ترجمه وحرره: بشير أبو سن
عن الحوار وترجمته:
إنها من أروع مناطق السودان، هناك في وسط الشمال. لو استطعتَ تخيُّلَ خريطة السودان – الحدود مع مصر عند وادي حلفا، والخرطوم في الوسط حيث يلتقي النيلُ الأزرق بالنيل الأبيض، فأنا قد وُلدت تماماً في منتصف هذه المنطقة، عند انحناءة النيل الكبيرة في مرَوي، وأهلي ناس زراعة، وهم فُقَراء وأولياء صالحون.
أُجريَت هذا المقابلة الإذاعية في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، في باريس، هناك بعيدًا عن الخرطوم التي كانت حينها تنام وتستيقظ في ذعْر، الجنودُ ينتشرون في طرقاتها ليثبِّتوا دعائم الحكم الجديد، الانقلابيّون الذين ستمْهلهم الخرطومُ ثلاثين عاما ثم تنتفض ضدهم، ما زالوا يحشدون أنصارَهم للحرب التي بلغت حينها أوجَ اشتعالها في الجنوب، والتي أدت فيما بعد إلى تغيُّر جغرافيا السودان، واهتزاز نسيجه الاجتماعي، ولهذا فتوقيتُ هذا الحوار ومكانُه يضْفيان عليه أهميةً بالغة. إن الآراء التي أدلى بها الطيب صالح لمحاوِره دانيال براون هنا، بلغةٍ إنجليزيةٍ لا تقل دقةً ورشاقةً عن لغته العربية، لم تفقدْ حيويتَـها رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما عليها، ورغم رحيل الطيب صالح، وانفصال جنوب السودان، وسقوط نظام البشير. تحدثَ الطيب صالح عن أدبه، والعوالم التي نقلَها، والمحاكمات الثقافية التي أقامها، وتحدث عن بلاده، عن الحكم القائم فيها آنذاك، وعن سنوات الاستعمار، وأيضا عن الوضع الاجتماعي للمرأة في العالم الإسلامي. أزعم أنه حوار مهم، قمتُ بنقله من حديثٍ مسموع بالإنجليزية، إلى نصٍّ مقروء بالعربية، ووجدتُ عندئذ مشقّتين، مشقةَ نقل الكلام إلى نصّ، أيْ إخفاء تعابير المتحدث الجسدية، ولحظات الضحك والتبّسم، والاسترخاء في الكلام والاندفاع به، وغير ذلك مما يصاحب الكلامَ حين يكون وجهًا لوجه – وأتمنى ألّا يكون الفقد كبيرا، ومشقةً أخرى جلبتُـها إلى نفسي، وهي أنني حاولتُ أن أقتربَ ولو قليلا من لغة الطيب صالح العربية، وأسلوبه الأخّاذ، وهذا هو العناء ذاته، فمَن يستطيع لغةَ صاحب الموسم والعرس والدومة، وبقية الجواهر.
مقدمة البرنامج الإذاعي(*):
وُلد الطيب صالح في قريةٍ صغيرة شمالَ السودان، عام ١٩٢٩م، وساقتْه الدراسة أولًا إلى الخرطوم، ثم إلى لندن فيما بعد. قضى شِقّا كبيرا من حياته المهنية بعيدا عن موطنه؛ ففي بريطانيا عمِل بالقسم العربيّ لهيئة الإذاعة البريطانية، ثم عمِل باليونسكو في باريس، ومديرا عامّا لوزارة الإعلام في قطَر. والآن وقد تقاعد عن العمل، يعيش في لندن، إذ لم يعُد إلى السودان منذ وصول الإسلاميّين -الذين يعارضهم – إلى سُدّة الحكم بانقلابٍ عسكري عام ١٩٨٩م.
كتَب الطيّب صالح قصصًا قليلة، ورواياتٍ قصيرة، ولكنها تعَدّ أعمالا بارزة في الأدب العربيّ الحديث. في عام ١٩٦٦م، نشَر روايته الأولى «عُرس الزّين»، ثم أتبَعها بعد ثلاثة أعوام روايتَه «موسم الهجرة إلى الشمال» التي تعدُّ الأكثرَ نجاحا بين أعماله، وهي ذات بناء متشابك ومنسوجٍ بين الراوي – الذي عاد من أوربا إلى قريته على ضفة النيل، و«مصطفى سعيد» الشخصيةِ المحوريةِ في الرواية، والذي يلتقيه الراوي في القرية ذاتها، ثم يكتشف لاحقًا قصتَه، قصةَ طالبٍ عبقريّ، فتَن مجتمع لندن، وأغرى نساء عديداتٍ، بينهن واحدة تزوّجها وقتَلها. إنها قصةٌ عن الحبّ والبغض بين الشمال والجنوب.
الحوار:
أولُ شيء كتبتُه، كان قصةً قصيرة، كتبتُها للتّسلية فقط، أيامَ كنتُ أعمل في الإذاعة البريطانية، وعندما قرأها صديقي معاوية الدرهلّي وهو من فلسطين، أعجب بها، ثم أذاعوها ونشروها في صحيفتهم الإذاعية.
أية قصة قصيرة تلك؟
قصة اسمُها «نخلة على الجدول»، كانت حِوارًا بدافع الحنين مع العالم الذي أتيتُ منه، كنتُ أتحدث فيها مع أهلي، ومن هنا كانت البداية.
ثم في نهاية الستينيّات حزتَ انتباهَ الدوائر الأدبية العالميّة بكتابك «موسم الهجرة إلى الشمال»، كيف تصف هذه القصة؟
في الأوّل أردتُ أن أكتب رواية تشويقية، هذه كانت نيتـي، لكنني وجدتُ نفسي بصدَد قصة قاتل، ثم تطور الأمرُ إلى ضرْبٍ من صراعٍ بين حضاراتٍ وثقافاتٍ وعوالِم، وبالتأكيد قِيلت أشياء كثيرة عن هذه الرواية، يصعب عليَّ إيجازها الآن.
هذا الكتاب ذو صوت مؤثر وطاغٍ، وأنتَ نفسك قلتَ إنه كان يتغيّر أثناء كتابتك له، فكيف كان تأثيره على حياتك اليومية؟
أعتقد أنني استغرقتُ في كتابة هذه القصة، كان عليّ أن أُسايرها، شخصيّاتٌ جديدة تظهَر، وأبعاد وزوايا جديدة، ولهذا فقد أخذتُ كتابتها على محمل الجدّ.
إلى أيّ مدى أنتَ قريب من «مصطفى سعيد»، بطلِ قصتك، هذا الطالب النابغة، الذي ذهب إلى لندن وتنقّل بين ثقافات الشرق والغرب؟
أظنّ أنني بعيد عنه، وكما تعلَم، فمصطفى سعيد شخصية خيالية. فكرةُ حضور المؤلِّف في ما يكتبه هي أمر إشكاليّ، ولستُ أنكر أنني موجود في كتاباتي بصورة أو بأخرى، ولكن لا أظن أن الكاتب يتجسّد في أعماله بهذه الطريقة المباشرة، بما يمكّنك أنْ تختار شخصيةً ما في إحدى رواياته وتقول ها هو ذا الكاتب. ومن المرجح في ظني أن العمل الأدبي، شعورا وجهدا وموقِفا، يمثل كاتبَه بلا شك، ففي النهاية، إنما يحاول الكاتب التعبير عن بعض الأفكار عن طريق الخيال.
كيف استجبتَ لرأي المستشرق «جاك بيرك [Jacque Berque]»، الذي كتبَ تقديمًا للترجمة الفرنسيّة من «موسم الهجرة إلى الشمال، حين قارَن «مصطفى سعيد» بعطيل (Othello)؟ – في الكتاب ذاته أنت تقول إن «مصطفى سعيد» يرفض أن يكون كعطيل: «أنا لست عطيلا. عطيل كان أكذوبة».
استخدمتُ فكرة «عطيل» بتعمّدٍ نوعا ما في روايتي. مصطفى سعيد وهو الشخصية المحورية في الرواية يرفض في بعض المواضع أنه يكون كعطيل، لأن عطيلا كان شخصية مختلَقةً غيرَ حقيقية، وليست موجودةً في التاريخ. وأنا شخصيا، كلما شاهدتُ مسرحية عطيل، أحس دائما بأنها تفتقد شيئا ما، طبعا في هذا تطاوُل من جانبي على شكسبير، ولكني أشعر هكذا دائما، أحس أن عطيلا لم يعطَ دوافع كاملة للقتل، وأنّ «إياجو» مستحوذ على القصة. ولهذا فكرتُ أنني سأعطي مصطفى سعيد دوافعَ حقيقية للقتل، ذلك لأن الصراع الثقافي في مسرحية عطيل لم يكن واضحا، على كل حال، فعطيل شخصية خيالية في عمل خيالي، ومصطفى سعيد ذاته كان شخصية مُتخيَّلة، ولذا فأنت ترى هذا التلاعب بالشخصيات الخيالية، أحيانا يقول مصطفى إنه عطيل وأحيانا يقول أنا لست عطيلا.
كُتبت «موسم الهجرة إلى الشمال» قبل ثلاثين عاما، ووصفَها أحد النقّاد بأنها ألفُ ليلةٍ وليْلة أخرى، حيث يعود طالب نابغةٌ من الجيل الأول، إلى قريته السودانية، مهووسا بالغرب الغامض، وبالرغبة في عضّ اليد التي ساهمت في إطعامه، وقادتْه إلى لندن، وإلى مَخَادِع نساءٍ مهووساتٍ بالقدْر نفسه بغموض الشرق. هذا الغموض بين هذين العالميْن، إلى أي مدى له صِلة بعالَم اليوم؟
أعتقد أنه وثيق الصلة، وهذا الأمر – محاكمة الأوهام القائمة بين هذين العالميْــن – هو من الأفكار الجوهرية في الرواية. في الواقع أنا فخور جدا بكوْن هذه الرواية، على الأرجح، وبدون اغترار، من المحاولات الأولى لمساءَلة هذه الأوهام. بعد ذلك طبعًا ظهَر الكتابُ العظيم؛ كتاب «الاستشراق» للبروفيسور إدوارد سعيد، الذي قال الآراء ذاتها. نحن ما زلنا نعيش في نوعٍ من هذا الجو المضلِّل، وهذا بالتأكيد، كما أرى، يقوم حاجزا ضدَّ التفاهم بين الشرق والغرب، لأن الناس هنا وهناك، ينظرون إلى بعضهم البعض عبْر ضباب، ولذا لا يرون الأشياء كما هي، فيقعون جميعا في سوء الفهم. وفي زعمي، فإن تنميط الآخرين والمفاهيم المتوهَّمة عنهم هي من الأمور الرئيسية التي تمنع التفاهم بين الناس. وبمناسبة هذا الكلام، فأفريقانيّـة هذه الرواية غير معترف بها عند الجميع، فإخوتُنا في جنوب السودان يقولون إنها ليست رواية أفريقية، لأننا- نحن الروائيّـيـن العرب المسلمين – لا نستطيع أبدا أن نفهم أفريقيا. ولا أدري ماذا يقصدون بأفريقيا!
النيل هو أهم الأشياء، النيل هو الإله. ومنذ البدايات البعيدة، قبل خمسة آلاف عام، ظل يرسم تدفُّقَ الحضارة السودانية – أقول الحضارة السودانية لأن الفكرة عن السودان الآن هي أنه كان مرآة انعكاس للحضارة المصرية القديمة، ولكن السودان قد أقامَ حضارته الخاصة، متأثّرا بحضارة مصر القديمة ومؤثِّرا فيها في الوقت ذاته، في علاقةِ أخذٍ وعطاء. والنيل كان أهم الموجودات الطبيعية الملموسة، ولو أن أَحدًا عاش في تلك الأنْحاء، خاصةً في عمر الصبا، حيث يندفع النيل فجأة لغير سببٍ معلوم، ويصل الماءُ إلى أماكن لا يصلها عادة، ثم ينحسر فجأة عائدًا لمجراه الطبيعي، فإن لهذا أثرا نفسيّا عظيما في شعور الناس الذين يعيشون على ضفتيه.
واحدة من تلك الصور النمطية التي خاطبَتْها كتاباتُك وأزالتها هي صورةُ المرأة في السودان، صورتها الذليلة. نجد أنك أعطيتها شعورا كريما، ونــجِـد أيضا صورًا حــيّـةً غيرَ جامدة لنساءٍ مختلفات، ومؤثرات في مجتمعهنّ. كيف كان رد فعل الناس في السودان على هذه الصور؟
عليّ أن أقول بدايةً، إن صورَ النساء اللائي قدمتُهن في أعمالي صورٌ حقيقية، لم أكن أغالي في ذلك، فالمرأة في المجتمع الذي نشأتُ فيه كانت مؤثرة وحرة، ومشاركة في حياة العائلة. النساء كن فاعلاتٍ في المجتمع، لم يكنّ محجوباتٍ أو محبوساتٍ وراء أبوابٍ موصَدة، هذه الفكرة الأخيرة خاطئة تماما. وأعتقد أن النساء في العالم الإسلامي كلهن على هذا الحال، أعني أن فكرة عزل النساء وحجبهن جاءت لاحقًا، ليست بسبب الدِّين أو لضرورة ما، إنما بسبب بعض الناس الذين فسّروا الدين على هذا النحو. أظن أن الناس في السودان أدركوا الشخصيات النسائية التي عرضتُها في رواياتي كشيء حقيقي.
يعني أن السودانيين اليومَ يدركون تأثير هذه الشخصيات ومدى أهميتها؟
نعم، أعتقد ذلك، لأن النساء في السودان مهمات جدا في حياة المجتمع، ويتمتّعن دائما بالحرية.
الخرطوم هذه الأيام محكومة بفلسفة تضع تفسيرات إسلامية محددة في الواجهة، كيف ترى هذه الأوضاع الحالية في بلادك؟
إنه أمر لا يسُر، هذه الفلسفة هي الضد والنقيض لكل مساعي الشعب السوداني التي ظلت تنمو عبر قرون وقرون، فمثلا، إقامةُ مجتمعٍ تسود فيه وتهيمن فكرةٌ واحدة شيءٌ مستحيل الحدوث، لأن السودان كان دائما بوتقةً لانصهارِ كثيرٍ من المعتقدات والأعراق. والسودانيون عبر الزمن أقاموا نموذجا متحضرا من الإسلام، دون أن يحرّفوا عقيدته الجوهرية، بتسامحٍ مدهش، ومن دون فرْضٍ أو إكراه. وعلى كل حال، دخل الإسلامُ إلى السودان سلميًا، هذه حقيقة مهمة، فالعربُ لم يغزوا السودانَ، كما فعلوا في مصر وسوريا. ولذا فعندي أن هذا الشكل المتشدّد والمتزمّت من الإسلام ينافي سجية السودانيين وطبيعتهم، وأنا مؤمن بأنه لن يصمد طويلا.
يقول الكاتب النيجيري وولي شوينكا [Wole Soyinka] إن هذا الصراع أَحدُ الصراعات الأفريقية الكبيرة التي نسيها المجتمع الدولي. إلى أي مدى ترى ذلك محبِطا؟
أعتقد أنه كان يقصد الصراع بين جنوب السودان وشماله. هذا الأمر محزن، ومأساوي. عليّ أن أقول إن مشكلة الجنوب هي من صُنعِ الإنجليز، ولا أدري ما إذا فعلوا ذلك متعمّدين أم بحُسن نية، لكنهم منذ البداية عزلوا الجنوب عن الشمال، لأنهم أحسوا أنّ سكان الجنوب كانوا في وضع هشّ فأرادوا حمايتهم، ولهذا تجد بعضَ الإداريين في الجنوب، في بعض المواقف معجَبين بكوْن الناس يعيشون هناك عُـــراةً، أذكرُ عندما زرنا الجنوبَ ونحن طلَبة عام ١٩٤٨، وقد كنّا حينئذ أول دفعة سُمح لها بزيارة الجنوب، أننا التقيْنا حاكمَ المديرية، وقلنا له «كيف تقْبل أن يعيش الناس عراة؟». أجابنا: «ولمَ لا، إنهم سعداء». وفي ذلك الوقت ما كنا بالطبع لنفهم هذا الأمر. وأظن أنّ بعض الإداريين الإنجليز كانوا مأخوذين بهذه الفكرة، فقاموا بإغلاق الجنوب في وجه الشمال، لاعتقادهم أنّ الشماليين عِدائيون، وأنهم سيزيلون ثقافةَ الجنوبيّين المحلية، والنتيجة في نهاية الأمر هي أن الجنوبَ عندما نال السودانُ استقلالَه عن بريطانيا عام ١٩٥٥م، كان في مستوى تنمويّ مختلف تماما، وعندها اندلعَ الصراع.
كما يجب الاعتراف بأن الحكومات في الشمال ارتكبت أخطاء فادحةً بحق مشكلة الجنوب، وتعاملوا مع القضية وكأنها مجرد تمرُّدٍ ضد السلطات المركزية، وحلُّهم لها كان في إرسال الجيوش. في الحقيقة، الإنجليز ذاتهم فعلوا هذا مبكرا، ربما لأنهم كانوا أقدَر على فرض السلْم في الجنوب، وشيئا فشيئا تطوَّر الوضع وأصبح أكثر تعقيدا مما كان عليه.
أنت وُلدت في المديرية الشمالية في السودان، عام ١٩٢٩م، ما طبيعة هذه المنطقة؟
إنها من أروع مناطق السودان، هناك في وسط الشمال. لو استطعتَ تخيُّلَ خريطة السودان – الحدود مع مصر عند وادي حلفا، والخرطوم في الوسط حيث يلتقي النيلُ الأزرق بالنيل الأبيض، فأنا قد وُلدت تمامًا في منتصف هذه المنطقة، عند انحناءة النيل الكبيرة في مرَوي، وأهلي ناس زراعة، وهم فُقَراء وأولياء صالحون.
وما الذي دعاك لمغادرة قريتك والذهاب إلى العاصمة الخرطوم؟
السبب التعليم. ففي أيامنا تلك، كانت هناك مدرسة ثانوية واحدة، يأتي إليها الطلبة من كل أنحاء السودان. مؤخرا وقبل رحيل الإنجليز صارت مدرستيْن، ولذا جئنا كلنا إلى الخرطوم…
هذا في الأربعينيّات. كيف كان وقْع الأمر عليك: أن تغادر قريتَك الراقدة على النيل وتذهب إلى مدينة كبيرة كالخرطوم حيث تسيطِر الإدارة البريطانية؟
إلى حدٍّ ما، كان الوضع مختلفا، لأن الخرطوم كانت مدينة كبيرة ومنظَّمة بشكل جميل، وذات شوارع واسعةٍ منسّقة. ولكنها كانت من ناحية أخرى مألوفة لديّ، فهي واحدة من المدن الثلاث على النيل، نسميهن جميعا العاصمة المثلثة، ويشكّلنَ قلبَ السودان. أمدرمان خاصةً – وهي العاصمة القديمة التي أسّسها الإمام المهدي، بعد إزاحته للحكم التركي من السودان، والتي نعتبرها العاصمة الوطنية للبلاد – لم تكن غريبةً بالنسبة لي، لأنَّ سكانها أتوا من جميع نواحي السودان، خاصة من الشمال.
الشيء المثير هو أن الإنجليز – على الأقل في العقد الأخير من حكمهم للبلاد، أرْسوا نوعا غريبا من الاستعمار، في ظني كان فريدا، فالسودان كان محكوما رسميا بسيادة مشتركة بين الإنجليز والمصريين، لأن جيش الغزو الإنجليزي احتلّ السودان باسم مصر التي كانت تتصرف باسم الإمبراطورية العثمانية، وهذا تلطيف للأمر وحسب، فالحكم في النهاية كان بيد الإنجليز، عَـــلَــما مصر وبريطانيا كانا يرفرفان على قمة قصر الحاكم العام، ولكن بريطانيا هي من كان يتحكّم في الأمر. ومعروف أن موظَّفي الخدمةِ المدنية السودانيين كانوا يُختارون بدقة، وبذا أصبح الاستعمار الإنجليزي كأنه فقط شراكة مع أهل البلد، ذلك لأن البريطانيين وجدوا العُمد وزعماءَ القبائل في السودان أناسًا محنّكين جدا، مثلهم مثل حكّامهم، ولذا فبالنسبة لهم لم يكن الاستعمار أمرا بغيضًا، ولقد ركَنوا في الحقيقة إلى الإحساس بأنهم إنما يحكمون أنفسهم بأنفسهم. وقد قيل إن عدد الإنجليز كان أقل من ألف شخص، في بلدٍ هو مليون ميل مربع، فما أحس الناس أبدا بوجودٍ أجنبيٍّ في بلادهم.
منذ خمسة أعوام وأنت متقاعد عن عملك في اليونسكو، ماذا تفعل الآن، ما نشاطاتك؟
أقرأُ، وأسافرُ، وأتلقّى بعض الدعوات من هنا وهناك للتحدث في الجامعات والمؤتمرات، وهذا يجعلني نشِطًا إلى حد مقبول. إنني في كل عملٍ قمتُ به، كنتُ أتعلّم، أخذتُ أكثر مما أعطيتُ، يمكنك أن تقول إن سيرتي ما هي إلا سلسلة من التّـــتَـــلْمُذ، الله وحده يعلم كيف ستكون الخاتمة (**).