد توفيق صايغ الى دياره و ديار ذويه في طبريا لينظر الى بحر الجليل بأعين متنوّرة ليزور الناصرة و ليستقر في القدس، إِلَّا أن ذلك العيش الآمن لم يدم طويلاً، فتراه مهاجرًا هزمته مأساة فقدان الوطن عام 1948.
فأين الأمان:
” و أنا لا أحس إِلَّا بك
بأن بيتًا لم يحترق و بلدًا
لم يوصد بوجه أبنائه أبوابه
ما دام ذراعاك يلفانني،
غافلٌ لا أحس بغير النار
غريبة جميلة مفزعة”
من معلقة يوسف صايغ
أين الأمان؟
أهو في ذراعي امرأة؟
ام هو في ثورة كلمة مشحونة بطاقة
عنف و ضوضاء؟
“والغرفة هائجة
فرشها بعضه فوق بعض
متكسّر مشقلبٌ تائه
يمنع الانتقال
يعلّم الارجل الرشاقة
يحرّك ذراعيها و اليدين
تنفض الوهج في الغرفة المظلمة”.
من القصيدة الأخيرة/ “شعر”، العدد 20
ومعلقته صايغ
فبأي منظار نتطلع لتلك التجربة؟
تلك هي أصداء تجربة فقدان الوطن عند توفيق صايغ؛ هي مسيرة “الفردوس المفقود” كما أسماها منح الخوري، مشحونة بطاقة عزم، ثورة داخلية تقودها الرغبة بالانجاز و الإبداع حيث يكمن العزاء. فرأينا توفيق صايغ يطارد العلم والكمال: الولايات المتحدة، بريطانيا، أفضل الجامعات، يحاضر، يبدوا وجهًا بارزًا في مجال اختصاصاته، يساهم بكتابات ومؤلفات وترجمات و يرسم تجاربه بشعرٍ فيه مزيج من الفوضى و المتعة و الألم، شعر يجمع بين التناغم والضوضاء، بين عميق الوجداني وخشونة المبتذل، شعر يحوي مواقف فريدة تتنقل بين ثراء الرموز و جمود الواقع، بين التأمل والعادي الممل، و يموت توفيق الصايغ فجأة و في مصعد في بركلي في سان فرنسيسكو.
“غريب، غريب القلب و الدار”، تماماً كما أنشد الشاعر ابو سلمى عن حاله حين تهجر من بلده طول كرم.
هذ ما حكمته ظروف الحياة على توفيق صايغ ولكن ماذا عن خياراته وعن إنجازاته؟
كان للأدب الإنكليزي وخاصة للشاعر ت. س. إليوت أثرًا ملحوظًا في شعر أبناء ذلك العهد في العالم العربي، أذكر منهم السياب وصايغ مشيرة الى ان قصيدة The Love Song of J. Alfred Prufrock تتردد في أسطر القصيدة الأخيرة المذكورة سابقًا.
إِلَّا ان ذلك التأثير كان، و لفترة لا يستهان بها محصورًا بقصيدة الأرض اليباب (The Wasteland).
فأتت ترجمة الصايغ لرباعيات اربع نسمة ريح عذبة ساعدت في الخروج من هذا المزاج. كما انه ترجم قصائد مختارة من الأدب الاميريكي غير المعهود في الشرق الأوسط.
إِلَّا ان مساهمة توفيق صايغ في أجواء الأدب العربي الحديث كانت عبر نظرة موضوعيّة شاملة كان يلقيها على هذا المجال الأدبي الحديث و يشير الى زوايا التطور السليم وضرورة التماشي مع هذا الزمان، و هذه الأمكنة. فيذكر، على سبيل المثال، في مقدمته لـ”أضواء جديدة على جبران” ما يلي:
“…. منذ إنشائي لمجلة “حوار” و أنا أتطلع الى نشر [أدب شخصي] فيها ذلك أنه من الألوان الأدبية المختلفة لدينا لا ينقصنا لون أكثر ما ينقصنا “الأدب الشخصي” سواء اتَّخذ شكل مذكرات او رسائل او اعترافات او محاورات.”
فالتحديث بالنسبة لتوفيق صايغ لا يكمن في الشكل فقط بل وخاصة في المضمون. وفي نظرة من زاوية اخرى، ماذا عن معلقة توفيق صايغ، اعني ماذا عن التسمية؟
دعوني أتطرق الى تجربة شخصية:
نشأت في دمشق حيث، وفي حداثة سني، كان والدي يصطحبني للاستماع لأمسيات شعرية لنزار قباني و ابو سلمى عبدالكريم الكرمي ورغم ان نزار قباني كتب بالعرضين كان النقاش قائمًا دومًا “العامودي ام الحر؟” وحين ذهبت الى الجامعة الأميريكية في بيروت وأقيمت قراءة شعرية لنزار، و أذكر خليل حاوي واقفًا قربي وقام النقاش نفسه، العامودي أم الحر؟؟!!!
نشأ توفيق الصايغ في منطقة الجليل و أصداء قصائد أبو سلمى عبد الكريم الكرمي و أبيات ابراهيم طوقان تنبض بمشاعره، أتراه رأى في حركة الشعر الحديث السبيل للتماشي مع ما عشنا لنشير اليها بالعولمة؟ أم هو مجرد تطور و نمو؟ و معلقة توفيق صايغ هو الشكل المفروض لمعلقات هذه الأزمان.
مريم قاسم السعد