تراجع الماء فارتفعت الرمال ، وملأت الفضاء آلاف المخور المبعثرة ، صغيرة عند الشاطيء، كبيرة كما اقترعت من خط الأفق ، تحوط بها، وتنبت من قلبها، نباتات غريبة ، وتزحف بينها، وحولها الأسماك عديدة الألوان والأشكال مصابة بكهرباء شيطانية ، في الوقت الذي انتصبت فيه في أكثر من موضع ء أعمدة رومانية عليها نقوش ماحلة حروفها التي لم تعد بارزة. كما ظهرت من بعيد بقايا سفن قديمة سوداء أخشابها زلقة نمت فوقها الطحالب المائية.
لم يقف أي شخص على الشاطيء صارخا. لم تنصب الدهشة خيمتها.على وجه أحد. هو وحده الذي رأى المصطافون يجلسون تحت الشماسي ، أمامهم ، تحت أرجلهم في الغالب ، الأطفال يحفرون حفرا صغيرة ، يملأ ونها بالماء الذي ينقلونه اليها بالدلاء البلاستيكية. يدخل الأطفال الى الماء فتجري خلفهم عيون الآباء والأمهات ، والبحر هاديء ينسطح ماؤه باتساع مريح للنظر، ويتحرك حركة مخملية عذبة ، وفيه توزع الشباب والمفتيات والصبية جماعات صغيرة تلعب الكرة بسلاسة أو تتسابق في السباحة وطول النفس.
فوق الجميع فضاء، أبيض واسع ، تصعد فيه الشمس قوية الى منتصف السماء، فتزيد من اتساع الكون وبهائه ، والمرأة الشابة الجميلة التي ئرتدي المفستان الليموني الخفيف الفضفاض الكثير الدانتيلا عند الذيل وحول الصدر الواسع والكمين القصيرين الواسعين ، والتي تسرع حافية يسبقها ويحيط بها الأطفال ، قد ابتعدت الآن مع امتداد الشاطيء ناحية اليسار. لقد قال لزوجته حين رأى المرأة تمر من أمامه. لا بزال الوقت مبكرا لضياع الأطفال.
لكن زوجته أخرجت من حقيبتها المعلقة على جانب ه الشيزلونج ه التي تجلس فوقه ، نظار تها السوداء.
الشمس ليست أمامهما. الشمسية الكبيرة فوقهما والظل يحيط بهما. يعرف أنها تغالب الدمع. أحس بحاجة الى النهوض من مكانه قليلا.
في الليلة الأولى لوصولهما منذ أسبوع ؟ عضه الجوع في وقت متأخر كان قد انشغل طويلا مع زوجته في تنظيف الشقة المغلقة طول العام. نامت هي حين انتصف الليل ، وظل هو كعادته لا يستطيع النوم حين يغير مكانه إلا بعد مضي ليلة ، وأحيانا ليلتين ، في المكان الجديد.
لابد أن المخبز الافرنجي في الشارع التسريب لا يزال موجودا. قال لنفسه تلك الليلة ، وغادر الشقة مهدوء. لم يكن أحد في الشارع وجد المخبز مفلقا فمشى الى مخبز آخر. لم يقابله أحد أيضا، على غير العادة في ليالي الصيف ، وعلى غير العادة أيضا هبت نسمة باردة للحظات. لماذا حين يشيع البرد يصبح الكون عميقا؟ وسمع ضحكة صاخبة تأتي من أحدى الشقق العالية لصوت نسائي بديع وسمع صرخة تمر من حوله ، ثم سمع هدير أقدام تجري.
راه خارجا من زقاق مظلم ، وخلفا الآخر يحمل سكينا طويلة تلمع في يده ، ثم سمع صرخة مكتومة ، ولاحظ أن الشارع الكبير لا تضي ء كل مصابيحه. انهار الأول فوق الأرض ، اندفع الآخر الى زقاق جانبي. استدار هو بلا خبز تمدد جوار زوجته مرهقا ونام على غير عادته في مكان جديد.
ـ 2 ـ
قبل أن ينهض من جوار زوجته تذكر أنه قرأ يوما عن جزيرة في أحد المحيطات تظهر ستة أشهر ثم تغيب ستة أشهر بكل ما فيها، ثم تعود الى الظهور.
لقد حاول ، لا يدري لماذا، أكثر من مرة اليوم ، أن يسترق السمع لحديث المرذتين اللتين تجلسان تحت الشمسية المجاورة ، ولم يفلح في التقاط كمة مما تقولان. تتحدثان بسرعة وخماس وصوت خفيض ! هذه موهبة لم يصادفها من قبل. اكتفى بالفرجة ، خلسة ، على الراحة والسعادة التي تنطلق من وجهيهما حين تضحكان بين لحظة وأخرى، ومتابعة نظراتهما الى الماء، حيث ثلاث فتيات جميلات تلعبن الكرة ووسطهن يتحرك في حيرة صبي يحاول التقاط الكرة التي يتقاذفنها بينهن فيحضكن من حيرته وعذابه.
الفتيات المراهقات ترتدين المايوهات ، وتبدو أجسادهن اللامعة قوية لدنة متماسكة مثيرة وشهية لكهل مثله. ولأنهن تقفن في الماء قريبا من الشاطيء، بدت سيقانهن القوية مثل أعمدة مرمرية. لكنه كان قد نهض ووجد نفسا يمشي الى بائع الآيس كريم الذي لم يكن أمامه أحد.
– لوليتا.
هكذا هتف نظر اليه الرجل في استغراب فاتحا فمه بابتسامة واسعة مظهرا أسنانا غير منتظمة. أدرك أن هذا النوع الجديدهن الآيس كريم ، الذي تملأ الاعلانات عنه شاشة ا التليفزيون طوال اليوم ، هو نوع مخصص للاطفال. ولم يتراجع. فكر هل اكتهل الى هذا الحد؟ وهل يكون الرجل يعرف شيئا عن لوليتا؟ لم يتراجع. تناول قطعة الآيس كريم المتجمدة في الانبوب البلاستيكي، وطلب قطعة أخرى، ثم عاد الى زوجته باسما. قبل أن يصل اليها أعطى القطعتين لأول طفلين قابلهما. أمام زوجته وقف وسألها.
– ألم تنزلي البحر اليوم ؟
– ربما آخر النهار.
– لكنك دائما تحبين النزول قبل الظهر.
ـ كأن هذا في العام الماضي.
ابتسم وقال :
ـ حقا نحن في عام آخر الآن وعلينا أن نغير عاداتنا.
كانت تعرف انه يغيظها بتعليقه ، وكان يعرف أنها تعرف ذلك فأسرع بالنزول الى الماء. غطس غطسا طويلا. وقف ينظر اليها كانت طول الاسبوع ،وحتى أمس تنزل قبل الظهر. راها قد خلعت نظار تها السوداء فلمعت من بعيد عيناها الزرقاوان… كان حلمه وهو صفير أن يتزوج من شقراء. ها هو قد تزوج من شقراء زرقاء العينين أيضا.
أدرك أنه يقف في الماء الذي راه منذ قليل وقد تراجع حتى الأفق. ليس هناك أسماك تحته أو بين قدميه. لا أعمدة رومانية. لا مخور ولا سفن. تذكر القبيلة التي قصدت بلادالمغرب فمشى أهلها في الصحراء حتى تعبوا فرأوا مدينة خضراء فأخلوها وأكلوا وشربوا وناموا ليلتهم فلما أصبحوا لم يجدوا المدينة ، بل وجدوا أنفسهم في الصحراء من جديد فمشوا في خوف شديد حتى رأوا مدينة أخرى أجمل من الأولى فأخلوها وأكلوا وشربوا وناموا وأصبحوا في الصحراء فمشوا في حزن أشد حتى قابلهم راع فقير قصوا عليه نبأهم فقال إن ما جرى يحدث كثيرا ، وسألهم عن وجهتهم فقالوا المغرب فقال أن عليهم الاستمرار في المشي حتى تقابلهم مدينة ثالثة هي أول بلاد المغرب فمشرا ورأوا مدينة لكنهم لم يد خلوها أبدا إذ ظلت تمشي أمامهم ولا يدركونها حتى انقطع خبرهم.
استدار فرأى الأفق فقرر أن يسبح اليه. هل يصبح مثل تلك القبيلة. لا أفق في الوجود. المسافة بين الأرض التي يسبح فوقها والسماء هي المسافة نفسها بين الأرض وبين السماء عند الأفق. الانسان هو الكائن الوحيد على الأرض الذي يجب أن يعيش مخدوعا.
لكنه سمع صفارة الغطاس الذي يقف عل السلم العالي فوق الشاطيء فالتفت. لماذا حقا يفعل ذلك والبحر هاديء اليوم ؟ وراه يشير اليه بعصبية. لعل هناك دوامات ما.. رأى فتاة تقترب منه سابحة داخل عوامة سوداء. بدت مبتهجة نظرت اليا بنزق طفولي وهي تبتسم. رأى جسدها الممدود على الماء وبين العوامة ورديا، وبريق ساقيها ذهبيا تحت سطح الماء. لكن الغطاس لم يكف عن الصفير فأخذ طريق العودة ، في الوقت الذي استمرت فيه الفتاة تتوغل في الماء.
رأى على الشاطيء المرأة الشابة الجميلة عائدة لا تزال تبحث عن طفلها، وقد ازداد حولها الأطفال. انها تمشي باكية وعلى مهل الآن قادمة من ناحية اليسار ذاهبة الى اليمين الأكثر امتدادا.لابد أن هذه المرأة لا ترى لامتداد الشاطيء نهاية لكن من الذي قتل حقا تلك الليلة ؟ بعد يومين من الحادث ، وبينما هو مستلق فوق السرير يقرأ قبل النوم ، وينظر بين الحين والحين الى شعر زوجته الغزير المنسرح على ظهرها العاري وهي نائمة ، فكر فجأة أن الرجل الأول لم يمت ، بل استطاع أن يمسك بالسكين من الآخر ثم يقتله بها. الأول هو الذي هرب في الزقاق إذن والآخر هو الذي هوى!!.
ـ 3 ـ
ما كاد يعود ويجلس حتى وقف. ابتسمت ومدت يديها الى ظهرها تفك السوستة الطويلة للفستان الصيفي، ثم خلعته من فوق كتفيها وتركته يسقط عند القدمين وخرجت منه بالمايوه الأزرق الفاتح المشدود على جسمها اللدن الطويل. شدت "البونيه " على رأسها الى أسفل لتزيد احكامه ، وضعت الفستان على المقعد بإهمال ، ثم مشت بتؤدة عل الرمال تتساند على الهواء..
يفتنه دائما ظهرها القوي بديع التقسيم. عشر سنوات هي عمر زواجهما لم يترهل فيها الجسد ولم يذبل. وقف يعاند الحزن بسبب العقم ، وكثرة الارتواء حيث تزداد شراهتها كلما ابتعد الأمل في الانجاب.لماذا حقا يتحول اليأس الى أمل مجنون ؟ انه أمام هذا الشره لا يظهر تكلفا. يفعل كل شي ء خافيا كل إحساس بالاكراه. الانثى لا تريد الاذعان ، والمرأة رحلة بحث أبدية عن الانوثة ، وعليه أن يخضع فهو- حقيقة ـ يحبها.
في اللحظة التي فكر فيها أن ينهض ليلحق بها، إذ تبدو حائرة في البحر بدونه ، سمع صفعة وصرخة فالتفت ليجد رجلا يضرب فتاة تحاول أن تلملم ملابسها من تحت شمسية قريبة وهو لا يسمح لها بذلك ثم أمسك بشعرها ولواه في قبضة يده ، ودفعها للمشي مزعنة متألمة تبكي أمامه ، والناس كلها على الشاطيء وفي الماء تتابع المشهد بدهشة لا تقل عن دهشته حتى صعد الرجل بالفتاة السلم الذي يفضي الى أعلى الشاطيء حيث الكورنيش.
عندما أصبحت الفتاة والرجل فوق الرصيف ، واختفت سيقانها خلف الكبائن العالية للشاطيء بدأ كثير من الرجال والنساء يمتعضون ، ويطلقون صيحات وعبارات الاستنكار. يتقبل الناس رؤية النساء بالمايوه على الشاطيء بسهولة ، لكن ذلك يكون صعبا في الشارع العام مهما اقترب الشارع من البلاج ، وكورنيش الإسكندرية ليس شارعا صغيرا مقفلا.
سمع الناس صوت احتكاك عجلات سيارة تنطلق بسرعة غاضبة تعلقت بها أنظار الذين وقفوا فوق الرصيف من المارة. أدرك المصطافون أن السيارة حملت الرجل والفتاة معا. نزل هو بعينيه، لكنه توقف بها عند باب مفتوح لإحدى كبائن الدور الثاني، فلمح خلفه شابا وفتاة ، يقفان بثياب البحر من عناق هاديء، يرشفان القبلات على مهل ، ففكر في السعداء والتعساء،وعلى غير قصد منه تساءل في نفسه الى أي نوع ينتمي.
كان سعيدا بتخلصه من مشاغله الكثيرة في القاهرة والمجيء الى الإسكندرية التي يعشقها، وقال لزوجته "سندخل كل مطاعم المدينة الضخمة وكل ملاهيها هذه المرة وسنسهر حتى الصباح كل ليلة في أحد الفنادق الكبرى، ولن نبقى في شقتنا غير ساعات قليلة بعد العودة والسهر، ولن أخبر أحدا من أهلي بحضورنا حتى لا يزورنا فيضيع وقتنا، ولا يكلفنا أحد مضض الزيارات العائلية ". وقالت له أنها أيضا لن يشغلها عنه شيء ولا شغل الكانفاه الذي تحبه ولا تتخلى عنه حتى على الشاطيء.
وفي اليوم التالي لوصولهما طلبت منه أن يأخذها في السيارة الى سوق المنشية لتشتري قطعا من الكانفاه وخيوطا وإبرا. وافق هو على الفور، وكان في الليلة الماضية قد رأى حادث القتل الغامض ، ومشى معها في السوق صامتا.
في عودتهما ضحكت ونظرت اليه بشقاوة مباغتة. ابتسم لقد أدرك أنها تتذكر حديثه لها دائما حين يردها تشتغل في الكانفاه. ينظر اليها مبهوتا ويقول "كلما رأيك ترسمين بالخيط فلاحة تحمل جرة أو دلوا أكسر الجرة وأترك الماء ينزل على رأس الفلاحة ،وحين ترسمين فلاحا يعزف على الناي اسمع صوت الناي. ومرة رأيتك ترسمين نسرا يصعد الى السماء فتمنيت لو حملني معه وتركني فوق جبل أو بركان ".
في كل مرة تضحك وتقول له " أنت مجنون " وفي آخر مرة قالت ذلك رد قائلا " نعم أنا مجنون لأني كما وقفت في البلكونة فكرت في القفز ثم الجري على الأرض. أنا لا أفكر في الانتحار كما ترين لأني أنزل سالما وأجري.. " لكنها كفت عن الضحك للحظة ثم ابتسمت وهي تقول :
ـ حلمت أمس حلما غريبا.
– خيرا.
– حلمت أني دخلت الى مدينة تحول رجالها الى أعمدة خشبية ،
وتحولت نساؤها الى أشجار خضراء عريضة أورقت فروعا وأزهرت أطفالا جميلة تعلقت بالأغصان.
ـ 4 ـ
اشتدت الشمس. ملأ الضوء الأبيض القوي الفضاء. ارتفع الموج قليلا وكاد يصل الى الصف الأول من المصطافين فأفسد كل حفر الأطفال الذين وقفوا يضحكون ، وهم يرون الدلاء وأدوات الحفر يجرها الموج الى البحر، ثم انطلقوا خلفها يلحقون بما يستطيعون منها، ظهرت المرأة الجميلة الباكية من جديد، وقد ازداد عدد الأطفال الذين يديطون بها هذه المرة ، بينما تباطأت خطواتها، وغاض لون وجهها أكثر وملأت الدموع صفحته. بدت ذاهلة تماما لا تبحث عن أحد. هتفت بها أحدى السيدات ان تذهب الى أقرب نقطة بوليس فربما أخذه أحد الى هناك ، فكثير من الناس يرون أن هذه أفضل الطرق لاعادة التائهين الى أسرهم. بدا انها لم تسمع هتاف المرأة. ظلت تمشي وحولها الأطفال بلا هدف…
– مسكينة.
قالت زوجته التي كانت قد خرجت من الماء منذ قليل وجلست بالمايوه بعد أن جففت جسمها وحرصت على أن تضع فوطة كبيرة على فخذيها وهي جالسة.
ـ البحر خطر على الأطفال دائما.
قال ذلك فقالت هي..
– صحيح.. هذا منظر يتكرر كل عام.
ومد هو يده الى الحقيبة البلاستيكية التي بها الساندوتشات ثم أخرجها خالية.. سألته. – جائع ؟
– فكرت أن آكل لكن لا بأس أن ننتظر قليلا.
مدت يدها الى حقيبة أخرى من قماش. أخرجت قطعة كانفاه وكرة خيط وإبرة ثم قالت.
ـ هذه القطعة بها مشهد رائيه بحر وعرائس بحر يلعبن في الماء، هل ستسبح بينهن.
ابتسم وسكت قليلا ثم تساءل :
ـ لماذا ارتفع الموج هكذا والوقت ظهر؟
شردت قليلا ثم أجابت.
– البحر زعلان.
– نعم ؟!
– زعلان. المفروض انك اسكندراني وتعرف حزن البحر.
– هذه أول مرة اسمع فيها ذلك.
– لقد قلته لك العام قبل الماضي.
سكت ولم يعلق.. انه لا يذكر شيئا من العام قبل الماضي،وربما من العام الماضي أيضا. وبسرعة انشغلت عنه بالشغل في الكانفاه وباستفراق شديد فانطلق يضحك لكن بصوت غير عال. لم تهتم فقال.
– هل تعرفين لماذا ضحكت ؟
– لقد تعودت على جنونك.
– هذه المرة تذكرت مجنونا أكبر.
– …
– تذكرت الحاكم بأمر الله.
– وماذا يضحك في هذا. كنا نضحك على سيرته أيام الدراسة.
– هل تعرفين ماذا فعل ببعض النساء.
لم ترد. اتسعت عيناها لاستقبال ما سيقول.
– لقد ذهب الى أحد حمامات النساء. كان به ثلاثون امرأة. أمر بسد الباب عليهن وبنى على الباب جدارا ثم أشعل النار في الحمام.
في البداية تنمرت للحظة لكنها ابتسمت بينما انطلق هو في ضحك هيستيري حتى انها ظنت أن الهواء الذي هب فجأة هو من تأثير ضحكاته.
رأت المرأتين القريبتين منها تنظران اليهما بشكل استنكاري، فهمست اليه.
– بالراحة الناس استغربت منا. ماذا جرى لك اليوم ؟
كتم ما كان يود أن ينطلق من ضحكات وقال بصوت خفيض :
– أنا لا أعرف بالضبط ماذا جرى لي اليوم. أريد أن أحدثك عن حلم عجيب.
قالت هامسة بدورها متكلفة نفاد الصبر.
– لقد حفظت أحلامك كلها.
– لكني لم أحدثك أبدا عن هذا الحلم. إنه أغرب من حلمك الذي حدثتني عنه ، وهو بالمناسبة حلم قديم رأيته منذ أعوام ، كلما تذكرته أحببت أن أحكيه لك ولا أعرف ما الذي شغلني عن ذلك كل هذا الوقت.
– طيب تفضل أحكي.
سكت لحظة ثم قال.
– وجدت نفسي أمشي في سرداب مضاء بشموع قليلة ، في نهاية السرداب وجدت شخصا مربوطا الى جذع شجرة عاريا الا من سروال ويضربه عدد كبير جدا من الناس بالسياط يمزقون لحمه.
– يا ساتر، هذا كابوس وليس حلما.
– هل تعرفين من كان هذا الشخص ،ومن الذين كانوا يضربونه ؟ بدت الاسترابة في عينيها.قالت :
– إياك أن أكون أنا. إذا كنت أنا فلابد أن الناس كانوا أهلك. ضحك. ود لو ينطلق بالضحك أكثر لكنه وضع كفه فوق فمه. قال كأنه يناجيها.
– كنت أقتل أهلي وأموت نفسي.
طالت نظراتهما احدهما الى الآخر. تساءلت بهمس حنون.
– هل مازلت تحبني حقا؟
– مازلت وسأظل.
– لماذا لم تنزل معي البحر؟
– انت التي لم تنزلي معي، ورغم ذلك فكرت أن ألحق بك.
-سأصدقك. لكن قل لي إذن من كان ذلك الرجل المسكين ومن كان الذين
يضربونه.
سكت لحظات ثم أجاب.
-كان جمال عبدالناصر. ولمحت بين من يضربونه ملوك ورؤساء عرب.
-انت فعلا مجنون.
– لماذا؟
– لأنه لا يوجد عاقل يحلم بملك أو رئيس جمهورية.
– 9 –
بدأ الجالسون في الصف الأول من الشاطيء يقفون. النساء تشرن الى عمال الشاطيء ومؤجري الشماسي ليأتوا ويخلعوا الشمامي عن الموقع الذي وصل اليه الماء ليغرسوها في الخلف. بعض الرجال بدأ ينقل الشماسي بنفسه. انشغل الأطفال بجمع ما يجدونه من أشيائهم حملت النساء الحقائب القماش والبلاستيك التي بها الطعام والثياب ، وكذلك حملن الشباشب من كل نوع ولون. لقد ارتفع الموج عاليا وطال كل شيء، ولأن الذين في الصف الثاني لم يتزحزحوا عن أماكنهم حدث اشتباك بالكلمات في أكثر من موضع ، وأضطر الكثيرون ممن كانوا يشغلون الصف الأول الى الرجوع الى خلف الصف الثاني. لاحظ هو أن باب الكابينة العليا الذي كان مفتوحا، ويتعانق خلفه الفتى والفتاة صار موصدا الآن. لقد مضى وقت طويل ولابد أنهما انصرفا. ورأى فتيات كثيرات تخرجن من الماء في هلع تهتز أجسادهن اللدنة اهتزازات خفيفة جاذبة ولامعة بفعل سقوط الضوء على اللحم المبتل. وبدأت ريح تجري بعرض الشاطيء، غير قادمة من البحر، تحمل سفوفا غير كثيفة من الرمال. لاحظ أنه قد ابتعد كثيرا عن المرأتين اللتين كانتا تتكلمان همسا وبسرعة. لماذا حقا كان يريد معرفة شيء مما تتحدثان فيه ؟ ولاحظ أن كثيرا من الفتيات اللاتي خرجن من الماء قد اتجهن الى بائع الآيس كريم الذي اتسعت ابتسامته. ورأى امرأة بدينة وامرأتين صغيرتين وعددا كبيرا من الأطفال يبكون حولهم غير بعيدين عنه ويتحدثون بصوت عال : – لابد أن نعود الى البحر.
– البحر هاج ، وجث تكم تقول إن البحر لا يفعل ذلك إلا إذا كان هناك غريق.
نظر الى زوجته التي كانت سقطت منها قطعة الكانفاه وهي تنهض بعد أن طالها الموج ، ثم غيرتها بقطعة أخرى عليها خطوط خارجية لرسم درويش يدق فوق دف. فكر أن يطلب منها مغادرة الشاطيء. مثل الكثيرين الذين يفعلون ذلك الآن ، لكنه تذكر ما حدث لهما أمس حين هبطت الشمس في الماء وغادرا الشاطيء متأخرين. لقد تشبعا بجمال غروب الشمس واشتعال الأفق فوق الماء الأزرق ، ونزل هو الى الماء مجذوبا الى دفئه المسائي الحنون ، وطلب منها أن تشاركه مرة نزول البحر عند المغيب حيث يختلف الماء لونا وطعما ورائحة أيضا ووعدته أن تفعل ذلك ، وقبل الانحراف الى الشارع الجانبي الذي يفضي الى العمارة التي يقطنان بها قررا الدخول الى شارع آخر قريب به سوبرماركت تعودا على الشراء منه. ما كادا يدخلان الشارع ويبتعدان قليلا عن الكورنيش حتى سمعا ضجة. كانت زمرة من الأطفال تطارد امرأة مخبولة وتقذفها بالأ حجار من هلع وتقف فيتراجع الأطفال عنها لتجري فيتبعونها صارخين مهللين بينما وقف عدد من الرجال والنساء في البلكونات ينهرون الأطفال الذين لا ينصاعون لهم. في نفس اللحظة دخلت عربة بوليس " بوكس " الشارع مسرعة تثير الغبار وتوقفت فجأة أمام باب إحدى العمارات ، ثم قفز من صندوقها الخلفي عدد من جنود الشرطة ، وقفز من جوار السائق ضابط شباب ، واندفعوا جميعا الى داخل العمارة. توقف الرجال والنساء عن الصراخ في الاطفال ، وتابعوا المشهد الغريب لعربة البوليس الذي لم يستمر إلا لحظات حيث خرج الجنود والضابط من العمارة يدفعون أمامهم ثلاث نساء عاريات ملفوفات في ملاءات مضطربة ، وخلفهم أيضا يدفع عدد آخر من الجنود بثلاثة رجال عراة تماما يسترون عوراتهم بأكفهم. في تلك اللحظات القصيرة كانت ثلاث عربات ملاكي قد دخلت الى الشارع وقفز من كل منها عدد من الرجال والشباب والنساء حاولوا الفتك بالرجال والنساء العراة لكن رجال الشرطة منعوهم من ذلك وقفز العراة الى صندوق العربة الخلفي ومعهم رجال الشرطة وكانت البلكونات قد امتلأت بالناس يقذفون باللعنات والبصقات وكف الأطفال عن مطاردة المرأة المخبولة التي وقفت بعيدا تنظر الى ما يجري بسعادة طفولية وعينين براقتين ، وانطلقت سيارة الشرطة فجرى أصحاب السيارات الملاكي الى سياراتهم ليتبعوها، لكن الأطفال كانوا قد سبقوهم في ستابعتها وراحوا يقذفونها بالحجارة التي سبقت الجميع. وقالت زوجته.
– العجيب أنني كنت نويت اليوم أن أنزل معك ال الماء عند المغيب كان الهواء الحامل للرمال يزداد، وازداد انصراف الناس من الشاطيء. قال :
– يمكن أن نأكل الآن وننتظر قد يهدأ الحال.
مدت يدها ال حقيبة الطعام. كان كثير من الساندوتشات قد وصل اليه الماء قالت :
لا مفر من العودة الى الشقة الآن.
كان هو يدرك أن الماء طال الطعام ولا يدرك لماذا طلب منها أن يأكلا. هل أراد أن تكتشف هي ذلك فتطلب العودة. على أي حال لم يعلق. انشغل بمتابعة المرأة الجميلة الباكية التي لم تعد تمشي على الشاطيء. راها تمشي فوق اللسان الصخري الممتد طويلا في البحر يفصله الى منطقتين واسعتين للاستحمام كانت وحدها هذه المرة. راها تجلس عند آخر نقطة فوق الصخور. الموج يضرب في جوانب الصخر العالية فيرتفع رذاذه بطولها وينتشر حولها لكنها جلست غير سبالية بشيء تنظر الى الأفق ، ورأى وهو يعود بعينيه عنها، الغطاس النوبي وقد وقف فوق السلم الحديد ينزل الراية البيضاء ويرفع السوداء ويطلق صفارته بجنون لكل من في الماء، وفي لحظة ارتفع الموج أكثر وأصدر هديرا عاليا طال الصف الأول للعدد القليل الباقي من المصطافين. كان ذلك الصف هو الثاني منذ قليل. الثاني لم يقتل الأول حقا تلك الليلة ، لكن الأول لم يقتل الثاني أيضا كما ظن بعد ذلك. الآن يدرك بوضوح أن شخصا ثالثا ظهر خارجا من زقاق مظلم وقتل الاثنين معا ثم عاد ليختفي في الزقاق.
ابراهيم عبدالمجيد (روائي مصري)