التقى بها في عربة الترام.. لمست كتفه وعندما فتح عينيه قالت: "هذا موقفك ". كان ذلك هو موقفها ايضا. توقفت عربة الترام، شق طريقه الى الباب ونزل بعدها، كانت صبية في الخامسة عشرة لا اكثر. خمن هذا من من وجهها المستدير عندما التفتت اليه وهي ترمش بعينيها، متوقعة ان يبدي لها امتنانه، قال: "شكرا، كان من الممكن ان يفوتني النزول في الموقف ". شعر انها تتوقع منه اكثر من ذلك، اضاف: "كان يوما محموما، وكنت متعبا، وقد اسديت لي معروفا بإيقاظي، لاني انتظر مكالمة هاتفية في الساعة الثامنة ".
بدت راضية، سارا معا عبر الشارع وهما ينظران جانبيا نحو سيارة تقترب منهما بسرعة، كان الثلج يتساقط، لاحظ ان مساحات زجاج السيارة كانت تعمل.
عندما يسقط ثلج ناعم جدا كالزغب كما لو انهم ينتفون عصافير ثلج نادرة في الاعالي، لا يرغب المرء في العودة الى بيته، قال في سره وهو يرغب المرء في العودة الى بيته، قال في سره وهو يلتفت نحوها: "بعد المكالمة الهاتفية سأخرج مجددا". تساءل عما يمكن ان يقوله لها، لان الصمت بينها غدا محرجا. لم تكن لديه أدنى فكرة عما يجوز قوله لها وعما لا يجوز. كان يفكر بذلك عندما قالت له بوضوح: "انا أعرفك بالصدفة ". قال وقد فوجىء بالامر: صحيح ؟ كيف حصل ذلك ؟
– أنت تسكن في البناء 662 وأنا أسكن في البناء 164 وقد التقينا قبل أسبوعين في الترام إلا إنك لم تنتبه لي طبعا.
– "غريب !".
– "ما الغريب في الامر؟ انتم الكبار، لا تعيرون اهتمامكم الا للكبار، أليس كذلك ؟"
سارا معا بعض الوقت وهي تنظر امامها مباشرة قالت:
– "ومع ذلك، انت لم تقل لي اسمك، حتى الآن ؟"
– "هل يفترض بك معرفة اسمي؟"
– نعم هل فوجئت بذلك ؟ "بعض الناس يعتقدون، لسبب ما، انك اذا اردت معرفة اسم شخص ما، فلابد ان تكون لديك دوافع خفية ".
قال: "طيب، فهمت اذا كان من الضروري ان تعرف اسمي فهو
رودولف ".
– ضحكت
– "ما المضحك في الامر؟!".
ضحكت اكثر، توقف وحملق فيها متفحصا.
– "رودولف !"
دورت شفتيها واستغرقت في الضحك من جديد.
-"رودولف ! كنت اظن ان مثل هذا الاسم لا يمكن اطلاقه الا على فيل في حديقة الحيوان ". -"ماذا؟"
لمست كمه وقالت: "لا تغضب ! ولكنه اسم مضحك حقا، ماذا استطيع ان افعل اذا كان اسمك مضحكا؟!"
شعر بالاستفزاز قال: "انت مجرد فتاة وقحة: كم عمرك ؟!"
– "ستة عشر عاما".
– "وانا ثمانية وعشرون ".
ضحكت مجددا وهي تنظر اليه من اسفا.. سألها: "وما اسمك انت ؟"
-"اسمي يو".
جاء العقاب في الحال، فانفجر يضحك وهو يترنح ال الامام والخلف. نظر اليها مجددا ثم انطلق في الضحك. وقفت تنظر حولها، وعندما هدأ قالت بلهجة استنفزازية "هل تجد اسمي مضحكا؟!
انا لا اوافقك الرأي "يو اسم مثل غيره من الاسماء".
انحنى نحوها مبتسما.
. "انا آسف، لقد جعلني اضحك حقا! بهذا ؟نكون قد تعادلنا.
صح ؟"
هزت رأسها. وصلا الى بنايتها اولا وكانت بنايته هي التالية، وقفت امام المدخل وسألته: "ما هو رقم هاتفك ؟" قال: "لست بحاجة لان تعرفيه ".
– "خائف ؟"
– "لا، ليس الامر كذلك ".
– "انتم الكبار مجرد قطط مذعورة !"
خلعت قفازها مدت له يدها الصغيرة، كانت باردة وهادئة،
– "طيب، هيا اركضي الى البيت يايو!"
ضحك مجددا. وقفت امام الباب.
– "هل ستعرفني عندما نلتقي في الترام ثانية ؟"
– "نعم سأعرفك بالتأكيد".
بعد يومين سافر في عمل الى الشمال ولم يعد الا بعد اسبوعين. في المدينة كان شذا الربيع النفاذ قد بات محسوسا، اذ نفضت المدينة عن نفسها قتامة الشتاء، وانعدام الرؤية كما ينفض الغبار. وبعد انقشاع السديم الشمالي، بدا كل شيء هنا اكثر اشراقا واكثر ترجيعا للصدى، بما في ذلك عربات الترام.
في البيت، كان اول ما قالته له زوجته تقريبا هو:
سألها بتعب ولا مبالاة: "اية صبية ؟".
– "ومن اين لي ان اعلم ! اعتقد انك انت من يجب ان يعرف ذلك. لقد بدأت تثير اعصابي!"
ابتسم بقلق:"شيء مضحك !"
كان يستحم حينما رن جرس الهاتف، وقد استطاع عبر الباب ان يسمع زوجته تجيب: "نعم، لقد عاد. لكنه في الحمام الآن. اتصلي لاحقا من فضلك ".
كان يستعد للنوم عندما رن جرس الهاتف من جديد، اجاب: "نعم ؟" سمع صوتا سعيدا عبر سماعة الهاتف: "مرحبا يا رودي! اذن فقد عدت:" قال بلهجة حذرة: "ألو، من المتكلم ؟".
– "لم تعرفني يا رودي! عيب عليك. هذه انا.. يو!"
استدرك فورا وهو يضحك رغم ارادته: "يو؟.. مرحبا! هل وجدت اسما اكثر ملاءمة لي !"
– "نعم.. هل يعجبك ؟"
. "كانوا ينادونني بهذا الاسم عندما كنت في مثل سنك ".
– "لا تتظاهر ارجوك !"
– أنا لا أتظاهر ماذا تقصدين ؟
خيم الصمت عليهما وكان هو البادىء بكسره: "طيب، لماذا كنت تتصلين بي يا يو؟"
– "رودي، هل هي زوجتك ؟"
– "نعم ".
– "لماذا لم تقل لي انك متزوج ؟"
اجابها ساخرا: "سامحيني من فضلك ! لم اكن اعلم ان هذا الامر يهمك !"
– "طبعا يهمني! هل تحبها، او شيء من هذا؟"
اجابها: "اسمعي يايو، ارجو منك الا تتصلي بي ثانية ".
غنت في المرسلة "قط.. مذ.. عو…ر!" اردفت قائلة 0 "لكن، لا تسيء فهمي يا رودي! اذا كنت تريد ان تستمر في العيش معها فأهلا وسهلا، انا لست ضد هذا. لكنه لا يصح، الى حد ما، ان تطلب مني عدم الاتصال بك. لنفترض انه كان لابد من الاتصال بك لامر هام !"
– "امر هام مثل ماذا؟"
اجابت مظهرة سرعة بديهتها: "طيب، مثل مشكلة في مسائل الرياضيات.. كمسألة الماء الذي يضخ من خزان الى خزان، كما تعلم. في مثل هذه الحالة يمكنني الاتصال بك، أليس كذلك ؟! ويا رودي لا تكن خائفا منها! نحن اثنان وهي بمفردها:"
سأل: "عمن تتحدثين ؟"
– "عمن اتحدث ! عن زوجتك طبعا:".. "وداعا يا يو!"
-"هل أنت متعب ؟"
– "نعم ".
– "طيب، اذن صافح مخلبي واذهب الى الفراش.. ويا رودي.. لا داعي لان تكلمها حتى:"
ضحك: "طيب، لن افعل !"
التفت الى زوجته وهو مايزال يبتسم: "كانت هذه يو. يو هو اسمها.. اسم مضحك أليس كذلك ؟"
حقا".
– "بالتأكيد". قالت ذلك ثم انتظرت ماذا سيقول.
– "لم تستطع حل مسألة تتعلق بخزاني ماء. انها في الصف السابع او الثامن.. لا اذكر"
– "هل ساعدتها في حل المسألة ؟"
اجاب: "لا، لقد نسيت كل شيء. ومسائل خزانات المياه معقدة
***
في الصباح رن جرس الهاتف، كان الفجر ينبلج، في الواقع كان الظلام ما يزال مخيما وكانت المدينة برمتها ما تزال مستغرقة في النوم، رفع رودولف رأسه عن المخدة، ونظر الى صف الشقق المقابلة، لم تكن هناك اية نافذة مضاءة. عدا اضوية المداخل التي كانت تلمع مثل انابيب الارغن المغلفة بالنيكل، استمر الهاتف في الرنين، وبينما كان رودولف يمد يده لالتقاط السماعة، ألقى نظرة على ساعة الحائه، كانت الخامسة والنصف. قال في السماعة بغضب: "الو"!
– "اسمع يا رودي!.."
انفجر صارخا: "يو! ما هذا التوقيت الجهنمي؟!"
قاطعته: "اسمع يا رودي، لا تغضب ! فانت لا تعرف ما الذي
سألها مهدئا من اهتياجها: "طيب ! ما الذي حدث !"
اعلنت برزانة: "رودي، انت لم تعد رودي بعد الآن. انت رودولفيو. رودلوف.. يو! عظيم، أليس كذلك ؟ لقد ابتكرت هذا الاسم منذ قليل. رودولف زائد يو يساوي رودولفيو! كأنه اسم ايطالي ! هيا قله !"
قال بلهجة يمتزج فيها الغضب باليأس: "رودولفيو:"
– "صح ! الآن صار لنا نحن الاثنين اسم واحد: نحن كيان واحد لا يتجزأ، مثل روميو وجولييت. انت رودولفيو، وانا رودولفيو:"
قال مستعيدا لهجته العادية: "اسمعي، في المرة القادمة، هل لك ان تختاري ساعة مناسبة اكثر من هذه، عندما تودين ان تطلقي علي "اسما جديدا".
– "الا ترى، لم يكن بمقدوري ان انتظر اكثر، هذا اول شيء، الشيء الثاني هو ان موعد استيقاظك قد حان، تذكر ياروءولفيو، في السابعة والنصف سأكون بانتظارك على محطة الترام ".
– "لن اركب الترام اليوم ".
– "ولم لا؟"
– "عندي عطلة ".
– "عطلة ماذا؟"
– "عطلة من العمل، لن اذهب الى الشغل اليوم ". قالت: "وانا! ماذا بشأني؟"
– "لا اعرف، اذهبي الى المدرسة ! هذا كل ما هناك !"
_ هل زوجتك في عطلة ايضا؟"
_ "لا، ليست في عطلة ".
– "طيب، اذن فالامر ليس سيئا الى هذا الحد، تذكر فقط ان اسمنا الآن هو رودولفيو".
_ "انا في غاية السعادة !"
وضع سماعة الهاتف وهو يشتم دونما حدة. ذهب لوضع
الابريق على الموقد اذ لم يكن بمقدوره العودة الى النوم الآن، كما ان ثلاث نوافذ في الشقق المقابلة قد اضيئت
***
عند الظهر قرع الباب، كان يمسح الارض، ففتح الباب وهو يحمل الخرقة المبللة بيده، كان بمقدوره رميها في طريقه الى الباب، لكنه لم يفعل لسبب ما، كانت يو.
_ "مرحبا رودولفيو!"
قال وقد فوجىء بها: هاه ! هذه انت ! ماذا حدث ؟!"
– "اخذت اجازة انا الاخرى".
كان وجهها خاليا من اي اثر لوخز الضمير، كوجه قديس. قال بشجاعة: "هكذا اذن ! تريدين ان تلعبي دور الهاربة من الدراسة: لا بأس: ما دمت هنا فادخلي ! سوف انتهي من مسح الارض خلال لحظة ".
تقدمت وجلست على كرسي ذي ذراعين بالقرب من النافذة، دون ان تخلع معطفها، واخذت تراقبه وهو يدفع الخرقة المبللة الى الامام والخلف على ارض الغرفة. بعد دقيقة قالت معلنة:"رودولفيو اعتقد انك لست سعيدا في حياتك الزوجية ".
استقام قائلا: "وما الذي يجعلك تعتقدين ذلك ؟".
_ "من السهل ان يلاحظ المرء ذلك، فانت مثلا لا تستمتع بمسح ارضية الغرفة. والناس السعداء لا يقومون بالعمل كما تقوم انت به !" اجابها وهو يبتسم:"لا تخلطي الامور، ثم من الافضل ان تخلعي معطفك ".
قالت وهي تنظر خارج النافذة: "انا مرعوبة منك !"
_ "ولماذا؟"
-"طيب.. انت رجل.. كما تعلم:"
ضحك: "هكذا الامر اذن ! كيف جرؤت على المجيء الى هنا اساسا:"
-"يعني مع ذلك نحن، في النهاية، كلانا رودولفيو". اجاب: "هاه!أنا أنسى هذا دائما. طبعا، هذا الامر يرتب على بعض الالتزامات ؟"
استغرقت في الصمت، وبينما كان هو في المطبخ يقرقع بالسطل، جلست هي بهدوء. وعندما عاد وجدها قد علقت معطفها على ظهر الكرسي وقد بدت على وجهها علائم التفكير والحزن.
قالت: "رودولفيو، لقد بكيت اليوم:"
– "وما الذي ابكاك ؟"
– "اختي الكبرى اقامت الدنيا واقعدتها لانني قررت ان اعطل اليوم ".
– "اعتقد انها كانت على حق:"
– "لا يارودولفيو لم تكن على حق !"
نهضت عن الكرسي ووقفت بجوار النافذة.
– "الا ترى انه يجب على المرء ان يفعل ذلك ولو مرة واحدة في العمر؟ أنت لا تستطيع ان تتصور مدى سعادتي لانني اتكلم معك ". استغرقت في الصمت من جديد. نظر اليها بتمعن. كان بمقدوره رؤية بروز نهديها المرتعشين من تحت الثوب، كانا كعشي عصفورين صغيرين خطر بباله انهما بعد سنة سيصبحان مكورين وجميلين، شعر بالحزن وهو يفكر بها، من المفترض في مثل هذا السن ان يكون لها فتاها الخاص بها، اقترب منها امسكها من كتفيها، قال وهو يبتسم:
"سيكون كل شيء على ما يوام ".
_ "صحيح يارودولفيو"
_"صحيح ".
قالت: "انا اصدقك !"
كان يهم بالابتعاد عنها عندما قالت: "رودولفيو، لماذا تزوجت باكرا هكذا؟ سنتان اخريان وكنت تزوجتك انا".
قال: "لا تكوني مستعجلة هكذا! ذات يوم ستتزوجين شابا في منتهى "!
_ "انا أتمنى ان اتزوجك انت !"
_ "ستتزوجين من هو افضل هي!"
لوت حنكها وقالت دونما اقتناع: "هل تظن انه من الممكن وجود من هو افضل منك ؟"
– "طبعا، هناك من هو افضل مني بألف مرة:" تنهدت باكتئاب: "ولكنه لن يكون انت ".
اقترح قائلا: "دعينا نشرب بعض الشاي".
ذهب الى المطبخ ووضع الابريق على الموقد، نادته: "رودولفيو". عندما عاد وجدها واقفة عند رف الكتب.
_ "رودولفيو. نحن اصحاب احل اسم. ولا واحد من بين كل هؤلا
_ الكتاب لديه اسم احل من اسمنا، ربما ما عدا هذا، سانت اكزوبري، اسمه جميل أليس كذلك ؟"
اجابها:"نعم جميل. اذا كنت لم تقرئيا، خذيه معك..دعينا نتفق: لا مزيد من العطل. اتفقنا؟".
تشرع في ارتداء معطفها، قال وقد تذكر فجأة: ماذا عن الشاي:" ارتسمت على وجهها ابتسامة حزينة: "رودولفيو، اظن انني سأنصرف: لابأس، فقط، لا تخبر زوجتك انني جئت الى هنا!: اتقتنا رودولفيو؟"
وعدها قائلا: "طيب ".
اثر انصرافها شعر بالحزن، ثم امتلأ بشعور كئيب لم يستطع ان يحدده، مع ذلك احس بوجوده، لبس ثيابه وخرج.
حل الربيع فجأة دون سابق انذار، وخلال ايام قليلة اصبح الناس اكثر لطفا وبدت لهم هذه الايام كمرحلة انتقالية بين التوقع والتحقق، لان احلامهم الربيعية تنبأت لهم بالحب والسعادة. في مساء احد تلك الايام كان رودولف عائدا الى بيته عندما استوقفته امرأة متوسطة العمر، قائلة: "انا ام يو. ارجوك اعذرني. اليس اسمك
رودولفيو؟"
اجابها: "نعم ".. "انا اعرفك من خلال ابنتي، لقد بدأت تتكلم عنك كثيرا في الآونة الاخيرة، الا انني اود ان…،" لم تكمل الام عبارتها، فادرك انها تجد صعوبة في السؤال عما لابد ان تسأل عنه كأم. قال لها: "ليس هناك اي داع للقلق، يو وانا اصدقاء جيدون، ولن ينجم عن هذا اي سوء".
غمغمت بسرعة واضطراب: "طبعا، طبعا، لكن يو فتاة طائشة لا تسمه الكلام مطلقا. فاذا كنت قادرا ان تؤثر عليها.. انت ترى انني خائفة
عليها، فهي في عمر لا استطيع معه إلا أن اخاف عليها. قد ترتكب حماقة
ما! وانا قلقة عليها ليس لديها صديقات من بنات صفها.. ولا من اولاد وبنات جيلها عموما".
– "هذا شيء غير جيد".
– "اعلم ذلك. يبدو لي ان لك بعض التأثير عليها.."
وعدها قائلا: "طيب، سوف اكلمها، بصراحة، انا اعتقد ان يو فتاة لطيفة ولا داعي للقلق بشأنها، مع ذلك سأكلمها، وسيكون كل شيء على ما
يوام ".
***
قرر الا يؤجل الامر وان يتصل بها حالا، خاصة وان زوجته لم تكن في البيت.
_ "رودولفيو!"
كان بمقدوره ان يشعر انها كانت في غاية السعادة لسماع صوته.
_ "انا سعيدة جدا لاتصالك، لقد كنت ابكي ثانية يارودولفيو!"
اجابها: "يجب الا تبكي كثيرا"
– "كنت ابكي على (الاميرالصغير-*، لقد شعرت بالحزن عليه، صحيح انه كان هنا على الارض، أليس كذلك ؟"
_ "اعتقد ذلك ".
_ "انا اعتقد ذلك ايضا. نحن لم نعلم بوجوده ابدا
_أليس هذا فظيعا! ولولا اكزوبري لما علمنا بوجوده على الاطلاق ! ان اكزوبري يستحق هذا الاسم الجميل كاسمنا!"
. "صحيح !"
_ شيء آخر كنت افكر به، شيء، جيد ان الامير الصغير بقي نفسه ولم يتغير، فمن المريع ان يتحول واحد مثله الى مخلوق عادي. اذ عندنا الآن اكثر مما ينبغي من الناس العاديين !"
_ "لست ادري!"
_ "اما انا فواثقة من ذلك ".
_ هل قرأت (ارض البشر)* ؟
– "قرأت مجموعة اعماله كلها. اعتقد ان اكزوبري، كاتب حكيم جدا بل ان حكمته ولطفه مرعبان بشكل ما. هل تذكر العبد (بارك ) الذي اعطره مالا بعد ان اعتقوه فأنفق المال كله لشراء احذية. لبعض الاولاد الحفاة ؟ اجاب: "نعم، وهل تذكرين (بونافوس ) الذي اعتاد ان يسطو على العرب وينهبهم، فكانوا يكرهونه، ويحبونا في نفس الوقت ".
– "يحبونه، لان الصحراء من دونه ستكون عادية جدا، اما حضوره فيجعلها خطرة وشاعرية ".
قال: "شيء جيد أن تفهمي هذا كله!"
– "رودولفيو.."
غرقت في الصمت فاجابها بعد برهة: "نعم ما الامر؟" ظلت مستغرقة في الصمت فشعر بقلق غامض: قال: "تعالي الى منزلي، انا وحدي".
تقدمت نحو الكرسي وهي تنظر حولها باحتراس.. سألها: "لماذا انت
قلقة هكذا؟"
– "هل هي خارج المنزل حقا؟"
_ "زوجتي؟"
_ "ومن غيرها!"
_ "نعم هي ليست هنا".
_ "انها عجوز شكسة !"
_ "ماذا؟"
_ "عجوز شكسة ! تلك هي!"
_ "من اين جئت بهذه العبارة ؟"
_ "في اللغة الروسية العظيمة كلها لا توجد عبارة تناسبها اكثر من هذه ".
_ "يو يجب الا تقولي مثل هذه الاشياء!"
_انا رودولفيو، لايو! في ذلك اليوم اتصلت بك، فردت هي، هل تعرف ماذا قالت لي ؟ قالت: اذا كنت تتصلين بشأن مسألة خزانات الماء فمن الافضل ان تتصلي باستاذ الرياضيات ! اظن انها قد بدأت تغار!".
_ "أنا لا أظن ذلك ".
_رودولفيو، الست انا افضل منها؟ صحيح انني لم أتشكل بعد لكن هذا سيحدث ".
ابتسم وهز رأسه.
_ "اذن انت موافق. اظن ان الوقت قد حان كي تطلقها!"
قال بحدة: "كفي عن هذا الهراء! يبدو انني اسمح لك بالتمادي كثيرا!"
_ "لانك تحبني!"
_ "لا، نحن اصدقاء".
جلست صامتة مقطبة الجبين، كان واضحا ان هذا لن يدوم طويلا، سألته بعد فترة: "ما اسمها؟".
_ "كلوديا".
_ "اسم معتبر!"
ثار غضبه: "كفي عن ذلك !، مفهوم:"
نهضت، اغمضت عينيها للحظة وقالت فجأة: "رودولفيو، انا مجنونة، ارجوك سامحني! انا لم اقصد..!"
قاطعها محذرا: "رجاء لا اريد اي بكاء!"
_لا، لن ابكي!"
اقتربت لتقف في مواجهة النافذة، قالت: "رودولفيو، فلنعقد اتفاقا، انا لم آت الى بيتك اليوم، ولم اقل شيئا، اتفقنا؟"
_ "طيب !"
_ "اعتبر اني قلت لك وداعا على الهاتف " خرجت، بعد خمس دقائق رن جرس الهاتف: "وداعا يارودولفيو".
_ "وداعا".
انتظر ان تقول شيئا الا انها اغلقت السماعة.
***
مضت فترة طويلة دون ان يردها او ان تتصل به، فقد غادر المدينة مجددا ولم يعد الا في شهر أيار، بعد ان كان الربيع قد قام بقلب النظام الشمسي لصالحه. في تلك الفترة كان غارقا في العمل لذا كان يؤجل الاتصال بها كلما تذكرها: "سوف اتصل بها غدا او بعد بغد" لكنه لم يتصل بها ابدا.
واخيرا التقى بها صدفة في أحدى عربات الترام، راها هو اولا فبدأ يشق طريقه نحوها بنفاد صبر خشية ان تنزل من الترام قبل ان يصل اليها. لانه ان فعلت، لن تكون لديا الشجاعة للقفز في اثرها، لكنها لم تنزل، فوجىء بنفسه عندما اكتشف كم كان سعيدا لعدم نزولها، وربما كان ذلك اكثر مما كان سيشعر به، لو انه كان ينظر الى ما بينهما على انه مجرد صداقة. قال وهو يلمس كتفها: "مرحبا يا يو" استدارت مجفلة، وعندما رأته بدت سعيدة ومرتبكة، ثم هزت رأسها مصححة نداءه.
اصدقاء أليس كذلك ؟"
_أسمى رودولفيو، لا يو! تماما كما من قبل. نحن ما نزال
_ طبعا يا رودولفيو! "
_ هل سافرت ؟"
– "نعم ".
_ "اتصلت بك مرة لكنك لم تكن موجوداط.
– "رجعت منذ حوالي اسبوع ".
كان الترام مزدحما، وكان الناس يدفعونهما بالمناكب بشكل مستمر لذا كان عليهما ان يقفا متقاربين تماما، كان رأسها يلامس ذقنه، وعندما كانت ترفع رأسها لتكلمه ويحني رأسه ليستمع اليها كان عليه ان ينظر الى البعيد، لانهما كانا متقاربين بشكل محرج.
سألته: "رودولفيو، هل لي ان ابوح لك بشيء؟"
– "تفضلي ".
رفعت رأسها فأصبح وجهها قريبا من وجهه لدرجة تمنى معها ان يطبق عينيه.
– كنت وحيدة جدا من دونك يارودولفيو"..
– قال: "يا لك من فتاة بلهاء!"
تنهدت: "اعرف، ولكنني لا اشتاق لرفقة الاولاد! ولا أرى فيهم اي نفع لي في هذه الدنيا!"
توقف الترام ونزلا.
_ "هل انت متلهف للعودة الى كلودياك ؟"
_ "لا، تعالي نتمشى".
انعطفا باتجاه النهر، حيث توجد قطعة ارض بائرة، كانت الارض خالية من الممرات فاضطرا للقفز فوق بقع العشب واكوام الدبش، امسكها من يدها ليساعدها في السير، كانت صامتة على غير عادتها، لكنه شعر انها ممتلئة بعاطفة قوية جارفة، لا يمكن السيطرة عليها.
اقتربا من ضفة النهر، كانا ما يزالان متماسكين بالايدي.. نظرت الى النهر، ثم الى المدى الممتد خلفه، ثم نظرت الى النهر مجددا، ثم قالت غير قادرة على كبح نفسها: "لم يسبق ان قبلني احد. "توقف وقبلها من خدها".
_ "لا اقصد من الشفتين "
أرغم نفسه على ان يقول لها وهو يتألم: "القبلة من الشفتين لا تكون الا بين الاشخاص الحميمين جدا".
حملقت فيه فشعر بالرعب، وفي اللحظة التالية ادرك
_ لم يشعر، بل ادرك
_ انها قد صفعته صفعة حقيقية على وجهه، ثم اندفعت عائدة عبر قطعة الارض البور المبقعة بالعشب، بينما وقف هو غير قادر على استجماع شجاعته لمناداتها او اللحاق بها، وقد ظل واقفا هكذا لوقت طويل..
ليلة السبت، وفي ساعة مبكرة من صباح الاحد اتصلت أمها به
هاتفيا، قالت متلعثمة وبصرت مرتجف: "سامحنى ارجوك لاني أخرجتك من الفراش…"
أجاب: "ماذا جرى؟!"
_ "يو لم تعد الليلة الى المنزل !"
كان يتوجب عليه قول شيء ما، لكنه التزم الصمت.
_ "نكاد نفقد عقولنا، ونحن لا نعرف ماذا يجب ان نفعل ! ولا من اين يمكن ان نبدأ.. هذه اول مرة…"
اخيرا قال: "اولا هدئي نفسك، ربما امضت الليلة عند أحدى رفيقاتها. ان لم ترجع خلال ساعتين سنبدأ البحث، لكن ارجو منك ان تهدئي نفسك ! ساتصل بعد ساعتين ".
وضع السماعة، وبعد ان فكر مليا قال مخاطبا نفسه: انت ايضا عليك ان تهدأ! ربما امضت الليلة عند أحدى رفيقاتها. "لكنه اكتشف ان الهدوء بعيد المنال. بالعكس، لقد بدأ يشعر برعشة في اعصابه، ولكي يوقفها ذهب الى غرفة المستودع وهو يصفر، وبدأ ينقب بين كتبه الدراسية عن كتاب الجبر. وقد تبين له ان ذلك وسيلة ناجعة للالهاء.
كان الهاتف ما يزال صامتا. اغلق رودولف باب المطبخ خلفه، ثم بدأ يقلب صفحات الكتاب. تلك هي المسألة: "إذا ضخخنا الماء من خزان الى آخر لمدة ساعتين.." أدرن جرس الهاتف. قالت ام يو: "لقد عادت…" وعندما لم تستطع تمالك نفسها انخرطت في البكاء. وقف يصغي.: "ارجو منك ان تأتي الى بيتنا" بكت لبعض الوقت ايضا ثم اضافت: طلقد حدث لها شيء ما!"
***
دخل دون استئذان، وبعد ان خلع معطف المطر، قادته ام يو الى غرفتها، كانت جالسة عن السرير، جامعة ساقيها تحتها، وهي تحدق عبر النافذة. ناداها: "رودولفيو".
اجابته ووجهها يمور بالقرف: "يكفي! انت لست رودولفيو! انت مجرد رودولف ! مجرد
رودولف عادي جدا: رودولف. هل تفهم ؟!
كانت الضربة قاسية جدا لدرجة انها بدأت تؤلمه في كل مكان من جسده، مع ذلك ارغم نفسه على البقاء، تقدم، واتكأ على افريز النافذة. كانت ما تزال تلوب الى الامام والخلف، محدقة خلفه في فراغ النافذة، ونوابض السرير تحرق تحتها بنعومة.
قال بلهجة مصالحة: "طيب.. قولي لي اين كنت ؟!"
قالت بضجر دون ان تلتفت اليه: "اذهب الى الجحيم !" هز رأسه، تناول معطفه عن المشجب، ودون ان يجيب على عيني ام يو المتسائلتين بصمت، هبط الدرج، وذهب مباشرة الى الجحيم !"
كان يوم الاحد قد بدأ لتوه، وكان عدد الناس في الشارع قليلا، اجتاز بقعة الارض البور، وانحدر باتجاه النهر، وفجأة سأل نفسه: "ترى الى اين يمكن ان اذهب ".
***
الكاتب: فالنتين راسبو تين، كاتب سيبيري من مواليد 1937 اشتهر بعد صدور روايته (نقود لماريا) 1997. وهذه القصة من مجموعة له بعنوان (حياة وحب ).
المترجم: حسن م. يوسف، كاتب سوري من مواليد 1948، يكتب القصة والسيناريو ويعمل في الصحافة الثقافية السورية.
قصة: فالنتين راسبوتين
ترجمة: حسن م. يوسف (كاتب من سوريا)