كان ذلك في ثلمة بين فصلين، فقد رحل الصيف لكن الخريف لم يولد بعد، في تلك الأثناء توهج طائر أبو منجل القرمزي على الشجرة النازفة(1) وتضرجت حديقة الزهور ببتلات الماجنوليا الذاوية. ونمت الفيرنونيا بكثافة يحيطها قبس أرجواني. وبجانب المدخنة بقية من زهور الصيف، لكن عش الصفاري ما زال خاوياً تأرجحه الرياح جيئة وذهاباً في شجرة الدردار مثل مهد فارغ. تفتحت آخر زهور المقبرة وتسللت رائحتها عبر حقل القطن إلى كل غرفة في بيتنا هامسة بأسماء موتانا.
الغريب أن كل هذا لا يزال ماثلا أمامي، رغم إدبار ذلك الصيف منذ أمد بعيد، إذ ينتصب حجر رحى حيث كانت تقف الشجرة النازفة، بالضبط خارج باب المطبخ، وإن غنى الصفاري الآن على شجرة الدردار فإن أغنيته ستتلاشى في الأوراق كغبارفضي. وبدت حديقة الزهور مرتبةً جميلة، والبيت أبيضَ لامعاً، أما السياج الباهت فيقف عبر الفناء مستقيما أنيقا. وحين أجلس أحيانا -كحالتي الآن- في الردهة الباردة المكتسية باللون الأخضر، تبدأ الرحى بالدوران فيدور الزمن رتيبا بكل تقلباته وأتذكر دودل.
كان دودل أجنّ أخ قد يحظى به صبي ما، لم يكن مجنونا بالطبع كالعجوز لِيدي التي وقعت في غرام الرئيس ويلسون وكانت تكتب له رسائل يومية، وإنما كان جنونه عذباً كشخص لا يمكن أن تلتقيه إلاّ في أحلامك. وُلد وأنا في السادسة من العمر، ومنذ اللحظة الأولى بدا مخيباً للآمال، فقد كان رأسا كبيرا في جسد صغير متغضن ومحتقن كجسد رجل هرم. اعتقد الجميع أنه ميت لا محاله، عدا عمتي نيسي التي وُلد على يديها وقالت أنه سيعيش لأنه وُلد ملتفاً بغشاء الجنين(2) وغشاء الجنين كما تعتقد مصنوع من رداء نوم المسيح.أوعز أبي لهيث النجار أن يصنع له تابوتا صغيرا من خشب الماهوجني، لكنه لم يمت، وعندما بلغ شهره الثالث رأى والداي أن عليهما تسميته، فاطلقا عليه اسم وليام آرمسترونج، كانت هذه التسمية بمثابة ربط ذيل كبير بطائرة ورقية صغيرة، اسم يبدو لائقا على شاهد قبر وحسب.
كنت أرى نفسي بارعا في كثير من الأمور، كحبس أنفاسي والركض والقفز أو تسلق الكروم في مستنقع “المرأة العجوز” وكنت أتوق دوما لمن يشاركني ذلك، لمن يلاكمني ويجثم معي في أعلى فرع بشجرة الصنوبر الضخمة خلف الحظيرة حيث يمكننا رؤية البحر من خلال الحقول والمستنقعات. أردت أخا. لكن أمي أخبرتني باكية أن وليام أرمسترونج قد لا يعيش “وإن عاش فلن يلهو معي أبداً وأضافت وهي تنشج أنه قد لا يكون حاضر العقل أبدا. وإن عاش سيعيش مستلقيا على رقعة من المطاط في منتصف سرير الغرفة الأمامية، حيث ستائر الدانتيل البيضاء التي يخفق بها نسيم الأصيل القادم من البحر فتصدر حفيفا كحفيف سعف النخيل(3).
كان وجود أخ سقيم أمرا سيئا، أما أن يكون لي أخٌ معتوه فذلك ما لا يطاق. لذا بدأت أخطط لقتله خنقا بالوسادة. إلا أنه وفي عصر يوم من الأيام بينما كنت أراقبه حاشرا رأسي بين أعمدة السرير الحديدية نظر إلي مباشرة وأسفر عن ابتسامة، فقفزت متخطيا الغرف نازلا نحو الردهات التي تردد فيها صدى كلماتي صارخا “أمي” “لقد ابتسم” “إنه حاضر العقل تماما” وقد كان بالفعل.
وحينما كان في الثانية لم يكن قادراً على الحركة إلاّ بعد جهد جهيد، وهو جهد لم يقتله كما تنبأ الطبيب ناظراً إلى ضعف قلبه. فأصبح يدفع بنفسه مرتجفاً حتى يتحول لونه إلى الأحمر وبعدها إلى اللون الأرجواني ثم يسقط مرة أخرى على السرير كدمية قديمة مهترئة. ومازلت أتذكر أمي وهي تراقبه بعينين مفتوحتين لا ترفان ضاغطة بيدها على فمها. بعدها تعلم الحبو (كان ذلك في شتائه الثالث) فأخرجناه من غرفة النوم الأمامية ووضعناه على السجادة أمام المدفأة ولأول مرة أصبح فردا منا.
وكنا طيلة فترة استلقائه على السرير نناديه بوليام آرمسترونج رغم أنه كان اسماً متكلفاً وبدا كأننا ننادي أحد أجدادنا، بيد أنه وبعد أن بدأ يحبو على سجادة جلد الأيل وبدأ يتكلم فقد أصبح تغيير الاسم أمرا ملحا. كنت أنا من غير اسمه، فحين بدأ يحبو كان يحبو للوراء وكأنه جُبل على الرجوع للخلف من دون أن يتمكن من تغيير وجهته وإذا ناديته سوف يستدير كما لو أنه ذاهب في الاتجاه الآخر ثم يعود اليك لتحمله. وهكذا فإن حبوه للخلف جعله يبدو كحشرة اسمها دودل (4). وهكذا بدأت بمناداته “بدودل” ومع مضي الوقت حتى أمي وأبي اعتبراه اسما أفضل من وليام ارمسترونج، عدا أن عمتي نيسي قد عارضت محتجة بأن الأطفال المولودين بغشاء يجب أن يعاملوا باحترام خاص لأنهم قديسون. نعم، لعل تغييري لاسم أخي هو ألطف ما فعلته له، فلا يتوقع الناس شيئاً ممن يدعى دودل.
ومع أن دودل استطاع أن يحبو إلا أنه لم يُبد أية علامات تدل على أنه سيمشي. ومع ذلك فإنه لم يكن خاملاً، إذ لم يكف عن الكلام حتى أننا صرنا قليلا ما نستمع لما يقول. في ذلك الحين صنع له أبي عربة واضطررت أنا لجره هنا وهناك، في البداية كنت أدفعه صعودا ونزولا في الرواق ثم صار يبكي حتى أُخرجه إلى الفناء، وانتهى الأمر بإلزامي أن آخذه معي أينما ذهبت. فكنت بمجرد ما ألتقط قبعتي يبدأ هو في البكاء لمرافقتي، وما إن تسمع أمي بكاءه حتى تصرخ من أي مكان تكون فيه: “خذ دودل معك”. كان دودل عبئا من عدة نواح، فقد أوصى الطبيب بألا يبذل جهدا، وألا يتعرض للحر أو البرد الشديد ولا للتعب، وأن يعامل دائما برفق ولين. وكانت ترافقه قائمة طويلة من النواهي (التي كنت أتجاهلها) لحظة خروجنا من المنزل. كنت أركض به عبر صفوف حقل القطن وعند الزوايا كنت أميل العربة على عجلتين متسببا بقلبه أحيانا عن غير قصد وذلك لثنيه عن مرافقتي. ولكنه أبدا لم يخبر أمنا بذلك. وبسبب بشرته الحساسة جدا، كان عليه ارتداء قبعة قش كبيرة كلما خرجنا، فإن صادفتنا وعورة في الطريق توجب عليه أن يتشبّث بجانبي العربة فتنزلق القبعة في رأسه حتى تغطي أذنيه.
وهكذا كان شكله محط الأنظار وعندها أدركت قدر خيبة أملي. ذلك أن دودل أخي وسوف يتشبث بي إلى الأبد في كل ما سأفعله. لذلك جررته عبر حقل القطن المتقد حرارة لأشاركه الجمال الوحيد الذي أعرفه، مستنقع المرأة العجوز، دفعت العربة خلال نباتات السرخس نحو الأسفل حيث الخضرة القاتمة وحفيف سعف النخيل ينتشر كالهمسات في الأرجاء. وهناك حملته من العربة ووضعته على العشب بجانب أشجار الصنوبر الباسقة. وحالما أبصر المكان اتسعت عيناه من الدهشة وأخذ يضغط العشب ذو الملمس المطاطي بيديه الصغيرتين ، ثم بدأ يبكي فسألته غاضبا : “ما بك بحق السماء ؟!! ”
قال :
“المكان جميل جدا، جميل جداً، يا للروعة”
ومنذ ذلك اليوم أصبحنا كثيرا ما نذهب معا منحدرين إلى مستنقع المرأة العجوز، حيث أجمع الزهور البرية والبنفسج البري وزهر العسل والياسمين الأصفر وزهور الأفعى وزنابق الماء لننظمها بأسلاك نستلّها من العشب صانعين منها قلادات وتيجانا. كنا نفرح أنفسنا بما صنعته أيدينا منبهرين بما نشعر به من جمال، ما وراء لمسة الحياة اليومية. بعد ذلك حين تحترق أشعة الشمس الغاربة بالبرتقالي في قمم أشجار الصنوبر، نسقط جواهرنا في المجرى ونراقبها تطفو وتنجرف بعيدا نحو البحر.
حمل فيض الحب في داخلي (كما لاحظت ذلك بأسف في الآخرين أيضا) عقدة القسوة تماما كما تحمل دماؤنا أحيانا بذور دمارنا، ففي بعض المرات كنت لئيما مع دودل، أخذته يوما الى المخزن العلوي وأريته نعشه وأخبرته كيف أننا جميعا اعتقدنا أنه سيموت، كان (التابوت) مرشوشا بطبقة من أخضر الباريسك(5) لقتل الفئران وقد بنى البوم الصياح (6)عشه في داخله. تفحص دودل التابوت لمدة طويلة ثم قال “هذا ليس لي”
قلت “بلى إنه لك، وقبل أن أساعدك للنزول من هنا يجب عليك أن تلمسه”،
فرد عابسا “لن ألمسه”
هددته قائلا “إذن سأتركك هنا لوحدك” وتحركت مدعيا الذهاب فخاف دودل أن اتركه وصاح “أخي ، لا تتركني ” ومال نحو النعش، مد يده المرتجفة وعندما لمسه صرخ فخرجت البومة الصياحة صافقة بجناحيها في وجوهنا ناشرة أخضر الباريسك والذعر علينا. وضعت دودل على كتفي إذ تجمد مذهولا ونزلت به السلم وحتى بعد خروجنا إلى نور الشمس بقي متقبضا بي صارخا “لا لا تتركني لا تتركني”.
وعندما بلغ دودل الخامسة كنت محرجا أن يكون لي أخ في عمره ولا يستطيع المشي لذا عزمت على تدريبه. كنا في مستنقع المرأة العجوز وكان الوقت ربيعا بينما الرائحة الزكية لزهور شجر الغار تنتشر في الأنحاء كترنيمة حداد حزينة.
قلت له : “سأعلمك المشي يا دودل” كان يجلس مرتاحا على العشب الناعم، متكئا إلى شجرة الصنوبر.
سأل “لماذا؟” لم أكن أتوقع مثل هذا الجواب.
قلت “كي لا أضطر لجرك طوال الوقت ”
فقال ” أنا لا أستطيع المشي، يا أخي”
رددت متسائلا “من قال ذلك ؟ ”
فقال: ” الطبيب وأمي والجميع ”
قلت ” بلى ، ستستطيع المشي ”
ثم أخذته من ذراعيه وجعلته ينتصب واقفا فتهاوى على العشب ككيس طحين نصف فارغ، وبدت رجلاه الصغيرتان وكأنهما خاليتان من العظم. فقال محذرا ” لاتؤذيني يا أخي” قلت ، “اصمت لن أؤذيك سأعلمك المشي” ورفعته مرة أخرى فانهار ثانية وهذه المرة لم يرفع وجهه عن العشب المطاطي وقال ” لا أستطيع القيام بهذا قط. دعنا نعود لصنع أكاليل الزهور”
قلت له ” بل تستطيع ، كل ما عليك فعله هوأن تحاول؛ والآن هيا ” ورفعته مرة أخرى.
كان الأمر صعبا من بدايته لدرجة أن مواصلتي وعدم يأسي بدا كمعجزة، ولكننا جميعا نحتاج إلى شيء أو شخص ما كي نفخر به وقد أصبح دودل يمثل ذلك الأمر لي. لم أكن أعرف حينها أن الفخر شيء جميل وبغيض في الوقت ذاته إنه كبذرة تحمل فرعي الحياة والموت معا، ففي ذلك الصيف كنا نذهب بعد ظهر كل يوم، إلى شجرة الصنوبر تلك قرب مستنقع المرأة العجوز، فأوقفه على قدميه لمائة مرة على الأقل، وقد وجد اليأس بعض المكان بنفسي أحيانا فقد بدا وكأنه لا يريد المحاولة فكنت أقول له: دودل ألا تريد أن تمشي؟ فيومئ برأسه، لأقول له : حسنا، إن لم تستمر في المحاولة فإنك لن تتعلم أبدا، ثم أرسم له صورة لكلينا وقد هرمنا، هو بلحية بيضاء طويلة وأنا لا أزال أجر عربته (وهي الطريقة التي لم تفشل أبدا في جعله يحاول مجددا).
وأخيرا، وفي أحد الأيام بعد عدة أسابيع من التدريب وقف بنفسه لثوان وعندما سقط تلقفته بين يدي محتضنا وجلجلت ضحكاتنا في جنبات المستنقع كرنين الجرس ، وقد عرفنا أن الأمر ممكن وأن الأمل ما عاد يختبئ بعد الآن في ظلمة دغل النخيل الحالك وإنما يطل متألقا كطائر غريد جاثم على شجرة أراك، وصحنا معا” مرحى، مرحى” وبكينا معاً؛ وكان العشب تحتنا ليناً ورائحة المستنقع عطرة.
مع النجاح الوشيك قررنا ألا نخبر أحدا إلى أن يجيد المشي، لذا كنا نتسلل في كل يوم عدا الأيام الممطرة إلى مستنقع المرأة العجوز، وبحلول وقت قطاف القطن كان دودل مستعدا لإظهار ما تمكن من القيام به. ما يزال غير قادرعلى المشي لمسافة بعيدة ، لكننا لم نعد نطيق، فالاحتفاظ بسر جميل صعب للغاية كحبس الأنفاس، وقد اخترنا يوم الثامن من أكتوبر الذي يصادف عيد ميلاد دودل السادس للكشف عن سرنا للجميع. وقضينا الأسابيع التالية ندور في أرجاء المنزل واعدين الجميع بأروع مفاجأة على الإطلاق. قالت العمة نيسي أنه بعد وعودنا الكثيرة، إن كان ما سنقوم به أقل عظمة من قيامة المسيح فإنها ستصاب بخيبة أمل.
وعند وقت الإفطار في يومنا المختار، بينما كان أبي وأمي وعمتي نيسي في غرفة المعيشة، أحضرت دودل في عربة المشي كالمعتاد وطلبت منهم إدارة ظهورهم وأن يقسموا ألا يختلسوا النظر إلينا، ثم ساعدته لينهض وعندما وقف بنفسه سمحت لهم أن ينظروا وعندها ساد الصمت بينما دودل يمشي ببطء عبر الغرفة ، حتى جلس في مكانه المعتاد على الطاولة. بدأت أمي بالبكاء وهرعت نحوه تعانقه وتقبله وتبعها أبي يعانقه أيضا، فاتجهت أنا للعمة نيسي التي كانت تبتهل شكراً عند مدخل الباب وجذبتها لرقصة فالس، رقصنا معا بتناغم الى أن داست على إبهام قدمي بكعبها العالي فآلمتني بشدة جعلتني أظن أنني سأصبح أعرج طول عمري. بعدها أخبرهم دودل بأنني أنا من علمه المشي لذا أراد الجميع معانقتي، فانخرطت في البكاء. سألني أبي “ماالذي يبكيك؟”، لكني لم أستطع الإجابة، لم يعلموا أنني فعلت ذلك لنفسي وأن كبريائي قد تملكتني فكان صوتها أعلى من كل أصواتهم في مسمعي وأن دودل لم يكن ليمشي لولا خجلي من وجود أخ مشلول.
وفي غضون أشهر قليلة أجاد دودل المشي واستغنى عن العربة التي وضعت في العلية (وهي ماتزال هناك) بجانب تابوته الخشبي الصغير. وعندما كنا نتجول آنذاك، اعتدنا على التوقف للراحة، ولكننا لا نعود إلى الوراء حتى نصل إلى وجهتنا، ولتمضية الوقت، اتخذنا الكذب وسيلة، ومنذ البداية كان دودل كاذبا بارعا وجعلني أعتاد بدوري على الأمر. ولو توقف أي شخص ليستمع إلينا لتم إرسالنا إلى ديكس هيل(7). كانت أكاذيبي مخيفة، مشوشة وبلا معنى، لكن دودل كان أكثر جنونا. كان الناس في قصصه يمتلكون أجنحة ليطيروا إلى أي مكان أرادوه. وكانت كذبته المفضلة تدور حول صبي اسمه بيتر وحيوانه الأليف؛ وهو طاؤوس له ذيل بطول عشرة أقدام، وقد ارتدى بيتر مرة عباءة براقة متلألئة، ومن شدة توهجها أنه إذا سار خلال أزهار عباد الشمس استدارت ناحيته بدلا من الشمس، وعندما يحين وقت نومه ينشر الطاؤوس ذيله الفاخر ويلف به الصبي بلطف كزهرة تغلق لتنام، فيغوص في دوامة من فخامة ألوان الطيف وهمس الحفيف. نعم علي الإقرار بأن دودل يفوقني خيالا. لقد قضينا أنا ودودل الكثير من الوقت في التفكير في مستقبلنا. وقد قررنا أننا حين نكبر سنعيش في مستنقع المرأة العجوز وسنجمع الفانيلا البرية لنكسب لقمة عيشنا. وإلى جانب النهر، سنبني بيتنا من الأوراق الهامسة ونتخذ من طيور المستنقعات دجاجات لنا، وحين لا نكون منشغلين بجمع الفانيلا البرية، سنتأرجح بين أشجار السرو على حبال الكروم طوال اليوم، وعندما تهطل الأمطار سنتجمع تحت شجرة ظليلة ونلعب وسنسمح لأبي وأمي بالعيش معنا إن أرادوا وحتى أنه توصل لفكرة أن يتزوج بأمي وأتزوج أنا بأبي، بالطبع كنت كبيرا بما يكفي لأدرك تعذر هذا، ولكن الصورة التي رسمها كانت رائقة جميلة حيث لا يسعني إلا الهمس، نعم، نعم.
ما إن نجحت في تعليم دودل المشي حتى بدأت أتيقن من نجاحي الأكيد فأعددت له برنامجا تطويريا رائعا؛ بدون علم أبوي بالطبع لتعليمه الركض والسباحة وتسلق الأشجار والقتال، هو أيضا أصبح يثق بي حينها ثقة تامةً لذلك وضعنا موعداً نهائيا لهذه الإنجازات في أقل من عام، عند الوقت المقرر لدودل لبدء المدرسة. في ذلك الشتاء لم نحقق الكثير، لأنني كنت في المدرسة ودودل عانى آنذاك من نزلات برد واحدة تلو الأخرى. ولكن عندما قدم الربيع، خصباً ودافئاً، ارتفعت آمالنا مرة أخرى وبتنا نتطلع إلى النجاح الكامن هناك في نهاية الصيف كتطلعنا لجرة من الذهب ،وبدأنا مسعانا من جديد. وهكذا شرعنا في الأيام الحارة بالذهاب لمرفأ “رأس الحصان” لأدربه على السباحة والتجديف، وأحيانا كنا نهبط إلى رياض مستنقع المرأة العجوز الخضراء فنتسلق حبال الكروم أو نتلاكم بمنهجية تحت شجرة الصنوبر حيث تعلم المشي وأحاطت بنا وعودنا كأوراق الشجر من حولنا وأينما وجهنا بصرنا تبدت لنا نباتات السرخس وشرعت الطيور بالغناء.
كان صيف ذاك العام، وهو عام 1918، صيف قحط وجفاف، فالأمطار لم تنزل طوال شهري مايو ويونيو وقد ذبلت المحاصيل، تغضنت وتكورت، ثم تيبست وماتت تحت أشعة الشمس عطشاً. وفي صباح أحد الأيام من شهر يوليو، هب إعصار من الشرق، فقلب أشجار البلوط وقصف أطراف شجر الدردار وبعد الظهر عاد ليعصف من جهة الغرب، ملوحا بأشجار البلوط المحطمة في الأرجاء مجتثا جذورها من الأرض كفعل الصقر بأحشاء الدجاج. وانتزع كرات القطن ونثرها كحبات جوز أخضر في الأخاديد بين صفوف الذرة التي انحنت موحدة باتساق حتى أن شعرها لامس الأرض. وبعد حين تبعنا أنا ودودل أبي إلى حقل القطن، حيث كان يقف؛ مرخياً كتفيه وملقياً نظرة شاملة تستقصي الخراب، وحين غاص ذقنه على صدره، أصابنا الهلع ودس دودل يده في يدي، وفجأة أقام أبي كتفيه، ورفع قبضة عملاقة في الهواء، وبصوت بدا كأنه يخرج من الأرض نفسها، بدأ بلعن الطقس والحزب الجمهوري. فدفعنا أنا ودودل بعضنا بعضاً وعلت ضحكاتنا وعدنا للبيت مطمئنين أن كل شيء سيكون على مايرام.
وخلال ذلك الصيف، سمعت أسماء غريبة في نواحي البيت “شاتوتيري،أميان، سواسون(8)، والدعاء (بالبركة) على طاولة العشاء، وقالت أمي ذات مرة في دعائها : يا رب بارك آل بيرسونز الذين فقدوا ابنهم في الحرب.
وها قد حال الحول ووصلنا إلى هذه الثلمة بين فصلي الخريف والشتاء والمدرسة على الأبواب ودودل لا يزال متأخراً في البرنامج، فبالكاد كان يمسح الأرض برجليه عند محاولته التأرجح بحبال الكروم وسباحته كانت قطعا غير مقبولة. وفي محاولة أخيرة لتحقيق المستحيل قررنا مضاعفة جهودنا لنصل الى مبتغانا لذا كنت أجعله يسبح حتى يحمر لونه وتتحجر عيناه؛ وما أن تكل قواه وينهار على الأرض باكيا ويصبح غير قادر على المضي قدماً حتى أحفزه قائلا :” هيا يا دودل هيا، باستطاعتك القيام بهذا، هل تريد أن تكون مختلفاً عن الآخرين عند ذهابك للمدرسة؟”
“وهل أستطيع تغيير شيء ؟”
قلت : “بالتأكيد تستطيع” ؛ “هيا الآن” وأساعده على النهوض.
ومع مرورنا بأيام القيظ بدأت تظهر أعراض الحمى على دودل فتحسست أمي جبينه وسألته إن كان مريضا، وفي الليل صار يتقطع نومه وتراوده بين حين وآخر الكوابيس فيصرخ في نومه إلى أن أهزه قائلا : “استيقظ يا دودل استيقظ”.
كان ظهر يوم سبت قبل أيام قليلة من بدء المدرسة وكان علي الإقرار بالفشل ولكن كبريائي منعتني فرغم أن حماسنا للبرنامج قد خبا منذ أسابيع إلا أننا واصلنا بعناد متعب، وقد فات أوان التراجع الآن فكلانا قد توغل كثيرا داخل غابة الأمنيات ولم نترك وراءنا دليلا للعودة(9).
وفي يوم حار تحلقنا جميعا حول الطاولة في غرفة الطعام أنا وأبي وأمي ودودل نتناول غداءنا وقد شرعت كل الأبواب والنوافذ ترقبا لهبوب النسيم بينما كانت عمتي نيسي في المطبخ تدندن بلطف. وبعد فترة طويلة من الصمت، تكلم أبي
“الأجواء هادئة جدا اليوم، لن أندهش إن هبت عاصفة بعد الظهر”
وقالت أمي التي كانت تؤمن بالنُذُر وهي تدور حول الطاولة تناولنا الخبز “لم أسمع ضفدع المطر”
فأعلن دودل ” لقد سمعته، في الأسفل عند المستنقع”
قلت معارضا “لا لم يسمعه”
قال أبي متجاهلا كلامي “هل سمعته حقا “؛
” نعم بالتأكيد سمعته” كرر دودل عابساً في وجهي من خلال قمة كأس الشاي المثلج. وعدنا للصمت ثانية. وفجأة سمعنا ضجة ونعيقاً غريباً آتيا من الفناء الخارجي، توقف دودل عن الأكل وكان يهم بإدخال اللقمة إلى فمه وجحظت عيناه كزرين أزرقين وهمس: ما هذا! قفزت أنا من مكاني موقعا الكرسي خلفي وما كدت أصل للباب حتى نادتني أمي “عد وأصلح الكرسي، واجلس في مكانك، واطلب الأذن” وفي اللحظة التي نفذت ما أمرت به، كان دودل قد أذن لنفسه وتسلل للفناء، وحين رفع بصره نحو الشجرة النازفة هتف” إنه طائر قرمزي ضخم ورائع! ومرة أخرى أصدر الطائر نعيقاً صاخباً فهرع أبي وأمي إلى الفناء وظللنا جميعنا عيوننا بأيدينا لاتّقاء وهج الشمس الساطع وأمعنّا النظر من خلال أوراق الشجر الساكنة، كان هناك طائر بحجم الدجاجة ذو ريش قرمزي وسيقان طويلة، يحط على الفرع العلوي متأرجحاً بلا توازن، طالقاً جناحيه بحرية ، وسقطت منه ريشة فراقبناها تتهادى خلال الأوراق الخضراء نحو الأسفل. قالت أمي “إنه غير خائف منا” وأضاف أبي “يبدو متعبا؛ أو ربما مريضا”، كان دودل واقفاً شابكاً يديه على رقبته ولبث طويلا هكذا، لم أره أبداً من قبل يظل واقفاً لفترة طويلة. ثم تساءل قائلا: “ما هذا !” في تلك اللحظة رفرف الطائر بجناحيه ولكنهما لم يكونا متناسقين وفي خضم محاولاته للطيران تعثر وهوى مرتطما بفروع الشجرة النازفة ووسط وابل من ريشه المتطاير في الأرجاء سقط على أقدامنا محدثاً دويا مكتوما، ارتعش عنقه الجميل الرشيق ارتعاشتين مشكلاً خطاً متعرجاً ثم استقام، وصار ساكنا بلا حراك، ثم غطت عيناه غشاوة بيضاء وفغر منقاره الأبيض الطويل، وتقاطعت ساقاه وارتخت قدماه المعقوفتان المنقوشتان بدقة، حتى الموت لم يُعب رونقه، تمدد على الأرض كزهرية ذات ورود حمراء مكسورة وقد تقوس في دعة، ونحن واقفون حوله منبهرون بجماله المدهش. قالت أمي “لقد مات” وأعاد دودل سؤاله ” ما هذا؟” في حين قال أبي” اذهب وأحضر لي كتاب الطيور”، جريت إلى المنزل وأحضرت الكتاب.
راقبنا جميعا أبي وهو يقلب صفحات الكتاب، ثم أشار إلى إحدى الصور وقال “إنه طائر أبو منجل القرمزي، وهو يعيش في النطاق المداري لأمريكا الجنوبية وحتى فلوريدا، “لا بد أن العاصفة قد جلبته إلى هنا” عدنا لننظر إليه مرة أخرى بحزن. أبو منجل القرمزي! كم من الأميال قطع ليلقى حتفه هنا بهذه الطريقة، في فناء دارنا؛ تحت الشجرة النازفة. قالت أمي وهي تدفعنا نحو غرفة الطعام: “هيا لنكمل غداءنا”. فقال دودل: “لست جائعا”، وركع بجانب الطائر القرمزي. وكمحاولة لإغرائه مالت أمي برأسها من المدخل وقالت: “لدينا فطيرة الخوخ للتحلية”،ولكن دودل ظل راكعاً وقال:”سأدفنه”. فقالت أمي محذرة “إياك أن تلمسه، لا نعلم إن كان قد أصيب بمرض ما”، رد دودل” حسنا؛ لن ألمسه”.
عدنا أنا وأمي وأبي إلى طاولة الطعام ولكننا راقبنا دودل من خلال الباب المفتوح، أخرج قطعة حبل من جيبه وأخذ يلفه ببطء حول رقبة الطائر بدون أن يلمسه وهو يغني بهدوء “هلّا اجتمعنا عند النهر” ثم رفع الطير وأخذه إلى الفناء الأمامي حيث حفر حفرة في حديقة الزهور، إلى جوار حوض زهور البيتونيا. في هذه اللحظة صرنا نراقبه من النافذة الأمامية ولكنه لم ينتبه لنا. وقد أضحكتنا محاولته الخرقاء لحفر حفرة بمجرفة طول مقبضها ضعف طوله، فغطينا أفواهنا بأيدينا حتى لا يسمعنا.
عندما عاد دودل وجدنا بالفعل نأكل فطيرة الخوخ وقد كان شاحب الوجه وظل واقفا عند الباب الزجاجي فسأله أبي “هل دفنت الطائر القرمزي؟” لم يتكلم دودل ولكن أومأ برأسه. وقالت أمي ” اذهب لغسل يديك وبعدها يمكنك تناول جزء من الفطيرة”، فقال ” لست جائعا ” في تلك اللحظة مالت عمتي نيسي برأسها من المطبخ وقالت ” موت الطيور نذير شؤم ” وأضافت “وخاصة الطيور الحمراء! “. بمجرد أن أنهيت طعامي أسرعنا أنا ودودل إلى المرفأ كان الوقت قصيرا، ومازال أمام دودل شوط طويل ليقطعه ليواكب الأولاد الآخرين عند بداية المدرسة. اصطبغت الشمس بصفرة الخريف الذهبية ولكنها لا تزال تلسع بضراوة ولكن حين عبرنا الغابة الخضراء الداكنة كانت ظليلةً وباردةً، وعند وصولنا للمرفأ قال دودل إنه متعب جدا ولن يستطيع السباحة لذا ركبنا في الزورق وطفونا مع التيار إلى أسفل الجدول ومن الأهوار البعيدة تناهت للسمع زمجرة السكك الحديدية وعلى طول الشاطئ تردد غوغاء الجراد كالغناء من على نباتات الآس. أشاح دودل بوجهه للجانب الآخر وظل ساكتا مرخيا يدا واحدة في الماء.
بعد أن قطعنا مسافة طويلة أعدت المجاذيف إلى مكانها وأجبرت دودل على التجذيف ضد التيار للعودة ، ثم بدأت الغيوم السوداء تتجمع في الجنوب الغربي فواصل دودل مراقبتها محاولا سحب المجاديف بسرعة أكبر ،حين وصلنا للمرفأ كان البرق يومض بشدة في قلب السماء ودوي الرعد أعلى حتى من صوت البحر، واختفت الشمس وحل الظلام كأنه الليل، قطعت أسراب من الغربان المستنقعات، متجهة نحو الداخل إلى مجاثمها وزعق طائرا بلشون انتبرا من بين الصخور والمحار في المياه الضحلة، كان دودل مرهقاً وخائفاً وعند نزوله من الزورق انهار على الوحل متسببا باندفاع حشد من السرطانات إلى عشب المستنقعات. ساعدته على النهوض وبينما كان يمسح الوحل عن بنطاله ابتسم لي بإحراج، لقد فشل ، وكلانا عرف ذلك، لذا شرعنا بالعودة للمنزل بسرعة محاولين سبق العاصفة. لم نتكلم أبدا، وأي كلمات تستطيع برئ جرح الكبرياء. ولكنني أحسست به ينظر لي راقبا إشارة من الرحمة. صار البرق قريبا منا الآن ،ودودل خائفاً ومن شدة خوفه كان يمشي خلفي تماما ويدوس على كعوب أقدامي ، وكلما أسرعت أسرع أكثر، لذا ركضت. كان المطر يتدفق من خلال أشجار الصنوبر، ثم فجأة ضربت صاعقة من البرق شجرة صمغ أمامنا ، فاشتعلت وتشظت كأشتعال شمعة رومانية*. حين هجع قصف الرعد الذي يصم الآذان، وفي اللحظة التي اشتدت فيها الأمطار، سمعت دودل الذي كان قد سقط ورائي يصرخ “لا تتركني يا أخي، لا تتركني”، ولكن حينها أدركت أن خططي لدودل قد ذهبت هباء فاستقيظت نزعة القسوة في أعماقي وركضت بأسرع ما أستطيع ، تاركا دودل خلفي وجدارٌ من المطر يحول بيننا، وقطرات المطر تلهب وجهي كالقرّاص10. والأوراق المتلألئة بحبات المطر في الأشجار المجاورة أحرقتها الرياح ، وسرعان ما تلاشى صوته عن مسمعي. ولم أكد أركض قليلا حتى تعبت وتلاشى جيشان الغيظ الطفولي. فتوقفت وانتظرت دودل، علا صوت السيل، فقد سكنت الرياح وتساقط المطر في مسارات متوازية متتالية كالحبال المعلقة من السماء. وأثناء انتظاري تطلعت من خلال المطر ولكن أحدا لم يأتي، في النهاية عدت إلى الوراء فوجدته متكوما تحت شجيرة ذات لون أحمرعلى جانب الطريق. كان يجلس على الأرض ، وجهه مدفون بين ذراعيه ،اللتين كانتا تستريحان على ركبتيه المضمومتين.
قلت ” هيا دعنا نذهب يا دودل ”
لم يرد، وضعت يدي على جبهته ورفعت رأسه، وبسرعة سقط إلى الوراء على الأرض. كان ينزف من فمه، وكانت رقبته وصدارة قميصه ملطخة باللون الأحمر.
“دودل! دودل!” بكيت، هززته، لم أتلقى جواباً غير صوت انهمار المطر. ممدداً على الأرض بوضع غريب، سقط رأسه بعيدا، مما جعل رقبته تبدو طويلة ورشيقة بغرابة. وساقاه الصغيرتان المقوستان بشده عند الركبة، لم تظهرا أبدا من قبل بهذا الضعف والهشاشة. أجهشت بالبكاء وبدت أمامي الصورة الغائمة بدمعي المشوبة باللون الأحمر مألوفة للغاية. “دودل !” صرخت صرخة علت على صخب العاصفة وألقيت جسدي على الأرض فوقه. ولوقت طويل، بدا كأنه للأبد، بقيت هناك أبكي، وأحمي بيدي الطائر القرمزي الصريع من هرطقة 11المطر.
* نشرت القصة لأول مرة عام 1960، ومؤلفها James Hurst. عاش من 1922 إلى 2013. والقصة تعتبر أحد عيون القصص الأمريكية المعاصرة.
المصدر : http://whs.wsd.wednet.edu/
الهوامش
1 – الشجرة النازفة the bleeding tree: أشجار منتشرة في الجنوب الأمريكي، اشتق اسمها من حقيقة أنها تخرج مادة حليبية / صمغية عند كسر أي جزء منها.
2 – غشاء الجنين : أو برقع الجنين هو غشاء يغلف وجه ورأس الجنين عند الولادة ونسبته نادرة جدا ، بنسبة مولود1إلى كل 80.000 مولود.
3 – النخيل: البلميط يصنف تحت نوع السرنوة هو جنس من النخيل ينمو في الساحل الجنوبي الشرقي للولايات المتحدة.
4 – دودل حشرة أسد النمل ، نوع من الحشرات التي تتحرك إلى الخلف وتدور حول نفسها.
5 – مادة بلورية خضراء سامة من النحاس والزرنيخ ، تستخدم كمادة حافظة وكمبيد حشرات.
6 – البومة الصياحة، اكتسبت اسمها من صوتها الشبيه بالصراخ.
7 – ديكس هيل-اسم مصحة للأمراض النفسية.
8 – أسماء مواقع المعارك للحرب العالمية الأولى في فرنسا.
9 -يلمح الكاتب هنا لقصة “هانسيل وجريتل” الخرافية.
10 – القرّاص نبات من الفصيلة القراصية، أوراقه مكسوة بأوبار عند لمسها تؤدي إلى تهيج شديد.
11 – الهرطقة هي البدعة في الدين عند المسيحيين، ما تحاول القصة إيصاله ربما هو أن شعور الأخ بالعار من اختلاف أخيه هو الذي قتل دودل، يبدو أن الهرطقة الحقيقية أو البدعة هي الخوف من الاختلاف، والخوف من الثنائيات، والخوف من قبول الجوانب المتناقضة، وأن الدين الحقيقي يحث على الاعتراف والقبول بجانبي الحياة، العملي والروحي. وعندما يحطم أحد الطرفين الآخر ويرفض اختلافه فإن النتيجة هي الموت أو أشد من الموت. المصدر (بتصرف) مقالة نقدية عن قصة “الطائر القرمزي” في ” قصص قصيرة للطلاب” تومسون جيل، 200.
جيمس هيرست
ترجمة: عائشة الفلاحية *