حاوره: حسن الوزاني
كاتب مغربي
يواصل أحمد المديني مسيرته الإبداعية والنقدية، التي بدأها منذ أكثر من خمسة عقود، بكثير من الحماس الذي لا يكل. إنه من نوع الكتاب النادرين الذين يعيشون حياتهم وكتابتهم بحثا عن الجمال في المناطق المشتركة بينهما. راكم المديني ما يناهز الستين كتابا، سواء في الرواية، أو القصيدة، أو الشعر، أو أدب الرحلة، أو الدراسة النقدية، أو الترجمة. حصلت أعماله على عدد من الجوائز، من بينها جائزة المغرب الكبرى للكتاب في فرع النقد والدراسات الأدبية، سنة 2006، وجائزة المغرب للكتاب في فرع السرديات، سنة 2009، وجائزة محمّد زفزاف للرواية، عن منتدى أصيلة بالمغرب، سنة 2018، وجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، سنة 2020.
أنت شاعر وقاص وروائي وناقد ومترجم، بالإضافة إلى إسهاماتك في أدب الرحلة. كيف تعيش هذا التعدد؟ ما الذي يمكن أن يحمله هذا التعدد لك؟
– سُئلتُ مرارا عن ما تسميه التعدد. بالنسبة إليّ أراه فروعا من شجرة الإبداع والمعرفة في وجدان وعقل إنسان. وسأجيبك بطريقة مغايرة، بضيافتك إلى مكتبي، أفتح أمامك حاسوبي وأُشرع نوافذه. تفضل. هي الآن، أربع: رواية بصدد تنقيح فصلها الأخير (عن الدار البيضاء، إنسًا وعفاريت!)؛ وقصة قصيرة (شعب سيضطر أن يعيش الحداد أربعين عاما بسبب خطأ مذيع بلاغ النعي، أعلن أربعين بدل أربعة أيام، ولا مجال للتراجع) ؛ وترجمة أَنتهي منها (لقصص موبسان الغريبة بدقة وتعليق غير مسبوقين)؛ وكتاب رابع مفتوح أدوّن فيه تأملات عن العيش والثقافة من بؤرة باريس وأبعد. هي نوافذ، كما ترى مفتوحة ومتجاورة في بيت واحد، ومن كل نافذة أطل حسب الرغبة والاستعداد والانشغال والمزاج أيضا؛ أُطل منها على نفسي والخارج. إنما جميعُها تتطلب اليقظة والحماس، هي فلذات أكباد، نغمات للحن واحد، يعزفها من يعيش الكل في واحد ويصهر الكل بناظم التناغم (الهارموني) إن استطاع؛ علما أن الإنسان ليس دائما واحدًا، وما تسميه التعدد قد يكون بحثه الدائب عن اكتمال مستحيل في حيوات وعديد تعبيرات وتجليات.
بموازاة مع هذا التعدد، اتّسم مسارُك أيضا بتحولاته على مستوى الأفكار وأشكال الكتابة ونزعة التجريب. هل تلك طريقتُك لتجاوز الكاتب الذي هو أنت؟
– راهنتُ مبكرا على مفاهيم وأساليب وقيم التغيير، في الإبداع والبحث والحياة. غرّدتُ في قصصي الأولى خارج سرب الواقعية والالتزام، مفجرا القوالب كمقاتل في حرب عصابات، بلغة جامحة على صهوة المجاز. أنا خريج الثقافة العربية الكلاسيكية وآدابها شعرا ونثرا، وتنقلتُ بين الآداب بلغتين، وجيلي جله مُعرّب، لكني ملتُ أكثر إلى الأدب الحديث والمحدث فيه فظهرتُ شاذا وسط الأشباه والنسّاخين، كدت أُنبَذُ، لولا ثابرت وتحدّيت. كنا زمرة صغيرة بدأنا نعي ونمارس التجديد برفض المسلمات والواقع كما هو على كل المستويات، ونفخِّخ الوجود والمعنى الخشن بأشجان الذات. وإذ ننطلق من الواقع فإننا كتبنا بلغة وخيال من طراز “نعال من ريح”، وعانقنا المخاطر والتجريب، أي بخرق ما هو مألوف، مطروق ومُواتٍ للعين والإحساس والمذهب، منسجم مع سيادة فكرية إيديولوجية إن اتبعتَها تُلغي وجودك؛ أما التجريب فهو أن لا تقبل، وليس نزقا أو ترفا، بل نهجٌ ومعنى، هويةٌ تنتزعها لك، كتابتي التحولُ مدماكُها بما هو مبدأ خلاّق، كنا رواده، عليه سار أدبنا ويواصل.
يتوزع مسارك إلى الجانبين الإبداعي والأكاديمي، أين ينتهي الأول، وأين يبدأ الآخر؟
– تخرّجتُ من كلية الآداب في نهاية الستينيات والجامعة المغربية ترسي أعمدتها الأولى، وهي فتية ومتينة. كنا عشراتٍ لا آلاف اليوم، وأدبنا الحديث ما يفتأ يتأسّس ويحتاج إلى الدارسين، وهم أفراد معدودون من درسوه وأسهموا في إبداعيته؛ تاريخ الأدب يضعني في هذا الرعيل. بدأت أدبيا كتابة القصة القصيرة حسب تصور وبطريقة منفلتَيْن عن كل قيد (كلاسيكي)، وسجلتُ رسالتي لدبلوم الدراسات العليا عن هذا الفن في المغرب بالذات، ومضيت في طريق البحث الأكاديمي مهنتي التدريس تُلزم بالأطروحة أعددتها، ووجدت أن القراءة تفتح أفقا لمقاربة نصوص تنسجم مع ميولي إلى تحديث منفتح وصياغة ورؤية مغايرتين، شاردتين، فأصبح النقد ديدني، لي فيه تصور ومنهج وذوق، وأنا في ميدانه قارئٌ محترف. كما أني صرت مع الأيام كاتبا محترفا والكتابة عندي، مثل خورخي سمبرين، صنو الحياة. هذا المسار انتظمَ جنبا إلى جنب، لم أخطط له، مع تجربة أدبية غامرتُ بها مذ أول مجموعة قصصية لي وهي (العنف في الدماغ) الصادرة سنة 1971، وحدث شيء طريف أن أمتحن فيها سنة 1972 في دبلوم الدراسات المعمقة، وشيخي محمد السرغيني شاهد على هذا. هي إذن مستمرة متفاعلة، وسواء أكاديمية أو إبداعية أومن أن الكتابة موهبة وثقافة ومثابرة ونظام.
أنت تقيم بمدينة باريس، التي خصصت لها كتابين “نصيبي من باريس” و”فتن كاتب عربي في باريس”. ما الذي يمكن أن تمنحه مدينة كباريس للكاتب؟ هل تشعر أنك أخذت نصيبك؟
– يمكن لكلمات القاموس أن تنفَدَ ولا أفي بالجواب المطلوب. أضف إلى الكتابين المذكورين “كتاب الذات ويليه كتاب الضفاف” وديواني” تصريح بالابتهاج” ونصوصا غيرها. هذه المدينة- العالم مذ وفدتُ إليها لإعداد الأطروحة قبل أربعة عقود، ودرّست في جامعاتها، ثم أقمت فيها، صارت ضرعي ورئتي وشهيقا وزفيرا، لأني وجدت فيها كل ما افتقرت إليه ولم أعرفه قط في بلدي، ولا أيّ بلد عربي آخر. تمنح الثقافةَ والمعرفةَ والفنَّ والحريةَ والكرامةَ ومعنى التاريخ والعراقة، وتُعلم الجمالَ وحسّ المدنية وقيمة الفرد- الإنسان وتهذيبه؛ مكانٌ للباحث والكاتب والفنان، هي، باختصار، إحدى آخر حواضر الدنيا. لست من المعجبين السُّذج، ولا المفتتنين بالبهرج؛ حذار، فباريسُ غانيةٌ لا تَمنح نفسها لأي عابر، مدينةٌ صعبة المراس، سطحٌ وعمق، ظاهرٌ وخفي، أجناسٌ ولغات، (جنٌّ وملائكة)، تربية وانضباط والتزام وكدٌّ من الشروق إلى الغروب. يحضر إليها العرب سياحا، طلابُهم أيضا، قلةٌ يبصرون، والقشور وحدها ينالون. يخطفون شهادات فقط، وفي صميمهم يُعادون الغرب لأنهم لا يتغيرون. سيقال إنني مستلب. ليكن، أفضل من المستعبَد والتنطّع بحداثة زائفة. أنا عاشق، وحيث أعشق وطني، ويجدر العيش، كيف بباريس موطن حقوق الإنسان.
تحرص كثيرا على السفر، كما أنك نشرتَ العديد من نصوص الرحلات، آخرها كتاب” مغربي في فلسطين، أشواق الرحلة المغربية” الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة. هل تلك طريقتك لاكتشاف الآخر أم لاختراق عزلة الكاتب الذي هو أنت؟
– نعم، بدأت السفر مبكرا مذ غادرت وأنا في ميعة الصبا مدينتي الأصلية لأدرس في مدينة بعيدة، وكانت هذه خطوتي الأولى في حياة فرضت عليّ أن أعوِّل على نفسي وأقاسي، وأن أتعلم الوحدة وأتعايش معها، أولُها الاغتراب في المكان والسفر في الذات، أصبحا عندي مترادفين. في عنفوان شبابي، تركتُ المغرب لأعمل مدرسا بالجزائر سنة 1972، كان لا بد أن أرحل، ومنذئذ وترحالي متواصل، وهو ما أتاح لي التعرف على نصف العالم، والنصف الباقي أرحل إليه بانتظام بالقراءة، هي مع الحلم والشعر أغنى الرحلات. طبعا، أنت في الرحلة تتعرف على أناس آخرين وبيئات وثقافات وأنماط عيش وحضارات، لكنك -وهذا هو الأهم- تبحث عن شيء أهم وأعمق من المنظور، المبذول للجميع، يخاطبك أنت بالذات ويُعطي للترحّل معناه. سأقول لك ما قد يبدو لك مفارقا، إني أذهب إلى الرحلة لأعيش في منتهى العزلة عن الناس، فها هم قوم لا أعرفهم، ولا بلدانهم، أراهم للمرة الأولى وأنتقل بينهم بحياد، أحيانا، وشغف وافتتان مؤقتين، وأعرف أني سأترك الذكريات تتراكم في الخلف طبقةً من النسيان، هاجسي كان وسيبقى هو عرش الوحدة، لذلك أجمل ما يحلو لي في السفر الجلوس في باحة المقاهي والنظر بلا هدف وأنا أعي تماما أن ثمة ما يُرى ومختلف. حين ينتهي سفري أقيسُ درجة ما اكتنزت من استغراق في الذات بعد أن تكدستْ الأشياء، فأصبح مثل شخص تنتشله الأيدي من تحت الأنقاض بعد زلزال، كلما أُزيح طوب عاد إلى الحياة، كلما كتبت كلمة دفعتُ الرّدمَ وتنفست، فأعلم أن الكتابة هي طوق النجاة!
أنت أحد أبناء السبعينيات الذي اتسم بأفكاره ونضاله وبأحلامه بتحرير الإنسان. ما الذي تبقى من أحلام الجيل؟ هل تحنّ إلى هذه الفترة؟
– عندي هذا من الأسئلة الموجعة، أنأى بنفسي عن سماعها فكيف بالإجابة عنها، الحديث عنها تقليب للمواجع وضرب من المازوخية أمقتها، وإن كان هذا لا يعني أنني أريد أن أتخلص من المسؤولية. إنه تاريخي، وسِجِلُّ جيلي مغربيًا وعربيًا، وأنا فخور أنني أنتمي إلى هذه الحقبة، الوحيدة التي يُعتدّ بها في تاريخ المغرب الحديث والعربي مجتمعا من نواحي الصراع الاجتماعي والنضال من أجل تحقيق المبادئ الكبرى للديموقراطية والعدالة الاجتماعية، ودولة الحق والقانون، لإرساء الدولة الوطنية في مبناها المؤسسي والحقوقي واستكمال التحرر بعد الاستقلال. لم تكن شعارات طنانة، بل برنامج عمل سياسي واقتصادي وثقافي خاضته القوى الوطنية الديموقراطية بعقيدة وصلابة ودفعنا من أجله ثمنا باهظا منه سنوات عمرنا في غياهب السجون. إن الأجيال الحاضرة مدينةٌ لجيل السبعينيات وقبله الستينيات أيضا بكل شيء. بإضافة رعيل الحركة الوطنية، السبعينيون أسسوا كل شيء، يكفيني أني عشت وتعلمت من شهيدين (المهدي بن بركة، وعمر بن جلون) وشهدت انقلابين، وانخرطنا في مشاريع ونضالات على المستويات كافة ضد الظلم والاستبداد أثمرت اليوم حقوقا لا يستهان بها منها جيل جديد أصبح يتظاهر ويرفع صوته يقول أنا، لا أندم. الماضي يوجد في مكانه، ونباته ظهر، أحلامنا لم تنطفئ؛ أما الحنين، فلا تسل!
اتسمَ نفس الجيل أيضا بسجالاته الثقافية والمهمة، وكنتَ أحد روادها. الآن، خفتت السجالات. هل يعود ذلك إلى انسحاب الكُتاب من واجهة النقاش؟
– لم تكن سجالاتٍ، كانت معاركَ إيديولوجية وصراعاتٍ ثقافيةٍ حامية، بين قوى كنا نسميها رجعية ومحافظة، وأخرى مناوئة، متعددة المنازع، تؤمن بقيم التقدم والتغيير وحتى الثورة. كانت الثقافة بتعبيراتها المختلفة جزءا من إيديولوجية وعمل الحركة التقدمية، وكان مفهوم المثقف والكاتب وهويته مستمدَّين ومشروطين بموقفه الملتزم تجاه قضايا شعبه وانتمائه سلوكا ولسانا ضمن (جوقة) قوى التغيير. حقبة السبعينيات وعاء ومرآة لهذا الصراع والتأسيس. عُد إلى الملحق الثقافي لجريدة “المحرر” لسان الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي أشرفتُ عليه لسنوات، صار مدرسة ومضمارًا للحوار أولا، ثم النقاش الفكري والأدبي، وأخيرا لاقتراح مفاهيم وأطروحات للتغيير والتحديث. علينا أن نستحضر أيضا الدور التاريخي الذي قام به اتحاد كتاب المغرب في ظروف صعبة جدا. أما اليوم، فقد انتقلنا إلى هيمنة نخب تقنوية لا تحفل بمبادئ مرحلتنا، ومثقفين مرتبطين بمصالح،.. وأكاديميين يميلون إلى الاختصاص، وهذا أفضل لتتضح الرؤية ويُفرز المشهد؛ ثم أوَ لم يقايض اليسار تاريخه كله بما هو معروف، لقد تم ترويض النّمرة، لننتظر يوما آخر.
كان عملك الروائي “ممر الصفصاف ضمن اللائحة القصيرة لجائزة البوكر (2015). كما حصلت على عدد من الجوائز، وطنية وعربية، آخرها جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة. ما الذي يمكن أن تضيفه الجوائز للكاتب؟
– باختصار شديد، الجوائز فاكهة طيبة، حين تسمو بهدفها، وإذ تُعلي الكاتب معنويا، وتسنده ماديا، في حال العوز، وتروِّج بيع الكِتاب، لكنها لا تصنع موهبة، ولن تصقل عملة زائفة، وفي الجوائز العربية، تَواتَر هذا، من أسف. إعطني عملا جيدا، أصيلا ومجددا، فكرًا كان أم إبداعا، ولجنة تحكيم مؤهلة حقا، وضميرا ثقافيا منزها عن الغرض، ودعني من الباقي.
ما الذي يستطيع أن يقوله الأدب في لحظة كونية تغمرها التفاصيل المرهبة؟
– أوه، يستطيع الكثير عند من يؤمن بالقيم الرمزية ويحس بقلق الإنسان اللانهائي في الوجود، ولا يبادل بقصيدة كل ثروة وفحش ولا إنسانية العالم المعاصر.