تطمح هذه الدراسة الى اكتشاف طبيعة العلاقة بين الخاص والعام، الداخل والخارج، الذاتي والموضوعي، الضروري، والحر، تجربة الحياة وتجربة الشعر، ذات الشاعر وذات الشعر، في شعر الحداثة العربية، وذلك بهدف الوقوف على مدى تفاعلهما في إنتاجية نص الحداثة الشعري، واسهام كل منهما في تشكيل هويته الشعرية، ومن ثم الوقوف على مدى توافر نص الحداثة الشعري على أهم مقومات إنتاجه مجتمعيا وتاريخيا، أي على أهم شروط إبداعه وشروط قراءته.
ولكن لماذا من خلال هذه العلاقة بالذات ؟! ثم لماذا من زاوية الذات الشاعرة الحداثية وليس من زاوية ذات الشاعر الحداثي؟!
أما لماذا من خلال هذه العلاقة بالذات، فلكون هذه العلاقة – علاقة الذات الشاعرة الحداثية بذات الشاعر الحداثي – قد صارت تمثل، في منظور الشعر الحداثي ذاته، بؤرة ولادة الوجود والعالم على السواء، فهي تمثل:
* بؤرة ولادة الشاعر الحداثي الذي غدا موجودا لا وجود له إلا في التجربة، وغدا وجوده في التجربة، من ثم، نوعا من الحوار والحوار الأعمق بين ذاته، وذات الآخر أو بين أناه الشخصية وأناه الأخرى المعممة أو الاجتماعية، وهو حوار من شأنه أنه بين المختلفات والنقائض التي يتألف منها الوجود الانساني: فالحرية التي هي أساس الوجود الانساني بل ماهية الوجود الانساني، لا تظهر في التجربة، إلا من خلال نقيضها وهو الضرورة والنقيضان: الحرية والضرورة هما قمة النقائض التي يتألف منها وجود الموجود الشاعر الحداثي وعالم وجوده الشعري. لذلك كانت هذه العلاقة:
* بؤرة ولادة عالم الحداثة الشعري، بوصفه مزيجا من الداخل والخارج الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الوعي واللاوعي، المرئي واللامرئي، الحسي والمجرد، الواقعي والشعري.
* وبؤرة ولادة نص الحداثة الشعري، الذي ما عاد ميلاده يتضمن قطبا كهربائيا واحدا مفروزا في أعماق الذات – كما يقول مكليش – بل أصبح يتضمن قطبين متصارعين هما: الذات والعالم أو الواقع، فالنص الحداثي إذن لا يبدأ في العزلة أو الفراغ، بل في نطاق من العلاقات، فهنا الشاعر وهناك الواقع أو العالم بتعارض مفرداته وتعقد علاقاته، وبدلا من الرمز الذي ينبثق-
حسب قول مكليش أيضا – كما تنبثق فينوس من البحر بقوة حركتها التلقائية – نجد هنا صورة أو قصيدة تتحقق في المدى الذي ننظر اليه جميعا؟ المدى ما بين أنفسنا من جهة والعالم الذي نعيشه ونتفاعل معه من جهة ثانية. كما نجد – بدلا من المترقب المنتظر اليقظ الذي يجثم مطرقا فوق صمته الذاتي – نجد الانسان المتوتر الذي يتخذ لنفسه وضعا تاريخيا على محور التحولات التاريخية الذي يمثل – بالنسبة لشاعر الحداثة – بؤرة لوعيه التاريخي، ومركزا للتفاعل والمواجهة مع أحداث التاريخ ومآسيه. الأمر الذي جعل من القصيدة الحداثية تجسيدا حيا مباشرا لذلك الوعي ولهذا التوتر والصراع.
* فضلا عن شون هذه العلاقة قد صارت تمثل بؤرة توتر دلالات نص الحداثة وتفجر شعريته.
ولذلك فنحن بكشفنا عن طبيعة هذه العلاقة / البؤرة، نكون قد أسهمنا في الكشف عن طبيعة التجربة الحداثية بوصفها:
* تجربة اندماج كلي بالعالم، لا تجربة وصف لعالم.
* وتجربة فعل في العالم، لا تجربة انفعال بعالم.
* تجربة تفجير وتغيير للعالم، لا تجربة محاكاة أو تعبير عن العالم.
* وتجربة كشف عن وجود، لا تجربة وصف لموجود.
* تجربة تجاوز وصيرورة، لا تجربة جمود واستقرار. في تجربة خلق باللغة لا تجربة تعبير باللغة.
وأما لماذا هذه العلاقة من زاوية الذات الشاعرة الحداثية وليس من زاوية ذات الشاعر الحداثي من زاوية الوجود الشعري، وليس من زاوية الموجود الشاعر، فلكون الذات الشاعرة الأولى، هي الذات الحاضرة في التجربة والفاعلة فيها، ولذلك فهي التي يمكن إخضاعها للنظر والتحليل فضلا عن كون هذه الذات الشاعرة، إنما تمثل في حقيقة الأمر، ذات الشاعر الحداثي، وقد دخل هذا الأخير في تجربة مباشرة مع إمكانات وجوده شعريا، ومن ثم مع إمكانات التحول الشعري، وعندما يدخل الشاعر الحداثي في تجربة مباشرة مع إمكانات الوجود، أو التحول الشعري، فذلك يعني أنه قد صار في جدل مع العالم في كليته، وأنه، من ثم قد أخذ يتحول في العالم بمقدار ما يحول العالم، يتغير فيه بمقدار ما يغير في نظامه ونظام العلاقة بين أشيائه، الأمر الذي جعلنا ننظر الى هذه الذات الشاعرة على أنها:
* ذات جدلية أو كلية مفتوحة أي مركبة من الداخل والخارج، أو من ذات الشاعر وذات الشعر في انفتاحهما بعضهما على بعض، وجدلهما بعضهما مع بعض، والى القول الشعري الحداثي على أنه من ثم، قول مركب لما يكونه وضع هذه الذات المركب في سياق القول، واذا صار من حقنا النظر الى القول الشعري الحداثي على أنه قول مركب لما يكونه وضع قائله المركب في سياق القول ذاته صار من حقنا، انطلاقا من ذلك – تناول بنية القول الشعري الحداثي، انطلاقا من بنية القائل الشاعر حين يقول، ومن ثم، التعرف الى هوية نص الوجود انطلاقا من بنية الوجود التي يجسد، أي من خلال بنية الأنا كعلاقة توتر جدلية بين من يقول في التجربة وما يقول في التجربة ومن يقول وامكانية القول (أي بين أنا القائل وعالم القول أو الرؤيا من جهة، وأنا القائل وامكانات القول أو الرؤيا إمكانات اللغة -الإبداع من جهة ثانية) الأمر الذي جعلنا ننظر الى هذه الذات القائلة أو الرؤياوية، من زاوية علاقتها بما تقول، أو بعالم القول أولا، ثم من زاوية علاقتها بإمكانات القول (اللغة -الإبداع) ثانيا، ونظرا لتفاوت العلاقة بين هذه الذات القائلة وما تقول (تبعا لتفاوت عالم القول ذاته)، وهذه الذات وامكانات القول في شعر الحداثة العربية، فقد رأينا تقسيم شعراء الحداثة الذين تناولتهم هذه الدراسة الى تيارين: تيار الذات المنفصمة عن العالم الواقعي أو التاريخي، وتيار الذات المنفتحة على العالم الواقعي أو التاريخي وقد تناولنا في إطار التيار الأول ثلاثة شعراء هم: أدونيس (من سورية) ويوسف الخال (من لبنان) وقاسم حداد (من البحرين). في حين تناولنا من شعراء التيار الثاني خمسة شعراء هم: السياب (من العراق) وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل (من مصر) ومحمود درويش (من فلسطين) وعبدالعزيز المقالح (من اليمن).
غير أن ما تناولناه من إنتاج هؤلاء الشعراء جميعا قد بقي محصورا في نطاق ذلك الانتاج الذي تتمثل فيه هذه البنية – الجدل، أو الذي سعى هؤلاء الشعراء خلاله على الأقل – الى تمثل هذه البنية – الجدل، ولذلك فقد استبعدنا من مجال الدراسة، ذلك الائتاج الذي تغيب عنه هذه البنية، أو الذي لم يخضع فيه هؤلاء الشعراء لشروط الانتاج الحداثي القائم على انتاج هذه البنية ومن ذلك إنتاج أدونيس في ديوانيه "قصائد أولى" و "أوراق في الريح" وانتاج "يوسف الخال" في ديوانيه "الحرية" و"هيروديا" ومن إنتاج قاسم حداد، كل إنتاجه عدا ديوانيه: "القيامة " و" يمشي مخفورا بالوعول" ومن إنتاج السياب ديوانه الأول "أزهار وأساطير" ومن إنتاج المقالح ديوانيه: "لابد من صنعاء" و" رسائل الى سيف بن زي يرن " ومن إنتاج أمل أنقل ديوانه الأول "مقتل القمر" ومن إنتاج درويش "أوراق الزيتون" وقيما عدا ذلك من إنتاج هؤلاء الشعراء جميعا بمن فيهم صلاح عبدالصبور، فقد بقي مجالا للدراسة والتحليل، أو مجالا للنظر والتدقيق.
وقد انطلقنا في بحثنا عن الذات في هذا الانتاج (أو في هذه النصوص) من ثلاثة أسئلة رئيسية هي:
1- ماذا تقول هذه الذات في التجربة متضمنا كيف تقول ؟
2- لماذا تقول هذه الذات في التجربة هذا (العالم) الذي تقول دون غيره مما لم تقل، متضمنا سؤال الوظيفة التي يحققها القول،وسؤال الخلفية الأيديولوجية والتاريخية أو الواقعية التي ينبثق عنها أو يجسدها القول ؟
3- كيف تقول الذات العالم الذي تقول متضمنا: ما الزاوية التي تنظر منها الذات الى العالم ؟ وكيف تنظر الذات من تلك الزاوية الى العالم ؟!
وقد حاولنا الاجابة عن أسئلة الدراسة في الشطر المتعلق بوظيفة القول الشعري الحداثي. والشطر المتعلق بخلفية القول: الفكرية والتاريخية وفي محاولة الاجابة عن السؤال المتعلق بفنية القول أو بابداعية الرؤيا.
على أننا في محاولتنا الاجابة عن هذه الأسئلة قد التزمنا منهجا في النظر الى هذه الذات أو في الكشف عن هويتها يمكن وصفه بأنه ينهض على التأويل وعلى التفسير في آن معا:
على التأويل لأنه يلح على وضع الذات التآيني أو التزامني في سياق معاناة القول ذاته (أي في لحظة القول الواهنة) وعلى التفسير، لأنه يتجاوز وضع الذات، التآيني أو التزامني في سياق معاناة القول الى وضع الذات الزماني أو اللاتزامني خارج سياق القول، أي في خلفية القول، أو في سياق المعاناة الواقعية أو المرجعية، ليكتشف وضع الذات التآيني انطلاقا من هذا السياق، أو ليبحث عن تفسير لوضع الذات التزامني في هذا السياق، بمعنى أنه قد ظل ينظر الى الذات من زاويتين مختلفتين: من زاوية وضعها الذي تعاني الآن – هنا،ومن زاوية وضعها الذي عانت قبل الآن – هناك، ومن ثم، من زاوية وضعها في زمن التكلم، ومن زاوية وضعها في زمن الصمت، للنظر في طبيعة العلاقة بين وضعها في زمن الصمت ووضعها في زمن التكلم من جهة، وفي طبيعة الخلفية التي أفضت الى تلك العلاقة، من جهة ثانية.
وهذا يعني أننا قد حاولنا – بمقتضى هذا المنهج – الانفتاح على الذات من أفق تفتح الذات، والحوار معها من أفق حوارها مع العالم – واكتشافها من أفق تكشفها في العالم. بمعنى أننا قد صرنا ندرك الذات بوصفها منتجا للنص وناتجا عنه، أو قائلا له ومقولا فيه – ومن ثم، بوصفها انبناء لا بنية، وتشكلا لا شكلا، وتخلقا لا خلقة.
ولذلك في غرر إن تميزت لغتنا في البحث بأنها الى لغة الحوار مع الذوات الشاعرة في شعر الحداثة أقرب منها الى لغة التواصل مع متلقي خطاب الحداثة، وتميز موقفنا النقدي في تناولنا لخطاب الذات بالانحياز لمحمول هذا الخطاب أكثر من انحيازنا لشكل الخطاب، وبالانحياز لبعض الذوات الفاعلة والمؤثرة في هذا الخطاب أكثر من انحيازنا لبعض الذوات السلبية أو غير الفاعلة في خطاب الحداثة.
وقد توصلنا خلال دراستنا عن الذات الشاعرة في شعر الحداثة العربية الى عدد من النتائج الخطيرة التي كان من أهمها – كما لاحظنا – تخلي الذات المنسحبة من الواقع المنفصمة عن الواقع الاجتماعي أو التاريخي:
* عن إمكانية الانفتاح على العالم في كليته وانفتاحه، أي على الداخل والخارج معا في سياق تحولهما وصيرورتهما معا، ووقوعها بدلا عن ذلك، ضحية الانغلاق على العالم في جزئيته وانغلاقه، أي على الداخل فقط، في محدوديته وثباته. فالذات الشاعرة في سياق هذه التجربة، ما عادت كالذات الشاعرة في سياق التجربة الأولى: في موقع من ينفتح على كلية وضعه: في الواقع ونقيضه، أو في الواقع وما يعل عليه، أي في عالم الضرورة وفي عالم الامكان، أو في المرئي واللامرئي أو المجرد والحسي، وفي الواقع ونقيضه المتحولين أو الديناميين، أي في المرئي واللامرئي أو في المجرد الحسي في انفتاحهما وجدلهما، أو في تحولهما وصيرورتهما. بل صارت في موقع من ينفتح على جزئية وضعه في نقيض الواقع فقط أو فيما يعلى على الواقع فقط، أي في عالم الفكر والثقافة، أو في لا مرئيات الفكر والثقافة ولذلك فهي ما عادت في موقع من يواجه وضع كينونته المفتوح في الخارج (أي في عالم الضرورة أو المعاناة الواقعي) بإمكانات الكينونة في الداخل أو بإمكانات الانفتاح عليه من الداخل. من ينفي (نفيا جدليا) ضرورة وضعا الجمعي في الواقع، بإمكانات وضعه الفردي في الممكن، من يستبدل بوضعه في الضرورة وضعا له في الحرية، ليتجاوز وضع ضرورته المحدد، بإمكانية حريته المحددة. بل صارت في موقع من ينكفيء على الداخل من الخارج (أي من موقع الرؤية الجاهزة للداخل) من ينفتح على إمكانات الذات، من أفق الذاتية أو الفردانية. من تتطابق ذاته المذوتة أو المفردنة (أي المؤدلجة بأيديولوجيا الذاتية أو الفردانية، أو المحكومة بمنطق الرؤية الجاهزة للذاتية أو للفردانية) مع إمكانات الفكر الفرداني الحداثي، أو الذاتوي الرومانسي. من يعكس وضع ذاته المذوت أو المفردن في مرآة اللغة الصافية حينا وفي مرآة الفكر الفرداني أو الذاتوي عبر امكانات اللغة حينا آخر. وهذا يعني أن هذه الذات قد صارت، خلافا للذات الشاعرة الأولى في موقع من يهدم الهدم أو يبني البناء، من يهدم وضع كينونته المحدد في عالم الامكان الفكري أو الايديولوجي، ليبني وضع كينونته المحدد في عالم الامكان ذاته وعبر إمكانات البناء ذاتها. من ينفي وضع كينونته في عالم الامكان بحركة نفي أخرى في عالم الامكان ذاته وعبر امكانات الحركة ذاتها – لا في موقع من يهدم البناء ليبني، من يهدم ما هو موجود في الخارج (أي في الواقع أي في الوعي) بما يوجد في الداخل (أي الآن – هنا في التجربة) وما هو زماني بما يتزامن، (أو بالمتزامن) ليبني بما يتزامن أو بما يوجد، ما لم يوجد ولن يوجد. يعني أنها أي الذات المنسحبة قد صارت في موقع من يبني اللاواقعي أو الخيالي على أرضيته هو نفسه، ومن انقاضه هو نفسه، لا في موقع من يبني اللاواقعي أو الخيالي على أرضية الواقعي ومن أنقاض الواقعي نفسه.
وتخلى الذات المنسحبة في هذه التجربة عن موقع المواجهة مع الواقع على هذا النحو، إنما يعني بالأساس تخليها عن إمكانية الضرورة، بوصفها شرط الحرية، ومن ثم، عن إمكانية "الهم الحقيقي"؛ هم الوجود أو التجاوز الحقيقي، أي النابع من معاناة الواقع في حضوره – بوصفه شرط التحقق الحقيقي، أو التجاوز الحقيقي في التجربة – الرؤيا، أي بوصفه الشرط الضروري لانفتاح الكينونة، أو لتماهي الكائن الرائي بعالم رؤياه، وتحول كينونته، من ثم، في سياق تحول عالم رؤياه، لذلك أفضى تخلي الذات المنسحبة في هذه التجربة عن هذه الامكانية الى تخليها من ثم:
* عن إمكانية الانفتاح على موقف الأخر من العالم لتمثله، ووقوعها بدلا عن ذلك، ضحية الانفلاق على موقف الآخر من العالم لمحاكاته، فهذه الذات – كما لاحظنا ما عادت في موقف من يستدعي إمكانات الوجود الفردي عند الآخر (بما في ذلك نظام الوجود الفردي نفسه) الى التجربة ليواجه بها أو ليفك من خلالها وضع كينونته المفتوح على الواقع ونقيضه. من ينفتح على إمكانات الفردانية من فضاء الانفتاح على وضع كينونته المفتوح، من يرى تلك الامكانات (أو يتماهى بها) ضمن ما يرى ليتجاوز من خلالها وضع كينونته في كلية ما يرى بل صارت في موقف من يستدعي إمكانات الوجود الفردي عند الاخر، ليفردن بها، أو من خلالها ذاته الفردية، من ينفتح على تلك الامكانات من فضاء الانفلاق على إمكانات ذاته الفردية، من يرى إمكانات ذاته الفردية منعكسة في مرآة تلك الامكانات.وهذا يعني أن هذه الذات قد غدت – خلافا للذات الشاعرة الأولى – في موقف التماثل أو التطابق مع إمكانات الآخر (مبدع الموقف الفرداني) في المواجهة، لا في موقف الاختلاف أو التناقض مع إمكانات ذلك الآخر في المواجهة، في موقف من يتطابق وضعه مع وضع الآخر، وامكاناته في المواجهة مع إمكانات ذلك الآخر، لا في موقف من يختلف وضعه عن وضع الآخر، لتختلف إمكاناته من ثم عن إمكانات الآخر، ومن ثم في موقف من يغترب في موقف الآخر ليحاكيه، لا في موقف من ينفتح على موقف الآخر ليتمثله. الأمر الذي جعلنا ننظر الى موقف الذات في سياق المحاكاة على أنه:
* موقف غير مسوغ من العالم لأن الذات لا تستجيب خلاله للواقع الاجتماعي أو التاريخي، بل لما فوق الواقع، أو للواقع الاجتماعي أو التاريخي، ولكن كما يعانيه الآخر(مبدع الموقف المحاكى) لا كما نعانيه نحن الذين نتلقى خطاب الذات هذا.
* وموقف سلبي من العالم، لأن الذات تعمد فيه الى المواجهة بالفرار، لا بالفعل وبالتخطي أو القفز، لا بالاختراق أو الهدم.
* وموقف غير متوازن، لأنه ينهض على التبعية للآخر، لا على الحوار معه، وعلى الذوبان فيه، لا على التفاعل معه.
* وموقف غير مألوف أو مفهوم من لدن المتلقي أو المشاهد، لأنه في النهاية، موقف غير موقفه، وفي مواجهة وضع هو غير وضعه.
* في حين يمكن وصف موقف الذات الشاعرة في سياق التمثل بأنه:
* موقف مسوغ ومشروع من العالم، لأن الذات ظلت فيه للواقع، لا لما فوق الواقع، والواقع التاريخي كما تعانيه الذات، أو كما نعانيه نحن الذين نتلقى خطاب الذات، لا كما يعانيه الآخر، مبدع الموقف المتمثل بالفتح.
* وموقف إيجابي من العالم، لأن الذات تهدف من وراثه الى المواجهة بالفعل، لا بالفرار، وبالاختراق أو الهدم، لا بالتخطي أو القفز.
* وموقف متوازن، لأنه ينهض على الحوار مع الآخر، لا على التبعية للآخر، وعلى التفاعل معه، لا على الاندغام فيه.
* وموقف مألوف لدى المتلقي أو المشاهد، لأنه في النهاية موقف المتلقي أو المشاهد نفسه من العالم الذي هو في الوقت نفسه عالمه المشترك مع الفنان فهو موقفه من ذلك العالم ولكن كما يجسده طموح الفنان الخلاق.
على أن تخلي الذات المنسحبة عن إمكانية الانفتاح على موقف الأخر من العالم ووقوعها في أسر الانفلاق على موقف الآخر من العالم فقد أفضى بالضرورة الى تخلي هذه الذات المنغلقة من ثم:
* عن إمكانية التجربة الرؤيا، بوصفها كما لاحظنا في تجربة الذات الأول -انفتاحا كليا (دافعة الهم) على العالم في كليته وانفتاحه، وجدلا كليا (محققة الهم) مع العالم في كليته وانفتاحه أي مع الداخل والخارج في انفتاحهما وجدلهما، أو في تحولهما وصيرورتهما. ووقوعها، بدلا عن ذلك، في وهم التجربة الرؤيا، أو في أسر التجربة الرؤية المغلقة، بوصفها انغلاقا على الجزئي المنغلق وجدلا غير جدلي مع الجزئي المنغلق في انغلاقه، أي مع إمكانات الكينونة الفردية المفردنة ولا شيء غير ذلك. وهذا يعني أن هذه الذات الرؤيوية قد تخلت فضلا عن ذلك:
* عن إمكانية الكشف عن المجهول بوصفه – كما كشفت عنه تجربة الذات الأولى – هذا الوجود الجدلي لذلك الموجود الجدلي، في سياق الجدل. أو بوصفه بعبارة أخرى، هذا الوجود الكلي المفتوح لذلك العالم الكلي المفتوح في سياق التجربة – الانفتاح. لتكشف، بدلا عن ذلك، عن المعلوم بوصفه هذا الوجود المتعالي على الواقع لذلك الموجود المتعالي على الواقع. في سياق تعاليه على الواقع أو بوصفه بعبارة أخرى هذا الوجود الفردي المفر دن لذلك الموجود الفرد.
على أن تخلي الذات المنسحبة عن إمكانية التجربة الرؤيا – الكشف عن المجهول، ووقوعها في أسر التجربة الرؤية الكشف عن المعلوم قد أفضى بالأساس الى تخلي هذه الذات:
* عن إمكانية التجربة الدرامية، ووقوعها في وهم الدرامية، أو في أسر التجربة الغنائية. ويرجع هذا الى أن الدرامية، خروج من الذات، وحوار مع الاخر. وهذه الذات:
خلافا للذات الأولى – ما عادت في موقع من يخرج من ذاته ليحاور الآخر، أو في موقع من ينفتح عن ذاته على الآخر، بل في موقع من ينكفيء على ذاته ليقمع الأخر، أو ليلفي بوجوده الجاهز والمصنم وجود الأخر، من يرى ذاته الجاهزة في مرآة الآخر. ولذلك فهذه الذات ما عادت في موقع من يتعاطى الكلام مع الآخر، بل في موقع من يفرض الكلام على الآخر، أو في موقع من يسرد الكلام نيابة عن الآخر.
وهذا يعني أن الدرامية مواجهة وصراع مع عالم القول عبر إمكانات القول، وهذه الذات ما عادت – خلافا للذات الأولى – في موقع من يواجه امكانات القول وضع كينونته في سياق القول، من يستدعي إمكانات القول -الرؤيا (إمكانات القناع، الرمز، اللغة) ليفك بها أو من خلالها وضع كينونته في عالم القول، بل في موقع من يفرض بإمكانات القول – الرؤيا، سلطته على عالم القول. من يستدعي إمكانات الرؤيا ليرى في مرآتها، أو من خلالها ذاته الجاهزة. وأن الدرامية، تصدع وتشظي وهذه الذات ما عادت في موقف من تتصدع كينونته وتتشظى تشظيا يفضي الى خفوت صوته، بل بالأحرى الى اتساع صوته في التجربة اتساعا كبيرا يغدو معه صوت الرؤيا، أو صوت الرائي الذي يتوحد بعالم رؤياه، بل في موقع من تتوحد كينونته وتتماسك تماسكا يفضي الى هيمنة صوته في التجربة على كل صوت لسواه وعلى نحو يغدو معه صوت الرؤية المحددة الجاهزة المحيل على عالم الوجود المحدد الجاهز.
على أن الدرامية قبل هذا وذاك وعي مزدوج بعالم مزدوج وبناء مزدوج لعالم مزدوج. لذلك أفضى تخلي الذات المنسحبة عن امكانيتها الدرامية الى تخليها، من ثم:
* عن إمكانية الايحاء بالوضع المفتوح، لتقع في أسر "الترميز" للوضع المغلق، أو في أسر التعبير المباشر عن الوضع المغلق. والفرق بين الايحاء بالوضع والترميز للوضع – من منظورنا على الأقل -أن الترميز قول الشيء الآخر وحده. أما الايحاء فقول الشيء وغيره أو قول الشيء في سياق قول غيره، ومن هنا فالترميز إحالة على المؤتلف في ائتلافه، أي على المتعالي في انسجام وضعه. والايحاء إحالة على المختلف في اختلافه أي على الواقعي وما يعلى عليه في انفتاحهما وجدلهما. ولذلك فحركة الذات في سياق الترميز للوضع، تعد حركة جزئية مغلقة على المتعالي فقط وفي إطاره، أي في إطار الداخل فقط، أو في عالم الامكان وحده، يعني أنها حركة متعالية (ذهنية خالصة) غير مشخصة في إطار عالم واحد موحد، هو عالم الإمكان الفكري أو الأيديولوجي، وعبر نظام ترميزي صارم يحكم حركة الذات، ويمنعها من التجاوز أو الخروج. في حين حركة الذات في سياق الايحاء بالوضع، حركة كلية مفتوحة على كلية الوضع في كلية العالم، يعني أنها حركة مزدوجة متعرجة أو متكسرة أو مكوكية (جدلية مشخصة) بين الداخل والخارج أي في إطار عالمين متناقضين، أو أكثر، وعبر نظام للايحاء يمكن وصفه بأنه يفتح الحركة ويحقق التجاوز والصيرورة ومن هنا رأينا الذات الشاعرة في سياق هذه التجربة تستدعي دلائلها الرمزية بوصفها عناصر حية وقادرة على التفاعل الجدلي مع وضعها من جهة، ومع تحولات وضعها من جهة ثانية، الأمر الذي أبقى تلك الدلائل الرمزية في حال استجابة دائمة ومستمرة لمقتضيات الجدل مع وضع هذه الذات المفتوح على سياق التحولات التاريخية والانطولوجية الدائمة والمستمرة، أي في حال انفتاح دلالي دائم ومستمر على تحولات وضع الشاعر، أو على الجديد أو المختلف في وضع الشاعر المفضي، هو كذلك، الى الجديد أو المختلف في دلالتها الرمزية على وضع الشاعر، وهو انفتاح دلالي جسده توتر العلاقة بين الثابت والمتغير في دلالة الدلائل الرمزية. بين ما هو أصل أو مشترك في دلالتها الرمزية وما هو خاص أو متحول عن ذلك الأصل في تلك الدلالة، أي بين دلالة الرمز الوضعية أو التواضعية ودلالة الرمز الايمائية أو السياقية، الأمر الذي أفضى الى انفتاح الرمز بما هو دال على ثلاثة مستويات دلالية. مستوى الرمز الوضعية أو المرجعية التي يتحول عنها الشاعر، ومستوى دلالة الرمز التواضعية أو الامكانية التي ظل يتحول اليها الشاعر، ومستوى دلالة الرمز الايحائية أو السياقية التي ظل يكتشفها الشاعر.
أما الذات الشاعرة في سياق التجربة الترميزية الثانية فقد ظلت تستدعي الدلائل الرمزية بوصفها عناصر قادرة على استيعاب وضعها الجاهز لتمثيله، أو للكشف عن ملامح هويته، الأمر الذي أبقى تلك الدلائل الرمزية في حال استجابة دائمة ومستمرة لمقتضيات التمثيل الجاهز، أو التمرئي الآلي كشفا عن هويتها الجاهزة، بمعنى أنها ظلت في حال انفلاق دلالي ما يفرضه وعي الذات بإمكانية وضعها، دون ما يفرضه وضع الذات نفسه في سياق معاناتها وضع كينونتها ذاته، ومن ثم على ما يمليه منطق الرؤية الجاهزة لإمكانية الوضع لا على ما يمليه منطق الرؤيا المفتوحة للوضع، وهو انفلاق دلالي جسده ائتلاف العلاقة بينما استدعيت لأجله تلك الدلائل الرمزية وما عبرت عنه، بينما وضعت له أصلا و ما دلت عليه فعلا، أي بين دلالة الرمز المباشرة، ودلالته الايحائية الرمزية بين الدلالة الوضعية أو المرجعية للرمز ودلالة الرمز الايحائية أو السياقية. الأمر الذي أغلق الرمز بما هو دال على مستويين دلاليين فقط:
مستوى الدلالة الوضعية أو المرجعية التي يتحول عنها الشاعر ومستوى الدلالة الرمزية أو الايحائية التي يتحول اليها الشاعر. وهذا يعني أن الذات الشاعرة في سياق هذه التجربة، قد صارت – خلافا للذات الشاعرة في سياق التجربة الأولى – تتعالى على المدلول الأول (المعنى) المباشر أو المطابق لمرجعه في الواقع، ولكن لتقول المدلول الثاني (معنى المعنى) اللامباشر (المرموز له) والمطابق لمرجعه في الفكر، وعلى نحو يؤكد أن هذه الذات قد صارت في موقع من يصادر الموجود لصالح الوجود، والدال لحساب المدلول، من يغلق الدال المحدد على المدلول المحدد من يستهلك بالمدلول المحدد أو بالمفهوم المحدد كل طاقة الدال، ليحيل الدال، في الأخير الى جثة هامدة، أو الى إمكانية مستهلكة وأن هذه الذات، قد غدت، من ثم خلافا للذات الأولى – في موقع من ينتج المؤتلف، لا في موقع من ينتج المختلف، من ينتج الواحد، لا المتعدد، المعلوم الذي نراه في كل مرة أو المجهول الذي نكتشفه في كل مرة لا المجهول الذي يتكشف أو يتكثف أو يفرض نفسه علينا في كل مرة وهو أمر شأنه أن يؤكد انطلاقا من ذلك، أن هذه الذات قد تخلت.
* عن إمكانية التنوع والحركة وسقوطها لتسقط في التماثل وغياب الحركة، أو في الجمود والتكرار.
* وعن إمكانية الانبثاق والتلقائية ووقوعها ضحية التكلف والصنعة.
* وعن إمكانية الارجاع الدلالي غير المستنفذ، ووقوعها ضحية الارجاع الدلالي المستنفذ.
* ومن ثم، عن إمكانية "الدينامية" و "حيوية الصورة " لتسقط، بدلا عن ذلك ضحية الجمود واستهلاك الصورة.
* وعن إمكانية "التحفيز الجمالي" الإدهاش، أو "الطرافة " وسقوطها في وهم "التحفيز" أو "الطرافة" أو "الادهاش ".
* وعن إمكانية الانزياح الشعري، أو الإبداعي لتقع ضحية الانزياح المنطقي، أو اللاشعري الذي مصدره المحمول وليس الحامل، المدلول، وليس الدال، أو الفكر وليس اللغة، لتتخلى، من ثم:
* عن إمكانية "التخيل" أو "التخييل" وسقوطها ضحية "التهويل" ويبدو هذا فيما تصفه الذات (لاسيما أدونيس وحداد) من عالم عجيب، لا فيما تعبر عنه بطريقة عجيبة وغير عادية.
* وعن إمكانية "تفجير اللغة" أخيرا لتقع في وهم "تفجير اللغة" لا أكثر.
عبد الواسع اجمد الحميري (كاتب واستاذ جامعي من اليمن)