كادت سيارة الدفع الرباعي ذات الكبينة الواحدة أن تنغمس بنا في كثيب من الرمال حينما أخرجها حمدان من الشارع المرصوف بصورة مفاجئة بعد أن التفت متأخرا إلى الدرب المترب الذي يوصلنا إلى المكان المقصود.
كان دربنا يكشف فضاء رحبا لا يقطع إبصار اتساعه بين الأرض والسماء سوى أشجار السمر المتناثرة بكثافة متباينة وكنت وسليمان نتراص على كرسي واحد مع السائق داخل سيارة ( أبو شنب) كما يطيب للناس هنا تسميتها.
ربع ساعة ونوصل عند الجماعة قال حمدان طالبا مني تحديدا تحمل هزات الطريق الممتلئ بالمطبات الرملية إدراكا منه بعدم تعودي على مثل هذه الطرق كسليمان رفيقه اللصيق.
– ( عزبتهم ) كانت أقرب لكنهم نقلوها أبعد بحوالي عشرة كيلومترات يقولون إن المرعى هناك أفضل قال سليمان.
الطريق لا يقطع وحدتنا فيه غير سيارات تحمل مسمى إحدى شركات البترول المعروفة وسيارات أخرى تبدو كأنها لمقاولين فرعيين للشركة ذاتها.
وصلناهم قال حمدان حينما تراءت أمام عينيه وعيوننا فيما بعد تجمع لسيارات أغلبها من نفس نوع سيارته (أبو شنب) وقطعان من جمال متفرقة بعضها يجول في المنطقة وأخرى موزعة على أكثر من أربع حظائر.
كان استقبالهم تحت أشجار الغاف يشرح النفس حقا تشعر بأن اشتعال الصباحات الطبيعية تكون هنا. صبح لا يكسر سكونه غير حداء الإبل ونسيم عليل بين فصلي الصيف والشتاء تكون فيه الرمال قد ودعت شهورا من القيظ اللافح الذي يكاد يحولها إلى موقد طبيعي لشواء كل شيء.
خيل إلي لحظتها بأنني أعيش جزءا من الواقعية السحرية.
لم يكف مضيفنا سعيد الردعي عن تكرار عبارات الترحيب بنا مع ابتسامة لم تغب حتى وهو يأمر ولده (علي) بحلب الناقة فكنت أول من أشير إلى علي بتسليمه الطاسة المليئة مع رغوة تكاد تفور خارجها، بعد أن أبو أن يشربو قبلي في إيثار يبدو إنه ليس بغريبا عنهم، لكن في قرارة نفسي كنت أقول لو ثمة من شرب قبلي لحرمني تقززي من تذوق حليب الناقة . فلكي تشرب بهذه الطريقة يتحتم عليك أن تنفخ في الطاسة حتى تبدد الرغوة ثم تشرب.
– الرجال من رعاة الدار لكنه من صغره عايش في مسقط ( قال حمدان وهو يعرف سعيد الردعي والآخرين بي).
أثار انتباهي كلمة ( مدني) على لسان سعيد الردعي بعد ما أخذ صاحبنا سليمان يساومه على إحدى النوق لكزت حمدان ( مدني يعني إيش؟) رد علي وكأنه يستنكر عدم معرفتي: يعني الناقة حامل.
سرعان ما عدت لأربت على ساعده بأناملي بعد أن سمعت منهم كلمة أخرى ( الزمول) يعني إيش؟! يعني ذكور الجمال يالحضري رد حمدان.
وقلت مبتسما تصدق إن كلمة الحضري ما سمعتها من سنين طويلة من أيام ما كان البدو يتوافدون بكثرة على قريتنا أيام القيظ طلبا للتمور التي كانت تجود بها مزارع القرية وبسبب دعاباتنا مع أبنائهم يتم تصغير الحضري إلى حضيري والبدوي إلى بديوي.
التفت الجميع إلى سيارة قادمة تتضح بأنها واحدة من تلك السيارات التابعة لشركة البترول التي صادفنا مثلها في طريقنا.
سأعرف لاحقا بان الرجلين اللذين ترجلا من تلك السيارة ليشاركانا جانبا من قيلولتنا يقتربان من مرحلة التقاعد بعد أن أمضيا 45 عاما من العمل في صحراء تكاد تكون مقفرة.وحينما خرجا من قريتهما التابعة لولاية عبري في مطلع ستينات القرن العشرين ولم يكونا قد تجاوزا الخامسة عشر بعد. وكانا كمن عثر على كنز. فهما لن يضطرا إلى الغياب عن قريتهم أكثر من ثلاثة أسابيع وليس سنوات كحال الكثير من أبناء القرية وسيحصلان على رواتب سخية إضافة إلى مؤونة أبرز ما فيها هو البسكويت يجمعا بأنه كان بالنسبة إليهم في تلك السن ألذ بسكويت أكلاه في حياتهما الماضية وحتى اليوم.
كان ابن سعيد الردعي (مطر) وإخوانه سالم وحمود يهبون حين يتلقون أمرا من أبيهم ناهضين من جلوسهم قفزا كظبي من الظباء التي خيل إلي وجودها متدارية بين الشجيرات المتناثرة أو خلف التلال الرملية قبل أن تبيدها الأسلحة الآلية وقسوة الطبيعة التي زادت قسوتها خلال العقود الأخيرة. وحينما ينادي عليهم أو على الآخرين من رفاقه تكتشف إن كلمة نعم لا تخرج هنا باردة بل كأنها تأكيد استجابة من أفواه جنود في صفوف عسكرية.
حين رأيت أحواض المياه المخصصة لشرب النوق سألت سعيد الردعي من أين تأتون بالماء؟ قال من قريب. حفرت لنا شركة البترول بئرا والحكومة حفرت لنا بئرا كذلك. مال سليمان جهة أذني اليمين ( قريب بدو).
– ماذا تعني قلت هامسا لسليمان؟
– حينما يقول لك البدوي قريب توقع إن المكان أو البئر على بعد سبعين أو ثمانين كيلومترا. وصاحب الجمال لا يشعر بطول المسافات.
– ولكي يبرهن سليمان على كلامه سأل سعيد الردعي : وين حصلت السنة الماضية الناقة الحميراء؟ رد عليه في (مقشن) عند صاحبها.
هالتني المفاجأة وقلت بصوت مرتفع: على بعد سبعمائة كيلومتر!
– رد الردعي: الأماكن ما بعيدة هذا الزمان. أول ما كان عندنا سيارات ونقتفي آثارهن حتى الجازر وحتى الحساء في السعودية نمشي في هذه الصحراء لا مراكز حدود ولا يحزنون.
نهضت من جلستي بينهم منفردا بنفسي على تلة قريبة، حيث بدا مشهدهم من هناك تحت أشجار الغاف الأخضر كالواحة التي يحيط بها أفق غير محدود . . .
مجموعة منهم بدت وكأنها تشعل حراكا في الصورة الماثلة أمام بصري وهم يتبادلون العمل على قدر ضخم يتعالى منه بخار يحمل رائحة لحم الجدي الشهي الذي ذبح بعد وصولنا بقليل ربما تصلني رائحته حيث المكان الذي انزويت فيه وربما أوجدها عقلي الباطن بعد تخيل الرائحة مما دفع بأحاسيس الجوع ُتدحرج قدمي على رمل التل هامسا لحمدان : استعجلهم علشان نروح.
كان سعيد الردعي يدس ربطة من فئة الخمسين ريالا بعد أن اتفق مع سليمان على بيعه للناقة بعد ما تأكد يقينا من إنها من بنات (مصيحان) العريقات في الأصل والنسب.
و كانت السحب التي حملت أمل الرش تنزاح بانزياح الشمس من كبد السماء منحدرة باتجاه الغرب حينما ودعنا بامتنان سعيد الردعي ورفاقه عائدين للتراص داخل كبينة سيارة (أبو شنب) بينما تم إتقان تقييد الناقة بالحبال ورفعها في مشحن سيارتنا الخلفي بشكل متقن أيضا.
وقبل منتصف الطريق كانت تساؤلات سليمان حول مبلغ الألف والخمسمائة ريال التي أنقدها سعيد الردعي ثمنا للناقة تستحقه أم مبالغا فيها تتوقف بعد إقناع طويل مارسه حمدان وتدخلت فيه أيضا رغم جهلي بعالم الجمال أو عالمهم بصورة أدق. لففت رأسي متطلعا إلى الناقة التي تجلس القرفصاء خلف ظهورنا فبدا لي أن روحها ممدودة إلى حيث كانت وكأنها تطلق بكاء مكتوما على وداع قسري أو فراق نهائي .
قاص من عُمان