بين يديّ «الأعمال الشّعرية الكاملة» للشّاعر اللبناني الراحل يوسف الخال، أستعيد قراءتها اليوم، من جديد، وأدخلُ الى نواحيها:الفكرية والفلسفية والوجدانية والذّاتية، وأجد نفسي في مواجهة جميلة مع الكلمات التي ولدت قبل ولادتي، فعرّفتني على ماضٍ عبر، والتقيت في ثناياها بما ساعدني على تفسير هذا الماضي، وكذلك ساعدني على قراءة الحاضر الذي نحياه.ولا بدّ من الإشارة الى أن هذه القراءة لشاعر من طراز يوسف الخال، بما يُمثّل هذا الشّاعر من تاريخ ثقافي وشعري، لا تحيد عن مفهوم وتأثيرات البُعد الزمني الذي اجتازته القصيدة والشعر برمّته، فقارئ الشعر اليوم ليس كقارئ الأمس:
تتميز قصيدة الشاعر يوسف الخال بالرّمزية والإيحاءات الكثيرة، إيحاءات تستحضر التفاصيل الجوّانية للروح المُتحركة في ضجيج الحياة.فقد كتب عن الحياة بعد أن دخلها على جناح الهدوء، وفي يده، كما في قلبه، أسئلة الحياة الكثيرة، أسئلة تجيب وأسئلة تضاعف من الأسئلة، الأمر الذي جعل قصيدته تتحرك وفق تداخلات الأجوبة والأسئلة.تداخلت الأسئلة، الأسئلة الشعرية مع الأجوبة الممكنة والمستحيلة التي هي بالأصل أجوبة مأخوذة من داخل تفاصيل تلك الأسئلة المفتوحة على تفاصيل الظّن والمعنى في آنٍ معاً.ففي إحدى قصائده(أنامل) يطرح الشاعر هذه الأسئلة كما لو أنها الأجوبة التي يتبنّاها: «زنابق الجنّة يا أنامل/أم خُصلٌ من السنى أوائل؟/تورّدت أكمامها، فيا دمي/ أمهل! وددتُ الموتَ لا يعاجل/حسبي أنِ اعتلّت على إهابها/روحي، وحالت دونها الحوائل./أنامل أنت:فهلاَّ يا ترى/عرفتِ أن العاج لا يماثل/وأن للباري، يا سبحانه/فناً ترامى دونه رفايل؟/فأيقظي الفتنة في جوارحي/أولا:فجودي كيفما أُحاول:/فأنهل الأنمل/كم أُروى بها/هيهات! جفّت بعدها الجداول.» بهذا التناغم المتواصل، بين أسئلة الذّات وبين أجوبة الحياة المُمكنة التي ينطلق منها الشاعر، يتحدد له ما يمكن وصفه وما يمكن تلمّسه، بما يجعله يقيم ويُراقب كل ما هو ممكن ومستحيل، وهنا، ربما، أراد الشاعر التقاط الحالة والمعنى من أساسهما، ليصل الى مُبتغى أصيل، ويمكن من خلاله بلورة تفاصيل أوسع لمفهوم الحياة والعيش. فهل نجح الشاعر في مسعاه نحو الوعي الكُلّي؟
كتب الشاعر القصيدة العمودية والقصيدة الحرّة، وربما أراد من خلال هذا الشكل داخل الشعر واللغة سلوك المنحى الذي يُساعده على التحرك وفق أساس الموضوع الذي يلجه، فحين يكتب الصوفية يتخذ شكلاً مغايراً مع الكتابة الأخرى، كالكتابة العرفانية أو الروحانية التي استهدفها في قصائد كثيرة.كأن الشاعر ترك للمعنى ان يُحدد الشكل، وليس العكس أبداً.وثمة قصائد كتبها الشاعر تبدو وكأنها مُلزمة بالشكل أي أن المعنى فرض حركية وإيقاع الشكل، وهذا ما جعل قصيدته تأخذ مجراها في مسارها الشّعري المُمكن والذي أراده للمعنى والشكل.وإذا ما حاولنا مُجاراة الفلسفة والفكر والوجدان داخل قصيدة الشاعر، نلاحظ هذا الشكل أيضاً، حيث يمكن مُلامسة العمق الجوّاني للمعنى من خلال اللغة التي تتراءى وتبرز على نحوٍ مباشر بما لا يخفي خصوصية في التعبير واللغة، وكل هذا يتكثّف ويتداخل في إطار متكامل ليعطي مدخلاً حيوياً للتفسير وللدلالة على الأشياء الكثيرة التي يستهدفها في كل ما يُريده الشّاعر من معنى.
وإذا ما حاولنا مُقاربة المشهد الآخر في قصيدة الشاعر، نجد أننا أمام تناغم آخر يعطي تفصيلاً جديداً وربما مُكملاً لهذا «الوهج» الشعري القادم من نواحي القصيدة، ذلك أن الصوفية الحسية التي تنسجها لغة الشاعر وقصيدته تسلك مدار اللحظة الواسعة، ويمكن للهدوء الذي يبدو جلياً داخل هذا الوصف الحسي الممتزج بهدوء ملفت أن يُحاذر ويعرف كيف يُناور في فرضية المعنى وظنونه، وأعتقد أن الشاعر أراد واستهدف هذا التشابك في المعنى داخل الشكل واللغة، كي يعطي صورة مضاعفة للقصد المُرتجى.إن الصوفية الحسية التي أرادها الشاعر في قصيدته الى جانب الهدوء الكبير الذي يفرض التأمّل، ساهم في بلورة المعنى جيداً، ورفع من منسوب التفسير لدى المتلقي.ومن يدخل عميقاً في المعنى، يكتشف هذا الوعي الذي ينطلق منه الشاعر.إنه وعي مفتوح على دلالات شتى، ليس أقلها، دلالات النضج والوعي والمعرفة التي ترسم وتخطط وتستحضر وتُبشّر.بمعنى آخر، يستهدف الشاعر المعنى ويُقاربه من كل الاتجاهات في محاولة غير يائسة لتبيان جوهر القصد، ودلالاته في غير مكانها الثابت. وخير دليل على ما يحاول الشاعر قوله وترجمته وتجسيده يكمن ويبرز جلياً في قصيدة(غدٌ يحتضر): «سراباً غدا مطلبي/وخيطاً من الغيهب/وفيء جناح يطير/ويُمعن في المهرب/كأن الزمان براه/محالاً ليعبث بي/ويملأ نفسي احتضار/الضياء لدى المغرب./غدي، يا غد الوهم والظّن/والأمل المجدب/سقيتك ذوب رجائي الوحيد/فلم تشرب/وخلتك دنيا فتونٍ/تعجّ على ملعبي/وتفرش دربي وروداً/وترقص في موكبي./انا لن أضمَّ جناحيَّ/بعدُ على مطلبي:/سأُفرغ حبي وأفنى/مع البارق الخلَّب/مع الفارغات الكؤوس/والنغم المتعب/مع الورود، في مخدع الموت، /والعنبر الأطيب./غدي، يا غد الوهم والظنّ/والأمل المجدب!/رويداً، فبعدكَ لن استضيء/على كوكب».وهكذا يمضي الشاعر في أغلب محاولاته الهادفة الى تثبيت الدلالات في إطارها الشعري الذي يستهدفه ويراه مدخلاً لوصولِهِ الى هدوئه، وتالياً الى شاعريته.
استطاع الشاعر توظيف قصيدته لصالح جوهرها أي أنه جعل لغة القصيدة تتحرك وفق دلالات رمزية وإيحاءات واسعة وبليغة، وقد نجحت هذه الإيحاءات بإبراز تفاصيل كثيرة في القصد المُرتجى الذي أراده لقصيدته، القصد الذي كان بمثابة الشرارة التي لا تُخمد حين تهبّ ويتطاير شررها في النواحي والنفوس والأرجاء.لقد حقق الشاعر برمزية الكلام ما يمكن للقصيدة ان تحققه في تفاصيل معناها.إن الرمزية هنا، في قصيدة الشاعر، تُلامس الحدّ الفاصل بين تقاطعات كثيرة، ليس أقلها تقاطعات اللغة المتناسلة من ذاتها وتلتف على ذاتها كحركة لولبية.فحين تكون الرمزية وافية وكافية وناضجة في بناء الهرم التعبيري والتفسيري، فإنها بالمقابل تلتزم الإختزال والومض الذي لا يُجاري السّرد أوالشّرح المُطوّل، وهذا ما أعطى هذه الرمزية خصوصية وقدرة، خصوصية جعلتها تنأى في مدار معناها دون شوائب، وقدرة تمكّنت من تأدية واجبها في التناسق داخل القصيدة وبما يجعلها وارفة ومطلّة على مشارف المعنى المُبكّل.لقد حققت قصيدة الشاعر دلالاتها ومعناها بقليل من الجهد الذي مارسه الخيال، وفي المقابل لعبت الرمزية دوراً في بناء هذا الخيال، اتحدت الصورة النابضة مع الإيحاءات الواسعة الى أن بلغت مراحل التشكيل الذي يبدو متناسقاً، بكلام أقل ولغة مفتوحة على حقول المعنى رغم حدودها الواضحة، وقصيدة(العبور) نموذج يمكن البناء عليه في هذا السياق، فماذا تقول هذه القصيدة التي كتبها الخال قبل نصف قرن؟:»أنا هنا وحيدٌ/وجهي على الحجر/أعلُّ قهوتي وليلي/وأرقب السحر./حبيبتي تنام باكراً/حبيبتي بشر/وها أنا وحيد/وجهي على الحجر./لو كنتُ في لبنان، في/مطارحٍ أُخَر/ذبلتُ تحت غيمةٍ/تسحُّ بالضجر/لكنني هنا، هنا/ما يملأ النظر/ويجعل الزمان كلّه/خيطاً من العمر./حبيبتي تنام، هل درت/ما خبأ القدر/سأهبط الضفاف خلسةً/وأعبر النهر.»
الذاتية التي تبدو جلية في أشعار الخال لا تأخذ من درب القصيدة بقدر ما تحفظها في مساحة تكشفها أكثر، وتجعلها في واجهة التأمّل لدى الآخر.إنها ذاتية خاصة وإن بدت قريبة جداً من شخصية تنأى في ذاتها، بعيداً عن كلّ ما يمكن أن يؤثر في هذه الذاتية.إذ تبدو القصيدة متحركة حول ذاتها وتتكون من حلقات خاصة ومن تعابير خاصة، وربما أراد الشاعر أن يعطي لهذه الخصوصية ما يُساعد على الدلالة أكثر على هذه الخصوصية، واختار لمفرداته أن تُجاهر بما هو قائم داخل هذه الذاتية.وحين أقول الذاتية لا أقصد الأنانية ولا ما يشبهها، إنما أقصد ذلك الإنسان الذي يقدّم الصورة الخاصة في ذاته من خلال ما يعتمل في تفاصيل معناها وما يعتمل في مناخها الإنساني الواسع.ويوسف الخال هو واحد من الشعراء الذي عرف كيف يختار الحالة التي يعيشها وفق أصول الإيقاع الذاتي للحياة التي يتفرّد بها كل إنسان.وما القصائد الكثيرة التي كتبها في هذا السياق إلا خير دليل على هذه الذاتية الفريدة والتي يمكننا تسميتها بتسمية خاصة(الذاتية الشعرية). وإذا ما دقّقنا جيداً في هذه الذاتية، نعثر على عمق الوجدان الذي ينطلق منه الشاعر، انطلاقة خلاّقة، تومض بالعاطفة وتعطي الكثير من الأجوبة التي ترسم جوّانية الشاعر، وتعكس حيوية علاقته بالخارج، والمحيط، وعلاقته الأهم بمكنونات الحياة وثوابتها وأركانها.فماذا يقول الشاعر في قصيدة(المواكب) التي تعكس هذه العاطفة وهذه الحياة التي تشرق دائماً وبوهج كبير ومختلف؟: «أمي هيا بنا/ملعب الشمس لنا، /ولنا الرحبة من كل مدى:/فاذا كل صباح/منك في الآفاق لاح/يغمر الدنيا ضياءً وهدى./وترانا لم نزل/نخبة العلى الأول/ويمين المجد أنّى أوما:/كم رفعنا علما/وبنينا أُمما/وغرسنا شاطئاً وشاطئا./ملءُ كفِّنا الغدُ:/مشرق مخلد./وبنا تفنى وتحيا أُممُ، /قلنا عزُّ الدنى/ومواسم الغنى، /ولنا في كل أفق علم». ولا تغيب حالة العنفوان عن جوهر هذه القصيدة، وهي بحد ذاتها إنعكاس واضح لما يعتمل في ذاتية الشاعر وما يتحرك داخل وعيه الخاص.كما لا تخفي هذه القصيدة، تلك الحالة الخاصة التي يجسدها الشاعر، الحالة التي تعكس شموخاً واعتداداً بالإنتماء والهوية، وكل هذا التوصيف أو الإعتراف الذي يقدمه الشاعر، ما هو إلا جزء متيسّر من أجزاء كثيرة عابقة في أعماق الشاعر وفكره وفلسفته.
الفكر والفلسفة حضرا في قصيدة الشاعر، ورغم أن الحضور المباشر للفكر أو الفلسفة يُخفف من وطأة القصيدة ويجعلها في غير منحى شعري، إلا أن الخال حاول، وربما استطاع تخطي سطوة الفكر والفلسفة على القصيدة.فهو شاعر دارس الفلسفة ويمتهن الفكر ويتحرك من خلاله في تفكّره وأبحاثه في الحياة، لكن حين دخل الى اللغة ليقطف القصيدة، تحاشى هذه السيطرة الفكرية الفلسفية وانتبه جيداً لما يمكن أن يحدث للقصيدة من وهنٍ إذا ما تجرّعت الفكر والفلسفة على نحوٍ كامل ومباشر، ويبدو هذا الانتباه حاضر في أغلب قصائد الشاعر، وقصيدة (اعمى)خير ما أستشهدُ به هنا، وهي قصيدة كتبها الشاعر قبل أكثر من نصف قرن: «أعمى/أبحثُ عن أحدٍ يبصرني/عن شيء أحسبه عندي/هذا العالم أُنثى/لعبت بالغيمة فاضطجعت/فيئاً في الربع الخالي./أحويكِ وأعلم أن الجمرَ/يبرّدني.أسحب أنفاسي ودمي/أغرق في وهجٍ/في خمرة عرسٍ، في أبدٍ/أغرق في جسدِ/للصين سياجٌ من عسلٍ/وأنا جنكيز خيلي/أرجلها قصبُ/فرساني حبل رجاءٍ يقطعه/سيف ذهب./هذا العالم أُنثى/لعبت بالغيمة فاضطجعت/فيئاً في الربع الخالي.»
كتب الشاعر قصيدته بعد أن بلغ الأرض في تفاصيلها وما تحتوي في جوهرها، فكانت أبلغ وفيها ما يؤجج الوصف ويجعله أقرب الى تذوقها بالعين: «يا أيها الراكض في السهول/كالزمن/تبدأ حيث تنتهي/فلا تزول»(من قصيدة النهر). أما خطابه الشعري الرّنان فكان حين يُقارب المجد مهما كان لونه وطعمه.فقد كتب الشاعر المجد ولاحقه وبنى ركائزه في قصيدته.أخذ من الحياة ما يرضي وما يساعد العين والقلب والروح، نسج من الصورة الدفينة في ذاته خيوط اللون الخاص، رفعه الى أعلى، حيث تلاقت التفاصيل في جوٍ عابق بكل الألوان والحركات والتفاصيل والجمال والسحر والحب والعاطفة والأمل…جمع الشاعر كل ما يُثيره الجمال داخل قصيدته ثم أطلق العنان لتفاصيل الشجن الذي تبثّه هذا الألوان العميقة والسطحية، ولم يكتف عند هذا الحد إنما بلغ بها الحدود القصوى، حيث تناثر المعنى وتشكّل وانبرى وتعملق وانتصب ليعرّش في المساحة الأرحب: «المجد للرغيف يستدير/قمراً، يقدم النعاس/للجفون، للجياع كذبةً/عريضةً/سلوى من السماء/والمجد للواتي/يسلبنَ من عيوننا الضياء/والأمل السحيق أن/يجيء موعدٌ/وينتهي/ونحن للمسير جبهةٌ/وركبتان/والمجد للذي/تعانق الحرير، للذي/يجوّف المكان.»(قصيدة المجد للثلاثة).
يمكنني القول إن الشاعر الراحل يوسف الخال ينتمي الى الواقعية رغم خيال الشاعر الذي يملكه، وما القصائد والأعمال المسرحية الشعرية التي كتبها إلا خير دليل على هذه الواقعية. ويمكنني القول انها واقعية شعرية بامتياز، غير مُتشابهة وغير مكررة عند شاعر آخر. فقد كتب الشاعر الكثير من الخيال لكنه جسّده بالحسية والخطابية واللغة المُفعمة بنبرة الحضور والغياب: «في أول الشتاء كنت ناقماً/على الخريف: غزَّ مخلباً هنا/هناك دون رأفةٍ/بأصغر الغصون./قيل لي اطمئن هذه/علامة الفصول. بعد دورةٍ/يجيئوك الشتاء حاملاً /الى الجذور دمعة الحياة. ربما/يكون قاسياً على الجذوع: بعضها/تظنه انتهى، بل إن بعضها/يغيب بغتةً/وفي الربيع، حين يستجير/آخر التخوم، يفتح الثرى/عروق دمه الجديد.»(من قصيدة الحديقة).
لامسَ الشاعر العاطفة بأنامله وروحه، قال الجمال بغموض المعنى، وما كان للغة إلا أن كشفت أكثر سر ّ الشاعر وشاعريته المُزدحمة بعاطفة مُلونة، قديرة، تحمل في طيّات معناها دلالات الروح الهائمة على وجه الحياة، المُحلّقة في فضاء النشوة الذكية: «عيناكِ، هل أنا من يرود/عوالم الأسرار وحده/ويجول حيراناً يرى/ما تطبق الأجفان عنده:/سورٌ من الآيات كم خلعت/على الأكوان جِدّه/فكلّما سكر الظلام/فمدّ للأنوار زنده./فتضاحكت زُهر النجوم/وعانقت للصبح نهده./وكأنما جُنّ الرياض/فعدَّ مثل الشوك ورده/ولوى النخيل الى الحضيض/فجرَّح العليق خدّه/ورمى الصنوبر بالخضوع/فطاول الريحان قدّه/وأفاح من سقط النبات شذا./ وأي شذا.فبعده/خجل البنفسج ان يفوح/وخبأ النسرين ندَّه.»(من قصيدة عيناك).
كتب الشاعر الى جانب الشعر مسرحية شعرية، وهي مُدرجة ضمن أعماله الشعرية الكاملة، والمسرحية تحمل أسم(هيروديا)، وتقع في سبعة وثلاثمائة بيت من الشعر، مُتعددة القوافي ولكنها من بحر واحد هو البحر الخفيف، وتنتظمها ثلاثة فصول . روعيت فيها وحدة الزمان والمكان.أما مصدرها:قصة الإنجيل التي تتحدث عن قتل»هيرودوس» ملك الجليل «ليوحنا المعمدان» تلبية لطلب «سالومه» ابنة «هيروديا» ابنة أخيه «فيليبس»، فتحدى بذلك شرف السوريين وشريعة موسى التي تحرّم الزواج من ابنة الأخ . وجاء يوحنا المعمدان يعلن سخطه على هذه الزيجة فيلقي به «هيرودوس» في السجن وما يحول دون قتله إياه إلا خوف هيرودوس من ثورة الشعب.ولكن هيروديا لا تقنع بذلك ولا يرضيها إلا قطع رأس «المعمدان»، فتغري ابنتها بفتنة «هيرودوس» واستهوائه في ساعة ضعفه وعبثه، ليعطيها رأس المعمدان على طبق يصحبها في رقصها الخليع، فيلبي طلبها بعد تردد.وفي غمرة شرابه يقدم رأس المعمدان لسالومه.ويعقب ذلك ثورة الشعب وقيام السوريين ضده واضطرار الرومان الى خلعه ونفيه تهدئة للجماهير.
اعتمد الشاعر في مسرحيته الشعرية على مشاهد الوصف الحسي، موازياً بين هذه المشاهد ضمن سياق تراتبي أعطى حيوية للفعل المنبثق من العمل. والأهم في هذا السياق المسرحي هو ما اعتمده الشاعر في الوصف المعتمد على التأثير النفسي الذي يحرك الذات المتلقية ويشدّها جيداً الى جوهر المعنى والقصد، وقد وفّق بهذا التوجّه الإبداعي، وأعطى دينامية فعّالة في المشاهد المتتالية من المسرحية، الأمر الذي جعلها تنبض بالشاعرية على مدار مشاهدها ومفاصلها.
سنوات كثيرة مضت على رحيل الشاعر يوسف الخال، وما زالت قصيدته تستحضره وتقدمه للمهتم.وكلّ ما كتبه يستحضر الزمن الذي مضى، ويؤسس للحاضر بما يمكن أن يُساعد على تفسير ما مضى، واستشراف ما سوف يأتي، وربما تكون قصيدة الشاعر هي جزء من الحالة التي يمكن من خلالها رؤية المشهد الذي عبر وفق أصول مُتدرجة وضمن سياق تخيلي، ولكن لا يمكن الدخول أكثر في تكهّنات القصيدة وما وراء رغباتها، لا يمكن الدخول أكثر الى تفاصيل المعنى الذي اختزله الشاعر لنفسه. إن ما كتبه الشاعر يبقى ضمن حدود معينة وإطار خاص، يمكن للمهتم ملامسته وفق ما ترضيه رغبته في الدخول الى هذا العالم الخاص الذي أراده الشاعر، ليكون في الحياة، وفي متناول من يريد أن يعرف ويتعرّف ويحس ويتحسس. وأهم ما حاول قوله الشاعر، بأشعاره، هو ما حاول إثباته بفكره وفلسفته.
جاهر الشاعر يوسف الخال بحضوره وسط الحياة، لكنه كان على قدر كبير من المسؤولية حين لامس أعماق ذاته، ونظر جلياً صوب حضوره في حياة تعبر كومضة لا يمكن مقاومتها. حاول الشاعر الإشارة، بلغة هادئة وهادرة ومُتعالية، حاول الدلالة الى حضوره دون أن يسقط في النسيان. حاول رسم خارطة فجره، غير مكترثٍ للزمن، رافعاً لواء حضوره بثقة كُبرى، وما قصيدته (الفجر الجيد) سوى خير دليل، وخير تعبير وخير دلالة على حضوره، وغيابه: «أنا كلُّ ما أدّعي/حملتُ صليبي معي/أُملّع يأسي وأخنق، /إمّا جرت، أدمعي./فلا الوهم في خاطري/ولا الليل في أضلعي./وأحيا غريباً وفوق/منال العلا مطمعي/كأن الذرى موطئي/وجفن السنى مضجعي./أنا يا نجوم اشهدي/ويا يا ليالي اسمعي:/سأخلق فجراً جديداً/إذا الفجر لم يطلعِ/وأبني غداً يدّعيه/الخلود متى يدَّعي.» .
إسماعيل فقيه
شاعر من لبنان