منذ أن هداني الله وتبت إليه توبة نصوحا عن كل فعل أو قول يغضبه سبحانه وتعالى, ووفقني في أمور معاشي حتى راجت تجارتي كثرت فلوسي تبغدد عيالي عن حق ليقيهم بأن كل مليم يدخل دارنا إن هو إلا سبيكة من العرق والشقاء والرزق الحلال, وأكرمني بالحج وزوجي مرتين وبالعمرة وحدي عدة مرات.. منذ أن بدأت بشائر هذا التوفيق الكبير الى اليوم وزعلي من نفسي يتعاظم لتقصيري في حفظ المزيد من سور القرآن الكريم, من جهة لكي أصلي بها, ومن جهة أخرى لأفهم واستعبر بحكمة الله في قرآنه العظيم. وصحيح أن الله سيغفر لي ويسامحني طالما أني أصلي واصوم وأزكي وأفعل كل واجب فرضه علي سبحانه إلا أنني كلما استمعت إلى سور القرآن شعرت بخسارة فادحة من عدم حفظ هذه الدرر في ذاكرتي وقلبي ولساني. والحق أني حاولت بقدر ما أستطيع, جئت بفقيه ضرير لكي يحفظني سورا من القرآن يقولها أمامي وأنا أرددها وراءه مرات ومرات حتى تتثبت في رأسي. والحق لله لقد تعب الفقيه معي حتى خرج عن طوره أكثر من مرة, ذلك أنني أطلع من داري في الخامسة صباحا متوكلا على الله الى سوق الخضار في غمرة فأتسوق حصتي وأعود بها الى سوق منشية ناصر لأرزق من بيعها بالقطاعي وسواء نفدت السبوبة أو بقيت منها بقايا فانني لابد أن أغادر السوق إلى الدار عقب أذان العصر لأتوضأ وأصلي وأتغدى وأتكوع في الفراش الى أن يحين أذان المغرب- فأصحو وقد انمحت من ذاكرتي كل الأشياء فما بالك بالآيات التي كنت حفظتها بالامس بشق النفس? عقب صلاة المغرب يأتيني الفقيه ليشرب الشاي معي ونراجع الآيات فيجدني قد بدأت سورة ثم خرمت على سورة أخرى. وأخيرا يئس الفقيه من مخي الضلم وزهقت أنا من عصبيته المتصاعدة إلى حد اتهامي بأني سأجلب عليه الكفر والعياذ بالله من تخريمي في السور كحصان يبرطع في حقول مزروعة بالورد والبلاسم. إلا أن زعلي من نفسي كان مثمرا في الواقع, فأنا مغرم بصلاة الجماعة ألتمسها في أي مكان أذهب اليه حيث الامام يرتل القرآن في الصلاة بصوت مسموع ورخيم فترتسم الكلمات في رأسي بأشكال صوتية من المد والغن والتنغيم والتوقيع حتى النقطة في نهاية الجملة كنت أسمع لها وقعا في صدري كصوت آخر نقطة تسقط من القطارة في كوب الدواء فتنقره. استطعت أن أحفظ عددا من قصار السور يعد على أصابع اليدين, أوزعها على صلواتي, إلا أن سورتي: (الفجر) و(الضحى والليل) كاننا دائما على طرف لساني, الأولى اذا كنت أصلي الفجر والثانية اذا كنت أصلي الظهر أو العصر أو العشاء.
على أن الفرصة الكبيرة جاءتني مؤخرا فيما أنا أقترب من سن السبعين بصحة لا بأس بها, حيث قل نزولي الى السوق, وطال مكوثي في الدار ساعات طويلة بعد الظهر وفي الليل صرت أقضيها مع محطة القرآن الكريم فحفظت من تكرارها عددا آخر من السور الطويلة الا أنني لا اغامر بقراءتها عند الصلاة خوفا مما يمكن أن يحدث لي من تخريم بين السور نتيجة تشابه بعض العبارات هنا أو ها هنا. فإذا ما نصب العيال سهرتهم حول الفيلم في التليفزيون تركت لهم الطابق الأرضي كله وصعدت إلى غرفتي لأواصل السهر مع محطة القرآن الكريم أسمعه أشكالا وألوانا من النغم الحبيب المرعش المنعش في آن.. يا للحلاوة والطلاوة حينما أفتح عيني في الصبح ذي اللون القمحي على صوت الشيخ الحصري في المصحف المرتل. هو سلوتي طوال بقائي في الدار إن غاب من المحطة شغلته في شريط التسجيل عودا على بدء. وهي متعة لا يحرمني منها سوى متعة أخرى صغيرة هيأها الله لي في شيخوختي لكي تسليني وتجدد نفسيتي, تلك هي مشاغبات »حود«- يعني محمود- آخر حفيد لي من ابني الصغير محمد, في الثالثة من عمره لكنه ذكي بصورة تؤكد بالفعل أن مواليد عصر التليفزيون والدش والفضائيات لابد أن يكونوا أشباها لمخترعات عصرهم, وطربة أمي, لست أمزح, فكثيرا ما أنظر لحفيدي محمود على أنه اختراع حديث من اختراعات العصر لأنني لم أر طفلا يولد متواصلا مع كل شيء حوله سوى حفيدي هذا, الذي يحاورني بدون أي مفردات من الكلام, مجرد أهأهة وفأفأة وصيحات مصحوبة بحركات فيها خبرة ثلاثة آلاف مليون سنة, ما يريد إفهامه لي يقوم بتمثيله بحركات بليغة موهوبة ذكية تزلزل الصدور من الضحك المبتهج. يناديني دائما بفرحة: »ججه«, يعني جدو, أرد عليه: نعم, فيشير الى جهاز التليفزيون برأسه, وبأصابعه الرقيقة يضغط على أزرار وهمية في يده الأخرى, فأعرف انه يطالبني بفتح التلفزيون. وأن ما يدهشني هو انه بهذه الطريقة يحكي لي كل ما يكون قد رآه من أبيه وأمه وقد اعتاد أن يدلدل رأسه من سور السلم في الطابق الثاني ليناديني بأعلى صوت: ؛ججه« فأشعر من نبرة صوته ان في الأمر فجيعة, فما ان أصعد اليه حتى اعرف منه ان ابويه تناقشا بصوت عال فظن انها العركة فيستنجد بي لايقافها. الجميل فيه انه حين يراني أصلي يقف ورائي ويفعل كل ما أفعله من ركوع وسجود, وكثيرا ما يرغمني بقوة الصياح والصراخ على أن أعيد الصلاة ثانية ظنا منه انها لعبة نشترك فيها معا- الأجمل انه اذا سمع صوت الأذان في أي لحظة يندفع نحوي صائحا: ججه.. إه.. ويرفع يديه بجوار اذنيه كأنه ينوي الصلاة مرددا: أبر أبر- بقصد الله أكبر.
قبل بضعة أسابيع سمعته يناديني وهو على بسطة السلم بصوت بهيج ملهوف: »ججه«.. خفت عليه ان يتدحرج على الدرج الحجري فاندفعت نحوه صائحا: »إنزل بالراحة واحدة واحدة«, ثم تلقفته من منتصف السلم: »عايز إيه? «. فلفص حتى نزل واقفا على الأرض وسحبني من جلبابي الى باب الخروج.
– »عايز تروح فين? «
صنع من إبهامه مبسم شيشة وصار يشفط وينفخ فيه فعرفت انه يريد أن نذهب الى المقهى لنشرب الشيشة والشاي. لكنني بيني وبين نفسي أيقنت أنه يستدرجني لمهمة غامضة يتعين علي أن أكون طرفا فيها بشكل ما, ومن ثم فيجب أن أمضي معه لملاقاة هذه المهمة خارج الدار عملا بالقول المأثور: »خدوا فالكم من عيالكم«. وقد صح ما توقعت, ما أن خرجنا من الحارة إلى الشارع حتى جذبني من الجلباب الى اتجاه سوق منشية ناصر بعيدا عن اتجاه المقهى; فوجف قلبي في الحال واضطربت خطواتي: لقد تركت أباه في السوق عند أذان العصر ليبيع بقايا السبوبة فماذا يمكن أن يكون قد حدث له يا ترى حتى يلهم الله طفله هذا ليستدرجني إلى السوق كي ألحق به? دبت في أوصالي حماسة وجدية, حملت الطفل على صدري, صرت على طريق الاوتوستراد. أشار لي على كوبري المشاة:
»ججه .. ده.. ججه.. ده«
صعدت الى الكوبري وأنا في قمة التوجس والترقب. لحظتئذ انطلق صوت اذان المغرب محلقا في الفضاء آتيا من كل اتجاه- قلت الله أعظم والعزة لله, ولكزت الطفل بكثير من الحب وقليل من الغيظ:
– ؛فوت علي صلاة المغرب جماعة يا عكروت.. ربنا يستر« عند هبوطنا الدرج أمام سوق منشية ناصر ناداني ابن أختي الذي يعمل معنا في نفس التجارة مستقلا بدكان منفرد.
– – »فين محمد يا ناجح..? «
– »قاعد هناك اهه جنب نصبة الشاي«
– خرمت عليه مدفوعا بفرحتين: فرحة لأني وجدت ولدي طيبا دون مكروه حدث له, وفرحة لإكتشافي أن مسجد العشيرة المحمدية.. لا يفصلني عنه الا خطوات معدودة وفي استطاعتي اللحاق بصلاة المغرب جماعة سيما وانني متوضئ جاهز دائما للصلاة. كان صحن المسجد يشغي بالمصلين, حوالي أربعمائة رجل تقرفصوا متذمرين يتساءلون عن الشيخ الذي سيؤمهم للصلاة. من تعليقاتهم عرفت وأنا أعبر العتبة متأبطا حذائي ان الشيخ الامام لم يحضر.
– ما كدت أخطو بينهم بعمامتي الصعيدية وجلبابي الكشمير المعتبر والشال الكشمير أيضا ومن فوقه العباءة مطوية, حتى صاح الكثيرون:
– »أهو وصل.. الشيخ وصل ؛خلاص يا جماعة! «
ونهضوا جميعا واقفين يستحثونني على الاسراع. تسمرت أنا في وقفتي محاولا ايقاف الرعشة العنيفة في ساقي. أخيرا تمكنت من العثور على صوتي:
– »يا جماعة! أنا لست الشيخ! فيكم ناس متعلمون!
أنا رجل على باب الله و.. و.. و.. «.
توالت التعليقات الرافضة لكلامي:
– »اتكل على الله يا مولانا ما تضيعش وقت«
– »إحنا عارفين انك متواضع وطيب القلب«
– »هذه طبيعة الشيوخ العلماء«
– اللهم قربنا منهم«
بقوة الدفع الذاتي وجدتني في محاذاة المنبر أمامي الايوان حيث يقف الامام. رفعت ذراعي وطلبت إقامة الصلاة فانبرى واحد ذو صوت رخيم فأقام الصلاة. نويت, فرددوا خلفي في زئير زلزل الأرض من تحتي. قرأت الفاتحة ثم سورة الضحى والليل بصوت عال محاكيا قراءة الشيخ الحصري بدقة وحميمية, ثم ركعت. وفي الثانية قرأت سورة الفجر.. وفي الثالثة قرأت في الخفاء سورة قل هو الله أحد. قرأت التحيات في تأن وخشوع, ما أن سلمت ذات اليمين وذات الشمال حتى انهالت علي السلامات من أيدي القوم ومن نظراتهم اعجاب وامتنان غامضين.. وأثناء عودتي للدار كنت أمشي منتشيا أحتضن محمود كأنه شهادة نجاحي في أكبر كلية في الوجود.
خيري شلبي قاص وروائي من مصر