ريونوسكي أكوتاغاوا
ترجمة: جوليا مرشد*
منذ فترة طويلة، قدم رجل يدعى غونسكي إلى المدينة بحثاً عن عمل كخادم. اجتاز غونسكي هذا الستارة المعلقة أمام مدخل وكالة تسجيل المستخدمين، وتحدث مع رئيس الموظفين الذي تربّع فوق منصة الاستقبال وهو يدخن الغليون.
“سيدي الفاضل، أرغب بشدة أن أصبح وليًا، ولهذا جئت ألتمس منك أن تضعني تحت إمرة مشغّل مناسب لتحقيق غايتي.”
وعندما لم يجب رئيس المستخدمين المذهول، أكمل غونسكي قائلاً: “ألم تسمعني يا سيدي؟ أريد أن يتم إرسالي إلى مكان أصبح فيه من الأولياء الخالدين.”
“أنا في غاية الأسف أيها الرجل الطيب” أجابه الموظف أخيراً، وهو لا يزال ينفخ في أنبوبة غليونه، “ليس لدينا أي خبرة في التوسط للراغبين بامتهان هذا النوع من العمل. ولهذا فأنا أقترح عليك بكل تواضع أن تبحث في مكان آخر.”
“آه، ولكن يا سيدي” احتج غونسكي، وعلائم الاستياء بادية على محياه، ثم تقدم على ركبتيّ سرواله الرماديّ نحو الأمام. “ألا يتعارض ما قلته مع ادعاء مؤسستكم الموقّرة المكتوب على ستارة المدخل؟ ‘نقدم جميع أنواع العمالة’…هل ادعاؤكم صحيح؟ أم أنه مجرد كذب وتضليل لا أساس له من الصحة؟” امتلك غونسكي كلّ الحق بأن يكون غاضباً.
“أوه لا، ما نقوله هو صحيح حقاً. إن كان ما تبحث عنه هو منصبٌ يمكّنك من أن تُصبح ولياً في المستقبل، فسأُكرّس يومي هذا للبحث في طلبك هذا، أرجوك عد غداً لتستلم جوابنا على طلبك.”
وبهذه الطريقة آل المطاف برئيس الموظفين إلى قبول طلب غونسكي بالرغم من سعيه للتهرب منه. ولكن، كيف من شأنه معرفة أين يتحتم عليه إرسال رجل ليتلقى مثل هذا التدريب المهني، أو هل بالإمكان تدريب شخصٍ أصلاً على هكذا شيء؟
وهكذا، حالما غاب غونسكي عن أنظاره انطلق للتشاور مع طبيب أحد الأحياء المعروفة. “حسناً أيها الطبيب؟” سأل بنبرة قلقة بعد أن أخبره القصة بالتفصيل. “ما هي أسهل طريقة أستطيع بها إرساله ليتدرب كي يُصبح وليًا؟”
وقع الطبيب بدوره في الحيرة، جلس لفترة طويلة شابكاً ذراعيه فوق صدره، محدقاً بتفكر إلى شجرة الصنوبر في حديقته. تصادف وأن استمعت زوجة الطبيب الماكرة إلى حديثهما هذا، والتي أطلق عليها الناس لقب الثعلبة العجوز، تطفلت على حديثهما دون تردد، فقالت. “أرسله إلينا، في غضون عامين أو ثلاثة في كنف رعايتنا، سيغدو ولياً يخطف أنظار العالم بأكمله”.
“أوه، كم أنا سعيد بسماع هذا وسأودعه بكل امتنان في رعايتكم. لقد أخبرني حدسي بالعلاقة الكارمية بين المعالجين والأولياء.” وببضعة انحناءات متكررة، غادر الموظف بمنتهى السعادة. راقبه الطبيب والعبوس لا يفارق وجهه، ثم التفت إلى زوجته بسخط: “ما هذا الهراء الذي تفوّهت به؟” عنّفها قائلاً. “وما الذي سوف تفعلينه بحق السماء عندما تمضي بضعة سنين ويأتي هذا القروي ليشتكي بأننا لم نفِ بوعدنا له؟”
ودون أن تُلقي بالاً لتوبيخ زوجها، أجابت المرأة بسخرية: “امسك لسانك! وأي فرصة قد يحظى بها المغفلون من أمثالك لإبعاد الجوع والشقاء عن أنفسهم في عالمنا القاسي هذا؟” وهكذا، كان منها أن أسكتته.
في اليوم التالي، عاد الموظف حسب الاتفاق جالباً معه الريفيّ البسيط غونسكي، والذي حسّن من هندامه بارتداء سترة عسى أن يترك انطباعاً حسناً، ولكنه بالرغم من محاولته هذه، لم يفلح بالظهور خلافاً لما هو عليه. لقد كان مشهداً غريباً حقاً، فقد حدق إلى الطبيب وكأنه وحشٌ عجيب من بلاد الهند.
إذاً ترغب بأن تُصبح ولياً؟” قال الطبيب بنبرة متشككة. “ما الذي غرس فيك هذا الطموح؟”
“في الوقع، لست واثقاً من ذلك تماماً، ولكن لدى تأملي لقلعة أوساكا خطر لي أنه حتى ذلك السيد العظيم الذي بناها واتخذها مسكناً له قد كُتب له الموت. وهكذا تذكرت أن جلّ المجد والأُبهة التي يجاهد من أجلها البشر مآلها إلى الزوال”
“ولهذا ستقوم بأي شيء لتغدو ولياً؟” تدخلت زوجة الطبيب الخبيثة على الفور.
“أجل، بالفعل أنا جاهز للقيام بأي شيء مطلوب مني في سبيل تحقيق مبتغاي”
“إذاً ابتداءً من هذه اللحظة وحتى انقضاء عشرين عاماَ ستعمل في خدمتنا، وبعدها سنكشف لك عن الطريقة التي تصبح من خلالها ولياً.”
“آه، أنا في غاية الامتنان لصنيعكم ”
“وطوال السنين القادمة لن تحصل على قرشٍ واحد لقاء أتعابك.”
“أجل، أجل. لديك موافقتي”
وهكذا، طوال العشرين عاماً التالية، خدم غونسكي في منزل الطبيب. كان يجلب المياه من البئر، ويقطع الخشب، ويطبخ الوجبات وينظف المنزل. ناهيك أنه كان يحمل عدة الطبيب وقوارير أدويته عندما كان الأخير يقوم بجولته المعتادة على مرضاه. لم يطالب ولو لمرة واحدة بأجر لعمله، ولا حتى قرشاً واحداً، وبهذا جعل نفسه عبداً أثمن من أي عامل قد تجده في كل أنحاء اليابان.
والآن وبعد أن مرت العقود، ارتدى غونسكي السترة التي جاء بها أول مرة، وقدم نفسه إلى سيده وسيدته وأعرب بلطف عن شكره لهما.
“أتوسل إليك يا سيدي أن تفي بوعدك لي وتخبرني عن الطريقة التي تمكنني من أن أصبح ولياً، وأنال الخلود بناء على ذلك”.
استمع الطبيب إلى غونسكي بصمت متجهم. فبعد أن استغلّ الرجل طول هذه المدة، لم يجرؤ على الاعتراف بأنه لم يمتلك أي معرفة عن طريق الأولياء. صرفه عنه بطريقة فظة مجيباً: “زوجتي هي من سيعلمك.”
ومن جانبها هي، تكلمت الزوجة بثقة تنبع من قساوة قلبها. “سأعلمك طريق الأولياء، ولكن مقابل ذلك، عليك الانصياع لأوامري والقيام بأي مهمة أطلبها مهما بدت لك مستحيلة، وإلا، فلن تخسر فقط فرصتك هذه، بل وستُجبر على أن تعمل لدينا عشرين عاماً أخرى بدون أجر، وسيكون الموت عقاباً لك في حال عدم التزامك.”
“أرجوك سيدتي. أرسليني في مهمتي مهما بلغت من الصعوبة!” أجاب ملؤه السعادة، وهو ينتظر أوامرها.
“اذاً، فلتتسلق شجرة الصنوبر في الحديقة!”
ولأنها أيضاً لم تمتلك بدورها أي معرفة، ظنت الزوجة أنه بإجبارها له على القيام بالمستحيل ستتمكن من خداعه لعشرين عاماً أخرى من الخدمة. ولكنه بعد سماع مهمته، انطلق فوراً إلى تحقيقها
“امضِ قدماً!” نادت عليه وهي تنظر إلى أعلى شجرة الصنوبر من مكان وقوفها على الشرفة: “أعلى! أعلى!”
لقد أصبحت سترة غونسكي ترفرف بفعل الرياح عند قمة الشجرة الشاهقة.
“والآن، أفلت يدك اليمنى! ”
امتثل غونسكي ببطء وحذر لما أمر به، في حين أبقى يده اليسرى ملفوفة بإحكام حول جذع سميك.
“والآن اليد الأخرى!”
انضم إليها الطبيب على الشرفة هاتفاً بخوف: “توقفي يا امرأة! إن أفلت كلتا يديه، فسيقع هذا القرويّ الأحمق ويحطم عظامه فوق هذه الصخور، وهذه ستكون نهايته حتماً!”
“لم يأتِ دورك بعد يا عزيزي. دع الأمر لي”
“عليك أن تفلت يدك اليسرى!”
لم ينتظرها غونسكي لتنتهي من كلامها، فبكل إرادة وتصميم سحب يده بعيداً عن الجذع. هناك، في مكانه بين أعالي الأشجار، لم يكن هنالك سبب يمنعه من السقوط على الأرض. فعلى الفور، انفصل غونسكي وسترته المرفرفة عن الشجرة. ومع ذلك، وبشكل يدعو للعجب، لم يسقط، بل بقي معلّقا في هواء ذلك الصباح المشمس وكأنه دمية معلقة بأوتار غير مرئية.
“شكراً لكم! شكراً لكم!” نادى عليهم غونسكي. “وأخيراً، وبفضلكم أصبحت وليًا!”
وبعد أن انحنى لهما بتبجيل بالغ، مشى برفق في السماء الزرقاء، ثم صعد فوق السحب العائمة.
ظلّ مصير الطبيب وزوجته مجهولاً تمامًا، إلا أن شجرة الصنوبر في الحديقة بقيت شامخة لسنين طويلة أخرى. ويُقال أن جذعها أصبح بعرض أربعة أذرع، وأن حاكم البلاد الجديد تكبّد عناء مشقة اقتلاعها من الحديقة، ونقلها إلى قصره الخاص حتى يتنسى له في الشتاء التمتع بأغصانها المزدانة بالثلوج.
* * *
* العنوان الأصلي للقصة هو “sennin” وهي كلمة صينية تعني “صاحب الألف عام”. تم استخدامها في الأدب لوصف نساك الجبال الذين بحسب الثقافة الصينية واليابانية توصلوا إلى سرّ الخلود. ولكن إحدى أوائل الحكايات تُلمح إلى وجود أشخاص مثل غونسكي ممن كانوا يستطيعون الانتقال إلى السماء. انبثق المصطلح من التاوية، وأثر على البوذية بدوره وأصبح مصطلحاً يعني “الخالد”.