قد لا يهم إن كان الكاتب يضع العنوان قبل كتابة النص أو أثناء فترة الاختمار أو لحظة الكتابة أو بعد إنهائه ، كما إنه إذا هو وضعه بهدف إشهاري عابر، فإنك لا تجد له امتدادا في المتن.إنما إذا هو استفز القارئ وحمله على الدخول في أجواء النص، فإنه يكون بذلك قد حقَّق الغاية المنشودة من وجوده أصلا.
فأوَّل مفارقة تواجهنا في هذا العنوان:(حنين بالنعناع)، أننا ألِفْنا أن يكون النعناع مقروناً بالشاي، وهو ما يتردَّد في المتن في مواضع متعددة. لكن الإثارة تأتي من هذه المفارقة التي تخرق العادي، الجمع بين الحنين والنعناع.
والحنين مرتبط بشخصية (الضاوية) هذا الاسم المتداول في الأوساط الشعبية من قديم يطلقونه على المولودة على سبيل التفاؤل عَلَّها أن تكون صبوحاً وأن تُطلَّ متنوِّرة يسبقها ضوْءُها كما النعناع تسبقه رائحته المنعشة، ويروق للناظر اخضرارُه. ثم إن النعناع صار بالنسبة لها رمزا لموْطنها ولمواطن أقامت فيها وأحبَّتها. ومن معاني حرف الجر (الباء) في عرف النحويين أنه يفيد الإلصاق والمصاحبة، لذلك كانت في كل جلساتها تطلب شاياً بالنعناع ويأخذها الحنين.حيث تجد نفسها في حنين دائم لتربة نشأت فيها أو احتضنتها مدة من الزمن، ومازالت تستلهم منها أسباب البحث عن الذات والمقاومة من أجل التحليق في عوالم تحلم بها. فإذا كانت المفارقة قائمة في التركيب اللغوي، إلا أنها تنتفي تدريجياً عبر امتداد الدلالة في المتْن.
لذلك تَحْضر جدَّتُها(حَنَّاها)من خلال مقولاتها الحكيمة،فتسترشد بها وتَزِن خطواتها على وقْعها بفضل ما يصل بينهما من حنين.فالجَدَّة التي تناديها(حنا)تحيل على الحنان وعلى الحناء التي تَحِنُّ على يد المرأة بترطيبها وتزيينها.
حين تقابلنا كلمة (حنين) في العنوان على صفحة الغلاف تظهر بخط متعرج، كتعرجات الحنين الذي لا يفارق (الضاوية) ولم يكن يوماً يسير في خط واحد مستقيم.بخلاف كلمة النعناع التي- وإن هي كُتبت بحجم أصغر- إلا أنها تنتصب في استقامة واضحة.
إنها تحِنُّ إلى ماض ليس كله شرا، كما ينشطر حنينها بين وهران ودمشق.وكأن الرواية ترتسم خارطتُها في شكل شبه دائري أو متعرِّج، من وهران إلى دمشق ثم وهران فباريس فتعود إلى دمشق من خلال لقائها بـ(ابتسام) السورية هناك، لتعود فيما بعد إلى وهران.
وهي تختار أسماء شخصياتها بعناية:(الضاوية-ابتسام-أم الخير-نزهة-زهرة-ريحانة-صافو)، فهل هناك ما هو أدْعى للتفاؤل والبُشْرى من النور والضياء والبسمة والخير والتنزُّه والزهر والريحان والصفاء؟وسواء أكانت صافو من صافية أو صفية على سبيل الدلاعة، أم سرح الذهن إلى صافو اليونانية فلا عيب ولا نقيض. وهي أسماء معروفة وموْروثة قبل أنْ تغزو بعضَ الناس أسماءُ فارسية وتركية مع أنهم لا يعرفون لها أصلاً ولا يفقهون لها معنى.
إن الجَدَّة التي تُحذِّر من طوفان آتٍ بلا ريب،وكأنها بعباراتها الواخزة تنوح. فهي (نوحة) التي اشتُقَّ اسمها من (نوح) وهي سليلة الولي الصالح ذي البركات وقد نُسِجت حوله أساطير،تقرع ذاكرة(الضاوية) من حين إلى آخر كمُنبِّه لها بأقوال وأمْثال تتناثر في النص، ومنها:
(( يا ضاوية يا بنتي ما يطفي النار غير الما.. ))!
((الطير اللي جناحو صحيح.. ما يربح صيادو غير الريح!))
((الزين المليح – يالضاوية – يبلى و ما يطيح.. ! ))
((الجمال منحة و محنة.. هوذا درس حنة نوحة))
((الغزالة لي ما تنوض الصباح.. يجي يوم وما ينبتولها جناح.. !))
((كل شيء عندك يا ضاوية بنتي.. ما تتمشيش بعيد دوّْري عليه فيك)).
صارت أقوالها-على اختلافها- لازمة ومرتكزا في آن، فتفسح في المجال لتدفُّق سيْل من الفقرات الأدبية الجميلة تناجي فيها الذات/الجسد على امتداد إحدى وثلاثين صفحة وكأن الفصل جملة واحدة.لأنها سمعت من جدَّتها (حنَّاها نوحة) قولها : ((كل شيء عندك يا ضاوية بنتي.. ما تتمشيش بعيد دوّْري عليه فيك)).(ص: 31)
فمن الفقرات المعنية، قولها على سبيل التمثيل لا المفاضلة: (( منذ أن دخلت معهد الرقص، دخلت من بوابته إلى عشق جسدي. كل يوم يزداد إيماني بأن جسدي موسيقى.. وأن الجسد يولد راقصاً متحرِّكاً يبحث عن توازنه في موسيقاه في حركاته وسكناته، في غضبه ورضاه، في بكائه ونشيجه، في ضحكاته وقهقهاته، في أنينه وهمسه. يُخْلق الجسد راقصاً، الرقص توأمُه في جنونه. ألسنا نتعلَّم اللغة وفنون الكلام على مر سنين أعمارنا على الرغم من أننا نولد ناطقين؟ تفتش عن أحسن الطرق لتركيب لجمل ومخاطبة الآخر. ونخشى أنْ نُخطئ في الكلام. ونعمل ما في وسعنا لكي نحسن فنون القول !؟))الرواية ، (ص:25)
إن ضمير المتكلِّم وهو المهيْمن في هذا الجزء، يجعلنا نندمج في المكتوب، وكأننا نلج خلوة صوفية هي لحظة الكتابة. فإذا ابتعدنا عن النص مسافة وحرَّكناه في رحابة ذهنية، تتسلْسَل أمام ناظرنا أشرطة من الصور تبقى مرتسمة في الذاكرة.
ثم إن الولع بالموسيقى إلى حد أنها والجسد توأمان أو كيان واحد، هو ما جعلها تختار أن تُعَنْون الفصول بنوتات موسيقية يتصدَّرها مفتاح صول.لأن:(( النوتات المجنونة بالسحر، تحتل الضوء، فتخترق منه النوافذ والشبابيك الخائفة. تفتحها على آخرها، فيتسرَّب الأمل إلى الأسرَّة،وقاعات الطعام، والحمامات.تملأ الموسيقى أدقَّ الأشياء وأصغرها، حتى قنينات العطر وأدوات الحلاقة(…)السمفونية العاشرة للودفيغ فان بيتهوفن غير الأصم، لم تسمعها الأرض من قبل، تطير ألحانها إلى بقاع الأرض. ينتشي بها البيض والسود والصفر والطوال والقصار ومتوسطو القامات باختلاف أديانهم ومعتقداتهم ولغاتهم وعاداتهم التي يركنون إليها)).ص:215-216
ما جعلني أفكر في أنَّ لتجربتها الشعرية فضلها في ترويض اللغة، هذه العاصية من جهة ، ولعلها من جهة أخرى-وبحكم ما تستوجبه لغة الشعر من ثكثيف واختزال- كانت تحدُّ، إنْ لم أقل تحبس هذه الطاقة التعبيرية المتفرِّدة طيلة عقود قبل الشروع في الكتابة الروائية.
تنطلق من عبارة الجدَّة فنكتشف فلسفة الجسد ونجوب شوارع دمشق ونستحضر تاريخها العريق، ونرقص مع (مايا كارسافا) مدربة البالي في موسكو. لكن بوادر الطوفان تبدو جلية، ودمشق اليوم غير دمشق الأمس.
(( باتت رائحة الموت والتشاؤم والجراح النازفة تلفُّ مدينة الفرح دمشق. باتت جلية فوق ملامح الناس والمارة في شارع الصالحية والحميدية المليئة بالحياة وراكبي الباص وبائعي الأرغفة وبائعي الجرائد.. أضحت المقاهي مهجورة والمطاعم لم يعد بها ذاك الألق الذي كان. لم تعد تتسلَّل الأغاني الفيروزية من نوافذ البيوت وأبوابها وكواها مع تسلل خيوط ضوء الصباح وتملأ بالحلم الباصات الجماعية والطاكسيات والحافلات…))الرواية، (ص:45)
لقد كنتُ وأنا أتابع صفحات تصوِّر دمشق العريقة حضارةً وثقافةً في فرحها وزهْوها، وتستوقفني صفحات أخرى تصوِّر ما أصابها وأهلها الطيِّبين من دمار وتهجير،لا أملك –بدوري –إلا أنْ يتملَّكني الحنين وأستعيد قول الشاعر القديم:
لله دار عصابة نادَمْتُهم يوماً، بجلق في الزمان الأوَّلِ
وكان الدكتور (خالد الأسعد) عالم الآثار وحارسها رمزاً جديراً بأنْ تُهدى له الرواية.
حين تكون في المطار في انتظار أن تعود من دمشق إلى وهران تجلس في مقعد تراه فارغاً، وهو ما يحصل مع سائر المسافرين. إلا أن (ربيعة) تجعل من هذا الحدث العادي العابر مرتكزا لسرد حكاية (أم الخير) تاجرة الشنطة». تنصت إليها، تلتقط أخبارها وتُسجِّل مغامراتها، وتصور حركاتها الدائبة في البحث عمَّنْ تصطاده ليُخفِّف عنها من وزن حمولتها الثقيلة.لقد كانت امرأة «قادرة على شقاها» أو هي –على الأصح-من فصيلة «مُجنَّحة».
حدثٌ عادي ، مقعد فارغ وامرأة تجلس، فإذا بنا نتابع حكاية امرأة في أدقِّ تفاصيلها.
لكن هذه المرة تَولَّد من اسم (أم الخير) حكاية(أم الخير) أخرى،حكاية رفيقتها الطفولة وزميلتها في الدراسة، رماها القدر أو رمتها العقلية التي لا ترى في المرأة إلا وصمة عار أو رحماً للإنجاب، فتزوَّجت من شخص فج يضربها ويعذِّبها إلى أنْ طلَّقها واتُّهمت بالجنون، لكنها كانت الوحيدة التي ألحَّت على البلدية إلى أن أحضرت مصالحها لتنظيف الحي من أوْساخه أمام أنوف الذكور السلبيين.
ثم ها هي(الضاوية) في وهران تصطدم بوحش البطالة وهي التي تحمل شهادة عليا فتتوجَّه إلى باريس، حيث تلتقي بتاجرة «الشنطة» مرة أخرى. ولأن التاجرة المجنَّحة فقد نسجت-كعادتها مع الناس والجمارك- علاقات مميَّزة مع طاقم الطائرة، جميعهم- نساء ورجالا- يرحِّبون بها ويحتاجون إليها، ويتسابقون في أنْ يوفِّروا لها مكاناً في المقصورة الخاصة بالدبلوماسيين.
كلما صعدت إلى الطائرة يحتفلون بها اعترافاً بيدها البيضاء عليهم، فهم إما شاكرون لخدمة سابقة أو ينتظرون منها خدمة لاحقة.وبنيما (الضاوية) تنتظر أن تجلس إلى جانبها وتأمل أنْ تتخذها فرصة لتبوح لها ببعض أسرارها، إلا أن المرأة فازت بكرسي دبلوماسي فجلس إلى جانبها المدعو (إبراهيم).
رجل هادئ مؤدَّب يتحدث بلطف عن والدته الصحراوية وما علق بذهنه من رائحة الشاي والنعناع، إنسان من طينة أخرى. يتقن آداب المؤانسة والأكل وليس من أولئك الذين((حين يمضغون الطعام يصدرون أصواتاً تذهب بشهيتك وتشعرك بالقرف خاصة حينما تظل الأفواه مفتوحة فيختلط طحين الطعام بطحين الكلام وعلى شهيتك الرحمة والسلام.. !)) الرواية،ص:129
تشعر (الضاوية) منذ البداية أن زغباً ينبت في كتفيْها، وإذا هو ريش ينمو مع نمو الروية ويزداد حجمه، إنهما جناحان مُحيِّران فتتستَّر عليها بمعطفها الفضفاض وتخبِّئهما سرّاً لا ينبغي لأحد أنْ يكتشفه. وتُصاب بالخوف والفزع حين تفكر أن زميلتها(أم الخير-نورمال)قد تُقْدم على تعريتها لتُكذِّب الناس وتبرِّئ نفسها من تهمة الجنون بأنْ تُظهر لهم علامة الطوفان وللتخلص من الطوفان يجب التخلص من علامته.
وبينما هي في الطائرة المتجهة إلى باريس يستمر هذا الحديث الشيق مع(إبراهيم) وحيث تتخيَّل أنها تحلق فوق الأرض من عل فلا ترى،بل لا تحب أن ترى فيها ما يؤذي العين والقلب، لا حروب ولا أمراض،تقول: (( أراوغ أجنحتي، أرفع أطرافها بأناقة طائر قوي كي أقترب. الكرة تدور تحت ناظري.. كم تبدو عليها السكينة.. بحار ضاحكة، تحتضن أسماكا وحيتانا وحوريات سعيدات. أنهار تتلوى فوقها لاهية، تجري بمرح نحو مرقصها الأبدي. غابات خضراء بعصافيرها ووحوشها وأشجارها العتيقة. مدن آهلة بالبشر يسيرون بهدوء في الممرات والشوارع.. أُرْخي أجنحتي قليلا قليلا، أستمر في النزول كي تتجلى لي الرؤية أكثر. أرى الناس جميعا لا يؤذي منهم أحد أحدا.. أين الحروب.. ؟ لا وجود للحروب!أين الكراهيات؟ أين هي.. لا أرى لونها الداكن المظلم.؟ الناس كما لم يتخيلهم مؤرخ من قبل أبدا. سعداء سعداء. تبدو الأرض من هنا مثل باقة ورد أو أقل مثل كرة تستقر في شباك ملعب الكون.))
وستصبح بفضل جناحيْها عضواً في «جمهرة المُجنَّحين»، الذين ينتمون إلى القارة السادسة وهم أدباء وعلماء وفنانون، إنهم زبدة الإنسانية في مختلف التخصُّصات، أسماء من مختلف الأزمنة والأمكنة. إنها تلتقي بأهل هذه القارة المُلغزة في مكان آخر غير ظاهر. يتواصلون فيما بينهم بمفاتيح سرِّية ويدركون ما بداخل أدمغة بعضهم من غير أنْ يلتقوا،وهم منشغلون بما يمكنه أن ينقذ الأرض من الكارثة المحدقة بها، إنها رحلة في الحياة ومن أجل الحياة وليست أخروية كما في:(رسالة الغفران) أو (رسالة التوابع والزوابع).
لذلك كان المفتاح الذي يتصدَّر الرواية ، قولها:
(( أمُّنا الأرض ..
منذ بدء خليقتها،
تهوى» اللفَّ والدوران»
أبناؤها أيْضاً. !)).
وتعود في النهاية إلى وهران على متن الطائرة بصحبة إبراهيم على المقعديْن رقم16و17، تغمرهما رائحة الشاي والنعناع،وتشعر أنها عروس بهية،والركاب جميعهم((سيؤمنون أن الرقميْن 16و17 هما للعشَّاق فقط من الركاب.الرقمان المحفوفان بعناية اللقاء المحتوم، بعناية العشق المقدَّس)).الرواية، ص:261
هكذا، تحملنا( ربيعة) في هذه الرواية فوق بساط من حنين ممزوج برائحة النعناع، وهي تقف على مخزون ثقافي مُمَيَّز لا يخلو من مواقف صارمة ضد الهمجية القروسطية إن تصريحاً أو تلميحاً. تدور بنا حول الأرض كما الأرض تدور، نستشعر الطوفان الذي سيغمر الربع اليابس من الأرض، نخاف ونحزن، ولكننا نترقَّب في الأفق بصيص أمل يلوح بفضل «جمهرة المجنَّحين» الذين يسخِّرون عقولهم على الدوام من أجل أن تسود في أمِّنا الأرض أجواء المحبَّة والسلام.
أخيراً،لا أخفي على القارئ الكريم أني بعدما قرأتُ من قبل:(عرش معشَّق) ثم (نادي الصنوبر)، كنتُ أفكِّر في المدخل الذي ستهتدي إليه (ربيعة) حين تنكبُّ على كتابة رواية جديدة، حتى لا تكرِّر الأجواء نفسها لأجد متعة أخرى. ومادمتُ قد وجدتها- فعلاً- في هذه الرواية، فلا يسعني إلا أنْ أتمنَّى لها مزيداً من النجاح والتألُّق، وأرجو من بعض الكُتَّاب أن يكتفوا بالقول: ((اللهمَّ لا حسد)).
=======================
l جلطي ، ربيعة، حنين بالنعناع، منشورات ضفاف ، منشورات الاختلاف ، الطبعة الأولى، 2015.
مخلوف عامر