انتعلت «بلغتي» وذهبت إلى الحمام. اكتشفت مرة أخرى أن مسألة تغيير اسم اللوحة لا تزال تشغلني «خطوات تكسر أوراق الخريف» اقترح «هو» ذلك المساء..
سأهيئ لنفسي كأسا كبيرا من الحليب الساخن.. منذ شهرين وأنا أشتغل على هذه اللوحة.. أراها كل يوم، حتى أصبحت أستشعر إحساسا خاصا كلما وقع بصري عليها.. إحساس بالاستهجان.
.. خطوات تكسر أوراق الخريف. !.
كان يقول بإيقاع خاص.. كأنه يلقي شعرا.. يحب هو أن يدغدغ الكلمات.. هكذا يلذ لي أن أفكر الآن.. ليست هناك خطوات… أشجار عارية وأوراق ميتة وسكون خريفي قاتم.. الخطوات؟ ربما كانت قادمة من أحد الطرفين، من يدري..؟
أضع كأس الحليب عند قدم السرير.. ثم أعود فأضعه فوق المائدة حتى لا تدلقه أقدام؟ ربما كانت قادمة من جهة ما..
عندما انتفض الهاتف بجانبي كنت ما أزال أبحث عن الجورب الثاني، وصلني صوته عبر الأسلاك دافئا. سألني إن كنت قد صادفت قبل الآن رجلا مدهشا مثله.. وقبل أن أفكر في سؤاله… كان يضيف أنه في واقع الأمر «كزانوفا» متقاعد مسكين، اضطرته ظروف صحية محضة إلى الالتزام العاطفي مع فنانة معتوهة مثلي.. حين بدا أنه سيهدأ ليتساءل إن كنت معه دائما.. استغليت الفرصة لأخبره أنني أجد صعوبة في العثور على الجورب البني الثاني وسط فوضى الحجرة.. وأنني أفكر في تغيير اسم اللوحة وتغيير قصة شعري (وصبغه لكني لم أقل ذلك طبعا) وأنهيت المكالمة. بحثت تحت الغطاء والوسائد وخلف الكتب والمجلات وأخيرا نزعت الجورب الأول وارتديت الحذاء بلا جوارب. وقفت أمام المرآة.. كانت الشعيرات البيضاء هناك، في رأسي، كما تركتها أمس..؛ «وغزا الشيب مفرقي» يقول فريد الأطرش.. اللعنة!
وضعني التاكسي أمام مقر الجمعية.. رأيت من بعيد شبح «عبد القادر» ورفيقته الجديدة ذات الصوت الخشن.. لم أتوقف لأنتظرهما..
كان الآخرون بالداخل، انحنيت أشرب من صنبور الماء الموجود في الساحة الصغيرة أمام قاعة الاجتماع عندما وقفت «خديجة / كونتر – بوند» عند رأسي تنتظرني حتى مسحت فمي كي نقبل بعضنا.. وتجامل الواحدة الأخرى بسؤالها عن حالها وأحوالها وما إلى ذلك.. ولم تضيع الفرصة كالعادة لتخبرني أنها تتوفر على «سلعة» جيدة وما علي إلا أن أمر عليها يوما ما..
جلسنا حول الطاولة الممتدة وسط القاعة. كنت أود أن آخذ رأيهم في اسم اللوحة.. في لحظة ما أدركت أن درجة حرارة النقاش السياسي سترتفع.. وربما هددت بانفجار الجمع.. كان رأسي يؤلمني..
ناولني عبد القادر قرصا مهدئا.. إنهم يتناقشون.. يختلفون.. يتوترون.. وأنا وسط هذه «الجوطية» ماذا أفعل.. أنا؟ إني أحس برغبة مجنونة في الحديث عنه.. أخذت أتسلى بمراقبة الرغبة وهي تتقهقر.. ثم وهي تنطفئ في صدري.. تدريجيا.. وقفت معتذرة.. وانصرفت.
وضع النادل أمامي كعكة القشدة وكأس القهوة.. «المهرسة» ومضى.. ظللت أتابعه وهو يوزع التحيات على بعض الرواد.. ثم وهو يمد يده إلى جيبه ويضع بعض القطع النقدية في راحة الرجل الطويل الذي كان يغادر المقهى.. قامة فارعة.. شدت اهتمامي بشكل غريب إلى أن توارى..
كان يلقي بحقيبتي خلف ظهره ويقلد مشيتي.. ويضحك. وكنت أضحك أيضا.. لكن في رأسي كنت أشمئز من هذا النوع من الهزل..
حدثني عن أمه.. فكرت أنني لا أحب هذه المرأة.. بدون ما حاجة إلى سبب، تماما كما لا أحب مذاق البصل.. حدثته عن «رجاء» كنت أود أن أقول أكثر عنها.. أرغب أن يحب من أحبهم.. لكن صمته لم يكن ليشجعني.. فكرت إذن أنه ربما حدس عدم ارتياحي عندما كان يحدثني عن أمه.. ضحكت.. ولم يسألني لماذا أفعل..
أكلنا الساندويتش، أخبرته رأيي في الرجال الذين لا يستسيغون أن تدفع عنهم امرأة ثمن ساندويتش.. هز رأسه وابتسم.. ثم أخذ يلتهم الساندويتش..
زرته في بيته، بعد ذلك، امتثالا لرغبته.. لم يكن منزله جميلا (كما أمضيت ليلتي أتخيل) سمعته يقول وهو يفتح النافذة الكبيرة.. أنه أحضر امرأة من «الموقف»، نظفت له البيت وغسلت له الثياب.. تذكرت أولئك النساء.. ابتلعت حقدي.. وفكرت في «رجاء» بأنفها اللامع وعدوانيتها الصبيانية.. كان هو في هذه الأثناء يحاول للمرة الأولى توريطي في مطبخه … على الجدار المقابل للمدخل رأيت مكتبة حائطية كبيرة ممتدة حتى باب الحجرة.. كانت أكثر كتبه فلسفية أو روائية.. أعجبني ذوقه الأدبي.. أنزلت بعض الكتب.. ثم شغلت التلفاز.. بعد لحظة وجدت نفسي أتبعه إلى المطبخ.. رآني أدخل فابتسم.. كان ينظف سمكة كبيرة فتحت الثلاجة وأخذت تفاحة..
– لماذا دعوتني إلى بيتك.. أتريد أن تغويني؟
انفجر ضاحكا.. وبدون أن يتوقف عن تنظيف السمكة كان يجيبني:
– أجل.. هل تمانعين؟
وجدت الحوار مسليا..
– هل تفعل هكذا مع كل الرسامات اللواتي تقذف بهن الصدفة للجلوس في المقعد المجاور لمقعدك في ندوة حول الأدب والتشكيل؟
– ليس كلهن.. النسوانيات منهن فقط.
– لست نسوانية.. تماما كما أنك لست لواطيا.. أو هكذا أعتقد الآن على الأقل..
هنا وضع السمكة.. ونظر إلي طويلا.. ثم عاد وتناولها.. انتابني للحظة إحساس أنه سيقذفني بالسمكة.. تملكتني رغبة في الضحك.. أجهضتها.. ألقيت ببقايا التفاحة وأخذت أخرى.. نظرت إليها.. كانت شهية.. فكرت: «أنا حواء.. وأنت آدم».
كان لا يزال ينظر لي.. يراقبني.. حرك رأسه أخيرا وابتسم.. كما يفعل الناس عندما يستمعون لسخافة يتفوه بها طفل..
– لماذا ترسمين؟
– كان ينبغي أن أرسم.. حتى لا أخرج كثيرا من الجنة.. فأنا أحب التفاح كما ترى..
رأيته يضحك..
مد نحوي طبقا به أربع طماطم وطلب مني تقشيرها.. نظرت إليه بتواطؤ.. يصر على توريطي في مطبخه.. لا بأس.
– لم تتزوجي؟
– بلى.. لكن فشلت
– أنا أيضا.. تركتني بعدما خلصت إلى أنني لا أصلح أن أكون أبا لأطفالها الذين قررت إنجابهم.. تركتني وذهبت تبحث عن أب أفضل..
وما كان ليعلم أنه وضع يده على الجرح القديم أخذ قلبي يؤلمني..
– هل تبكي أحيانا؟ لم يسبق لي أن رأيتك تفعل..
– هل رأيتني أضحك؟
هززت رأسي بالإيجاب.. طفت ابتسامة حزينة على وجهه وسمعته يقول:
– بحال بحال
شعرت بزخة حنان تنتشر في كل جسدي.. تمنيت أن أضع يدي على رأسه… فكرت بسرعة أن ألطف الجو.. هكذا يفعل الآخرون:
– تركتك إذن.. وهل أنت رديء إلى هذا الحد؟
ضحك بدون صوت..
– أجل.. وأنت؟
ضحكنا طويلا.. (كنا نراوغ بكرات بعضنا على ما يبدو) قبل أن تحترق السمكة.. ونكتفي بالبيض والسلطة.. والموسيقي..
كانت له ضحكة.. عندما وقف يدير الأسطورة اكتشفت يديه لأول مرة.. ومع أنغام السمفونية السادسة لموزارت بدأت محاولتي في فهمهما.. يدين كبيرتين. طبيبتين.. ماذا كانتا تقولان؟ كان يعيد ترتيب ما نثرت من كتب.. هاتان اليدان تذكراني بشيء ما.. تصعد غصة مفاجئة من منطقة حارة في صدري.. تتوقف في حلقي..
«أبي!»
يستدير نحوي
نعم…
– هل أنا أميرتك يا أبي؟
كنا نركب الدراجة الموبيليت الحمراء وكنت ألقي برأسي على ظهره وأشد طرفي بدلته وأنا أسر لنفسي أنني أسعد من الأميرة في القصة المصورة عند «باحسون» صاحب المكتبة.. فأن تكون الفتاة أميرة يعني أنها لا تستطيع أن تركب خلف أبيها في دراجة نارية في صباح عطلة مدرسية لترافقه إلى المدينة حيث سيشتري لها حذاء جديدا وسندويتش «صوصيت» ثم يتركها قرب باب «البيسري» بعض الدقائق، ما يكفي ليكرع زجاجتي بيرة بسرعة.. فأبوها(الأميرة) لا يملك على كل حال دراجة نارية من نوع موبيليت الحمراء … زجرني أبي ودفع رأسي بكتفه وهو يأمرني أن أتوقف عن مد عنقي فوق كتفه.. كنت أراقب حركات يديه على المقود.. يداه المتعبتان.. أحسست برغبة في لمسهما.. مددت يدي نحوهما.. امتدت اليدان.. أخذتا يدي برفق وضغطتاهما.. كانتا دافئتين …
رجاء تعشق الموسيقى الصاخبة وأكل الحلزون.. أزورها كلما أحسست بتفاهة العالم.. أخبرتني في ذلك اليوم البعيد أنها سترحل إلى إيطاليا ولن تعود أبدا. بعد ذلك جاءتني، في إحدى الليالي الممطرة، فتحت لها الباب، كانت ترتجف وأنفها يلمع.
أخذتها إلى الداخل.. احتسينا معا فنجاني قهوة ساخنة. ونحن نشاهد الرسوم المتحركة على شاشة التلفزيون أخبرتني أن قريبها المهاجر الذي وعدها بالفيزا نذل وأن «الوطن» لا يمنح نفسه سوى للعاهرات واللواطين.
وفي آخر الليل أسرت لي بمشروعها السري الذي كانت تكتمه عني حتى ذلك الحين:
– هما أمران لا ثالث لهما.. الإرهاب أو البغاء..
أخذت ورقة وكتبت عليها بأحمر شفاهها.. «متى سيتم الدفع بقضية تحرر أجسادنا إلى مصاف القضايا الساخنة»؟.
انفجرت ضاحكة.. وقفت أمامي فوق الوسائد.. عرفت أنها ستلقي خطابا.. وبلغة مسرحية أعرفها سمعتها تقول «عندما تتحول كل النساء إلى بنات هوى» أضافت وهي تغمز بعينيها «تخيلي معي هذا العالم برمته عبارة عن ماخور.. بيد من ستكون السلطة؟؟».
رجاء تسخر من علاقتي «الجادة» به.. هي لم تعشق رجلا أبدا.. في إحدى المرات حاولت أن توهم نفسها بذلك.. الذي حصل هو أن اللعبة استمرت ثلاث سنوات لتكتشف في الأخير أنها كانت مغرمة بالطريقة التي كان يهمس بها اسمها..
-رجاء.. رجاء.. بعذوبة متناهية – تقول رجاء – ما كان بوسعي إلا أن أقع في غرام… هذا الاسم.
لم تكن رجاء ببيتها. أخبرتني جارتها أنها لا تعود إلا في وقت متأخر من الليل.. وأحيانا لا تعود.. ومصمصت شفتيها..
نزلت السلم وأنا أخطو مدخل العمارة.. كان التاكسي يقف وتنزل منه رجاء.. «منهكة!» قلت لنفسي.. وأنا أستقبلها بكل عيني. كانت تضع ورقة نقدية في يد السائق.. غادرت التاكسي دون أن تطالب بالباقي.. عندما رأتني هتفت باسمي واستطعت أن أرى في عينيها سعادة.. كنت أحس بمثلها في عيني..
احتضنا بعضنا.. شعرت بضعف جسدها بين يدي.. اعتصر قلبي. أخذتني من يدي وهي تقسم – كعادتها – بأن أمضي الليل معها.. كان المطبخ واقعا في فوضى كاملة.. وفي رأسي كنت أداري سؤالا قذرا.. أعدت رجاء الشاي وأشعلت سيجارة.. كانت أصابعها ترتعش.. ضبطتني أتابع حركات يدها..
– أشعر ببرد هل يضايقك دخان السيجارة؟ هل أطفئها..؟ كانت تسأل ولا تنتظر جوابا.. ضغطت رأس السيجارة بالمنفضة.. وسحبت شعرها الطويل المجعد إلى الخلف.. كانت قد غيرت لونه.. لم يعد أنفها الصغير يلمع كما في السابق..
-رجاء أريد أن أستمع إليك.. كما في الماضي..
نظرت إلي بحنان.. ويبدو أنني كنت أصوب نظري بحدة نحو عينيها.. ارتبكت.. حركت رأسها.. ثم انفجرت ضاحكة.. أخذت تضحك وتهز رأسها.. وتخبط بيدها على فخذيها.. رأيت وجنتيها تصطبغان باللون الأحمر.. فهمت أنها ستنهار.. وستبكي، أخذتها بين ذراعي.. ضممتها بعنف.. كانت رجاء تبكي كطفل.
ألقت رأسها على كتفي ثم عادت فاستلقت بجانبي على وجهها،… اكتنفتنا لحظة من الصمت بدت لا نهائية.. عندما مسحت عينيها، ضحكت.. كانت عيناها تستعيدان نظرتها الساخرة القديمة.. أحسست أنها «رجاء» لولا شقرتها المزيفة.. ابتسمت من عبث الفكرة..
– تبدين مضحكة مثل دمية.. لماذا الأشقر وليس الأزرق..أنت كنت تفضلين دائما اللون الأزرق.. أليس كذلك؟
ضحكنا.. سمعتها تقول وسط الضحك «ضحكنا في عرسك أسيدي رسول الله»..
أحضرت لي «ألبوم» الصور.. وكنت أقاوم بمرارة رغبة جامحة في أن أقول لها:
-رجاء أنت مزيفة أو شعرك على الأقل..
كنت أريد أن أسألها عن مشروع تحرير الأجساد.. كنت أفكر بحقد.. أخافني..
في المساء أتمت رجاء سجائرها.. خرجت لأجلب لها سجائر وبعض البن.. حين عدت كانت تشاهد برنامجا موسيقيا رأسا على عقب.. رأسها في الأسفل عند قدم السرير وقدميها تتأرجحان في الهواء.. ضحكت وصعدت في رأسي ذكرى زمن جميل ولى «هذا العالم مقلوب سأضع رأسي في الأسفل كي أراه مستويا» كانت تقول وستارة النافذة تداعب قدميها. كان زمنا جميلا.. لأنه مضى.
حدثها عنه.. ضحكت وقالت أنها الإيديولوجيا وأنه مخجل أن تقع فيها فتاة كبيرة مثلي…
ثم توقفت عن الضحك وقالت بنبرة جادة.. غريبة:
– أتدري أنت محظوظة.. لو أنني كنت أحمل وهما ما في رأسي هذا لما كان هذا هو حالي.. (تناهى إلى سمعنا ضجيج الشباب في الخارج) أتسمعين هؤلاء الحشاشين أسفل البناية.. أتسمعين سعادتهم.. إنهم يغنون.. ويركلون العلب القصديرية وزجاجات النبيذ الفارغة.. إنهم يركلون هذا الوجود البليد..
التلفزيون أمامنا يقدم مرهما للبشرة.. فتيات جميلات.. وألوان. تذكرت شعري.. ثم وجهي.. وتذكرت اللوحة.
سألتني رجاء:
– ألا زلت ترسمين أوراقا ميتة؟
ارتشفنا قهوة المساء ثم خرجنا لرؤية فيلم في سينما الحي..
-ربما اغتصبنا أحدهم هذه الليلة..
كنا نضحك بسعادة..
رأينا فيلما رومانسيا من بطولة بعض المصريين وبعض المصريات.. بكت رجاء وكنت أضحك من بكائها..
في مساء الغد وأنا أغادر بيتها وقفت عند الباب وشدت على يدي ثم قالت:
– هل سنظل صديقتين.. هل يمكن أن تظلي صديقة لامرأة مثلي؟
– وأنت هل يمكنك أن تستحملي امرأة تعشق الموت والرجال؟
ضحكت وعانقتني وهي تردد: «سأفكر في الأمر».
توقفت الحافلة أمام مقر عمله..
هب مهللا عندما رآني بباب مكتبه.. كنت أفكر أنا أن هذا التهليل مرحلي.. تماما مثل الحب.. عملنا على تفتيت الصمت حولنا.. عشية ممطرة ووجهي حزين..
أخذ في امتداح «إيشاربي» البنفسجي الذي يذكره بإيشارب أستاذة الإنجليزية..
سمعته يحكي كيف كان يتصورها عارية كلما استلقى في فراش المراهقة الأولى..
– كانت لها عينان بنفسجيتان.. واسعتان.. كانت الأجمل بين كل المدرسات والأكثر أناقة.. بورجوازية جميلة.. لا تستطيع تخيل جوعي.. امرأة لا تشبهك..
ابتسمت.. قلت لنفسي أنه يغازلني.. لم أكن متأكدة من ذلك.. لكني فرحت في أعماقي وتمنيت لمس يديه..
– كنت قد تعودت إسقاط ثيابها عنها.. قطعة قطعة.. خلال كل حصة من حصص الإنجليزية.. أقبع في الصف الأخير وسط استيهاماتي السرية.. يذكرني إيشاربك بها.. (شددت الإيشارب حول كتفي.. قطرات المطر تنزلق على زجاج النافذة…).
-كانت مدهشة في اختيار ألوانها.. تلك الطبقة لا تتقن نساؤها شيئا مثل إتقانهن اختيار ألوان ملابسهن.. وجدت نفسي أضع حقيبتي فوق مكتبه وأخطو نحو النافذة..
أمي كانت تفضل اللون الأبيض.. كانت تعد القهوة.. قهوة العشية.. وكانت السماء تمطر بالخارج.. تماما مثل الآن.. تعقص أمي شعري إلى أعلى بشرائط بيضاء.. وتمنعني من اللعب مع الذكور.. عندما تأتي العشية تخرج أمي باحثة عني.. كانت غالبا ما تعثر علي وقد نفش شعري وضاعت الشرائط.. أما حذائي فتجده مدسوسا في الجيوب الخلفية للسروال.. المتسخ..
أقف أمام النافذة..
أطفال محظوظون يتوجهون إلى المدرسة.. يحملون مظلات زاهية.. انتابتني رغبة في الخروج.. حولت رأسي نحوه.. اصطدمت ابتسامتي بابتسامته.. فكرت أنه ربما كان يبتسم لشيء قاله.. لم أكن أستمع إليه.. تداركت الأمر بسرعة حتى أجعله يعتقد أننا نبتسم لنفس الشيء.. سحبت الستارة أكثر عن مربع النافذة.. المطر بالخارج يحدث دفئا عندي بالداخل.. كان المارة يقفزون فوق البرك المائية.. ويسرعون مبتعدين عن الأماكن غير المغطاة.. لم يكن الشارع مكتظا كالمعتاد.. رأيت فتى وفتاة يقبلان بعضهما أسفل مظلة سوداء.. «عندما يبدو أننا في العشرين» تقول الأغنية..
عيناي على يدي.. كنت أبحث عن يدي فتاة في العشرين لم تكتشف الخدعة بعد.. أصابعي نحيلة.. ومتعبة.. لكنها لا تزال في حاجة إلى الأغنيات..
الفتى يضم الفتاة إلى صدره.. تميل المظلة إلى الخلف.. تسقط.. يغمرهما المطر…
أسمعه يقترب.. يضع يده على كتفي..
– في ماذا تفكرين؟
– في يدي..
يضحك.. أضحك.. ويمد يده يعيد الستارة إلى وضعها الأول..
لطيفـــة باقــــــــا
قاصة من المغرب