عن دار النسيم للنشر والتوزيع بالقاهرة صدرت الطبعة الأولى من رواية « أنثى الأنهار، من سيرة الجرح والملح والعزيمة «لصاحبتها الدكتورة السودانية التي تقيم منذ فترة طويلة بالسويد وتتنزّل هذه الرواية ضمن أدب السيرة الذاتية التي تقدم فيها الكاتبة تجربتها في الحياة للاعتبار منها وربما للإستئناس بها من أجل قراءة تجربة ذاتية في الحياة عكست مرحلة هامة من تاريخ السودان وتعرضت الى عاداته السلوكية وقيمه الأخلاقية وتشريطاته الثقافية المختلفة
عتبة العنوان :
اختارت الكاتبة إشراقة مصطفى لروايتها عنوان « أنثى الأنهار « فنلاحظ انها باستعمالها لفظ الأنثى تحديدا كأنها ترغب ان تعيدنا الى بداية التاريخ البشري حيث الذكر والأنثى وبداية التكوين وبذلك تعود بنا إلى البدايات الأولى لتشكّل الوعي البشري ولعلها تريد ان تقول ان هذه الرواية التي تتضمن سيرتها الذاتية انما هي سيرة البشرية التي تأتي على لسان المرأة لتسرد قصة الإنسان التي تعجّ بأحلام وأوهام بانكسارات وانتصارات باحباطات وتحديات تجعل من الانسان كائنا بوميثيوسيا بامتياز.
كما ان العنوان يحيلنا إلى الأنوثة والذكورة ولعبة الأدوار التي تخضع إلى التشريط الثقافي والذي يختلف من بلد إلى آخر وكأن الكاتبة بذلك تريد أن تلمّح الى أهمية تنسيب القيم والقواعد السلوكية الثقافية والذي وحده يسمح بتواصل ثقافي عميق ومثمر بين الشعوب.
في العنوان تعيد الكاتبة إشراقة مصطفى الأنثى إلى الأنهار ويبدو انها تقصد بذلك بلادها السودان التي عرفت بتعدّد الأنهار ( نهر النيل، نهر الدندر، نهر القاش، نهر بركة ، نهر سيتيت الخ ..) هذه الأنهار التي تجعل من السودان سهولا خصبة وثرية إضافة إلى ان النهر يحيلنا إلى الماء بما هو أحد عناصر الكون فكأن الكاتبة إذ تختار أنثى الأنهار تريد أن تؤكد من جهة انتماءها للسودان فكأنها ستحكي سيرة ذاتية للسودان ومن جهة أخرى تؤكد من خلال دلالة الماء ان المرأة رمز للخصوبة وللحياة وهذا ما جعل أييس آلهة الخصوبة في مصر الفرعونية مثلا. ولذلك لم يكن غريبا أن تهتم الحضارة اليونانية بآلهة الأنهار( بما هي مجموعة من الآلهات التابعة لها مثل آخيلس، آخيرون، آسيس وآلفيوس….).
ثم تضيف الكاتبة اشراقة مصطفى عنوانا فرعيا لروايتها « من سيرة الجرح والملح والعزيمة» ولعل في هذه الإضافة تسلّط الضوء على الجرح مرحلة الآلام والانكسارات التي عاشتها ثم تضيف لها الملح ولعلها ترمز بذلك الى مجموعة الجيران والأصدقاء الذين آمنوا بها وساندوها في محن كثيرة وكانت العزيمة هي كلمة السرّ التي جعلت الكاتبة تستميت من أجل انجاح مشوارها في الحياة واضافة معنى جميل لوجودها.
عتبة الغلاف :
لهذا الكتاب تمّ اختيار صورة فوتوغرافية تمتدّ على كل الغلاف تظهر فيها امرأة بالثوب السوداني وتحتل فقط جزءاً من مساحة صغيرة على يسار الصورة كأن المرأة تهمّ بالخروج من إطار الغلاف، كأنها تستكثر على نفسها أن تكون في مواجهة الكاميرا خصوصا وانها تبدو مطأطأة الرأس وقد غطّت وجهها بيديها النحيلتين اللتين تحملان أساور سودانية .. تبدو المرأة خجولة لا تزيح يديها عن وجهها وبذلك يتعطّل أول اتصال بينها وبين الآخر على اعتبار ان الوجه بما يحمله من انفعالات انما يمثل وفق التحليل السيكولوجي أول مفتاح للتعرّف على الشخصية وأول عتبة للتواصل مع الآخر .. هذا ربما ينتهي بنا إلى أننا أمام شخصية مهتزّة تفتقد الثقة بالنفس وبالتالي ينقصها التقدير الذاتي وغير متصالحة مع نفسها وربما لذلك تخجل أن تكشف عن وجهها وأن تنظر بثقة إلى الكاميرا لهذا أجد مصمّم الصورة قد وفّق كثيرا في جعلها تكاد تغادر إطار الصورة وقد تدخلت تقنية الفوتوشوب لتجعل المرأة تبدو بلون بنّي قاتم يزيد من غموضها على خلفية ذات لون أزرق لازوردي بما هو لون ملكي يعكس الرقي والتفرّد وسيكولوجيا يوحي بالثقة والصدق ويشير الى الهدوء والاطمئنان . أن يجتمع البُنّي الغامق بالأزرق اللازوردي هو أن يلتقي نقيضان يبثان الارتباك ويثير الفضول لدى متصفح الكتاب، ربما هذه الصورة لا تعبّر كثيرا عن الشخصية الرئيسية في هذا الكتاب التي نجدها شخصية عنيدة ومندفعة ومؤمنة بقدراتها وأعتقد انها على امتداد مسيرتها في الحياة ان تتحدى نفسها وظروف المجتمع وان تغيّر من الصورة النمطية للمرأة السلبية والمرتبكة. في الغلاف الخلفي للكتاب تكشف الكاتبة عن الشخصية الرئيسية للرواية فنجد صورتها تبدو في جلسة مريحة بنظرة تشي بالثقة في النفس وبابتسامة هادئة تعبر عن الإعتداد بالذات..
من خلال صورتي الغلاف كأن الكاتبة تشير إلى ماهو كائن وإلى ما يجب أن يكون، لذلك تتحدث إشراقة مصطفى حامد بصوت مرتفع عن تجربتها في الحياة وبذلك تتحدى الصورة النمطية التي سادت لعصور طويلة عن المرأة ولا سبيل الى ذلك الا بالتعلّم وقوة الإرادة ولذلك انتقلت من امرأة تبيع الشاي والسندويتش للعابرين إلى الصورة الخلفية للكتاب حيث نجدها امرأة قوية ومنفتحة تحاضر في ندوات هامة وجامعات عديدة بأوروبا..
تلخيص الرواية :
على امتداد قرابة المائتي صفحة تسرد الكاتبة اشراقة مصطفى تجربتها في الحياة بأسلوب روائي سلس معتمدة في ذلك على نسق كرونولوجي يحترم في المجمل الاحداث المتسلسلة من لحظة الميلاد حتى نزولها في مطار السويد، وفي رحلة الحياة هذه تلتقط الأحداث اليومية التي تقع في بيت عائلتها وتستعرض اشكالا مختلفة من الحياة الاجتماعية وأهم الاحداث السياسية التي عاشتها السودان من وجهة نظرها كطفلة صغيرة وصبية حالمة.
القيمة الأدبية للسيرة الذاتية – الروائية :
تصنّف الدكتورة إشراقة مصطفى كتابها في صنف الرواية وتقدم سيرة ذاتية لها تبرّر لها بأن قيمة ما عاشته في الحياة لا يعدّ بالسنوات بل بالتجارب وترى انها عاشت تجارب قاسية وأخرى طريفة ذات دلالة عميقة تستحق ان تسجّل لتكون عِبرة وأيضا شهادة عن مرحلة ذاتية واجتماعية عاشتها خصوصها وان ذلك يتزامن مع متغيرات هامة عاشها بلدها السودان .
يعرف فليب لوجون السيرة الذاتية أو الأوطوبيوغرافيا بأنها عبارة: «عن محكي استرجاعي نثري يحكيه شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية وخصوصا على تاريخ شخصيته « (1 )». وأول من كتب في السيرة الذاتية الأديب الفرنسي الشهير روسو أما في الأدب العربي يعتبر طه حسين له الريادة من خلال كتابه الشهير « الأيام» ولم تغفل المرأة المبدعة كتابة سيرتها الذاتية فكانت نوال السعداوي ثم فدوى طوقان ونازك الملائكة الى غير ذلك من الأسماء الإبداعية لكتّاب وكاتبات سجلوا سيرهم الذاتية بأشكال سردية مختلفة .
خصوصية السيرة الذاتية للكاتبة اشراقة مصطفى انها لا تمجّد مسيرتها في الحياة بل تكشف بجرأة قلّ نظيرها ما عاشته كطفلة صغيرة تعرّضت للختان وتتحدث عن حاجتها الشديدة التي جعلتها تبيع الساندويتش والشاي للطلبة والعابرين حتى تسدّ الكفاف . مثل هذه الجرأة لا تشبه إلا بعض ما كتبه الكبير محمد شكري في «الخبز الحافي» واذا كانت جرأة محمد شكري تفسر بالعودة إلى تركيبته الشخصية التي اعتادت ان لا تهتم بنظرة الآخر ولا تبالي بأحكامه الاخلاقية في حين أن ما يفسّر جرأة اشراقة مصطفى قد يعود الى هجرتها المبكرة الى أوروبا حيث تغذت شخصيتها على التقدير الذاتي لتجربتها في الحياة دون اهتمام كلي بتقييم الآخر وحتى عند تعرضها لبعض الشخصيات الفاعلة في حياتها لم تذكرهم بالاسم او غيرت من اسمائهم بأخرى أو بكنيات فقد أوضحت انها تفعل ذلك استجابة لرغبتهم واحتراما منها لاختياراتهم تلك .
و اذا كانت السير الذاتية تنقسم الى نوعين سيرة تمجيدية تنتهي بانتصار صاحبها مثل «الايام» لطه حسين واخرى مأساوية تنتهي بعجز وموت صاحبها مثل «الرحيل» للمغربي العربي باطما فان السيرة الذاتية لاشراقة مصطفى كانت مزيجا من الانتصارات والاحباطات تتراوح بين نصر وهزيمة وحتى عندما انهت كتابها « انثى النهار « بنجاحها في السفر الى النمسا فان تجربتها في بلاد الغرب لن تكون كلها سهلة وسعيدة بل تخللتها الكثير من الهزائم والألام ( 2 ) ولكن رغبة المرأة في كسب تحدي الحياة هو الذي دفعها الى انجاح تجربتها في فينا.
السيرة الذاتية بين الخاص والعام :
1/ إلتقاط التفاصيل اليومية وصوت المجتمع :
أهم ما يلفت الانتباه في رواية اشراقة مصطفى انها تتحدث عن ذاتها عن عائلتها عن جيرانها وهي في كل ذلك تلتقط مشاهد حيّة من المجتمع تمثّل الوعي السائد وتعبّر عن أسلوب في الحياة وطريقة عيش في مجتمعها ولذلك نجد اشراقة مصطفى تسجل تفاصيل حياتية كثيرة بعضها اندثر وبعضها الآخر لايزال يجثم على المجتمع:
مشاهد مندثرة :
من المشاهد التي تلاشت كليا بفعل تطور المجتمع ولم يعد لها مكان في المجتمع إلا في ذاكرة البعض من ذلك حامل الخراء الذي يساعد الناس على التخلص من فضلاتهم وإلقائها بعيدا عن التجمعات السكنية بمقابل مادي .
و ما لفت انتباهي ان الروائية اشراقة مصطفى عندما تتحدث عن حامل الخراء مثلا لم ترغب في الاشارة الى مكانته الاجتماعية المتدنية ولم تقدم موقف المجتمع منه بل فقط اكتفت بالاشارة الى شغب الاطفال حوله ومشاكساتهم البريئة التي سرعان ما تنتهي بمجرد أن يلحق بهم ساخطا عليهم. ومن خلال هذا المشهد الذي اندثر كليا في المجتمع السوداني نجد ان اشراقة مصطفى تسجل ذاكرة المجتمع وترصد طريقته في التعاطي مع الحياة اليومية وهذا يحسب لكتابها لأنه يصبح وثيقة هامة عن مرحلة عاشها المجتمع وعن كيفية تعاطيه مع ذاته.
حادثة الختان والجرأة الأدبية
بأسلوب سردي تتحدث اشراقة مصطفى عن الموروث الثقافي السائد في مجتمعها الذي لايزال جاثما بكل ثقله ويمثّل قيماً أخلاقية وقواعد سلوكية ثابتة مثل ختان البنات الذي أعتقد ان من أكثر الاحداث التي سردتها تأثيرا لدى القارئ فقد نقلت كل تفاصيل الحادثة التي عاشتها مع أختها وما كان يدور حولها وسيتفاجأ كل من لا يعرف مثل هذه الحادثة الأجواء الاحتفالية التي تصاحبها مثل الحلوى التي توزّع على الأطفال والغناء الذي يصاحب صُراخ الطفلة وهي تختن والطبل الذي يضرب في فناء الدار احتفالا بهذه العملية، ثم الأنكى من كل ذلك ان عملية الختان قد تُعاد اذا تبين ان العملية الأولى لم تقطع البظر جيدا ولم تأت على الشفرين الداخليين والخارجيين لعضو الطفلة.
سبق وان قرأتُ بعض الأدبيات القليلة التي تتحدث عن ختان البنات على اعتبار انه يعدّ من الطابوهات في المجتمعات التي تمارسها ويُرفض الحديث عنها إلا تلميحا ولكن خصوصية ما كتبته اشراقة مصطفى هي الجرأة الأدبية التي جعلتها تنقل ما حدث لها بصدق نادر ولعل أهم ما لفت انتباهي انها وهي تسرد هذه الحادثة لا تطلق أحكاما قيمية على هذا السلوك الثقافي وانما تسرده بكل انفعالاتها الشخصية ولكن بموضوعية أي دون ان تلعن أو تشتم المجتمع الذي يمارس ذلك وتترك القارئ هو الذي يتخذ موقفا بنفسه من هذه العادة القديمة، تسرد إشراقة مصطفى حادثة ختانها وهي تتمثّل نفسها طفلة من جديد تعيش انفعالاتها وارتباكها وفزعها وصراخها ولأن الطفلة لا تملك القدرة على تقييم هذا الفعل فان اشراقة مصطفى في سردها لهذه الحادثة لم تسقط في التقيمم الأخلاقي أو الحضاري وكانت وفية لتلك اللحظة فقدمتها بعين طفلة صغيرة وعاجزة ولا تملك القدرة على فك شيفرة المجتمع الذي يتمسك بارثه الثقافي ويضفي عليه صفة قدسية تجعل ممارسته نوعا من الورع الديني.
عنونت الكاتبة فصل الختان «حشرجة الموس وبداية الترويض» وتقول ص 26
«حاولت رفع رأسي لأرى ماذا تفعل هذه المرأة، زجرتني التي تمسك يدي اليسار بأن أغمض عيوني ولا أسأل كثيرا ، كنت أسمع صوت الطبل يعلو في الخارج ، بنات الحلّة والنساء يزغردن كلما غاصت الداية في لحمي».
تعدّد الزوجات :
تشير إشراقة مصطفى إلى ظاهرة اجتماعية أخرى عاشتها عائلتها هي تعدّد الزوجات عندما تخلّى والدها عن أمها وتزوج بأخرى .. ومرة ثانية نجد إشراقة مصطفى تنقل هذه الحادثة بعين فتاة تحبّ أمها كثيرا وتتعاطف مع تجربتها القاسية دون أن تتخلّى عن حب والدها الذي تتحدث عنه دائما بنوع من العشق الأبوي والفخر فهي من جهة لا تستطيع أن تغضّ الطرف عن محنة أمها وشعورها بالمهانة وهي تُترك من طرف زوجها لتحلّ امرأة ثانية في قلبه وحياته ومن جهة أخرى لا تقوم بمحاسبة والدها وتبدي احترامها لاختياراته في الحياة ومرة اخرى تنجح في عدم السقوط في الأحكام الأخلاقية فتقدم مواقفها الآن مما حدث في الماضي .
أعتقد ان سرد إشراقة مصطفى لهذه التجارب الحياتية بنوع من الحياد بحيث لا تقوم بجَلْد المجتمع عن موروثه الاجتماعي إنما يعبّر عن حِرَفية منها في كتابة سيرتها الذاتية ويحسب لها انها لا تطلق أحكاما معيارية على نظم أخلاقية تبدو متخلّفة وتعكس حالة الجهل السائدة في المجتمع التي لا تحترم المرأة وتهين جسدها من خلال ختان البنات كما تهين كبرياءها من خلال تعدّد الزوجات.
تقول ص 40 « ومنذ قراره الزواج مرة أخرى ومنذ تلك الليلة التي جلست فيها أمي على كرسي حتى الصباح تدخن لفافات حزنها، كنت أتقلّب في فراشي (…) ومع ذلك يبقى أبي أوسم الرجال الذين أحببتهم رغم الألم الذي أزهر «.
لعل الروائية تدرك انه من الصعب جدا زحزحة المجتمع عن عاداته الإجتماعية بالسخط عليه ولذلك يبدو انها تستعين بالقارئ ليكون قوة ضغط على المجتمع بإثارة تعاطفه الكبير مع الضحية ليراجع المجتمع عاداته السلوكية ومواقفه من الشرف كقيمة والتي تفرد له الروائية مساحة لتكشف ان الشرف كقيمة لا يمكن ان يودع مثلا بين أفخاذ الفتيات الصغيرات.
عن التعاون الإجتماعي :
من جهة أخرى تتعرض اشراقة مصطفى لبعض العادات الإجتماعية التي لها قيمة أخلاقية تجلب الإعجاب والتقدير من خلال التفاف عديد كبير من اصدقائها وعائلاتهم حول حلمها ومساعدتها كثيرا على تحدي العقبات فقاوموا بتذليل صعوبات كثيرة اما بإسداء النصيحة لها او بفتح ابواب بيوتهم لها ولعل أكثر اللحظات تأثيرا عندما ساندها بعض اصدقائها على اعداد سندويتشات وبيع الشاي للطلبة والعابرين حتى توفر مدخولا اضافيا يعينها على تحمّل اعباء الحياة .. ويبدو ان المساندة التي لقيتها من طرف جيرانها واصدقائها قد أثّرت كثيرا في وجدان الروائية التي افرت مساحة من إهداء الكتاب لهم كما أجدها قد لمّحت لهم في عنوان نفسه.
يبرز التعاون الإجتماعي أيضا في حادثة القطار عندما تعطّل سيره نتيجة أشغال بالسكة وكان ذلك قريب من إحدى القرى فما كان من أهل القرية الا ان استضافوا كل راكبي القطار وأدخلوهم إلى بيوتهم وأسكنوهم مع عائلاتهم وأكرموهم فاعتنوا بالمريض منهم واهتموا بصغيرهم وتكوّنت لُحمة بينهم تعكس طيبتهم كرمهم ولطفهم حتى إنتهي العُمّال من إصلاح السكّة واستأنف القطار رحلته للعاصمة.
في التعاون الإجتماعي تنتصر الروائية لطبيعة المجتمع السوداني الذي لم يدنّسه بعد غول العولمة وظل يحافظ على قيمه الإنسانية وعلى فائض من اللطف والكرم.
تقول الكاتبة ص 50 « الصورة التي لا يمكن نسيانها حين جاء نفر من الحي الأقرب
إلى المحطة وأقسموا بالله وكل عزيز لديهم أن يذهب الركّاب معهم وتمّ توزيعهم على كل البيوت ، أفسح لنا أهل الحي في بيوتهم أعدّوا لنا الماء للإستحمام والسجّاد للصلاة كان الأكل بعدها معدّا والكل يتسابق للقيام بواجب الضيافة والكرم ، يومان بقينا في بيوت سنار التقاطع وحفظت ذاكرتي كثيرا من الحكايات والقصص».
2 / شهادة عن مرحلة تاريخية :
لا تخلو كل سيرة ذاتية من التعرّض إلى أحداث تاريخية عاشها السارد وتمثّل محطات هامة جدا تعيشها البلاد، وإشراقة مصطفى وهي تتحدث عن تجربتها الجامعية فانها تبدو واعية بضرورة الاشادة بما قدمه السودان للثقافة العربية من أسماء هامة مثل ملكة الدار محمد التي تشير في هامش الصفحة انها كانت أول روائية عربية برواية عنوانها « الفراغ العريض « ( ص 6 )، تقدم شهادة هامة عن مرحلة الجامعة التي كان فيها الصراع شديدا بين التيارات الإسلامية والشيوعية وكانت مناسبة لتقديم طبيعة الحراك الطلاّبي الذي يمثل النخبة المثقفة من المجتمع وكيفية تفاعلها مع ما يحدث في البلاد لذلك نجد الصراع شديدا بين التيارين السياسيين الإسلامي الذي لم يقوّض كليا العلاقات الانسانية بين الطلبة متناقضة تهيمن عليها أحيانا سطوة الإيديولوجيا وأحيانا يطغى عليها البعد الانساني تقول الكاتبة ص 98
« (…) حين قامت طالبات الإتجاه الإسلامي بالداخلية بمحاولة عزلي، كان البرد قاسيا أيامها ولم تقبل أي من الطالبات أن أكون شريكة لها في حجرتها كان الخوف سيد المكان وسيطرة طالبات الإتجاه الإسلامي كانت قوية»
ثم تقول ص 87 « (…) تلك الطالبة أيضا التي تنتمي الى كوستي تطلب مني أن آتيها أيضا لنتناول معا الطعام على الرغم من أن ميولنا السياسية حينها كانت على حدي النقيض « ولم تخفي الروائية اشراقة مصطفى إنتماءها الإيديولوجي الذي تميل فيه إلى التيار الشيوعي وتنتصر فيه إلى الطبقة المهمّشة والفقيرة وإن كنا لا ندري ان كان هذا الموقف الإيديولوجي من الكاتبة له علاقة بانتمائها إلى طبقة يغلب عليها الفقر أم الى حادثة الختان المريعة التي تعرّضت لها والتي تجد لدى المؤمنين بها مسوّغا دينيا يبرّرها ؟
أيضا ترصد اشراقة مصطفى بعين الطالبة الإنقلاب السياسي الذي عاشته السودان وما رافق ذلك من شعور بالفزع والخوف من المجهول الذي شعر به العامة على اعتبار انهم وجدوا انفسهم في حالة من الفوضى والإرباك العام المثير للقلق الشديد وهي بذلك تسجل تفاعل عامة الناس مما حدث. أيضا تحدثت الكاتبة عن المظاهرات الشعبية المختلفة ووقفات الإحتجاج العديدة تجاه أحداث كبيرة عاشتها الساحة السياسية للسودان وشاركت الكاتبة اشراقة مصطفى في بعضها وما أعقب ذلك من شعور شعبي بالإحباط الشديد وما رافق ذلك من انتشار الفقر وشيوع البطالة وتلاشي أملهم في غد أفضل وفي ديمقراطية بناّءة .
ولعل أكثر المشاهد تأثيرا رصدها لإنفعالات الناس يوم أُعدم الأستاذ محمود محمد طه وتُسمّي ذلك اليوم بالمشؤوم ، تقول ص 88 « حيث لبستُ ( فردة ) أمي حليمة البيضاء التي منحتني إياها وتركتُ شعري الآفرو كما هو أغبشا ومغبّرا كحال البلاد يومئذ. سيرا على الأقدام من حي الخرطوم ثلاثة حتى مدخل مدينة بحري حيث وقف العساكر صفا صفا في محاولة لدحر أحلامنا ويسطون عليها «.
و لعل أشدّ ما يلفت الإنتباه الدور النظالي التي كانت تقوم به المرأة السودانية من خلال عموم الطالبات على اختلاف اطروحاتهن الإيديولوجية، بمعنى ان المرأة كانت حاضرة في كل التظاهرات السياسية لها موقفا ورأيا وتعبّر عنه من خلال خروجها في المظاهرات اضافة الى النشاطات السرية السياسية وقد نالها ما نال الرجل من مضايقات ومداهمات وسجن وتعذيب .. تقول ص 96 :
« ذلك العام 1985 حيث تحقق الحلم بأن أدرس الإعلام هناك استمرت تجربة العمل السياسي في الجامعة الإسلامية بكلية البنات تجربة حقيقية عشناها بكل ايجابياتها وسلبياتها وحافزنا كان التغيير «.
ولعل قيمة هذا التسجيل لهذه الأحداث التاريخية الهامة انها وردت في اطار سيرة ذاتية اي في اطار غير رسمي فالكتاب ليس سياسي او تاريخي وهذا ما يجعل منه شهادة حية نابضة بالصدق عن موقف العامة تجاه كل ما كان يحدث سياسيا.
الخصوصية الفنية للرواية :
اختارت المؤلفة إشراقة مصطفى أن يكون الراوي من خلال السارد العليم لتقدم شخصية لامرأة عاشت حياتها من خلال تجارب مختلفة تراوح بين الإنكسار والإنتصار، بهذا الشكل يبدو ثمّة نوع من التطابق بين المؤلفة والراوية والشخصية المركزية وهذا التطابق مألوفا في الكتابة السير الذاتية بحيث ان المؤلفة كانت تقود الراوية باقتدار إلى التعبير عن الشخصية المركزية وإقتفاء أثرها في كل التفاصيل الذاتية والأحداث الإجتماعية والتحوّلات التاريخية التي عاشتها إشراقة مصطفى في السودان.
اختارت الكاتبة ان تعتمد تقنية الفلاش باك فتنطلق في الفصول الأولى من صالة المغادرة بالمطار حيت تجمّع الرّكاب للصعود الى الطائرة وتنطلق من أحاسيسها المرتبكة وخوفها من المغامرة المجهولة التي توشك عليها وتنتهي في الفصل الأخير ص 190 بصوت المضيفة « ينتزعني من هذا الدفء والحزن والعبرات وهي تنبّه بأن الطائرة ستهبط بعد قليل على مطار فيينا الدولي أربطوا الأحزمة بالكاد أفتح عيوني المنتفخة بالبكاء». من لحظة صعودها الطائرة الى لحظة النزول منها كانت اشراقة مصطفى تستعيد مسار حياتها كأنه شريط سينمائي يمرّ امامها وكان ان حوّلت هذا الشريط إلى هذا الكتاب السردي .
أسلوب الكتابة كان يسترسل في منبسط سردي دون نتوءات تفاجئ القارئ
فقط ثمّة لحظة معيّنة اختارت فيها الراوية أن تتوقف عن السرد لتشير أنها في النمسا وتترك القارئ يتساءل كيف وصلت إلى هناك، تتركه مشدودا بفضول نحو تلك اللحظة وتعود للحديث عن معاناتها الشديدة ومكابداتها القاسية من أجل تحقيق حلمها. وقد بدت الرواية في هذا الكتاب قوية الذاكرة تحتفظ بكل التفاصيل الجزئية وبهذا تحتل الذاكرة مكانة مهمة تقطع مع التخييل الذي سيبدو نشازا وغير مرغوب به في الكتابة السير ذاتية، اختارت الكاتبة لغة سلسلة طعّمتها أحيانا باللهجة السودانية عندما يتعلق الامر بحوار مثلا حتى تقرّب مناخات اللحظة السردية من القارئ كما سعت لجعل كتابتها تضج بالروح السودانية فتعرضت إلى بعض العادات في الاكل والاحتفال والاغاني المتداولة وأسماء المشاهير في الفن والأدب كما احتفت ببعض الأماكن التي أثرت في وجدها مثل مدينة كوستي.
ما يشبه الخاتمة …
إذ نلاحظ بعض الأخطاء اللغوية في الكتاب التي قد تكون مجرد هنّات في الطبع يمكن مراجعتها في طبعة أخرى للكتاب فاني أعتقد ان القيمة الأدبية لهذا الكتاب انما تتمثل في انه يمثّل إضافة للمنجز السير ذاتي في العالم العربي خاصة وانه كُتب بجرأة وعمق وصدق كبير خصوصا وانه بقلم امرأة ولم نعتد من المرأة ان تكتب سيرتها الذاتية بشجاعة تكشف من خلالها عما عاشته من تجارب ذاتية تحيل الى ارث ثقافي يغلب عليه الجهل والتكلّس كما انتصرت فيه إلى قيم إنسانية انتشرت في المجتمع بشكل عفوي تؤكد ان الانسان السوداني في طبيعته خيّر ومسالم .
فقط ما يلاحظه القارئ ان هذه السيرة الذاتية بدت تمجيدية وهو خطأ فادح تسقط فيه الكثير من السير- الذاتية في المشهد العربي سواء كتبها السياسيون أو الأدباء أو الفنانون بمعنى الإكتفاء فقط بتلميع صورة الأنا دون التعرض إلى ما يمكن أن ترتكبه الذات من حماقات وهفوات وأخطاء في حق نفسها أو في حق الآخر وقد يعود ذلك الى الخوف من نظرة الآخر ومن تقييمه الأخلاقي ، لكن هذا لا يقلّل أبدا من القيمة الإنسانية لتجربة الكاتبة إشراقة مصطفى.
و أنتهي أن هذا الكتاب لا يعبّر عن سيرة ذاتية لإشراقة مصطفى فقط وإنما هو يمكن أن يكون سيرة ذاتية لكل إمرأة حالمة تدافع عن حقها في تحويل أحلامها إلى واقع معيش وتتسلّح بالمعرفة والعلم من أجل أن تفتك مكانتها تحت الشمس، بل أعتقد ان هذا الكتاب هو سيرة ذاتية للسودان بلد طموح تعصف به الزوابع والأعاصير السياسية ويحافظ على حقه في التعلّم وأحلامه في التنمية ويقوده إصراره وعناده من أجل اثبات ذاته واستقلاليته ويسعى للإنفتاح على الثقافات الأخرى .
انتهى
رواية « أنثى الأنهار – من سيرة الجرح والملح والعزيمة «
لصاحبتها إشراقة مصطفى حامد / الطبعة الأولى / 2015
عن دار النسيم للنشر والتوزيع / القاهرة – مصر
الهوامش :
1 – مقالة « فن السيرة الذاتية « لجميل حمداوي
2 – أشارت اشراقة مصطفى ان تجربتها في النمسا ستكون من خلال الجزء الثاني من سيرتها الذاتية .
فاطمة بن محمود