أحمد شحوري
باحث لبناني
إذا كان الشّعر، في بعض أبرز وجوهه كشفًا عن عالمٍ خفيٍّ يظلُّ دائمًا في حاجةٍ إلى التَّجلّي، وإذا كان رؤيا تنفذ إلى مغاليق السرّ والمجهول، فإنّ الشَّاعر يغدو، في آخر المطاف، كصوفيّ يهيم في إيقاع الكون، ويتناغم مَعَ موجوداته، ويعيش تجاربَهُ الجوَّانيَّةَ ليعيش التَّجربةَ الكونيَّةَ الكبرى؛ فيرى الكونَ في نفسه كما يرى نفسَهُ في الكون، ويبذل لأجل ذلك قصارى جهده الإبداعيّ للإيحاء الرَّمزيّ بتلك المناخات لتجلّيات المعنى، ولكنَّه يُدرك، في كلّ مرَّةٍ، عجزَهُ عن الإحاطة بالوجود الذي يبدو في مجيءٍ دائمٍ، وهاجسًا كشفيًّا موعودًا باستمرارٍ، فيزداد هيامُهُ بالجمال والفتنة والسَّفر دائمًا في مسالك الحيرة والتّيه لإدراك ما لا يُدْرَك، وللإحاطة بما لا يُحاط به في صيرورة الزَّمان والمكان وتحوّلات والإنسان. ولذلك فإنَّ الشَّاعر والمُتصوّف كليهما مسكونان بهاجس البحث عن كينونة المطلَق وبارتياد أقاليم المغلَق المجهول.
انطلاقًا من تلك العروة الوثيقة المعقودة بين التَّصوُّف والشّعر وخاصَّةً الشّعر الحديث، نجد أنَّ الشّاعر اللّبنانيّ شوقي بزيع قد عمد في شعره، إلى استلهام خطاب الصُّوفيَّة المفتوح الآفاق والمتعدّد الأبعاد؛ إذ نُلفي حضورًا لافتًا لمناخات المعاني الصُّوفيَّة ولمداراتها الكشفيَّة في قصائده، واستثمارًا كثيفًا لفضاءاتها المعرفيَّة الذَّوقيَّة التي تتحرَّك في فضاءٍ دلاليٍّ أفقُهُ مفتوحٌ دائمًا نحو انبعاثاتٍ مُستمرَّةٍ تردم الهوَّةَ بين الواقع المتناهي والإبداع الخلَّاق. كما نُلفي توظيفًا لتقنيَّات الصُّوفيَّة التَّعبيريَّة الإشاريَّة ولأدواتها الكلاميَّة الَّتي تُبدي اللُّغةَ العاديَّةَ نفسَهَا كليلةً مسكونةً بالنَّقص وعاجزةً عن احتواء الموقف الكُلّيّ الشَّامل الَّذي تنفتح عليه التَّجربةُ الإبداعيَّةُ؛ ولذلك تبرز اللّغةُ الشّعريّةُ حينذاك إشاريَّةً إيمائيَّةً تنحرف عن المعيار التَّواصليّ وقواعد الاستقرار اللُّغويّ لتُنتجَ شرطها الخاصَّ بها ولتقول المُختلفَ والمُدهِشَ أبدًا.
فتُطالعنا، في بعض قصائد بزيع، مفرداتٌ كثيرةٌ تنتمي إلى مجال الصّوفيَّة التَّعبيريّ، منها مثلًا: المَحْو، التَّجلي، العماء، المرآة، المقام، الحيرة، الطَّريق، الصَّمت، الخفاء، الظُّهور، الحجاب، الإشارة، الهيام، الوجد، العشق…
وبناءً على ذلك التَّواشج ما بين الشّعر والتَّصوُّف في شعر بزيع، اخترنا نموذجًا تحليليًّا لجلاء ذلك عبر قراءةٍ سيميائيَّةٍ لقصيدة “يمحو ظلَّهُ لِيشفَّ كالمرآة”(1) من ديوان “قمصان يوسف”، علمًا أنَّنا أوردنا نصَّها في آخر هذه الدّراسة. وقد اتّخذنا ثلاثة مداخل لإنجاز هذه القراءة هي:
1 – شعريَّة العنوان: عتبة إلى البنية الدّلاليَّة النَّصّيّة:
يُؤَلّفُ عنوانَ القصيدة سبعُ وحداتٍ دلاليَّةٍ: فعلان: “يمحو، يشفّ”، وحرفان رابطان: “لام التَّعليل وكاف التَّشبيه”، وثلاثةُ أسماء: “اسمَيْ ذاتٍ، وضميرٍ مُتَّصلٍ”.
“يَمْحو” (فعل مضارع، زمنُهُ الحاضر، فاعله الشَّاعر)، “ظلّه” (اسم ذاتٍ مُعرَّفٍ بالإضافة إلى “الهاء”، مفعول به، مادّيٌّ وكثيفٌ، وذو دلالاتٍ صوفيَّةٍ)، “لام التَّعليل” (حرف جرٍّ يُفيد معنى التَّعليل ينصب المضارع بعده بأنْ مضمرةٍ)، “يشفّ” (فعل مُضارِع منصوب، زمنُهُ المستقبل، فاعله الشّاعر، ذو أبعادٍ صوفيَّةٍ خالصةٍ)، “الكاف” (حرف جرٍّ يفيد معنى المشابهة)، “المرآة” (اسم ذاتٍ، اسم مجرور، مشبَّهٌ به، ذو أبعادٍ صوفيَّةٍ تتَّصل بعوالمِ الشُّهود).
وعليه، يتبيَّن أنَّ ثمَّة علاقةً جدليَّةً بين امّحاء الظّلّ والتَّشفُّف كالمرآة. والظّلّ والمرآة، حسب المُؤوّل الدّيناميّ في سيميائيَّة الأمريكيّ شارل بيرس(2)، تقنيَّتان صوفيَّتان عميقتا الدَّلالة اتَّكأ عليهما الشّاعر في هذه القصيدة.
وقبل تفصيل أبعاد هاتَيْن الوحدتَيْن الدَّلاليَّتَيْن في الموروث الصُّوفيّ، نرى أنَّه من المُهمّ أن نتوقَّف عند العلاقة السَّببيَّة ما بينهما. فالتَّشفُّف كالمرآة تطلُّعٌ مستقبليٌّ مأمولٌ، وحالة تجلٍّ مُنتَظَرَةٌ تدفعُ إلى محو الظّلّ المادّيّ الكثيف؛ وهذا الأخير (المَحْوُ) هو حالة مكابَدةٍ يُحرّكها ذلك التَّطلُّعُ، وسيرورةٌ تتَّصل فيها لحظات الانخطاف المُستمرَّة والمتواصلة. وليس الزَّمن المستقبليُّ للتَّشفُّف إلَّا وهمًا وزيفًا، وزمنًا يُخاتل الدَّلالة العميقة المقصودة في الفهم الصُوفيّ؛ إذ ثمَّة تزامنٌ حضوريٌّ كُلّيٌّ جامعٌ بين امّحاء الظّلّ (حالات المكابدة) والغاية المنشودة (التَّشفُّف كالمرآة).
إنَّهما حالتان حدسيَّتان إشراقيَّتان متزامنتان لأنَّ لحظة حدوثهما واحدةٌ، فليس التَّشفُّف حالةً مُستقبليَّةً مُرْجأَةً منفصِلةً عن حاضر المكابدة ومُناخات الإيغال في لجَّة السّرّ المكنون؛ لأنَّ المُؤجَّلَ غيابٌ في حين أنَّ التَّشفُّف حضورٌ يُزامن امّحاء الظّلّ في لحظةٍ مُحدَّدةٍ، وانفتاحٌ كلّيٌّ يترك الإنسانَ مُتَّصلًا بوجوده الكيانيّ الشَّامل، وهو انخطافٌ خارج الجسد والوعي بـ”الأنا” وداخلهما معًا في لحظاتٍ كيانيَّةٍ كلّيّةٍ خاطفةٍ من شأنها أن “تردم الهُوَّة بين الكائنات والذَّوات”(3). انطلاقًا من ذلك الفهم المبدئيّ ندلف إلى دراسة ظلال مصطلَحَي “الظّلّ” و”المرآة” في الأدبيَّات الصُّوفيَّة.
بدايةً نُعرّف التَّجربة الصُّوفيَّة مدخلًا أساسيًّا للوقوف على دلالات بعض تقنيَّاتها؛ إذ تُعرَّف بأنَّها تجربةٌ دينيَّةٌ معرفيَّةٌ “جُوَّانيَّةٌ تتحرَّك في إطار ذاتيَّةٍ مَعيشةٍ”(4)، وهي، في جوهرها، “تجربة انفتاح الأنا على المعنى الباطنيِّ للوجود كلّه، وهذا الانفتاح مرهونٌ بالقدرة على التَّواصل بين الأنا والكون الَّذي هي جزءٌ منه”(5) وتتبنّى الصّوفيَّةُ رؤيا متميّزةً إلى الوجود والإنسان؛ مبتدؤُها المطلق وغايتُها الفناءُ فيه، حيث يعود الخلق (الإنسان) إلى الحقّ (الله) في وحدةٍ وجوديَّةٍ واحدةٍ. فما الكثرة المتعدّدة في عالم الشّهود إلّا نتيجة رؤيا منطقيَّةٍ عقليَّةٍ تحدّ الأشياءَ بحدود التَّعريفات المنطقيَّة، فتفصل بين عالم الغيب وعالم الشُّهود (الحسّ)، وترى الكونَ أجزاءً متعدّدةً. في حين أنَّ الصّوفيّين ينشدون إيابَ الكثرة إلى الوحدة، والخلق إلى الحقّ، وزوالَ الفوارق ما بينهما؛ إذ “يرون الوجود خالقًا مخلوقًا في آنٍ، واحدًا كثيرًا في آنٍ”(6).
تنطلق الصّوفيَّةُ، كما في معظم الدّيانات، من فكرة “أنَّ الله هو النّور الأعظم والظّهور الأكمل الَّذي يظهر بذاته، وتظهر الأشياء به” (7)، وهو لشدَّة إفراطه في الظّهور احتجب. وبطريقةٍ مجازيَّةٍ رمزيَّةٍ، يُمثّل الصّوفيّون على ذلك المعنى بالشَّمس الَّتي يرتدّ البصرُ عنها حسيرًا إن تطلَّع الإنسان إلى نورها العظيم؛ فنور الشَّمس لا تدركه الأبصارُ إلّا بوساطة الظّلال والحُجُب الَّتي هي انعكاس الأشياء المعرَّضة لسطوعه.
إذًا، فإنَّ النّورَ حجابٌ و”العماءَ أصلُ الأشياء والصّوَر كلّها”(8)، وهو المطلق الَّذي لا يظهر في الوجود إلّا بوساطة الخلق الَّذي يُشبه “المرآة الأولى الَّتي يتأمَّل فيها الوجودُ الإلهيُّ نفسَهُ، ويتكشَّف لذاته في ممكنات أسمائه المُتعدّدة”(9)؛ فليس الخلق إلّا ظلال الحقّ الأقدس، والإنسان بدوره هو أحد أهمّ مظاهر الخلق الَّتي ينجلي بها الحقُّ.
وتُفضي هذه المسائل إلى فكرة عودة الفرع إلى الأصل؛ فليس الظّلّ كينونةً وجوديَّةً مظلمةً، بل هو دلالة الوجود ولحظته المنبثقة من النّور الكلّيّ الكامن في حجاب العماء. إنَّه وجودٌ انبعاثيٌّ ولحظةُ امتلاءٍ، ولكنَّها لحظةٌ مشدودةٌ دائمًا إلى الشَّيء المنفصلة عنه، فكأنَّما الظّلّ يحمل شهوتَهُ وحنينَهُ إلى العودة إلى ما انفصل عنه.
ولذا، تكمن غاية الصّوفيّ في امّحاء ظلّه، وفي الانثناء في النّور الأعظم، ويكمن عمقُ تحقّق ذلك في حالات الشّهود والانخطاف، حيث يرقى الإنسانُ في وجوده ليندرجَ في الوجود الكلّيّ تحقيقًا لمبدأ الإنسان الكامل.
ولا يقتضي الانخطافُ أو الفناءُ “أن نخرج من الوجود ومن نفوسنا(10)، إنَّما يقتضي على العكس أن ندخل أكثر فأكثر في الوجود وفي نفوسنا”؛ لأنَّ الخلق (الوجود الإنسانيّ والطّبيعيّ والكونيّ المختلف) يشترك في حقيقة وجوده الأصليّ؛ فهو متشابهٌ يستمدّ وجوده من نورٍ واحدٍ يتجلّى في كلّ الموجودات، حيث العالم “صورٌ في مرآةٍ واحدةٍ؛ لا، بل صورةٌ واحدةٌ في مرايا مختلفةٍ”(11). لذا، لا عَجَبَ أنَّ أصحاب الإشراق “يُؤنسنون الطَّبيعةَ ويخلعون على الكائنات والأشياء الدَّلالة والمعنى”(12).
ويُقصَد بالفناء أنَّه زوالُ الوعي بـ(الأنا)(13)، وأنَّه “تجربةٌ ذاتيَّةٌ داخليَّةٌ هي، في الوقت ذاته، تجربةُ الوجود، من حيثُ إنّها تجلّي الوجود لذاته”(14). ولذا، فهو “ليس سوى الوجه الآخر للبقاء، يَفْنَى [العارفُ] عن ذاته، ولكن من أجل أن يستعيد الكونَ بمجمله”(15)، فيرى الكونَ عبر المكاشفة والحدس متجلّيًا في مرآة القلب الصّافية.
وهذا يقود إلى تفصيل الأبعاد الرَّمزيَّة الصّوفيَّة للمرآة؛ فهي تتَّصل بأحوال الشّهود الصّوفيّة الَّتي يرى فيها العارفُ (الإنسان الكامل) الحقائقَ متجلّيةً وقد انزاحت عنها الحجبُ، فيُعاينها حضورًا وليس نتيجة استنتاج منطقيّ. ويُقصَد بالمرآة تارةً الخلقَ، وتارةً الحقَّ نفسه (16)، وتارةً ثالثةً القلبَ(17) حيثُ تتجلّى صورُ النّور الكّلّيّ. واللَّافت أنَّ الصّوفيَّة ترفع منزلة القلب لا العقل في اتّصاله بالمعرفة الشّهوديَّة؛ فهو أداة المعرفة.
لذا، فالمعرفة الصّوفيَّة المرتبطة بمرآة القلب معرفةٌ حضوريَّةٌ وذوقيَّةٌ، تنبثق “من الحضور هنا والآن، وليس من معرفةٍ ماضيةٍ”(18). فهي لا تُعلَّم ولا تُنقَل بالكلام، ولا تُحدَّد بمفاهيم عقليَّةٍ أو تعريفاتٍ منطقيَّةٍ، ولا تُقاس بقواعد رياضيَّةٍ منطقيَّةٍ ثابتةٍ؛ لأنَّها مكاشفة وليست نقلًا، وعليه “لا يكفي الآخر أن “يقرأ” لكي يعرف، وإنَّما يجب أن “يعيش” وأن “يختبر”(19). أمّا غاية تلك المعرفة، فتأسيس الصّلة بين أعماق الإنسان المجهولة ومكنونات العالم، والمؤالفة بين الظّاهر والباطن، والكثرة والوحدة، والأشياء والمطلق… حتّى تزول الحدود والعلامات الفارقة.
ولأنَّ التَّجربة الصّوفيَّة لا تُنتج علومًا عقليَّةً، بل حالاتٍ وتجلّياتٍ حضوريَّةً تُزال فيها الحجبُ، فإنَّ المعرفة ذاتَها تُمسي مفتوحةً وغيرَ نهائيَّةٍ؛ فالعارف في تحوُّلٍ مستمرٍّ تبعًا لتقلُّبات القلب (مصدر المعرفة) الَّذي يبقى في تقلُّبٍ متواصِلٍ من حالةٍ إلى أخرى. وبما أنَّ ماهيّة العالم غير ثابتةٍ، فالمعرفة مفتوحة على التَّحوّل اللّامحدود.
إذًا، تأبى المعرفةُ الصّوفيَّةُ الانقيادَ إلى نتائج معرفيَّةٍ جامدةٍ أو إلى قواعد صارمةٍ ثابتةٍ؛ فهي “معرفةٌ، بقدر ما تتَّسع، نشعر بأنَّها لا تزال ضيّقةً. وكُلَّما ظننّا أنَّنا اقتربنا بها من الطّمأنينة ازددنا حيرةً”(20)، لذلك يغدو الأعرفُ بالمطلق أشدَّ تحيُّرًا وتيهًا فيه، وتغدو المعرفةُ مفتوحةً على الدَّهشة والقلق.
وعليه، نلج إلى قصيدة “يَمْحُو ظلَّهُ لِيَشِفَّ كالمرآةِ” لنقف على توظيف الشّاعر أفضيةَ الدّلالات الصّوفيَّة في شعره. فكيف تجلَّت النَّزعة الصّوفيَّة في هذه القصيدة؟
2 – تأطير النَّصّ: انفتاحه على السّياق الخارجيّ:
يُعيِّن النَّصَّ بوصفه خطابًا تلفُّظيًّا استحضارُ موقف التَّلفُّظ الَّذي يفترض متكلّمًا ومخاطَبًا وبيئةً للخطاب (الزَّمان والمكان). فنتبيَّن أنَّ المرسِل هو المتكلِّم النَّصّيّ الَّذي يُحيل إلى الشَّاعر بزيع تبعًا لغلاف الدّيوان الخارجيِّ. واللَّافت أنَّ المؤشّرات الذّاتيَّة العائدة إلى المتكلّم لا ترد بصيغة المفرد، بل بصيغة المتكلِّمين: “فنهتف، أبانا، نأتي إليه، نُحدّق…”، ويعود هذا الضَّمير الجماعيّ إلى الشَّاعر وأقرانه الشّعراء تجسيدًا لدلالة ائتمام الكثرة بالمفرد أي بالشّاعر المتكلَّم عليه بوصفه شبيهًا بإمامٍ يُقلَّد في صمته.
ويُحيلنا المتكلِّم إلى “الهو” البارز في القصيدة بروزًا لافتًا، والعائد إلى الشَّاعر المتكلَّم عليه (السَّيّد محمَّد حسن الأمين) وفق محيطات النَّصِ الخارجيَّة. والسَّيّد الأمين رجل دينٍ معاصرٌ، وشاعرٌ، ومفكّرٌ معروفٌ بأفكاره النّاقدة، وبعمق تجربته الشّعريَّة حسب المُؤوِّل الدّيناميّ الَّذي يُحيل إلى مرجعٍ ثقافيٍّ تاريخيٍّ خارج النَّصّ. كما يُحيلُ ضميرُ المخاطب إلى الشّاعر السَّيّد في سياق الحوار النَّصّيّ.
وهذه التَّعدُّديَّة في الأصوات تنقل القصيدةَ إلى آفاق بنيةٍ مسرحيَّةٍ مفتوحةٍ ومتعدّدةٍ من حيث وجهات النَّظر، ولكنَّ التَّأويل النّهائيّ بإمكانه تجاوز هذه التَّعدُّديَّة الظَّاهرة ليضعنا إزاء أحاديَّة صوتٍ يتوحَّد بذاته وبتلك الأصوات المتعدّدة في آنٍ معًا؛ أي أنَّ ثمَّة اندماجًا بيّنًا بين “النّحن” و”الهو”. فليس “الهو” غير مرآة “النّحن” الَّتي تنعكس عليها كينونة الشّاعر المتكلّم. وليس الحوار مع المخاطَب إلّا حوارًا ذاتيًّا داخليًّا يستغرق في نَكْءِ حجبِ الذّات المنقسِمة على نفسها، والمنفصِلة عن الكون في الظَّاهر، لتغدوَ ذاتًا إنسانيَّةً كونيَّةً في باطنها الخفيِّ، ذاتًا هي “الذَّات/ الآخر”، و”الذَّات/ الكون” معًا في إطار وحدةٍ وجوديَّةٍ لا انفكاك بين عناصرها.
أمّا مكان الإرسال الواقعيّ، فليس مصرَّحًا به، ولكنَّ النَّصَّ لا ينفكّ يكشف عن إشاراتٍ مكانيَّةٍ نصّيَّةٍ بالغة الدّلالة الصّوفيَّة والشّعريَّة: “يبحثُ عن بلادٍ لم تلدْهُ”، “فينكشف الغطاءُ لَهُ”، “بابٌ آخرُ”، “لا جهةٌ تدلُّ ولا إشارةَ”، “والوراءُ هوَ الأمامْ”، “الرَّحيل أو المقامْ”، “هي في الطَّريق”.
وهذه الإشارات المكانيَّة إنَّما تستمدّ أبعادَها من التّراث الصّوفيّ؛ فالمكان، لدى الصّوفيّة، صورةٌ لتجلّي المطلق، وصورةٌ عنه، وهو لا يُقيم خارج الذّات الَّتي بدورها لا تُقيم خارجه. ولذا، يتوغّل المتصوّف في ذاته ليستغرق في الوجود وأسرار المكان في آنٍ معًا. فما العلامات الفارقة بين الظَّاهر والباطن، والذّات والأشياء، والأنا والآخر إلّا تعييناتٌ فرضها العقلُ المنطقيُّ الَّذي حدّ الأشياءَ ليُميّزها. أمّا لدى أهل الباطن والحدس فيتخطّى الإدراكُ الظّاهرَ إلى الباطن الجوّانيّ، بل يُلغي تلك الحدود والفروقات، ليغدو الوجود واحدًا وكثيرًا في آنٍ واحدٍ لأنَّ المطلق لا ينفصل عن المحدود البتَّة.
وعليه، يَخْفَى المكان في حالات الشَّطح الإبداعيَّة ويُمْحى في ذروة مناخاتها الحدسيَّة؛ لأنَّ الذّات نفسها تَفْنى في المطلق (الله/ المعنى)؛ ومتى فَنيت الذّاتُ في المعنى الكّلّيّ فنيت الأشياءُ وزالت التَّعيُّناتُ، وعليه لا فارق بين “أمام” و”وراء”، أو بين “فوق” و”تحت”، أو بين “الرَّحيل” و”المقام”… لأنَّ الوجود كلَّه يُمسي مسرح تلك التَّجربة الشّعريَّة الَّتي لا تنعتق فيها الذّاتُ خارج كينونتها، بل، على العكس، تغور فيها عميقًا بحثًا عن أسرارها الخفيَّة الَّتي هي أسرار المطلق والكون. والمهمّ في تلك الجهات المكانيَّة أنَّ “الطَّريق” تقترن بالحيرة والقلق الكيانيّين لا بالرَّشاد والاهتداء، حيث يمتنع توقُّفُ الشَّاعر عن الاتّصال بديمومة المعنى المُتجدّد؛ إذ الطَّريق سفرٌ متواصلٌ لا نهاية له.
أمّا الزَّمن بالمعنى الصّوفيّ، فيُمسي لحظةَ شطحٍ وفناءٍ في المعنى الكلّيّ المتجلّي للذّات المتأمّلة. إنَّه لحظة حضورٍ ومعرفةٍ عيانيَّةٍ حدسيَّةٍ بالكون تذهل فيها الذّاتُ عن الماضي والمستقبل الغائبين، وتذوب في الحضور المطلق أو في روح الكون. وهي لحظةٌ لا تُقاس ولا تُحدَّد بأعدادٍ، وإن ذُكر تاريخ كتابة القصيدة في الحاشية السّفلى (30-10-1995)، فما ذلك التّاريخ المُدوَّن إلّا تاريخ إنجاز الشّاعر كتابةَ القصيدة وقد أنهى واحدةً من أسفاره الشّعريَّة الَّتي تُشبه الحالات الصّوفيَّة ومُناخاتها الانبعاثيّة. أمّا لحظة التَّجلّي الإبداعيِّ والاستغراق في الذَّات والكون معًا فلا تُقاس ولا تُنقَل ولا تُحدَّد؛ لأنَّها لحظة اختبار المعنى الكلّيّ وشهوده من منظورٍ رُؤْيَويٍّ مُتَّسعٍ اتّساعًا مُذهلًا يعجز الكلامُ معه ويخون صاحبَهُ في نَقْل تلك المُناخات، وهي لحظةٌ متجدّدةٌ دائمًا تختبر فيها الذَّاتُ مُعاينةَ المطلق غير المحدود؛ إذ كلّ اتّصالٍ بالمطلق/ المعنى اللَّانهائيِّ مختلفٌ عن سالفه. وعليه لا تُكرَّر اللَّحظاتُ الإبداعيَّةُ نفسُها الَّتي لا يُعبَّر عنها بالكلام إلّا حين عودة الشّاعر من سفره الإشراقيّ الملتهب.
ولذا، يُعدّ فناءُ الزَّمان والمكان النَّصّيّين منطلقًا لتحقيق الوحدة الوجوديَّة، وللاتّصال بذوات الآخرِين، وبأسرار الكون الخفيَّة؛ لأنَّ “الزَّمان والمكان هما الشَّرطان الضَّروريّان للكثرة والتَّعدُّد”(21).
3 – بنية الخفاء والتَّجلّي: بؤرة
القصيدة الدّلاليَّة:
نُحلّل البنية الدّلاليّة في هذه القصيدة تحليلًا سيميائيًّا وفق مرحلتين؛ في الأولى نُحلّل دلالات الوحدات والحركات الدَّلاليَّة في ضوء المحاور الَّتي تتولَّد من البنية الدَّلاليَّة الكبرى، وفي الثَّانية نُحلّل بنية القصيدة السَّرديَّة من خلال البنية العامليَّة والمُربَّع السّيميائيّ التَّجريديّ:
-1 تحليل محاور القصيدة ووحداتها الدِّلاليَّة
تحكم دلالاتِ النَّصّ بنيةٌ دلاليَّةٌ شاملةٌ ترتبط بثنائيَّاتٍ متعدّدةٍ أبرزُها بنية الحضور والغياب، والوصال والانقطاع، والخفاء والتَّجلّي. ومدخل الشَّاعر إلى ذلك الحضور والوصال أن يغوص في كينونته الفرديَّة سبيلًا إلى الاتّحاد بالكلّ، وإلى مُلامسة أعماق الكون الخفيَّة. ولا يُحقِّق ذلكَ إلّا هَتْكُ حجبِ المادَّة، والنَّفاذ إلى شفافيَّة روح الكون الكبرى بعيدًا من تحديدات العقل المنطقيَّة الَّتي تُقلّص المعنى وتحجبه، فتَنْفيه عمّا عداه وتُغَيّبه. أمّا تحرير المعرفة من زمنيَّة المفاهيم التَّحديديَّة، فيجعلها تُبصر الباطنَ المخفيَّ، وتُوقظ الأشياءَ وتُفجّر مكنوناتها. فكيف تجلَّت دلالاتُ هذه البنية في القصيدة؟
تُوَزَّع القصيدةُ في ثلاث وحداتٍ دلاليَّةٍ كبرى تُضيء جميعُها مشكاةَ القصيدة بما تتغذّى به من زيت الإشراقات الصّوفيَّة ومُناخاتها الإبداعيَّة وفق الآتي:
• الوحدة الأولى (1-20): الشَّاعر وإدراك ما خلف الوجود: تُوزَّع في حركتين؛ تُصوّر الحركةُ الأولى (1-8) قدراتِ الشّاعر الحدسيَّةَ الَّتي تجعله يتوحَّد بالكون وينفذ إلى أسرار الوجود، فيُدرك ما تغفل عنه الحواسُّ؛ لأنَّ القلب (مدار الكشف) يُعاين المعنى الكلّيَّ معاينةَ كشفٍ وحضورٍ خلف صور الأشياء، على عكس العقل الَّذي يُجزِّئ الوجود أجزاءً كثيرةً.
يُفتَتَح النَّصُّ بجملةٍ اسميَّةٍ منفيَّةٍ: “لا غَيْمَ في يَدِهِ”. والغيمُ كتلةٌ مادّيَّةٌ كثيفةٌ، وحجابٌ بالمعنى الصّوفيّ الرَّمزيّ. وهو، في اللَّاوعي الإنسانيّ وخاصَّة الرّيفيّ الزّراعيّ، مبعثُ الخير، ومورد الغيث، ومُنبِت الخيرات، ومُفجِّر الغرس، ومعنى ذلك أنْ ليس في يد الشّاعر السَّيّد غيرُ الخواء المادّيّ، أو ليس في يده حجاب يحجبه عن الاتّصال بكينونة المعنى اللَّامتناهي. ولذلك فهو، حين يبسطها، لا تكون إلّا فاعلةً ومُؤثِّرةً؛ لأنَّها تجعل الرُّؤى تلتمع وكأنَّ ثمَّة مفارقةً بين خواء اليد ببُعْدها المادّيّ وامتلاء الشّاعر المعرفيّ والإبداعيّ.
يبسط الشّاعر يده (والبسط ذو دلالةٍ صوفيَّةٍ عميقةٍ تتَّصل بالفيض الإلهيّ والتَّجلّيات الإشراقيَّة) فتتوهَّج الأنوار (تلتمعُ الرُّؤَى) لتشقَّ صدرَ الغمام. والشَّقّ نفاذٌ وتفتيقٌ لحجبٍ كثيفةٍ. وليس ذلك فقط، بل إنَّه يُدرِك أسرار المطر، فيُصغي إلى هطوله قبل نزوله لاتّصاله بالحقائق العلويّة الكامنة، كما يُصغي إلى الكواكب وهي تهرم فجأةً لإدراكه حركةَ الزَّمن السَّريعةَ الَّتي تُجسِدها حركةُ الكواكب. وما يلفت في هذا الالتقاء بالكون أنَّه لا يُحقَّق خارج الذّات، بل في عمق وجودها؛ إذ تنحلّ كينونةُ الشّاعر في الكينونة الوجوديَّة الشَّاملة. وما لم يفعل الشّاعرُ ذلك كان شعره وصفًا خارجيًّا يُداعب قشرة الوجود ولا يستبطن بواطنَهُ.
ثُمَّ يستأنف بزيع تصوير قدرات الشّاعر السَّيّد الحدسيَّة؛ فهو يُدرك نبض القصيدة في المسام وهي لا تزال أصواتًا تتصايح همساتُها ونبضاتُها الأولى في دمه وكيانه، أو لا تزال دفقاتٍ هامسةً غامضةً لا يكشف عن بعض دلالاتها وأسرارها إلّا أن تنبري الكتابةُ الشّعريَّةُ تُجسّدها إبداعًا بلغةٍ مجازيَّةٍ مُواربةٍ؛ وكأنَّ الكتابة الإبداعيَّة مرآةٌ تُجلي تلكَ الهزَّةَ الكيانيَّةَ الذَّاتيَّةَ فتنقلها من الخفاء والعماء إلى الظّهور لتُومض المعاني وتنعكس المُناخاتُ الوجوديَّةُ الدَّاخليَّةُ على مرآة القصيدة؛ وإذَّاك يُمكن قراءتها وإدراكها.
وعليه، فقد نقل الإشراقُ الشّعريُّ الشّاعرَ ذاتَهُ من موقع شاعر الوجدان والانفعال إلى شاعر الفعل والنُّبوَّة مُعتمِدًا على الرُّؤْيا والحلم والحدس من غير انتفاء دور الحواسّ في إدراك المرئيّات الظّاهرة؛ إذ يتَّصل بعالم التَّمثُّلات والأفكار مُدْرِكًا الأشياءَ في وجودها الأوَّل ما قبل الحسّيّ، أي الوجود في حضرة الخيال والحدس.
أمّا الحركة الدَّلاليَّة الثّانية (9-20) فتقوم على تناقضاتٍ ثنائيَّةٍ متعدّدةٍ بين الغياب والتَّجلّي، والتَّشفُّف والتَّكثُّف، والصّورة والمعنى… ثنائيّاتٍ تنتظم وفق حركةٍ جوهريَّةٍ جدليَّةٍ تُفضي إلى وحدةٍ يُزاح فيها بعضُ ظلال السّتر عن المعاني المطلقة المتوارية في عماء المجهول، ويُكشَف عن بعض أسرار العالم المغلَقة، لكون الوجود سرًّا وليس موضوعًا عقليًّا مُنفصِلًا عن الذّات.
وتُستَهَلّ هذه الحركةُ ببيان هيئة الشّاعر السَّيّد وقد بدا مُتدثِّرًا في أثناء دخوله في عباءته. فما يُحقّق التَّدثُّرَ غيابُهُ الشَّفَّافُ؛ والتّشفّف، في اللُّغة، “هو ما رقَّ حتّى حكى ما تحته”(22). فهو بهذا المعنى، سرٌّ وإفصاحٌ في آنٍ مَعًا، ودخولٌ في العماء لاستجلاء نور المعنى الغائب الكلّيّ؛ فبقدر ما يجول الشّاعرُ في عتمة الباطن الذّاتيّ والكونيّ تتلاشى الأغطيةُ عن بصيرته، فينكشف حينذاك حضورُ المعنى حضورًا حدسيًّا شاعريًّا كلّيًّا.
يدخل الشّاعر السَّيّد في عباءته بحثًا عن ظهورٍ من نوعٍ آخر في بلادٍ لم تلده من قبلُ، بلادٍ يعرفها ويجهلها، يُماثلها ويُفارقها في آنٍ واحدٍ، وعن موطنٍ آخر يومض فيه حضورُهُ الشّعريُّ الكيانيُّ حيثُ تَخْفى صورتُهُ الزَّمنيَّةُ الرَّثَّةُ، وكأنَّ هذا التَّناقض الجدليّ الظّاهر بين الدّخول في الخفاء وظهور الوجود الباطنيّ يُحَلّ في التَّجربة الشّعريَّة الإبداعيَّة؛ فكلَّما تخفَّف الشّاعر من ظلال الصّور الحسّيَّة، انفتح المعنى الكلّيُّ لبصيرته ورؤاه.
ومتى شفّت له الظّلالُ، كُشِف له الغطاءُ؛ فأدرك سرَّ الحقائق إشراقًا ومعاينةً كأنَّه في المنام: “تختلطُ الحقيقةُ بالمَنَامْ”، إذ يُماثل النَّومُ اليقظةَ، واللَّاوعيُ الوعيَ. يدخل الشَّاعر في عباءته عائدًا إلى أصله الأوَّل، إلى عالم الوحدة: “ويعودُ نَحْوَ منابعِ الماضي”؛ يعود إليه لعلَّه يختبر الحواسَّ بقلبه الَّذي هو وسيلة المعرفة الشّعريَّة، يعود إلى ذلك العالم حيث الفردوس الأوَّل؛ تتجلّى المعاني بلا ظلالٍ، فلا تُضْحى. وهو عالمٌ خفيٌّ عن حواسّنا الَّتي تُدرِك الوجودَ صورًا مُتعدّدةً مُتباينةً ومُتفرّقةً في مظاهر التَّصوير الكثيرة.
ولذلك ينفذ الشّاعر إلى جوهر العمليَّة الشّعريَّة بكونها تذوُّقَ ما بقي من نواة الإثم في الثَّمر الحرام؛ فالشّعر رفضٌ للنّاجز المُكرَّر الَّذي يُطمْئِن ويُطْمَأَنّ إليه، وهو تمرُّدٌ وتجاوزٌ وتحوُّلٌ مُستمرٌّ، وتساؤلٌ وكشفٌ لا يستكين إلى نهائيَّةٍ ثابتةٍ أبدًا، ووعدٌ مع مُغامرةٍ دلاليَّةٍ وشعوريَّةٍ مُتواصلةٍ.
• الوحدة الثَّانية (21-51): الشّعر سفرٌ في هَتْكِ الحجب: وتضمّ حركتَيْنِ دلاليَّتَيْنِ: حيث تترجَّح الحركة الأولى (21-26) بين ثنائيَّة المَحْو والتَّشفُّف، والخفاء والظّهور، وتُفتَتَح بتكرير لازمةٍ افتتاحيَّةٍ دلاليَّةٍ: “لا غَيْمَ في يدِهِ” لإثبات تخفُّف يد الشّاعر السّيّد من ثقل الظّلال الكثيفة. ثُمَّ يأخذ الشّاعر يتغلغل في الكشف عن بعض أدوار التَّجربة الإبداعيَّة؛ فالسَّماوات تَسْرو نحو جبهة الشّاعر السَّيّد، أي تُكْشَف، تُغادِر صوب جبهته لتُكْشَف وتظهر مُتجرّدةً من الصَّدى: “وتسرو نَحْوَ جبهتِهِ سَمَاواتٌ/ مُهجِّرَةُ الصَّدَى”. والصَّدى ظلّ الحقيقة، ورجع الصَّوت الأصليّ؛ فهو وَهْمٌ وصورةٌ عن الماهيَّة الكُلّيَّة. ولذلك تُشاكل هذه السَّماواتُ الشَّاعرَ السَّيّدَ الماحيَ ظلَّهُ، فَيَشفَّان مَعًا كالمرآة (الصَّدى والظّلُّ والسَّماواتُ = المرآة).
بعدها يعمد الشَّاعرُ إلى توازٍ بيّنٍ بين تلك السَّماوات و”قُرًى من القَتْلى”، فيستبدل القتلى بكلّ مُكوّنات القرى من أهلٍ وطبيعةٍ وعمرانٍ، ويُضخّم حجم القتل ليُمسيَ وجهًا من وجوه هُويَّة تلك القرى. ولذا، فهي قرًى جنوبيَّةٌ (جنوب لبنان)، يُحيل إليها تأويلُ مُعجم القتل (القتلى – دمها) تأويلًا ديناميكيًّا يُشرَع على النَّهل من التَّجربة التّاريخيَّة الَّتي نشأ النَّصُّ في رحمها الأولى؛ فالشّاعر السَّيّد ينتسب إلى إحدى تلك القرى الجنوبيَّة الَّتي هتك براءَتَها الإسرائيليُّ المُحتلُّ. لذلك تُعتِّم تلك القرى نفسَهَا لتُضيءَ عذاباتِها وآلامَها في أحلام الشّاعر، ولتُميطَ اللّثامَ عن دمها المُراق. فبحسب الصّوفيَّة يكون العالم المطلق شديدَ الظّهور إلى درجة الخفاء، وقد بيّنّا ذلك آنفًا. فهو لا يُرى إلّا بالتَّخفُّف من الصُّور في عالم الشُّهود. ولذلك تَمْحو تلك القرى نفسَها المُتجزّئةَ وتَخْفى في نور المعنى الكلّيّ لتظهرَ في فضاء القصيدة. فما الصّورة إلّا حجابٌ، وبالحجاب تُرى تلك القرى الصّامدةُ المغدورُ بها.
أمّا في الحركة الثّانية (27-51) فثمَّة تركيزٌ على التَّجربة الشّعريَّة منظورًا إليها من منظورٍ إشراقيٍّ محضٍ، بكونها طريقًا إلى المعرفة والرُّؤيا الأشمل، وثمّة تبيانٌ لدور المجاز في مُلامسة الحقيقة، المجاز المراوِغ بطبيعته الَّذي يُومئ إلى المعنى بالرَّمز والتَّمثيل، ولا يحدّه.
وتُؤسَّس هذه الحركةُ على حوارٍ ثنائيّ بين الشّاعر السَّيّد من جهةٍ والشَّاعر المُتكلِّم (بزيع) وأقرانه الشُّعراء من جهةٍ ثانيةٍ، حوارٍ يُفتَتَح بجدليَّة المَحْو والحضور، والفناء والبقاء. فإنْ كان لِخُطى الشّاعر السَّيّد أزمنةٌ زائلةٌ يُغيّبها حجابُ المَحْو لأنَّها بنتُ عالم الشُّهود، فإنَّها خُطًى، وإنْ فَنِيَتْ، تُفصِح عن جوهر الشّاعر الباقي، وعن كينونته الأصيلة على الرَّغم من الدَّهر المُتهالك، فتُقِلّ خُطاه كينونتَهُ إلى سرادق الجوهر الإنسانيّ المُشعّ لا إلى سرادب الفناء الفاني. ولحظتذاك قد يرى الشّاعر ببصيرته ما ليس يراه البصرُ، فيسأل الشّاعرُ المُتكلِّمُ الشّاعرَ السَّيّدَ: “مَاذا وراءَ البابِ؟”.
والباب، بالمعنى الصّوفيّ، حجابٌ، ولكنَّه حجابٌ مُثمِرٌ وخلّاقٌ؛ لأنَّه “هو الفاصل الموصِل وليس الفاصل المانع”(23)، وهو مدخلٌ إلى فضاءٍ محجوبٍ عن أبصارنا. فهل ما بعد الباب وصالٌ أبديٌّ ويقينٌ نهائيٌّ أو ثمَّة بابٌ آخر؟ يُجيب الشّاعرُ السَّيّدُ بقوله: “بابٌ آخرُ”. لأنَّ المعنى المطلق غير محدودٍ ويبتكر مسافةً للغياب دائمًا، ولذلك فالإحاطة به مُستحيلةٌ؛ ومن ثَمَّ فمعرفته متواصلةٌ ومتوالدةٌ إلى ما لا نهاية.
ولذا، تستلزم معرفتُهُ فتوحاتٍ دائمةً وسفرًا مُضنيًا لا ينتهي؛ كلَّما فُتِح بابٌ قاد إلى آخر سواه، فكلّ فَتْحٍ هو عتبةٌ لسرٍّ مُقفلٍ يُغري بمواصلة المغامرة والسَّير، وبقدر ما يزداد الشّاعر معرفةً يزداد شكًّا وجهلًا وتوقًا إلى عوالم مخبوءةٍ لم تُفضّ غشاوتُها من قبلُ؛ وهذا منحًى شعريٌّ إبداعيٌّ مُعاصرٌ عميقٌ جدًّا.
ثُمَّ يُستأنَف الحوارُ بالحديث عن زوال الجهات في الوجود من منظور العُشّاق: “الوراءُ هوَ الأمامْ”. فما الجهات إلّا حدٌّ ومظهرٌ من مظاهر عالم الصّور الَّذي يُفرّعه العقلُ المنطقيُّ جهاتٍ وأقسامًا مُقيَّدةً بالمقاييس الرّياضيَّة. أمّا العالم المُدرَك بالحدس القلبيّ لدى العُشَّاق والشُّعراء مَعًا، فهو ذاتٌ واحدةٌ لا انفصام فيها بين الظّاهر والباطن، أو بين الإنسان والأشياء، أو بين الفرد والإنسانيَّة… والشُّعراء كالعُشَّاق في طلب الوصول. فمتى فَنِيَ المكانُ نفسُهُ زالَتِ الجهاتُ واتَّحد الجزءُ المحدود بالمطلق الكلّيّ، وتجاوز الشَّاعرُ حدَّ الذّاتيَّة إلى آفاق اللّاشعور الإنسانيّ الجمعيّ؛ إذ أعماق البشر متشابهةٌ يتواصل بعضُها مَعَ بعضه الآخر من غير وعيٍ منه؛ لأنَّ الإنسانيَّة حقيقةٌ واحدةٌ.
ولذلك تغدو الكتابةُ الشّعريَّةُ المُتشرّبةُ من الرَّوافد الصّوفيَّة نوعًا من محاولة إماتة العالم الظّاهريّ المُبَعْثَر والمُتباين بحثًا عن الجوهر الإنسانيّ المُشترك وعن كينونةٍ واحدةٍ للوجود. وما سوى هذا الموت الرَّمزيّ تيهٌ مُتواصِلٌ على دربٍ طويلٍ مُتشعّبٍ لا يُفضي إلّا إلى المزيد من الحيرة والغرق في بحرٍ من التَّساؤل والبحث والكشف:
“الشُّعراءُ كالعُشَّاقِ لا يصلونَ
مَا لم يُحرِقُوا من خلفِهِمْ
سُفُنَ الهيامْ”.
إذ نلحظ أنَّ ثمَّة تناصًّا مزدوج المنهل، فقد يستبطن ربط الوصول بإحراق السُّفن إشارةً أولى إلى القائد العربيّ “طارق بن زياد” الَّذي أمر جنوده بإحراق السُّفن في طريقه إلى فتح الأندلس كي لا يُفكّروا بالفرار في لحظةٍ ما، أو إشارةً ثانيةً إلى تأويل الفيلسوف الصّوفيّ “ابن عربيّ” سورةَ “نوحٍ” تأويلًا صوفيًّا في كتابه “فصوص الحِكَم”. ولكنَّ الأرجح اتّكاء الشّاعر، في هذا المعنى، على التَّناصّ الثّاني؛ إذ كانت السُّفن في التّناصّ الأوَّل سبيلًا إلى الفرار والهزيمة وإن اقترنا بالنَّجاة، في حين أتى إحراقُها ليُضاعف من عزيمة الجنود العرب في طريقهم إلى الأندلس حتّى تحقيق النَّصر؛ وعليه يُعَدّ الظَّفر بالمعركة وصولًا على عكس العُشّاق والشُّعراء الَّذين يُنبِئ عنهم الشّاعر بأنَّهم يجعلون الوراء كالأمام سواءً، وفَتْحَ أيّ بابٍ يُؤدّي إلى سواه مُرسّخًا منحًى دلاليًّا يُستثمَر للإيحاء بتعذُّر الوصول.
فابن عربيّ اتَّخذ البحر رمزًا للمعرفة بالله، والغرق فيه إيحاءً بالحيرة والغرق في العلم بالله(24)؛ وهما مطلبا الصّوفيّ وفق ما سلف. في حين اتَّخذ السَّفينةَ رمزًا لمَنْ حَدّوا الحقَّ بحدّ التَّنزيه، وانقطع عن التَّشبيه(25)؛ بينما يقوم جوهر حقيقة معرفة الحقّ على الجمع بين الدَّعوَتَينِ من منظوره الصّوفيّ(26)؛ وعليه يُضحي غرق قوم نوح أو “أهل الحقائق”، حسب تسمية “ابن عربيٍّ”، استمرارًا للحيرة والتّيه والاستغراق في كشف تجلّيات الله، أمّا رُكّاب السَّفينة فيُمثّلون استمرارًا لنهج “القائلين بالشَّرائع”(27)العاجزين بتحديداتهم العقليَّة عن كشف تجلّيات المطلق.
انطلاقًا من هذا المعنى العميق، ينحاز الشّاعر إلى غرق الشُّعراء في بحار الدَّهشة والبلبلة والقلق والسّفر؛ لأنَّ الوصول تكريرٌ وجمودٌ وانقطاعٌ وانكفاءٌ عن المغامرة الإبداعيَّة؛ أمّا الحيرة في التجربَتَيْنِ الصّوفيَّة والشّعريَّة الحداثويَّة، فهي “وقفةٌ، عطاءٌ، تسميةٌ مقدَّسةٌ، أداةٌ، معرفةٌ، وهي في نهاية المطاف “موقفٌ حقيقيٌّ… يُقوّض كُلَّ شيءٍ نعتقد أنَّنا نعرفه”(28).
ثُمَّ يُواصل الشّاعر الغوص في أسرار سفره الإبداعيّ مرتادًا دروبَ الحقيقة باحثًا عنها، ومُفتِّحًا ما استغلق من المعاني المحجوبة ربطًا بما سلف مُجيبًا بأنَّ الحقيقة: “هيَ في الطَّريقِ” ردًّا على سؤالٍ:
“هَلِ الحقيقةُ في المجازِ أوِ البساطةِ
في الرَّحيلِ أوِ المَقَامْ؟”
وهذا يوضح أنَّ مكمن الحقيقة كائنٌ في التَّجاوز الشّعريّ الدَّائم وفي السَّفر الَّذي يتخطّى المكرورَ أبدًا؛ لأنَّ الوصول وَهْمٌ مُتعذّرٌ ما لم يقل الشّاعرُ كما الصّوفيُّ العارف: “أنا الوجود، وهو أنا”، وما دون ذلك بُعْدٌ وفراقٌ؛ فالمعنى الكيانيّ الكلّيّ كما أسرار الوجود لا يُستنفَد. ولذلك يقود هذا الكلام إلى جَعْل “الطَّريق” تعني “لا طريق” ربطًا بتشديد الشّاعر على مركزيَّة “اللّاوصول” و”الحيرةِ” و”الحركة”؛ إذ تعني الحيرة من ضمن ما تعنيه “فقدان الطَّريق”(29).
ولمّا كان الوصول في الشّعر الكشفيّ، نهايةً واطمئنانًا وجمودًا واسترخاءً، فهو، إذًا، خواءٌ من حيث هو رغبةٌ عن الامتلاء المتواصل، ووهْمٌ من حيث هو رغبةٌ في امتلاك الحقيقة اليقينيَّة كاملةً. فالشّاعر لا يصل ولا يكتفي بما ناله من حصاد تفتيح أسرار المعنى المغلَقة؛ لأنَّ الشّعر بحثٌ مُضْنٍ، وسفرٌ مؤبَّدٌ، وهو بساط ريحٍ لا يستقرّ في أرضٍ متاحةٍ للآخرين، ولا يستوي على عرش “صنعاء”؛ لأنَّ “صنعاء” نفسها حطامٌ. فالشّعر بحثٌ عن “صنعاء المُتخيَّلة” لا “صنعاء الجغرافيَّة الواقعيَّة الفانية”؛ فالأولى باقيةٌ والثّانيةُ فانيةٌ.
ففي الكتابة الشّعريَّة، تُعَدّ لذَّةُ البحث عن الحقيقة الأصليَّة وعن الكينونة الإنسانيَّة المتغيّرة أشدَّ إغراءً من لذَّة الوصول الخاوي والهامد، ويُعدّ الرَّحيلُ أشدَّ سحرًا من أسوار صنعاء نفسها؛ لأنَّ “صنعاء” حطامٌ، والطّمأنينة حطامٌ، والاكتفاء حطامٌ. إنَّ الشّاعر هدّامٌ دائمٌ هدمًا ليس سلبيًّا أو تحطيميًّا، ولكنَّه هدمٌ لنزعة الجمود وشبهة المُنجَز المكتمل الفريد الَّذي لا يُكرَّر؛ فالشّاعر الأصيل هو مَنْ يُؤثر القلق والسَّفر والمغامرة على ما عداها.
• الوحدة الثّالثة (52-68): الشّاعر الإمام ما بين الامّحاء والتَّجلّي: تتوزَّع في حرَكتَيْنِ دلاليَّتيْنِ؛ في الأولى (52-59) نعود إلى الإصغاء لصوت الشّاعر المُتكلِّم (بزيع) مُتكلّمًا على الشّاعر السَّيّد بصيغة ضمير الغائب مُكرّرًا اللّازمةَ الافتتاحيَّةَ ذاتَهَا:” لَا غَيْمَ فِي يَدِهِ” مُلِحًّا على تخفُّفه من أعباء أثقال الحسّ وكثافته. بعدها ينتقل إلى الجملة المفتاح الَّتي اتَّخذها عنوانًا للقصيدة: “وَيَمْحو ظلَّهُ لِيَشِفَّ كَالمِرْآَةِ”؛ وقد مرَّ بنا تحليلُهَا آنفًا في سياق تفصيل دلالات العنوان.
يتطلَّب مَحْوُ الظّلّ هذا حالةً من الصَّمت والتَّأمُّل والاستبطان الذّاتيّ؛ ومن مستلزماتها العزلةُ والوحدةُ والمكابدةُ الإبداعيَّةُ. ولذلك يُضحي الجبل، حسب سيمياء الثَّقافة الدّينيَّة المُتوارَثة، رمزًا للتَّأمُّل وللانقطاع عن زحمة اليوميّ العبثيّ الزّائل إلى الإصغاء لبوح المعنى المُطلق الشَّفّاف اللّامتناهي. يُمْحى الظّلُّ مُزامِنًا حالتَيْنِ من أحوال المكابدة:
– الاتّكاء على جبلٍ عميق الرّيح.
– الانتشاء بالوحدة الثَّقيلة كالإمام.
في الحالة الأولى يتَّكئ الشّاعر السَّيّد على جبلٍ عميق الرّيح، جبلٍ ثابتٍ وشاهق العُلُوّ ليرقبَ كَنَبِيٍّ بزوغ نجمته؛ والنَّجمة نورٌ صغيرٌ يُماثل نورانيَّة النّور الأعظم (المعنى الكامل)، وفيضٌ من فيوض الوجود الكلّيّ.
وفي الثّانية يتحسَّس الشّاعر السَّيّد أسرار الوجود من خلف دثار وحدته الَّتي ينتشي بها كأنَّه إمامٌ. والإمام، لغويًّا، هو “كلّ مَنِ اقْتُدِي به وقُدِّم في الأمور”(30)، فهو الأسوة أو القدوة مِمَّنْ يُؤْتَمّ به.
أمّا في الحركة الثّانية (60-68) فيعود الشّاعر إلى تسليط الضَّوء على جمع الشُّعراء الَّذين يتحدَّث باسمهم لكونه واحدًا منهم مُصوِّرًا ائتمامَهم بالشّاعر السَّيّد قدوةً ومثالًا:
“لِكَيْ نُحَدِّقَ مثلَهُ في وردةِ المعنى
فَنُخْطِئُهَا،
ولكنَّا نُقلِّدُ صمتَهُ
لِنُصَابَ بالعدوى”.
والصَّمت، في الاتّجاه الصّوفيّ، هو لحظة ذروة تجلّي المعنى حين يعجز الكلامُ عن الإحاطة بماهيَّة المعنى الشّامل؛ لأنَّه كلَّما كانت الانفعالات أعمقَ صعب التَّعبيرُ عنها(31)، حيث تكون الرُّؤيا أوسعَ من اللُّغة بكونها قفزةً خارج المفاهيم، وخارج الحدود المعقولة ونطاق الحسّ؛ فلا تكون إلّا في الحلم أو الحدس حيث تتماهى الحدود وتتداخل الأضداد ضمن فضاءٍ مفتوحٍ ومتعدّدٍ غير نهائيٍّ؛ في حين أنَّ اللُّغة الاعتياديَّة قيدٌ وحَدٌّ؛ وهو ما يُؤذن للشّاعر بأن يلوذ بالصَّمت أو يستعيض عنها بالرَّمز والإشارة والتَّلميح؛ إذ لا تفتأ الرُّؤيا المتَّصلة بأرقى معاني الحقيقة أن تُعطلّ اللُّغة الاعتياديَّة وتشلّ سننها التَّواصليَّة ونسقها الإبلاغيّ بإفراغها من الدّلالات العرفيَّة المعهودة وإعادة شحنها بطاقةٍ روحيَّةٍ حدسيَّةٍ لتُضحي صالحةً لقول ما لا يُقال؛ وعندئذٍ تغدو مرادفةً للصَّمت؛ إِذ تنتفي الضّدّيَّة وتتعطَّل المقايسات المنطقيَّة.
ففي الصَّمت الحقيقيّ تكمن بذرة الوعي الكونيّ حيث الحقيقة غير النّهائيَّة، وفيه تذوب الذّاتُ المفردةُ في لجَّة الكون اللّامتناهي؛ ومتى ذابت غدت كينونةً كلّيَّةَ الحضور خصبة الوعي واليقظة والرُّؤيا. ولذلك كان تمجيد الصَّمت والانشغال بلغته أو الانشغال بفتح اللُّغة عليه في الرُّؤيا الشّعريَّة والرُّؤيا الصّوفيَّة معًا.
وتُختَم هذه الحركة بتركيبٍ متوازٍ يُشير إلى التَّساوي بين الألم الحكيم وذَهَب الكلام. فما بلاغة توهُّج الكلام وفيضه الكشفيّ الاستبطانيّ إلّا بعضُ ما يرشح من مناخات الألم والتَّأمُّل وحالات المكابدة اليقظة، وبعضُ ما يقود إليه الصَّمت المُتوحِّد بالألم.
-2 تسريد القصيدة: أو سيميائيَّة البنية السَّردية
تستبطن القصيدة، بشكلٍ أو بآخر، شكلًا من أشكال الحكاية الضّمنيَّة، فنُقاربها مقاربةً سيميائيّةً سرديَّةً بالوقوف على البنية العامليَّة والمربَّع السّيميائيّ، ونُقارب حركة النَّصّ الدّلاليَّة في مستويين: سطحيّ وعميق.
أوَّلًا- المستوى السّطحيّ:
نقف، في هذا المستوى، على دراسة “المُخطَّط العامليّ” الَّذي يكشف عن ديناميَّة التَّحوُّل المستمرّ الَّذي يُميّز الحقيقة الشّعريَّة؛ إذ تنهض البنية السَّرديَّة، في هذه القصيدة، على سرد تحوّلات الشّاعر الذّاتيَّة في طريق الكشف الإبداعيّ المتواصل باحثًا عن كينونة الوجود وعن حقيقته الكامنة الأولى الَّتي تُفلِت من التَّحديد والتَّعيين كلَّما هتك حجابًا من حجبها، ونفذ إلى سرٍّ من أسرارها. ويُمكننا الوقوف على المخطّط العامليّ الآتي الَّذي تُضمِره القصيدةُ:
يكشف هذا المُخطَّطُ عن حركة النَّصّ السَّرديَّة المضمرة، فتُمثّل العاملَ المُرسِلَ رغبةُ الشَّاعر في اكتناه سرّ الوجود الباطن وإجلاء حقيقته المُحتجبة وارتياد أعماقه المجهولة، يتجلّى ذلك، في مستوى النّصّ التَّركيبيّ الظّاهر، من خلال إبداء الشّاعر السّيّد رغبتَهُ في مَحْو ظلّه ليشفَّ كالمرآة حيثُ تتجلّى حقيقة أعماق العالم: “لا غَيْمَ في يَدِهِ،/ وَيَمْحو ظلَّهُ لِيَشفَّ كَالمرْآةِ/ تَحْتَ العِمَّةِ السَّوداءِ،/ مُتَّكِئًا على جَبَلٍ عميقِ الرّيحِ/ يَرْقبُ كالنَّبيِّ بزوغَ نَجْمَتِهِ”. أمّا المُرسَل إليه، ضمن محور التّواصل، فيُجسّده الشّاعرُ السّيّدُ وفق ما تُجسّده العمليَّة الشّعريَّة بحدّ ذاتها لكونها حركةً استشرافيَّةً حدسيَّةً.
أمّا في محور الرَّغبة، فيتبيَّن أنَّ العامل الموضوع يتجلّى في هَتْك حجاب الوجود المرئيّ لتحقيق موضوع الرَّغبة؛ لأنَّ كلَّ وجودٍ ظاهرٍ يُخفي في باطنه حقيقةً مُستترةً: “وَقَدْ يَرى ما لَيْسَ نُبْصرُهُ/ فَنَهْتفُ:/ يا أبانا، قُلْ لَنا ماذا وَراءَ البابِ؟/ بابٌ آخرٌ/ لكنْ، لَمْ يَعُدْ أَحَدٌ مِنَ الأَحْياءِ/ بَعْدَ دُخولِهِ!/ في العِشْقِ لَا جِهَةٌ تَدلُّ/ ولَا إشارةَ،/ والوَراءُ هُوَ الأَمامْ/ وَمَتى الوصولُ ولا دليلَ سِوى السُّدى؟/ الشُّعراءُ كالعُشّاقِ لا يَصِلونَ”. أمّا العامل الذَّات فيُجسّده الشّاعر الَّذي يتدثَّر في الغياب باحثًا عن انكشافٍ آخر للحقيقة والوجود غير انكشافهما المرئيّ، وإذَّاك يُبصِر ما ليس نُبصِره مُحدِّقًا في وردة المعنى: “يدخلُ في عباءَتِهِ/ ويبحثُ عَنْ بلادٍ لَمْ تَلِدْهُ،/ وَعَنْ ظُهورٍ آخرٍ/ لِخَفاءِ صورتِهِ،/ فَيَنْكشِفُ الغِطاءُ لَهُ/ وَتَخْتلطُ الحقيقةُ بِالمَنامْ”.
أمّا بالنّسبة إلى محور الصّراع، فيظهر أنَّ ما يُمكّن الشّاعرَ من تمزيق الغشاوة عن الجوهر الوجوديّ الكيانيّ (العوامل المُساعِدة) يتجسَّد في وسائل عديدةٍ تُوفّر للشّعر تحقيقَ تلك الغاية، وتتجلّى في: الرُّؤيا الشّعريَّة، والحلم، والصَّمت المُقترِن بالعزلة، والرَّحيل الدَّائم في دروب المغامرة الشّعريَّة: “لَكنَّ الرَّحيلَ أَشَدُّ مِنْ أَسْوَارِهَا سِحْرًا،/ وَصَنْعاءٌ حُطامْ…/ […] وَلَكنَّا نُقَلِّدُ صَمْتَهُ/ لِنُصابَ بِالعَدْوى،/ وَنَقْطفَ ما يَفيضُ عَنِ ابْتِسامتِهِ/ مِنَ الأَلَمِ الحَكيمِ،/ وما تَصَبَّبَ عَنْ رُؤَى عَيْنَيْهِ/ مِنْ ذَهَبِ الكَلامْ”.
يستعين الشّاعر بتلك الأدوات المعرفيَّة الحدسيَّة لبلوغ المُرتجى فينجح في اكتناه بعض الأسرار الوجوديَّة الكامنة، ولكنَّه إذ يخترق حجابًا من حجب الحقيقة يُدرك أنَّه قد صار إلى حجابٍ آخر، وليس ذلك عائدًا إلى تقصيرٍ في فاعليَّة تلك الأدوات، بل إلى طبيعة الحقيقة الشّعريَّة نفسها الَّتي تتأبّى على الامتلاك والنَّفاد (العامل المُعاكس). ولذلك لا يصل الشّاعر إلى مبتغاه وصولًا نهائيًا حاسمًا، ولكنَّ ذلك لا يعني إخفاقَهُ وتقصيرَهُ، بل عليه الاستمرار في حدوسه الشّعريَّة الكشفيَّة كي لا يُصاب شعره بالتأسُّن والتّكّلس، وكي لا يقع في وظيفة الإبلاغ التَّقريريَّة والمحاكاة الَّتي تمسّ الشَّيء من خارجه.
ثانيًا- المستوى العميق:
وهنا ندرس المستوى الموضوعاتيَّ الَّذي يُضمر الطَّرح الدَّلاليّ الأوَّليّ المنطقيّ الَّذي ينظمُ البنيتَيْنِ السَّطحيَّةَ والظَّاهرةَ مَعًا في فضاء القصيدة، فنلجأ إلى تحديد الأضلاع الدَّلاليَّة الأساسيَّة الَّتي تشغل المُربَّع السّيميائيّ الَّذي يُوفّر إمكانات اكتناه الاحتمالات الدَّلاليَّة العميقة الغائرة.
إِذ تكشف بنية القصيدة التَّركيبيَّة النَّظميَّة عن تعارضٍ أساسيٍّ كلّيٍّ بين الخفاء والتَّجلّي ضمن “محور التَّضادّ”. ويُفضي هذا التَّعارضُ الأوَّليُّ إلى سلسلة علاقاتٍ مُتناقضةٍ ومُتضادَّةٍ أخرى تحكم آليَّةَ توليد المعنى وتمظهره الخطابيّ التَّصويريّ. وإِذا نفَيْنا طرفَي هذا التَّعارض الأساس (الخفاء/ التَّجلّي) نحصل على طرفَيْنِ دلاليَّيْنِ مُفترضَينْ يشغلان محور “شبه التَّضادّ” (اللّا-خفاء، اللّا-تجلّي). ثُمَّ تنشأ، بعد ذلك، علاقةُ تناقضٍ بين المعنى السَّلبيّ (الخفاء) ونفيه (اللّا-خفاء) وبين المعنى الإيجابيِّ (التَّجلّي) ونفيه (اللّا-تجلّي). ثُمَّ يُبنى من محورَي التَّضادّ وشبه التَّضادّ علاقةُ تضادٍّ مُركَّبةٌ تقوم بين الكشف والتَّجاوز من جهةٍ والمحاكاة والاجترار من جهةٍ ثانيةٍ.
ويُمكن تظهير هذه الدَّلالات الكبرى الَّتي تنتظم في علاقاتٍ مختلفةٍ عبر “المُربَّع السّيميائيّ” من منظورٍ استبداليٍّ وفق الآتي:
ولئن تتبّعنا مجرى الدَّلالة، في المحور التَّركيبيّ النَّظميّ، لوجدنا أنَّ الشّاعر قد افتتح قصيدته على دلالة التَّجلّي، تجلّي أسرار الوجود الَّتي لا نُدركها بالحواسّ، بل حتّى بالعقل؛ إذ نُلفي الشَّاعر السّيّدَ قادرًا على الإصغاء إلى الأمطار قبل هطولها، وإلى الكواكب وهي تهرم، وإلى القصيدة وهي تنبض في المسام، حيث ينكشف له الغطاء: “يُصْغي إلى الأَمْطارِ قَبْلَ هُطولِها،/ وَإلى الكَواكبِ/ وَهْيَ تَهْرمُ فَجْأةً،/ وَإلى القصيدةِ وَهْيَ تَنْبضُ في المَسَامْ/ مُتَدَثِّرًا بِغِيابِهِ الشَّفّافِ”. أمّا دلالة الخفاء فتتجلّى، في القصيدة، من خلال عجز مَنِ افتقد الرُّؤيا الحدسيَّةَ عن إبصار ما يُبصره ذوو الحدس والكشف والخيال: “وَقَدْ يَرى ما لَيْسَ نُبْصرُهُ/ فَنَهْتفُ:/ يا أبانا، قُلْ لَنا ماذا وَراءَ البابِ؟/ بابٌ آخرٌ”.
لكنَّ بنية القصيدة لا تحتكم إلى تلك الدَّلالة الثُّنائيَّة فقط كي لا تقع حركة الكشف الشّعريّ في دائرة الاكتمال، وذلك بانتقال الحقيقة الوجوديَّة الأصليَّة من مقام الخفاء إلى مقام الظُّهور انتقالًا نهائيًّا حاسمًا؛ لأنَّ ذلك يؤول إلى نفادها، ومن ثَمَّ إلى اجترارها وتكريرها. في حين أَنَّ حقيقة الوجود الكيانيَّة تتأبّى على النّفاد والامتلاك، فكُلّ هتكٍ لحجابها يُخفي حجابًا آخر موعودًا.
ولذلك اتَّجهت دلالةُ القصيدة العميقةُ في نهاياتها إلى معنى يترجّح بين (اللّا-خفاء) و(اللّا-تجلّي)، حيث تكمن الحقيقة الشّعريَّة في الطَّريق والمسير إليها سيرًا متواصلًا أبدًا؛ لأنَّ الرَّحيلَ أشدُّ سحرًا من الوصول، والشُّعراءَ كالعشَّاق تائهون لا يصلون أبدًا. والرَّحيل كشفٌ متواصلٌ، وتجاوزٌ مستمرٌّ. أمّا الوصول فحجابٌ واكتفاءٌ بمحاكاة الظّاهر المرئيّ؛ وقد قدَّمنا شواهد كافيةً آنفًا للإشارة إلى تمظهر تلك الدَّلالات في المستوى التَّصويريّ التَّركيبيّ.
إذًا، يمتاح الشّاعر بزيع من روافد الصّوفيَّة ليؤّسس الكتابة الشّعريَّة على مفاهيم “الشَّكّ” و”النّسبيَّة” و”التَّجاوز” و”المتاهة” و”الحدس” وسواها من المفاهيم الَّتي تُقصي المعانيَ المُعمَّمةَ الشّائعةَ، واللُّغةَ اليوميَّةَ النَّفعيَّةَ المُتاحةَ، والَّتي تخرج عن مجّانيَّة التَّعبير إلى كلامٍ جديدٍ ومُغايِرٍ أبدًا لا ينقطع قطّ عن أصول التّراث العربيّ.
النّصّ:
يَمْحُو ظلَّهُ لِيَشفَّ كالمِرْآة
(إلى السَّيِّد محمَّد حسن الأمين)
1 – لَا غَيْمَ في يَدِهِ،
وَيَبْسطُها
فَتَلْتمعُ الرُّؤى مِنْ حَوْلِهِ،
وَتَشقُّ مِثْلَ مَجَرَّةٍ صَدْرَ الغمامْ
يُصْغي إلى الأَمْطارِ قَبْلَ هُطولِها،
وَإلى الكَواكبِ
وَهْيَ تَهْرمُ فَجْأَةً،
وَإلى القصيدةِ وَهْيَ تَنْبضُ في المَسامْ
مُتَدَثِّرًا بِغِيابِهِ الشَّفّافِ
10 – يَدْخلُ في عَباءَتِهِ
وَيَبْحَثُ عَنْ بِلادٍ لَمْ تَلِدْهُ،
وَعَنْ ظُهورٍ آخرٍ
لِخَفاءِ صورتِهِ،
فَيَنْكشِفُ الغِطاءُ لَهُ
وَتَخْتلطُ الحقيقةُ بِالمَنامْ
وَيَعودُ نَحْوَ مَنابعِ الماضي
لِيَخْتبرَ الحَواسَ بِقلْبِهِ
فَيَشُمُّ عطْرَ الجنَّةِ الأُولَى
وَيَلْمسُ ما تَبَقّى مِنْ نُواةِ الإِثْمِ
20 – في الثَّمَرِ الحَرامْ
لا غَيْمَ في يَدِهِ
وَتَسْرو نَحْوَ جَبْهَتِهِ سَماواتٌ
مُهَجَّرَةُ الصَّدى،
وَقُرًى مِنَ القَتْلى تُعَتِّمُ نَفْسَها
لِتُضيءَ في أَحْلَامِهِ
وَصَنْعاءٌ حُطامْ…
لا غَيْمَ في يَدِهِ،
وَيَمْحُو ظلَّهُ لِيَشفَّ كَالمرْآةِ
تَحْتَ العِمَّةِ السَّوداءِ،
مُتَّكِئًا على جَبَلٍ عميقِ الرّيحِ
يَرْقبُ كالنَّبيِّ بزوغَ نَجْمَتِهِ
وَيَتلو آخرَ الآياتِ
مُنْتَشِيًا بِوحْدَتِهِ الثَّقيلةِ
كالإِمامْ
وَيُميطَ عَنْ دَمِها اللِّثامْ
لِخُطاهُ أَزْمنَةٌ يُغَيِّبُها الحجابُ
فَلَا تُقِلُّ إلى سرادِقَ
غَيْرَ جَوْهرِهِ المُشِعِّ،
30 – وَقَدْ يَرى ما لَيْسَ نُبْصرُهُ
فَنَهْتفُ:
يا أبانا، قُلْ لَنا ماذا وَراءَ البابِ؟
بابٌ آخرٌ
لكنْ، لَمْ يَعُدْ أَحَدٌ مِنَ الأَحْياءِ
بَعْدَ دُخولِهِ!
في العِشْقِ لَا جِهَةٌ تَدلُّ
ولَا إشارةَ،
والوَراءُ هُوَ الأَمامْ
وَمَتى الوُصُولُ ولا دليلَ سِوى السُّدى؟
40 – الشُّعراءُ كالعُشّاقِ لا يَصِلونَ
ما لَمْ يُحْرقوا مِنْ خَلْفِهِمْ
سُفُنَ الهيَامْ
وهَلِ الحقيقةُ في المَجازِ أَوِ البَساطةِ،
في الرَّحيلِ أَوِ المُقامْ؟
هِيَ في الطَّريقِ،
ولَوْ نَأَتْ صَنْعاءُ خَلْفَ جبالِها الظَّمأَى
وَشَتَّتَهَا الظَّلامْ
لَا بُدَّ مِنْ صَنْعا إِذَنْ؟
لَا بُدَّ…
50 – لَكنَّ الرَّحيلَ أَشَدُّ مِنْ أَسْوارِهَا سِحْرًا،
60 – نَأتي إِليْهِ
لِكَيْ نُحَدِّقَ مِثْلَهُ في وَردَةِ المَعْنَى
فَنُخْطِئُها،
وَلَكنّا نُقَلِّدُ صَمْتَهُ
لِنُصابَ بِالعَدْوى،
وَنَقْطفَ ما يَفيضُ عَنِ ابْتِسامتِهِ
مِنَ الأَلَمِ الحَكيمِ،
وما تَصَبَّبَ عَنْ رُؤى عَيْنَيْهِ
مِنْ ذَهَبِ الكَلامْ
الهوامش
شوقي بزيع. الأعمال الشّعريَّة. بيروت- لبنان، المؤسّسة العربيَّة للدّراسات والنَّشر؛ عمّان – الأردن، دار الفارس، ط1، 2005، ج2، ص415-421.
يتحدَّث بيرس عن ثلاثة أنواع من المؤوّلات: المؤوّل المباشر، والدّيناميّ، والنّهائيّ.
علي حرب. نقد النَّصّ. الدَّار البيضاء – المغرب/ بيروت– لبنان، المركز الثَّقافيُّ العربيُّ، ط4، 2005، ص282.
سعاد الحكيم. المُعجم الصّوفيّ. بيروت – لبنان، دار ندرة، ط1، 1401ه– 1981م، ص14.
نصر حامد أبو زيد. هكذا تكلَّم ابن عربيّ. القاهرة، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب، لا. ط، 2002، ص138-139.
أدونيس. الصُّوفيَّة والسُّورياليَّة. بيروت، دار السَّاقي، ط3، 2006، ص64.
ابن عربيّ. تفسير ابن عربيّ. تحقيق: سمير مصطفى رباب. بيروت – لبنان، دار إحياء التُّراث العربيّ، ط1، 1422ه-2001م، ج2، ص75.
ابن عربيّ. الفتوحات المكِّيَّة. تحقيق: أحمد شمس الدّين. بيروت – لبنان، دار الكتب العلميَّة، لا.ط، لا.ت، مج6، ص185.
هنري كوربان. الخيال الخلّاق في تصوُّف ابن عربيٍّ. ترجمة: فريد الزَّاهي. لا.م، منشورات هرسم، ط2، لا.ت، ص166.
أدونيس. م. س. ص10.
ابن عربيّ. فُصوص الحكم. تحقيق: أبو العلاء عفيفيّ. بيروت- لبنان، دار الكتاب العربيّ، لا.ط، لا.ت، ج1، ص78.
علي حرب. الحُبّ والفناء. بيروت- لبنان، دار المناهل، ط1، 1411ه-1990م، ص109.
أدونيس. م. س. ص40.
م. ن. ص41-42.
علي حرب. الحبّ والفناء. ص109.
ابن عربيّ. فصوص الحكم. ج1، ص49، 62.
ابن عربيّ. الفتوحات المكّيَّة. مج1، ص142.
أدونيس. م. س. ص116.
م. ن. ص. ن.
م. ن. ص116.
ولتر ستيس. التَّصوُّف والفلسفة. ترجمة: إمام عبد الفتَّاح إمام. القاهرة، مكتبة مدبولي، لا.ط، 1999، ص113.
() إسماعيل بن حمَّاد الجوهريّ. مُعجم الصّحاح. رتَّبه وصحَّحه: إبراهيم شمس الدّين. بيروت، منشورات شركة الأعلميّ للمطبوعات، ط1، 1433ه- 2012م. مد: «شَفَفَ»، عم1، ص58.
سعاد الحكيم. م. س. ص314.
ابن عربيّ. فُصوص الحكم. ج1، ص73.
م. ن. ج. ن، ص68.
م. ن. ج. ن، ص69-70.
م. ن. ج. ن، ص68.
أيان ألموند. م. س. ص89، 92.
م. ن. ص114.
أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريَّا. مُعجم مقاييس اللُّغة. تحقيق: عبد السَّلام محمَّد هارون. بيروت- لبنان، دار الفكر، لا.ط، 1399ه- 1979م، ج1، مد: «أَمَّ»، ص28.
ولتر ستيس. م. س. ص341.