يبدو أن مفهوم التناص ( Intertextuality ) في النقد الأدبي الأوروبي / العربي، من المفاهيم التي طُرِحَتْ بقوة إبّان النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديداً عندما طرحت الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا ( Julia Kristeva ) هذا المصطلح في مجلتي “ تيل كيل “ Tel ? Quel “ وكريتيك ” Critique “، ثم قامت بنشر مجموعة من البحوث في كتابيها “ السيميوطيقا ” ونص ” الرواية “(1).. ويشير رولان بارت إلى أن: ” (( التناص )) L’intertextuel هو الذي يجد نفسه فيه كل نص ليس إلا تناصياً لنص آخر لا يستطيع أن يختلط بأي أصل للنص: البحث عن ” ينابيع ” عمل ما أو ” عما أثر فيه ” هو اسـتجابة لأسـطورة النسب ، فالاقتباسـات التي يتكون منها نص ما مجهـولة، عديمة السمة ومع ذلك فهي مقروءة من قبل: إنها اقتباسات بلا قوسين”(2).. فالتناص إذن في أبسط مفاهيمه هو تداخل النصوص بعضها البعض، وتشابكها، بحيث تسهم هذه النصوص المستدعاة في عملية إقامة النص الشعري أو النثرى على حد سواء، ومن ثمَّ فإن القول بأن التناص ” هو حقل إعادة توزيع اللغة، وإنْ تبادل النصوص، أشلاء نصوص دارت، أو تدور في فلك نص يعتبر مركزاً، وفي النهاية تتَّحد معه، هو واحدة من سبل ذلك التفكك والإنبناء: كلُّ نص هو تناصٌ، والنصوص تتراءى فيه بمستويات متفاوتة وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو بأخرى إذ نتعرف نصوص الثقافة السالفة والحاليـة: فكل نص ليس إلا نسـيجاً جديـداً من استشـهادات سـابقة، وتعرض في النص قطع مدوِّنـات، صيغ، نماذج إيقاعية، نبذٌ من الكلام الاجتماعى .. إلخ؛ لأن الكلام موجود قبل النص وحوله . فالتناصية، قدر كل نص، مهما كان جنسه، لا تقتصر حتماً على قضية المنبع أو التأثير؛ فالتناص مجال عام للصِّيغ المجهولة ، التي يندر معرفة أصلها ؛ استجلابات لا شعورية عفْوية مقدمة بلا مزدوجين. ومتصوَّر التناص هو الذي يعطي أصوليا ، نظرية النص جانبها الاجتماعي “(3).. والذي لا شك فيه أن التناص في مفهومنا النقدي يرجع إلى احتمال قوي في وجود وشائج مباشرة بين النصوص السابقة واللاحقة أو بمعنى آخر بين الكلام سـالفه وحاضره ، ويشـير الناقد الفرنسي رولان بارت إلى أن الكلام كله: ” سالفه وحاضره ، يصبُ في النص، ولكن ليس وفق طريقة متدرجة معلومة ، ولا بمحاكاة إرادية، وإنما وفق طريق متشعبة ، صورةٌ تمنح النص وضع الإنتاجية، وليس إعادة الإنتاج “(4). صحيح أن التناص له دوره الفاعل في عملية إثراء النص من الناحية الدلالية والمعرفية هذا من ناحية أما الأخرى: فهي القيمة الجمالية التي يبعثها التناص في داخل النص الشعري ” المنتج “؛ لأن الإنتاجية توحي بشكل أو بآخر إلى القيمة الحقيقية وراء هذا النص الذي يستدعي مقولات السابقين أو اللاحقين بصورة ضمنية، ويشير الدكتور صبري حافظ إلى ” أن التناص هو الذي يَهَبُ النص: قيمته ومعناه . ليس فقط؛ لأنه يضع النص ضمن سياق يمكننا من فض مغاليق نظامه الإشاري، ويَهَبُ إشاراته وخريطة علاقاته معناها، ولكن أيضاً؛ لأنه هو الذي يمكننا من طرح مجموعة من التوقعات عندما نواجه نصاً ما، واستجلاب أفق للتلقي نتعامل به معه. وما يلبث هذا النص أن يشبع بعض هذه التوقعات”(5).. ومن بين الدراسات(6). التي اهتمت بنظرية التناص اهتماماً شديداً ، دراسة فاطمة قنديل التي جاءت بعنوان التناص في شعر شعراء السبعينيات ، وقدمت فصلاً تنظيرياً حول مفهوم المصطلح وإشكالاته وقضاياه وأهم أهدافه ، ومن ثمَّ فقد أشارت فاطمة قنديل إلى أنه ” يبدو مصطلح التناص واحداً من تلك المصطلحات التي تعرضت – ولا تزال – للتحولات وتعدد التعريفات والسياقات والانتقادات ، مما يجعل دارس التناص أمام إشكالية تحديد هذا المصطلح المراوغ الذي لا يتحدد مفهومه (اته) إلا إذا أخذنا في الاعتبار السياقات المختلفة التي أفرزت هذا المصطلح وتشعب دلالاته حسبها، ولعل أبسط مفاهيم التناص أنه يعني تلك العلاقات التي تنشأ بين نص أدبي وغيره من النصوص، غير أن هذا المفهوم، البسيط إلى حد الاختزال، يشير إلى ظاهرة العلائق بين النصوص أكثر مما يشير إلى مصطلح التناص ، بكل ما يتطلبه المصطلح من دقة ووضوح واكتمال ، فللمصطلح معنى محدد “(7).
والذي لا شك فيه أن مصطلح التناص متعدد المفاهيم والرؤى ، ومن ثمَّ كان لزاماً على الباحث أن يحدد لنفسه مفهوماً خاصاً يدور حوله أو ينطلق منه ، هذا المفهوم الذي اقتضته طبيعة الدراسة التطبيقية التي نحن بصددها وهي استنطاق مناطق التناص وتتبعها في قصيدة الإِبيجراما في الشعر العربي الحديث . وأظن أن أقرب مفاهيم التناص ـ كما يتبدى للباحث ـ هو أن التناص عبارة عن تفاعل بعض النصوص الشعرية أو النثرية تفاعلاً يقترب من الامتزاج ، ينتج عن هذا الامتزاج والتفاعل نصاً قائماً بذاته له سماته ومعاييره الفنية والدلالية واللغوية ، هذا النص الذي أسهمت في وجوده مجموعة نصوص سابقة أو لاحقة، إحياءً لها من جانب وإثراءً للنص نفسه من جانب آخر . وتعزيزاً للتعريف السابق الذي ذهب إليه الباحث ، نجده متصلاً بتعريف الناقد مارك أنجينو الذي جاء في مقال بعنوان التناصية فيقول: ” يندرج مصطلح التناصية عند كريستيفا 1966 . في إشكالية ” الإنتاجية النصية ” ( ديدن Tel – Quel ) في ذلك العصر وأعيدت صياغتها بعد ذلك كـ ( عمل للنص) ( نسخ للنشاط الأحلامى Tramarbiet لعمل الحلم ) ولا يتحدد إلا في سبيل أن يدمج كلمة أخرى هى إيديولوجيم ideologéme (الذي يمكننا أن نظن بقراءة سريعة كل السرعة أنه قد نسج على نمط موينم ومورفيم وفوينم ).
تقول كريستيفا: إنَّ الايديولوجيم هو عينة تركيبية ، تجمع لتنظيم نص معلوم مع المؤديات التي يستوعبها أو يحيل إليها. فالتناصية إذن هي ” أنْ يتقاطع في النص مؤدى مأخوذاً من نصوص أخرى ، وإن العمل التناصي هو اقتطاع وتحويل، ويولد تلك الظواهر التي تنتمي إلى بديهيات الكلام انتماءها إلى اختبار جمالية تسميها كريستيفا اعتماداً على باختين ” حوارية ” وتعددية الأصوات “(8). ومن ثمَّ فإن التناص يمثل إحدى البؤر المركزية في النص الشعري أو النثرى؛ لأن التناص على حد قول صبرى حافظ: ” يلفت اهتمامنا إلى النصوص الغائبة والمسبقة ، وإلى التخلي عن أغلوطة استقلالية النص؛ لأن أى عمل يكتسب ما يحققه من معنى بقوة كل ما كتب قبله من نصوص . كما أنه يدعونا إلى اعتبار هذه النصوص الغائبة مكونات لشفرة خاصة يمكننا وجودها من فهم النص الذي نتعامل معه، وفض مغاليق نظامه الإشاري . لكن ازدواج البؤرة هنا هو الذي لا يجعل التناص نوعاً من توصيف العلاقة المحددة التي يعقدها نص ما بالنصوص السابقة ، ولكنه يتجاوز ذلك إلى تحديد إسهامه في البناء الاستطرادى والمنطقي لثقافة ما، وإلى استقصاء علاقاته بمجموعة الشفرات والمواضعات التي تجعله احتمالاً ، وإمكانية داخل ثقافة ما ، والتي تبلور احتمالات هذه الثقافة بالنسبة له”(9). وتحدد جوليا كريستيفا ( Julia Kristeva ) مفهوم النص فتقول: نحدد النص كجهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام اللسان بواسطة الربط بين كلام تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وبين أنماط عديدة من الملفوظات السابقة عليه أو المتزامنة معه . فالنص إذن إنتاجية وهو ما يعني: أنه ترحال للنصوص وتداخلٌ نصي ، ففي فضـاء نص معين تتقاطع وتتـنافي ملفوظات مقتطعة من نصـوص أخرى “(10). ويقترب من هذا التعريف،الدكتور صلاح فضل فيشير إلى أن النص ” يمثل عملية استبدال من نصوص أخرى؛ أى عملية “تناص ” “Intertextualite” ففي فضاء النص تتقاطع أقوال عديدة ، مأخوذة من نصوص أخرى ، مما يجعل بعضها يقوم بتحييد البعض الآخر ونقضه وترتبط بهذا المفهوم عند كريستيفا فكرة النص باعتباره”وحدة أيديولوجية” “(11).ومن ثم فإن النص يتولد من رحم نصوص أخرى لايمت لها بعلاقة ما ، وفي الوقت نفسه فهو جزء من هذه النصوص المتغايرة والمتباعدة المختلفة في الزمان والمكان ، فأصبح النص الشعري / النثري أي نص كان مُنْتَجْ من خلال عملية الهضم الكبري التي قام بها المُنْتِجْ ( الشاعر ) / الأديب ، ومن ثمّ فإن مناطق التناص متعددة الأشكال والوجوه في شعر رفعت سلام وقد تجلى ذلك في دواوينه المتعددة بدءا من إنها تومئ لي انتهاءً بديوانه حجر يطفو علي الماء ، فنلاحظ القرآني ، واستدعاء نصوص الكتاب المقدس ، والتناص الأسطوري ، وتناص الشخصية التراثية ، واستدعاء النصوص الشعرية التراثية .
أولا: التناص القرآني
” فلم تمنحني غير قبضة من هواء سويتها
ونفخت فيها من روحي فصارت حماراً
ركبته إلى القصر الجمهوري الملكي القبلي
الأسرى تَحفٌ بي كوكبتي صفاً واحداً مذعوراً
في خطوات رشيقة على الأبواب ” (12).
فاستخدام الفعل الماضي (نفخت) يـحيلنا بصورة مباشـرة إلى الآية القرآنية في سورة الحجر في قوله تعالى ” فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فخروا له ساجدين ” (13).
فنجد أن لغة القرآن الكريم مهيمنة على النص الشعري من خلال استدعاء الفعلين الماضيين (نفخت ، سويته) فهذان الفعلان مسيطران على متن النص الشعري ، وهما اللذان يمدان النص بمعطياته التراثية ، ويوجهان الخطاب إلى دلالاته المتعددة ، وعلى الرغم من الحيلة الفنية في الرجوع إلى النص القرآني واستنطاقه ، يحاول الشاعر أن يمزج الماضي بالحاضر ، وأن يسقط معطيات النص القرآني على آلامه وأوجاعه أيضاً .
وفي جانب آخر يتناص الشاعرمع المفردات القرآنية ، معتمداً على الحيلة الفنية في قوله:
” مرأة حميم
مفتوحة لما يجيء به الغيث
نجمة راكدة
أو مواء أليم
أنا امرأة الصراط المستقيم ” (14).
إن المفردات التى اعتمد عليها الشاعر في تركيب نصه الشعري ، تومئ إلى انكفاء الشاعر على تراثه القرآني من خلال تناصه الحي واستدعائه للمفردات ( حميم ، أليم ، الصراط المستقيم ) ؛ فقد اتكأ الشاعر على هذه المفردات ليخلق بذلك إيقاعه الخاص وموسيقاه المفعمة بالعذاب الحميم والأليم في آن واحد ، وتدل على رؤية الشاعر تجاه واقعه وأمته العربية ، وتدل أيضاً على روح الحداثة من خلال التراث . إذن فإن الأنا الشاعرة تجعل من نفسها منصهراً للتراث ، لتخرج خلقاً من صنعها ( النص الشعري ) .
وقد امتدت ألفاظ القرآن بشكل واسع في جل نصوص رفعت سلاّم وقد ينشغل الشاعر باستدعاء مفردات لها دلالة معينة ، ذات موقف معين يخرج من خلالها الشاعر بتكوين رؤيته التى تستدعى النص القرآني في النص الشعري ، لتخرجه من دلالته الإلهية إلى دلالات متسعة ، لتسقط على الملامح الخاصة بمعاناة الشاعر وطقوسه وأفراحه وأحزانه. وقد تحقق ذلك بشكل ثرى في نصوص رفعت سلاّم بدءاً من ديوانه ( إنها تومئ لى ، ووردة الفوضى الجميلة ، إشراقات ، إلى النهار الماضي ، كأنها نهاية الأرض ، حجر يطفو علي الماء) . يقول في ديوانه إشراقات:
فأجيئكم رصاصة أو خيانة أو فضيحة
أسمى الأشياء بأسمائها الأولى
وأمشى في الأرض مرحاً
أبعثر اللعنات كالصدقات
على الكل وعلى نفسى بالعدل
والقسطاس وهذا أضعف الإيمان أن تصفونى بالعدمية
والسودواوية أنّى شئتم فلا تهتز شعرة منى
فقد خلعت عنى الأسماء والصفات لأصبح ممنوعاً من الوصف والتشبيه
لأمضي في اتجاه البحر رأسياً بلا استئذان دون أن تجف بحار القول ولكن
لمن أتكلم اليوم هذا فراقي معكم وسأنبئكم في القصيدة القادمة بتأويل ما لم
تستطيعوا عليه صبراً فصبراً ” (15).
فقد تحقق التناص في النص السابق من خلال الاستدعاء القرآني لنصائح النبي لقمان التى وجهها إلى ابنه ،ولكن رفعت سلام ، عقد معارضة بين النص الشعري تجاه النص القرآني ، فهو يقوم بأفعال ينهى عنها القرآن الكريم .ففي وقوفه عند قوله تعالى: ” ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور ” (16) . يتعمد إسقاط أداة النهى فتحول النهى عن شيئ قبيح إلى الإصرار على هذا الشيئ عند الشاعر في قوله ( وأمشي في الأرض مرحاً ) .
وفي المقطع نفسه ، نلاحظ استلهام الشاعر للحوار القرآني بين الخضر وسيدنا موسى ( عليهما السلام ) فيما ستنبئ به القصيدة القادمة من تأويل يوازي إنباء الخضر لموسى النبي بتأويل ما لم يستطع صبراً عليه “(17). فالشاعر رفعت سلام يمتص الخطاب القرآني ، بمجالاته الدلالية ، ليقوم بإسقاط هذه الآيات على واقعه ، ومن خلال نصه الشعري فهو يربط السابق باللاحق ، مستخدماً دور الشاعر النبي الذي يقوم بعملية التنبؤ ؛ فهو ينشغل بقراءة العالم من خلال النص الشعري ، متخذاً من النص القرآني مرجعاً تراثياً له دلالاته وأبعاده المختلفة. فهناك علاقة بين الخضر والأنا الشاعرة ؛ فهو يقوم بعملية استبدال الشخصيات / مع توافق في الرؤية والخطاب. يقول الله تعالى في سورة الكهف:
” وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ………. إلى قوله تعالى ” قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ” (18).
فنلاحظ مدى التأثر الذي وقع فيه الشاعر أسيراً عاشقاً للنص القرآني الكريم ، فهو النص الفوقي (الأعلى) الذي يعزز به الشاعر نصه السفلى (الشعري) الإنساني . وبما أن النص القرآني – نص إلهى – لا ينطق به بشر ولا يصدر عن إنسان ، فقد استمد النص الشعري قوته وطلاوته بامتزاجه بالنص القرآني . فقد كان الجنوح إلى القرآن الكريم وتوظيفه داخل النص الشعري السبعيني ، إضافة إلى قوة الخطاب الشعري السبعيني ، على الرغم من تجاوزاته ومغالاة شعرائه في التجريب والرغبة في كشف المسكوت عنه والبوح به .
ومن الظواهر اللافتة في الخطاب الشعري السبعينيّ استدعاء الحديث النبوي الشريف بوصفه جزءاً من التراث؛ فانشغل الشاعر بهذه الأحاديث ، وعمل على استدعائها بوصفها أساساً راسخاً في العقيدة الإسلامية . ونجد الشاعر رفعت سلاّم أكثر شعراء السبعينيات وفاءً للموروث وتعلقاً به ؛ وهذا ما يؤكده محمد عبد المطلب بقوله ” إن رفعت سلاّم من أكثر شعراء جيله وفاءً للموروث القديم في مستواه الإنسانى ،ومن أكثرهم إفادة منه ، حتى ولو كانت الإفادة على الضدية والرفض”(19). فرفعت سلاّم يستلهم الحديث النبوي في عدة مواقف أو حالات فيقول مثلاً:
فيسرقني النعاس والنسيان
على سلم المساء أسيراً كسيراً
فانام أنام ساءت سيرتى وفسدت
سمعتى وما بلغت ما لاعين من قبل رأت
أو أذن سمعت أو خطر على قلب بشر فلا تسألونى
إن رأيتموني مرحاً دون مناسبة أمضى متوهجاً بالغموض الغريب (20).
والشاعر – في ذلك – يستدعي الخطاب النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه ” قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر “(21). فمسلك الذات – التى قادها إلى سوء السيرة وفساد السمعة – يتبعه بالضرورة ، عدم الوصول إلى عتبة الإشراق العلوي ، في عالم بعيد عن الإدراك البشرى ” (22)..
وقد تم استدعاء نصوص الحديث النبوي في ديوان ( إشراقات ) خمس مرات ، وبهذا فقد انفتح النص الشعري لرفعت سلاّم على التراث بكل مصادره ومقوماته وفنياته ، مما أدى إلى العلاقة القوية بين النص الشعري وأنماط التراث المختلفة .
التناص الإنجيلي والتوراتي:
أسهم الخطاب التوارتى والإنجيلى في بناء كثير من الخطابات الشعرية الحداثية بعامة ، والخطاب الشعري السبعيني بخاصة ، على المستويين المضموني واللغوي ، بوصفة نصاً متعالياً يملك خاصية الانتشار ، فقد يندفع المبدع ، أو يستلهم التراث المقدس ( التوارة ، الإنجيل ) ،لكى يحقق رغبته النفسية والجمالية والسياسة والاجتماعية فالمبدع ” وهو يتحرك في مملكة الخطابات الأخرى ، يقوم بعملية تأويل أولية لاختياراته من هذه المملكة منطلقاً في اختياره وتأويله على السواء ، من موقعه وموقفه الفكريين “(23)
ومن أشكال استدعاء الخطاب التوارتي والإنجيلي لدى شعراء السبعينيات ، استدعاء بعض كلمات المسيح ، وبعض تعبيرات نشيد الإنشاد ، ويمثل نشيد الإنشاد لسيدنا سليمان – كما ورد في التوارة – بعدا تناصياً مهماً ، ليس في شعرية السبيعنيات فحسب، بل في الشعرية العربية السابقة عليهم لدى رواد الشعر الحر وجيل الستينيات ، فإن هذا النشيد له صيغته الفنية والجمالية المثلى ، وله أبعاده البشرية لا السماوية ، حيث إنه يتحدث عن علاقة ما بين محبين ، وعن الصراعات التى يجب التغلب عليها ، وعما أيقظه الحب من أحاسيس رقيقة وعن السعادة التى يجدها كل حبيب في لقائه بالآخر .
ويمكن أن نكتفي بإيراد بعض النماذج التى استلهم منها الشاعر السبعيني مجاله التناصى مع ماورد في التوراة والإنجيل . يقول الشاعر رفعت سلاّم في نص بعنوان ( وردة الفوضى الجميلة ):
“أنا لحبيبي
مدينة مفتوحة
يدخلني متى يشاء
أنا لحبيبي
ربابة مجروحة
يلمني متى يشاء
أنا لحبيبي
وفي ليالي الصيف .. تبكى ” (24).
وهذا المقطع السابق يستدعي قول سليمان – عليه السلام – في نشيد الإنشاد على لسان المحبوبة:
” حبيبي صُرةْ مرّلى ، هاجع بين نهدى . حبيبى لي عنقود حسناء في كروم عين جَدْي”(25).
فقد انشغل رفعت سلاّم بجماليات هذا النص المقدس ، فراح يحاوره ، ويحوره في الوقت نفسه ، لينتج عن عملية الامتصاص ، نصه الخاص بجمالياته الخاصة .
التناص الأسطوري
وقد يبوح النص الشعري لدى رفعت سلاّم عن مكنونه بأن يعمل على بعث الشاعر / القارئ فيقول في نصه ” مراوحة ” من ديوانه ” إشراقات “:
” يا ليتني حجر
تخطو الفصول على جسمي ،
وتنحدر
وأنا اشتباه ،
حالة مكنونة ،
بين الحريق والرماد
وبين صرخات الولادة والحداد
وأنا اشتعال مرجأ ،
ينمو على جسمى التحول
ثم ينكسرُ
يا ليتني حجر ” (26)..
إن أسطورة الفنيق تتجلى في المقطع السابق من خلال استخدام الشاعر ألفاظاً مثل ( الحريقة ، والرماد صرخات الولادة والحداد ، الاشتعال ) فهذه المفردات كلها توحى بـ ” الفنيق ” وتطوراته وتحولاته الحياتية؛ فالشاعر يستمد من جوهر هذه الأسطورة لحظتى الولادة والموت ، حيث تشتد عندهما الصرخات ؛ صرخة الولادة ، وصرخات الحداد عند فجيعة الموت. وكما أشرنا مسبقاً فالشاعر يعيش حالة الكتابة ويخلق نفسه من نفسه ، كما يخلق الفنيق نفسه من نفسهِ أيضاً .
وتعد أسطورة الفنيق أسطورة مركزية ، فهي الأكثر توظيفاًعند شعراء السبعينيات وهذا قد يكون له مردود اجتماعي وفنيّ هو انبعاث الكتابة من الكتابة ، كالفنيق تماماً ،ولكن بشكل جديد ، متغير ، وقد تأثر الشاعر بأحداث حياته ومشكلاتها .
ومن الملاحظ أن رفعت سلام قد استدعى هذه الأساطير ” كالفنيق وغيرها ” رغبةً منه في إعادة وهج التراث ، وربط الماضي بالحاضر ، ولكى تكون الأسطورة قناعاً أو رمزاً لأشياء ، تكون بمثابة الهاجس اليومى / الحياتي لسلاّم ؛ فقد كانت ” محرقة الفنيق ” عند حسن طلب موازية لخروج الزبرجد من البنفسج ،أو بمعنى آخر ولادة الكتابة من الكتابة ؛ فقد انشغل حسن طلب بالفكرة ، أو أسطورة البعث الشعري ” وهو أن يكون الديوان الجديد ، خلقاً من الديوان القديم ” أو السابق عليه ، وقد سيطرت لحظة الانبعاث عند الشاعر رفعت سلاّم ، متمثلة في بعث الكتابة الحقيقية / أو بعث النص الشعري / أو بعث القارئ ؛ فالشاعر معنىٌ بلحظتين ؛ لحظة الميلاد ، ولحـظة الموت اللتين يتخلق عنهما كائناً جديداً . كما أن الشاعر السبعيني ? فيما يبدو لى ? يبحث عن قارئه الجديد ، الذي قد يحقق التواصل مع مشروعه الشعري ؛ فأسطورة الفنيق قد ترتبط بالقارئ أيضاً ، حيث يخلق القارئ من القارئ ذاته ويتحقق ذلك من خلال الشاعر الذي ارتبطت فكرة بعثه ، ببعث القارئ أيضاً
تناص الشخصية التراثية:
حظيت الشخصية التراثية بدور كبير في شعر رفعت سلام ؛ فقد كان لها دورٌ بارزٌ في الشعر العربي المعاصر بعامة ، وعند سلام بخاصة ، إذ حظيت بموقعٍ متميزٍ بوصفها مصدراً من مصادر الإلهام لدى الشعراء؛ ” فالشخصية هى أكثر معطيات التراث توظيفاً في شعرنا العربي ؛ فقد صادف شعراؤنا في تراثهم كثيراً من الشخصيات التي عاشت يوماً ما تجربة شبيهة بتجاربهم ” (27)…
والشاعر يلجأ إلى التراث للتعبير عن تجاربه المعاصرة ؛ ” فإن توظيف الشخصية التراثية في الشعر العربي المعاصر يعنى استخدامها تعبيرياً لحمل بعد من أبعاد تجربة الشاعر المعاصر ؛ أى أنها تصبح وسيلة تعبير وإيحاء في يد الشاعر يعبر من خلالها أو ” يعبر بها ” عن رؤياه المعاصرة “(28).. ولم يقتصر توظيف الشخصية التراثية على الجانب الدلالى فحسب ” بل لقد ساهمت مساهمة فاعلة في التشكيل الجمالى للقصيدة ” (29)..
ومن أبرز الشخصيات التراثية التى استدعاها سلام ، شخصيتا الحلاج والنفري من التراث الصوفي ؛ والمتنبي وامرؤ القيس ، وتأبط شرا ، وبشار من التراث الأدبي العربي ، ورامبو ومايا كوفسكي وريتسوس من التراث الأدبي العالمي، وطارق بن زياد من التراث العربي البطولي . وقد تعددت الشخصيات التراثية العربية والعالمية في نصوص شعراء السبعينيات، ونلاحظ ذلك لدى رفعت سلاّم إذ يقول:
فلماذا يأوي إلىّ الراحلون
” لم أصبح بعد مقبرة ”
لماذا – حين تهز الريح أغصاني –
يساقط الحطيئة وبشار ورامبو والمتنبي ومايا كوفسكي وأبو نواس
وامرؤالقيس وريتسوس
وتأبط شرا ….إلخ
معهم تسّاقط صحراوات لم أقطعها ، وخمور لم أشربها ، وذنوب
لم أرتكبها ، ونساءٌ لم أنكحها ، وأحلام لم أقربها وحماقات
لم أقترفها ، وشهوات لم أذقها ، وقصائد لم أكتبها ” (30).
فالشاعر رفعت سلاّم ينشغل باستدعاء الشعراء القدامى المشابهين لتجربته الشعرية ، فهو يقدم اعترافاً صريحاً بأنه امتداد لهؤلاء الشعراء ،أو بمعنى آخر ” امتداد لتجربتهم ” الشعرية ، وأتصور أن استدعاء الشاعر السبعيني لمثل هؤلاء الشعراء قد يكون لسببين ، أولهما: اجتماعى يرتبط بتجربة سلام ومعاناته مع الواقع والمجتمع الذي ينتمي إليه ؛ والثاني: فنى ، بمعنى أن سلاّم قد جنح للتجريب ، وقد قام الشعراء القدامي بتطوير الشعر العربي من قبل . فقد هدم أبونواس المقدمة الطللية ، وأرسى قواعد المقدمة الخمرية ؛ بل بلغ به الأمر ليسخر من “شعراء الأطلال ” فيقول:
قل لمن يبكى على رسم درس
واقفاً ما ضر لو كان جلس (31)..
وقد تتشابه تجربة أبي نواس ورفعت سلاّم في أن كلا الشاعرين قد تجاوزا القديم ؛ أى تجاوزا الشعراء السابقين عليهما ، فقد تجاوز أبونواس شعراء المقدمة الطللية ، وتجاوز رفعت سلاّم شعراء التفعيلة ، وقام بطرح شعره من قصيدة النثر. وقد ذكر رفعت سلاّم في المقطع السابق بشار الشاعر العباسى المعروف ، الذي اتهم بالزندقة وعُرف ببشار الأعمى ، وقد اضطهده مجتمعه ، ورفضه . كما أشار إلى شخصية المتنبى واستدعاؤها يحيلنا إلى هذا الشاعر الفذ ، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس أو كما كان يقول عن نفسه:
أنَا من نَظَر الأعْمَى إلى أدَبي
وَأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ بهِ صَمَمُ (32)…
وكان يقول عن نصوصه الشعرية:
أنَامُ ملء جُفُوني عن شَوَارِدِها
وَيَسَهْرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيَخْتصِمُ (33)..
فاستدعاء هذه الشخصيات في نص رفعت سلاّم لم يكن اعتباطياً ، أو نفياً للتراث أو قتلاً للأب ، كما يزعم شعراء الحداثة العربية ؛ فنصوصهم الشعرية تشهد شهادة الحق ، وتقول عكس ما يقولونه في تنظيراتهم وحواراتهم الصحفية ، من أنهم خرجوا على الأب (التراث) فالاستدعاء في النص السابق يومئ إلى أن الشاعر السبعيني يعيش في بطون الشعراء القدامى ، ويعيشون “هم” في ذهنه وثقافته وفكره وفنه الشعري. ويؤكد ذلك ما قاله محمد عبد المطلب: ” إن رفعت سلاّم من أكثر شعراء الحداثة استدعاءً للموروث الشعري العربي وغير العربي. ومن اللافت أن الاستدعاء قد يأخذ طبيعة شمولية ، لأن من يقرأ ديوان ” هكذا قلت للهاوية ” يدرك على الفور كيف أنه قد استدعى كثيراً من (جحيم رامبو ) في ديوانه (موسم في الجحيم) الذي كان بمثابة رمز لمواجهة الشاعر لنفسه وعالمه ، وهي مواجهة مروعة تنذر بتحلل العالم ، وتداخل خطوطه الزمنية ؛ لأنه عالم لم يأكل من شجرة الخير والشر التى تتيح لآكلها أن يعرف الفرق بينهما ،ومن هنا كانت حركة الواقع – في مجملها – في دائرة الشر والتدمير ” (34)..
وقد يلجأ الشاعر رفعت سلاّم إلى استدعاء الشخصية الصوفية وتوظيفها ” ليسقط من خلالها الماضي الذي تمثله الشخصية المستعارة أو المستوحاة بدلالاتها الأخلاقية والتاريخية الموروثة ، على الحاضر الذي يحياه الشاعر ويكتوى بلحظته الراهنة بغية الكشف والنفاذ إلى عمق قضاياه لتنمحي – وقتئذٍ – فوارق الزمان “(35)..
فقد وظف الشاعر السبعيني الشخصية الصوفية توظيفاً فنياً موفقاً بوصفها المعادل الموضوعى للواقع الذي يحياه الشاعر؛ فالشاعر السبعيني يعاني كما عانى المتصوفون الكبار من قبل، مثل الحلاج والنفري والسُهروردي المقتول وابن عطاء الله وابن عربي وابن الفارض ، والشبلي …. إلخ . وحوى الخطاب الشعري السبعيني في داخله شخصيات كبار المتصوفة واتحد معهم ، واستدعى مفرداتهم، لتصبح جزءاً من تكوين القصيدة وبنائها الفني والجمالي والدلالي؛ فيمتص النص الشعري لدى رفعت سلاّم ” قولَ الحلاج “:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في قتلي حياتي(36)..
فاستدعاء قول الحلاج في نص رفعت سلاّم يومىء إلى أن الشاعر يلوذ بتجربة الحلاج؛ فكلاهما شهيد الكلمة يقول رفعت سلاّم:
” فانتبهوا لي تعبٌ تَعِبٌ تسكننى يقظة سامة
مسنونة بلا انطفاء فاقتلونى ياثقاتى قبل أن
أنام ما خوفي من البلل المراوغ أو رياح
تورق الأرق المرير انتظروني على القارعة إلى أن يأتيني
قريني خلِّى الوفي فيطعنني الطعنة الموعودة “(37)..
فاستدعاء هذا البيت المشهور للحلاج يدل على شدة المعاناة التى كان يقاسيها الحلاج ودفع روحه ثمناً لكلمته ؛ ” فالاستدعاء بالقول آلية من آليات استدعاء الشخصية التراثية في توظيف الشاعر لقول يتصل بالشخصية ، سواء كان صادراً عنها أو موجهاً إليها ، ويصلح للدلالة عليها في آن ، بحيث تصبح وظيفة هذا القول ، وظيفة مزدوجة ، التفاعل الحر مع شفرات النص ، واستحضار الشخصية في ذهن المتلقى”(38)…فقد ارتدى رفعت سلاّم ثوب الحلاج ، واتخذ من مفرداته وأشعاره سلاحاً لمواجهة الواقع فهو يتكلم بلسان الحلاج القديم ، ولكن بصـورة يغلب عليها الطابع التدميرى ، فهناك وجه مقارنة بين موقـف ” الحلاج ” وموقف رفعت سلاّم ؛ فكلاهما شاعر ، يبيع ملذات الحياة ،بل الحياة نفسها، من أجل بقاء كلمته .
التناص الشعري:
” يمثل الخطاب الشعري التراثي ذاكرة الأمة على امتداد تاريخها الطويل ، واستدعاؤه يستحضر معه مجموعة من المعارف التراثية الشعرية ، لذا الشاعر رفعت سلاّم سل إلى الخطاب الشعري التراثي ، وأصبح توظيفه يحتل مساحة كبيرة على خريطة الإبداع المعاصر .وقد تعددت مستويات استدعاء الموروث الشعري ، وأنماط تناصه مع الخطاب الشعري الحداثي ، وطرق استدعائه ؛ فأحياناً يكون التناص جلياً ، يقع عليه القارئ منذ الوهلة الأولى؛ لأن استدعاءه تم بصورة كبيرة من سياقه ؛ وأحياناً يكون التناص خفيّاً ، يحتاج إلى جهد في الوصول إلى مرجعيته التراثية ؛ لأن الشاعر لجأ فيه إلى التفكيك وكسر سياقه وتركيبه “(39).. فقد انشغل سلاّم بموروثه الشعري القديم ، وآثر الاتحاد معه واستدعاءه داخل نصوصه الشعرية الجديدة ؛ فنجد الشاعر الحداثي مغرقاً في استدعائه للموروث الشعري ، والعمل على خروجه من أحادية الدلالة إلى اتساعها وانفتاحها على العالم الشعري والخارجى معاً. فنجد الشاعر سلام يتناص مع الشعراء الجاهليين والشعراء الصعاليك وشعراء العصر العباسي، أمثال بشار ، وأبي نواس ، والمتنبي ، وأبي العلاء المعري ، وغيرهم …إلخ، وهذا الاستدعاء لايخلو من دلالة حقيقية ؛ هي أن استدعاء النص الشعري القديم داخل بوتقة النص الحداثي يضفي لوناً من ألوان الأصالة والتقدير لهذا التراث من ناحية ، والجدة والابتكار من ناحية أخرى . وفي الوقت نفسه يمكن القول بأن شعراء السبعينيات هم الجيل الذي استمد قوته من تراثه بأبعاده الفنية والجمالية واللغوية ، ثم تمرد على هذا التراث وخرج عليه ، خروج الابن على أبيه. وإن كان هذا الخروج لا يكون خروجاً مطلقاً بالطبع ، ولكن هو خروج المتمرد ، العائد بعد ذلك إلى أحضان تراثه وقوميته ، مضيفاً إليه رؤيته وآلامه الخاصة. وقد امتص الخطاب الشعري السبعيني هذه المعطيات التراثية كلها بعامة والشعر بخاصة ؛ فأصبح النص الشعري التراثي نصاً فاعلاً في القصيدة السلامية ، له دوره الحقيقي ودلالاته التى انصهرت داخل دلالات النص السلامي .وقد انشغل الشاعر رفعت سلاّم بهذا التفاعل النصي وتجلى ذلك في قوله مثلاً:
” ما الذي يسعى في جسدي
سرب نمال
أم
الجمال مشيها وئيداً ” (40)…
فالمقطع السابق الذي يتناص مع قول ” الزباء ” ملكة تدمر التي أرسل إليها عدوها عمرو بن عدي جاسوساً يخبرها بأنه سوف يأتيها مسترخياً ومحملاً بالهدايا ، فلما بدت قافلة ” عمرو ” في الأفق البعيدة كثيرة الجمال بطيئة الحركة ارتابت ” الزباء ” في أمر هذه المصالحة ، وتساءلت مستنكرة:
” ما للجمال مشيها وئيدا ؟
أجندلاً يحملن أم حديدا ؟
فبرر لها الجاسوس تثاقل الجمال بكثرة الهدايا ، وارتفاع قيمتها . وحين وصلت القافلة ، تيقنت ” الزباء ” من صحة نبوأتها ، حيث خرج من داخل الصناديق مجموعة ضخمة من الجنود المسلحين ، وعندئذ أجابها عمرو قائلاً:
” بل الرجال قبضاً قعوداً ”
فأبت ” الزباء ” الهزيمة ، وقتلت نفسها بمص السم من خاتمها وهي تقول ” بيدى لا بيد عمرو” (41)…وقد وظف الشاعر رفعت سلاّم القول الشعري (للزباء) في نصه فأصبح نص ( الزباء ) فاعلاً داخل النص الشعري، بل أضفي اتساعاً في الدلالة ، واتفاقاً في الرؤية ، وهي التوجس والخيفة من العدو .وصدق النبوءة لدى الشاعر الحديث ، هو ما أدى به إلى أن تدور في ذهنه الأسئلة التى دارت في ذهن ” الزباء ” من قبل؛ إذ تردد استدعاء هذا البيت الشعري ” للزباء ” مرتبطاً برؤيته. كثيراً في نصوص الشاعر ، فكان بيتاً ممتدداً داخل النص . وقد تكرر استدعاء هذا القول في بعض دواوين الشاعر مثل: ( إشراقات وإنها تومئ لى ، وهكذا قلت للهاوية ) .
وقد استلهم رفعت سلاّم بعضاً من أشعار المتنبي ، وكانت هذه الأبيات متحدة مع رؤية رفعت سلام وحالته الشعرية . ” حيث يأتى استدعاؤه في موقف يتوافق مع الخطاب والواقع الحاضر ؛ وهي مواقف الحصار النفسى في عهد كافور ومحاولة الخلاص منه “(42)..فيقول المتنبى:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيد..
بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم..
فليت دونك بيداً دونها بيد(43)
واستدعاء قول المتنبي ، يأخذ طبيعة ” التنصيص ” و” التوظيف “؛ إذ يستحضر الشاعر قول المتنبي دون تحريف ، يقول رفعت سلاّم:
يوم يضربه العطن
متى يغتسل الليل ، أنخلعُ
إلى جهة ضائعة نهرٌ
ينساب في الذاكرة ومرأة
شمالية راكدة أما الأحبة فالبيداء دونهم (44)…
فموقف الشاعر رفعت سلام يتفق تمام الاتفاق مع موقف المتنبي الذي حاصره كافور، فأراد الخلاص منه بالهرب والرحيل ؛ أما رفعت سلاّم فيحس بالملل واصفاً يومه بالعطن متمنياً انتهاء الليل ، حتى ينخلع ويهرب إلى أماكن أخرى بعيداً عن الحصار النفسى داخل الوطن. إذن فالشاعر السبعيني محاصر حصاراً ذاتياً واجتماعياً ، فهو يريد الفرار من مراقبة مجتمعه لمجتمع أكثر رحابة واتساعاً.
الهوامش
(1) انظر: مارك أنجينو: التناص ، مقال في: أصول الخطاب النقدى الجديد ، ترجمة وتقديم ، أحمد المدينى ، بغداد ، دار الشؤون الثقافية العامة ، ط1 ، 1987 ? صـ 102 ، وانظر:
Laurent Jenny, The stragetegy of form, in french literary theory today, edited by tzvetan to dorov, trans, by R. Carten combridge unir. Press, 1982 P. 39 Also sel, Intertextuality, the eroies and practices, edited with introduction by, machad worton and judith still, manch ester univ, press, 1990, P.1.
(2) رولان بارت: من العمل إلى النص: ترجمة محمد خير البقاعي ، مقال ضمن كتاب دراسات في النص والتناصية ، مركز الإنماء الحضارى ، سوريا ، صـ 16 ، 2004 .
(3( السابق: صـ 38 .
(4) السابق: صـ 39 .
(5) صبري حافظ: أفق الخطاب النقدى ، دراسات نظرية وقراءات تطبيقية ، دار شرقيات القاهرة ، 1996 ، صـ 57 – 58 .
(6) يرى المؤلف أن هناك بعض الدراسات التي عنيت بمصطلح التناص مثل دراسة الدكتور مجدي توفيق ، مفاهيم النقد ومصادرها عند جماعة الديوان ، ودراسة الدكتور محمد عبد المطلب ” التناص عند عبد القاهر الجرجانى ” وكتابه النص المشكل ، ودراسة حسن حماد ، تداخل النصوص في الرواية العربية ، ودراسة الدكتور صلاح فضل ، بلاغة الخطاب وعلم النص ، ودراسة الدكتور يوسف نوفل ….” . التناص والتناصية في كتاب استشفاف الشعر .
(7) فاطمة قنديل: التناص في شعر شعراء السبعينيات ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، سلسلة كتابات نقدية ، صـ 29 – 30 .
(8) مارك أنجينو: التناصية: ترجمة: محمد خير البقاعي ، ضمن كتاب دراسات في النص والتناصية ، صـ 60 – 61 .
(9) صبري حافظ: أفق الخطاب النقدى ، صـ 58 – 59 .
(10) جوليا كريستيفا: علم النص ، ترجمة فريد الزاهى ، ومراجعة: عبد الجليل ناظم ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط1 ، 1991 ، صـ 20.
(11) صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص ، عالم المعرفة ع ( 164 ) الكويت ، 1992 ، صـ 229 .
(12) رفعت سلاّم: إشراقات ، صــ 49 .
(13) الحجر: آية 29 .
(14) رفعت سلاّم: ” كأنها نهاية الأرض “: صــ 11 .
(15) إشراقات: صــ 22 .
(16) سورة لقمان: آية 18 .
(17) فاطمة قنديل: ” التناص في شعر السبعينيات ” ، سلسلة كتابات نقدية ، صــ 361 .
(18) الكهف: آية من 60 إلى 78 حوار مع موسى وفتاه ، ثم حواره مع الخضر عليهما السلام .
(19) محمد عبد المطلب: ” هكذا تكلم النص ” ؛ صــ 21 .
(20) إشراقات ، رفعت سلاّم صــ 43 .
(21) البخارى: صحيح البخارى ، باب ( صفة أهل الجنة ، ج (4) ، صــ 118 ، وأخرجه مسلم ج (1) ، صـــ 282 ، والترمذى
جـ2 صــ225 ، وابن ماجه ج2 ، صــ 305 .
(22) محمد عبد المطلب: هكذا تكلم النص ، صــ 61 .
(23) محمد فكرى عبد الرحمن: ” الخصائص الجمالية لمستويات بناء النص في شعر الحداثة ” ؛ دكتوراه ،مخطوط ، آداب
شمس ، 1994 ،صــ324 .
(24) رفعت سلاّم: ” وردة الفوضى الجميلة ” الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سنة 1987 ، صــ 43 .
(25) العهد القديم: ” نشيد الإنشاد 1/13 ? 14 .
(26) رفعت سلاّم: إشراقات ؛ صــ 27 .
(27) انظر: على عشر زايد: فصول مرجع سابق ، صــ 204 .
(28) انظر: على عشر زايد: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر المعاصر ؛ مرجع سابق ، صـــ 15 ، وما بعدها .
(29) انظر: أحمد مجاهد: أشكال التناص الشعري ، دراسة في توظيف الشخصيات التراثية ؛ الهيئة المصرية العامة للكتاب
صــ 8 وما بعدها .
(30) رفعت سلاّم: ” هكذا قلت للهاوية ” ، صـــ 13 .
(31) ديوان أبى نواس: ” تحقيق بدر الدين حاضرى ” ، دار الشرق العربي ، بيروت سنة 1992 ، صـــ 326 .
(32) ديوان المتنبى: صـــ 332 .
(33) ديوان المتنبى: صـــ 332 .
(34) محمد عبد المطلب: ” هكذا تكلم النص ” مرجع سابق صـــ 148 .
(35) عبد الحكم العلامى: ” الولاء والولاء المجاور ؛ بين الشعر والتصوف ” ، سلسلة كتابات نقدية ، ع (32 ) الهيئة العامة
لقصور الثقافة ؛ سنة 2003 ، صــ 79 .
(36) الحلاج ، شرح ديوان الحلاج ، حققه: كامل مصطفي الشيبى ، مكتبة النهضة ، بيروت ط1 ، 1974 ، ط1 ، صــ 166 .
(37) رفعت سلاّم: ” إشراقات ” ، صـــ 90 .
(38) انظر: أحمد مجاهد: ” أشكال التناص الشعري ” ، صـــ 155 .
(39) عبد الناصر هلال: ” توظيف التراث في الشعر العربي المعاصر ” ، رسالة دكتوراه ، مخطوطة ، ، بنات عين شمس سنة
1996 ، صــ 239 .
(40) رفعت سلاّم: ” كأنها نهاية الأرض “، صــ 79 .
(41) الميدانى: ” مجمع الأمثال ” ،تحقيق عبد الرحمن محمد ، مصر ، 1352 هـ ، جـ1 ، صــ 246 .
(42) محمد عبد المطلب: ” هكذا تكلم النص ” ، مرجع سابق ، صــــــ153.
(43) ديوان المتنبى: دار الجيل ، بيروت , صـــــ506. د.ت .
(44) رفعت سلاّم: هكذا قلت للهاوية ، صــ 66 .
أحمد الصغير *