في يومياته «أرق الصحراء» الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي (2005) يضعنا سيف الرحبي في دوامة أيامه التي – بعد صفحات – ننسى كيف بدأناها ونجهل كيف تنتهي، إذ بعد «أيام» من السرد الهادئ والكوابيس المعترضة وشحنات من الذكريات والأطياف تختلط الأيام بأسمائها ولا نكاد نتبيّن تراتبيتها، حتى نقتنع بعد شوط أن الفواصل الملغاة بين الأيام لها ما يبررها، وأن تشابه الأحداث وعبثها هما وحدهما بطلا «اليوميات».
لغة الماء التي يكتب بها سيف الرحبي هي لغة المحو التي لا تريد لفت انتباهاتنا على حساب المعنى. والتي تكتفي بجريانها عذبة واضحة بسيطة كالإشارات التي لا تتطلب منّا الوقوف لحظة للتأكد من دلالاتها.
كل صباح جديد.. كل صباح قديم
في «أرق الصحراء» يظل الرحبي يفتتح صباحاته بمشاهد مكررة مثل «نباح الكلاب المجاورة الذي يحاول تمزيق الفراغ الذي لا يقهر» أو «طائر الفجر يشدو بصوته العذب، يتبعه هديل يمام بري»، كلاهما لا يحملان أبعد من معنى الملل والتكرار، أو ذاك الذي تسلبه العادة منا، دائما، قبل أي اقتراح لتأويل القبح أو الجمال، أو ما يزيحه المشهد الثابت في أرواحنا من صور منتظرة ليضع مكانها إطارا فارغا يملؤه بياض.
تتكرر الموسيقى أيضا، التي يدير الرحبي زرها كل صباح كي لا يفكر في شيء. هكذا، تمر وجوه كثيرة مزدحمة في الذاكرة، أصدقاء، زملاء عمل، أهل، كتّاب ومسرحيون وشعراء وصحفيون وسياسيون، وأنثى يخفف عطرها القادم من الماضي أرق الليل، وهناك يبقى وجه الأم بعيدا في مكانه وزمنه الأولين كي لا يتورط أكثر في الأرق، أو ينكسر.
في «أرق الصحراء» قد يأتي الأحد قبل السبت أو الخميس بعد الجمعة، أو متداخلين، فالأزمنة تتشابه، والسكون هو الأعم والفراغ أشمل، والملل الكوني لا يعرف أيام الأسبوع ليختار وينتقي، لذا هو حاضر دائما في مرآة الرحبي، في غرفته، في سريره، في ممره، وفي موسيقاه ومقهاه، وفي وجوه الأصدقاء أيضا. وفي ذاك كله، هو كمن ينتظر شيئا لا يجيء.
إذا، هكذا «اللعب قد تمت» وما عليه – كما يقترح سارتر – إلا أن يخترع خياراته لتزجية الوقت ما دام هذا الوجود قد تم وأنجز. يقول الرحبي «فكرت أن ما يبقينا على صلة بالحياة والجمال، هو الحب، والكتب والبحر، وإلا فالخواء الفاغر فاه كهاوية لا قرار لها سيبتلعنا من غير أثر».
ثلاثة ملاجئ لا تنجيه تماما من الإحساس بالعدم، لكنها قد تخفّف وقعه، لذا نرى وجه أنثى يلوح في نهارات «اليوميات» وطيفا لذيذا آخر في ليلها، ونقرأ – معه – بعض كتبه، ونراه يتوحد بصمته أمام البحر. إلا أن استدعاء الذكريات هي لعبته الأكثر أمناً، وهي العاصم الذي يسند قامته كلما اقترب من حافة الهاوية.
حريق الذكريات
نصدّق الرحبي حين يقول «صحوتُ في منتصف الليل لا أعرف ماذا أفعل؟ وبشكل لا إرادي، أخذت ألبومات الصور التي تجمع صفوة الحب والصداقة والقرابة، الى المطبخ وأحرقتها عن بكرة أبيها، أحس، والنيران تلتهم الصور والوجوه العزيزة بنوع من الراحة والتخفف من أعباء الذكريات التي بقيت ترقد في الأعماق مطالبة بحقوقها، على وشك الانفجار بين لحظة وأخرى»، لكنه الحريق المقدس الذي يبقي الطائر كامنا تحت الرماد، فقط هو ينقل الوجوه من مكان قابل للضياع الى زاوية لا تصلها يد النسيان، وإلا لما انهالت كل هذه الوجوه/ الذكريات من عصب الليل كل صباح، وكل أرق!
تملأ «اليوميات» ذاكرةٌ سينمائية، وأفكار تعترض السرد، واستعادات تقدم وتؤخر بخفة. إتقان – فيها – يشبه تلقائية مشي النائم الذي لا يتعثر ولا يحسب الخطوات.
لا يصل، لكنه يعود من حيث بدأ.
هي العدمية التي تروي ولا تقول شيئا، وتدور ولا تصل، وتيأس وتأرق وتهذي كي تحتال على محنة وجودها، وتؤلف أوقاتها كي تقتل الوقت، وحكاياها كي تحكي.. تحكي فقط.
هي حيلة لدفع صخرة الزمن الى الأمام، أو تفتيتها، باللهو والكلام والصحبة والأمل أو اليأس هذا الذي يمنحنا حرية أكبر وخلاصا أجمل من الأمل، هي تشبه حيل بطلي بيكيت المنتظرين «غودو» اللذين كأنهما انتظراه في زمن الذاكرة.
هي، أيضا، تشابه أيام زمنهم الذي لا يمر، فمثلما تساءل استرجون: «لكن أي سبت؟ وهل نحن في يوم السبت؟ ألا يمكن أن يكون الأحد؟ الاثنين؟ أو الجمعة؟». يتساءل الرحبي، الذي تفلتت الأيام من بين يديه.
اللعبة بلا نهاية
يقول الرحبي «كل مدينة أكون على وشك الرحيل نحوها، تسبقني إليها الأحلام، أحلام كثيفة أعيش أحداثها، ووقائعها طوال الليل، وكالعادة تبدأ بداية طيبة تقترب من نشوة السعادة، لكنها في مسارها المتموج هذا، لا تلبث أن ترتد الى نهايات كابوسية مفزعة».
بخلاف الحكمة الأرسطوية يرى الرحبي أن ماء النهر هو ذاته ذاك الماء الذي سبحنا فيه مرة ومرتين وثلاث. بل، إن صفحة الماء هذه التي تمر تحت الجسر هي ذاتها تتكرر ملايين المرات. لا جديد، لا شيء يتغير في يومياتنا حتى في السفر الى مكان جديد. إذ العادة تُبهت ألوانه وتبطل مسراته، فما إن نعتاده إلا ويتحول الى أمس لا يختلف عن يوميات الماضي.
بيروت، القاهرة، الأماكن، الأصدقاء، والأرق الذي يحمله الرحبي الى منازل جديدة، ثم ماذا؟! إذاً، «لا يمكن بالعادة أن نليّن شكا مفترسا أو نمنع أذى الأشياء التي جعلها الأرق أكثر عدائية» كما يقول عباس بيضون، وكما يحس الرحبي ويعيش.
شجرة بيكيت وصحراء الرحبي
ألفة الطبيعة وكائناتها الخرافية لا تفارق مخيلة الرحبي، هي ندماؤه في الوحدة، وأبطال مونولوجه اليومي، ومثلها هو، كل شيء يتحرك من حوله، ظلال تحضر وتغيب، أصوات تُحدث صخبا وتمر، ويبقى ساكنا، ثابتا في عزلته الدافئة، يقول «الجبال مشهد ليس سيئا بالنسبة لي، رغم القحالة والقسوة. إنها بؤرة تأمل لا ينضب».
يعيش «يومياته» وإن لم يحرك حدثا أو يسعى الى تحريكه. مراقبا، متوجسا، واقفا على حافته فقط:
«اتصال من محمد لطفي اليوسفي، يعلو الضحك والكلام على التلفون».. ثم يعود الى هدوئه!
– «اتصال هاتفي من عيسى مخلوف، يسألني عن نضال الأشقر التي تزور السلطنة».. ثم يبتلعه صمت الغرفة).
– (أصحو على صوت داليا وقبلاتها، فتحتُ عيني بصعوبة لأراها في بلوزتها السوداء وتنورتها ذات الألوان الأنيقة..)).. ثم يحدق في لجة من سراب).
– (سليمان، أخي، يبلغني أن محسن بن حسن، قد توفي البارحة توقفت لحظات، لأستل هذا الاسم من غابة الأحياء والموتى الذين تعج بهم الذاكرة».. وينسى).
– (أفتح التلفزيون، أشاهد فيلما، مستوحى، من إحدى روايات هومنجوي».. وينام).
– (أحضر ندوة أو مؤتمرا، ألقي نظرة على الأوراق أمامي، أرفع رأسي».. تتسمر عيناه في البعيد).
– (أشاهد مباراة لكرة القدم، بين من يصفه نقاد الرياضة بفريق الأحلام..)) .. ثم يلتفت الى ملاعب الطفولة).
هذا هو الفرق بين عدمية رواها بيكيت كميتافيزيقيا، وبين يوميات روى فيها الرحبي حقيقة العدم وعبثه وهامشه المعاش، الذي ما إن يبدأ بالدنو من واقعه حتى ترتسم له النهايات المبكرة، تلك التي لا تفضي إلا الى الفراغ واللاجدوى.
فرق آخر، إن شجرة بيكيت أورقت على طرف مسرحه لتشير الى مرور الزمن، بينما ظلت صحراء الرحبي الى نهاية «اليوميات» موحشة جرداء تعلن تداخل الأزمان، (وكأنه فصل واحد) كما تعلن لا مبالاته بمرورها (أو توقفها) ما دامت لن تنبت شجرة صالحة لكل الفصول.