رشيد المومني*
السير بعيون مغمضة على صراط القول
بدءا، وتلافيا لأي التباس منهجي، سيكون من الضروري أن نستهل هذه المقاربة، بوضع تجربة الشاعر عبد اللطيف اللعبي، في إطار هويتها المزدوجة، حيث تحيل الأولى على الخصوصية المغربية التي “أذاقت !” الشاعر سنوات طوال من “الاحتفاء”السجني، بهدف إسكات نداءات الكائن فيه، وطمعا في إخماد جذوة قول عصي على لؤم التدجين، ومتميز بتواجده خارج أي فخ من فخاخ المساومة. ولعل هذا الشق الظلامي والمأساوي من الخصوصية المغربية المفترى عليها، هو ما أهل الشاعر للانتماء إلى الهوية الثانية المنتمية إلى الخصوصية الكونية في أفقها التنويري الواسع، المناهض لكل الشرائع الهمجية، التي من شأنها إجهاض حق الشعوب في ممارسة حياتها الطبيعية، ضمن أجواء، يسودها الحد الأدنى من روح العدالة والحرية.
ضمن هذا التأطير المنهجي، والمستند على قناعاته الجمالية والفكرية، نكون قد وضعنا مفهوم الخصوصية المحلية والكونية في سياقهما الموضوعي المتكامل، والمنسجم تماما مع خصوصية تجربة الشاعر، تلافيا لاحتمال التورط في تنسيل خطابات فضفاضة، حول مفاهيم، تقع خارج مدار السياق الذي نحن بصدده. علما بأننا وفي دراسات سابقة تندرج ضمن مشروعنا التنظيري العام، كنا قد أولينا مفهوم الكوني والإقليمي، ما يستحقانه من اهتمام خاص، ضمن سياق معرفي، يختلف عن السياق الحالي، الذي يستند استحضارنا له على أساس اقتناعنا بمركزية البعد النضالي، أو بالأحرى الإنساني، المتجذر في هذه التجربة، التي أدى الشاعر ثمن الوفاء لها، قرابة عقد من الزمن في أقبية السجون المغربية، حيث إن تجاوزه يفيد ضمنيا، التجرد المبيت من أية رؤية إنسانية وجمالية للعالم.كما يفيد التنكر الفعلي، لشعرية الكينونة، ونزوعا متواطئا لتبخيس أهم ما تمتلكه، وتتميز به من مقومات. خاصة وأن حضور هذا البعد، لم يتقيد فقط بمواقف ظرفية عابرة ومؤقتة، بقدر ما هو ملازم، وبصيغة حية ومتجددة، لمسارات الشاعر الممتدة منذ ستينيات القرن الماضي إلى الآن.حيث تحتفظ الجذوة ذاتها، بتألقها وتوهجها، في صلب كتابة، منفتحة على أجناسها الإبداعية.سواء في الشعر، في الرواية، أو في النصوص الفكرية والتأملية، التي دأبت على مطاردة سدنة الظلام بشراراتها، أينما حلوا وارتحلوا.
إنه نوع من اليقين الشعري، المضاد ليقين السلط، حيث يكون بوسع الذات الشاعرة، أن تمضي بعيونها المغمضة على صراط القول، دون أن يخامر أجفانها أي ارتباك، وهي مسكونة بحمى انعتاقها من بؤس المحظور، ومن ظلامية سلطه المتعددة.
ذلك هو الرهان المركزي الذي تطمح كتابة عبد اللطيف اللعبي إلى تحقيقه، وقد غدت مشروطة بمبدأ تحرير الجسد، الذاكرة، والعقل.باعتبار أن الأفق الموضوعي لكل كتابة مسؤولة، ومنتمية إلى حركية التاريخ، لا يمكن إلا أن يكون امتدادا طبيعيا، لأفق القيم المعززة بلهب أسئلتها الحارقة، التي تعصف بتلك الكتابات المطمئنة إلى تصالحها الأعمى، مع تداعيات كل قمع شمولي أو جزئي، لا يني يحكم قبضته على أنفاس الكون. ومن هذا المنطلق تحديدا، تصبح أسئلة الكتابة بما هي نداءات حتمية ومصيرية، شبيهة بتلك الكائنات التي تضيق بتناسل رؤوسها وأجنحتها، فضاءات الأساطير. بمعنى أنها تمتلك من القدرة، ما يؤهلها لتغطية عوالم الفعل البشري، ومرافقة تمظهراته في مراكز الوجود، سواء كانت على هيئة مقامات وظيفية تستضيف عبورنا، أو تخوما قصية، يتردد المخيال على حافاتها.
جمالية البحث عن مجرى النهر الكبير
إننا نتحدث هنا عن مغامرة الإيغال الإبداعي في البحث المخاطر، وفي النبش النظري الجريء، عن أسرار تلك الأيدي الخفية، الممعنة في إلقاء المزيد من الحجب الداكنة على أجساد الحياة.
أيضا نحن نشير في السياق ذاته، إلى شغف البحث عن المزيد من المنابع السرية، التي تضخ مباهجها في مجرى النهر الكبير، الذي هو نهر الكتابة، كي يعلن عن حضوره الهادر في مفازات الكون وصحاريه.
تماهيات على تخوم اللانهائي
وهي اختيارات تندرج ضمن قناعة الذات بالانعتاق من أسر الهوية المتحجرة، بما يخول لها إمكانية اتخاذ أكثر من شكل، وأكثر من صفة.
إنها الطفولة المستعادة.الوعي الجمعي.الذات الرافضة والمرفوضة. المتمردة على المنع، والممارسة له في آن. الذات المتلفظة وسيدة الإنصات. بؤرة فيض الإشارات، وفي نفس الوقت، الشاشة المثالية لتلقيها.إنها لعبة الحلولات اللامتناهية، والتي تعتبر شرط كل كتابة، حيث الذات الكلية تمارس حضورها عبر أكبر نسبة من التشظيات، المساهمة في تكثير مجالات ومستويات رؤية، تضعنا في بوثقة العالم، بما تفيدها لكلمة من تعدد لا نهائي للأحوال، وللاختيارات المنسجمة مع ما ينبغي أن يكون.
إن تجربة اللعبي تشتغل في هذا الإطار.متمحورة حول القيم التي يتحمل الكائن المستقبلي مسؤولية تعميمها وتكريسها، سواء في محيطه الصغير، أو في مدارات الكوني.معلنة بذلك عن رفضها الامتثال إلى إكراه التنحي في ظلمة الهامش المنسي، الذي كثيرا ما نوهت به أضاليل الحداثة المعطوبة.
إن هذا الهامش الوردي، والسعيد بجمالية ” الخسارات” قد يتحول من وجهة نظر كتابات اللعبي، إلى قبر، وإلى منفى. علما بأن جل ما يسعى إليه سدنة الظلام، هو إغراء أوهام الاختلاف- بالمفهوم المبتذل والساذج للكلمة – بتمجيد هذا الهامش، كي تتسنى لها، فرص إحكام قبضتها على مراكز القول، ومراكز الوجود. وبالنظر إلى وعي كتابة اللعبي بخطورة هذا الاختيار، وببهتان جاذبيته وإشعاعه، فإنها تظل حريصة على ممارسة لعبة الفضح، دون أن تقع في مصيدة السجال الجاف، والمتخشب، الخالي من عمق الإقناع، وطلاوته.
إن لعبة الفضح هنا، تشتغل بشعريتها العالية، الخبيرة بتقنية إيقاظ الشقوق الثاوية في مفاصل الصرح، كي يمارس تفككه المفضي إلى تداعي بنياته. حيث تنتشي الأنا النصية بتكاملها، الذي منه فقط، تستمد قدرتها على السير الحثيث، في أثر كل ما من شأنه أن يفجر أحوال الألم، والغضب، والغبطة، وغيرها من النزوعات الحافة بحاجات الذات البسيطة، وبأسئلتها الكونية الكبيرة، مادية كانت، أو رمزية، ومتمحورة حول هاجس استشراف أجوبتها المؤجلة والممكنة.
ضمن هذا الإطار تمارس الأنا ذاتها لعبة التماهيات الكبرى، مع المرجعيات الأصلية الممسكة بتلابيب الكائن، خاصة منها العقدية والسياسية، عبر مجموع ما يتواجد به من مقامات.
إنها الذات، التي نذرت وجودها للبحث المستحيل عن نبتة الخلاص، على امتداد أحراش الذاكرة الكونية، كما على امتداد متاهات المعيش، المكتظة بفخاخ القتلة.
الذات التي لا تسلم بواجب انكفائها على توحدها، واغترابها في مركزيتها المعزولة عن الآخرين، حيث لن يكون لأسفارها على مجاهل هذه الجغرافية، أي صدى دال، عدا أصداء خطواتها.بل على عكس ذلك، ومن منطلق اقتناعها المبدئي بجدوى انصهارها الرمزي والفكري في مصائر الآخر /الشبيه، نجدها محفوفة أبدا بأطياف صداقات، متوزعة على التخوم اللآنهائية، والمتعددة لأزمنة الكتابة، وأزمنة الممانعة.حيث لا يقتصر ميثاق صداقاتها على ذوات معلومة، لكونها، وانسجاما مع روح شعرية الجوهر، منذورة للانفتاح على صداقات العناصر الطبيعية، وكافة الإشارات القادمة من فجر الإيقاع البشري، ومن كثافة لياليه، قدر انفتاحها على مختلف فصائل الموجودات المادية والرمزية، القابلة لأن تتمظهر في صيغة قيم إنسانية ومعرفية، تضيء أنوارها جغرافية المتاهة.وكلما تتالت الأسفار والمكابدات، إلا وتنوعت أفواج الصداقات المنتقاة بحدس معرفي خلاق، يشق طريقه باعتداد بين أسراب العداوات، وجحافل الكراهية العابرة لصحارى التاريخ.
إن التنامي المطرد لأنسجة الصداقات، بأبعادها الإنسانية، المعرفية، والرمزية، التي تحرص الذات الشاعرة على توسيع شبكاتها، يساهم في إغناء الكتابة، بألوان وأنساق لا حصر لها من الحوارات، التي قد يهدف بعضها إلى تأزيم الحقائق، من خلال إخضاعها للمساءلات الحارقة، كما قد يهدف بعضها الآخر، إلى تأجيج الرغبة في البناء أو الهدم، ضمن اجتراحات، تراوح حركيتها بين لعبة تفكيك المقولات الكبرى، وبين متعة الحفر الهادئ أو القاسي، بحثا عن الحياة المنسية والحميمية، التي تتميز بها عادة صيرورة التفاصيل. وضمن هذا وذاك، يكون دائما ثمة متسع للسخرية، للدهشة، للحماقات، للصمت، وللتواصل الجسدي مع مجرات الأنوثة ومداراتها، التي تجد فيها الذات ضالتها المثلى، لتحقيق أقصى مستويات التوحد مع ما دأبت أعاصير الوقت على تبديده، وتقطيع أوصاله.
فتحت سماء هذا التواصل، تتدخل أنوثة الجسد كي تبطل ولو مؤقتا، بقوانين حسيتها الروحية، قوانين القبيلة، وكي تعلن جسدها بديلا حياتيا وجماليا، لكل ما يتخلل الكون من مظاهر البؤس، والكراهية والطغيان.
إنه البديل الذي تتأسس على تخومه عوالم يوتوبية، مشروطة بعمقها الحسي، الموغل في واقعيته إلى أقصى حدود الحلم، حيث تسود قيم اللذة بأبعادها التقاسمية، بعيدا عن رهبوت المنع، وبمنأى عن ظلامية المحظور. أيضا، تحت لواء اللذة، تهتدي أشياء العالم إلى جوهر إيقاعاتها، ويكتشف الجسد العاشق، قارات مباحة لا غالب فيها ولا مغلوب.كما تستعيد فيها المادة خفتها، مفسحةالمجال للمسميات، كي تعلن عن جديد أسمائها، نكاية في مضارب الالتباس، و كهوف التكتم.
إنها الصفحة البكر، لما لم يتم بعد تسطيره من تنظيرات، لا قبل للدوائر المتعالية بها، ففي حضرتها تحديدا تتنازل الاستحالة عن عروشها، كي تسير عارية القدمين على أعشاب الغبطة.
إنها مجال رسم خطاطات محتملة، لأكثر من حياة. وحقل تخصيب مالا حصر له من الاجتراحات، المتلذذة بتعكير صفو المعاجم، والقواميس المغلقة على دلالاتها.
في طقس الإيروتيكا “المحرم “، والمطوق باللذة البكر، يحتدم أوار المواجهة بين سلطة الحظر، وشهوة الاستباحة المتبادلة والحميمية، تحت ظل عري وثني، لا يمكن أن يتسرب الردع إليه.
هكذا يصبح العشق المتمادي في غوايته وغيه، نموذجا موضوعيا، ومثاليا، لأية ممارسة اختراقية، معززة برؤيتها التمردية، لكافة السلط التي تستند في مرجعياتها التضليلية على فتاوي الظلام.
ثم، لا ضير في ركوب موجة الشذوذ، حينما يتلذذ الإيروس بمفاكهة أجساد الطبيعة، وأجساد الأحوال، والأفكار، التي تتفتح أزهارها الشبقية في التخوم الدانية والقصية، المضمخة بإيقاعات موسيقى العالم، والكفيلة بتحقيق طقس الانتصاب…
العشق الوله هنا، لا يظل سجين السرير المثبت في زاوية ما من زوايا حجرة مغلقة. بل يتحول إلى ومض مجنح، لا تحده السماوات، ولا الأرض.
في تجربة اللذة الثنائية هاته، نكتشف تباعا كل تلك اللغات المستحيلة، التي تحلم القصيدة بامتلاكها، حيث للصمت مدوناته، للصوت، كما للإيماء.
هكذا تصبح اللذة انتقاما فعليا وحقيقيا من جرح الألم العام والمتجدد الوجوه، المحفور في الذاكرة، والذي يتفنن الطغاة في تعميم طقسه وتعميقه. وهكذا أيضا، تكون اللذة ذاتها، بلسمه الذي تتفتح فيه زهرة الانتشاء، بما هي دليل كينونة، وعربون حياة.
عموما، إن انفتاح الذات الشعرية على فضاءات الصداقات، بما يتخللها من عداوات، ممهورة بأوهام الغلبة والهيمنة، هو ما يبرر استناد منهجية التوصيل الإبداعي على بث، تراعى فيه قابلية الآخر للتمثل والتلقي، بما يحفزه على الإنصات، و”يغريه”به.وذلك من خلال حكي تحاوري، موجه إلى ضمائر قد تكون حاضرة أو غائبة، باعتبارها معنية بما حدث، أو بما يحتمل حدوثه.ذلك أن التوريط الخلاق للآخرين، في بوثقة الحكي ومدارجه، ينزاح بهم من مستوى التلقي الجمالي المحايد، إلى مستوى الاندماج الفعلي، وهو ما يستبعد أي رؤية تغريبية، قد يتسرب ظلها إلى طقس الكتابة، والتي قد يكون من شأنها، تعطيل آليات التلقي، بفصلها عن مسالك الفهم والتأويل النصي.
تجربة الكشف عن المحتجب
إن تجربة الكتابة الشعرية عند عبد اللطيف اللعبي، تتأسس على أرضية هذه الإرادة المتماسكة، التي بموجبها تمارس الذات حريتها الكاملة في إعادة اكتشاف الحقائق، وفي ضبط آلية اشتعال العلاقات والممارسات الفاعلة في بلورتها، بما يجعل منها ثوابت تتحكم عمليا في تحديد آفاق اختياراتنا، بوصفنا معنيين بشكل مباشر، بما تبثه النصوص من إشارات ورسائل. إعادة الاكتشاف هاته، تساهم موضوعيا في صياغة البنية الإبداعية لـ”الحقائق”، كما تساهم في توجيه مساراتها.يتمثل ذلك في لعبة التوصيف المغاير، التي تمارسها الكتابة على العناصر، والأشياء، والمسلكيات، قصد اقتراح نماذج معرفية مضادة للتواصل والحضور.كما لو أن الأمر يتعلق بمحاولة إزاحة ما تراكمه الأزمنة الرمادية من تحريفات دلالية على الحياة الإنسانية ككل، بحثا عن جوهر محتمل، يمتلك حده الأدنى من النقاء. وذلك من موقع الانتصار لحق الكائن، في مواجهة ما يتربص به تباعا، من قهر، ومن إقصاء.
هنا تحديدا، تتمثل القيمة المضافة لتجربة عبد اللطيف الشعرية، حيث يندرج الجمالي في أفق الرؤية الفكرية للعالم، المقتنعة بمركزية الكينونة الإنسانية في رحابات الوجود، وباستحالة الحديث عن أية مركزية طوطمية، يمكن تنصيبها كسلطة متعالية ومتحكمة في مصائرنا.
إنها تجربة شعرية تواصلية، تنبهنا إلى أن أشياء العالم، لا تكف أبدا عن الحديث إلى أجسادنا وأرواحنا، بوصفها أداةرصد وبوح، على درجة هائلة من الحساسية والشفافية. حيث سيكون علينا، امتلاك ما يكفي من القدرة والخبرة، لفك شفرة ما تبثه لغات هذه الأشياء من إشارات.ففي الحالات البسيطة، و العادية، يظل الوعي بهذه اللغة، وبهذه الإشارات، حبيس المواقف المسكوكة العامة والمشاعة، المتسمة غالبا بهيمنة سلبيات التكرار الميت، والمراوحة في قلب المساحات العشوائية، التي دأب فيها الإنصات المشترك، على إهمال الأصوات الأساسية للدواخل، بإيعاز من سلطة العرف، وبإيعاز من سلطة التوجيه الفوقي، لما ينبغي التفكير فيه، وما ينبغي نسيانه وصرف الاهتمام عنه.وهو ما يؤثر سلبا على إمكانية اتساع مساحة القول الشعري، مؤديا إلى اختزال مداراته، في طيمات محدودة ومكرورة. تنتهي بطمس أية خصوصية محتملة للتجربة الشعرية. كي تتحول في نهاية المطاف، إلى مجرد رقم إبداعي ينضاف إلى النسق الكمي العام والفضفاض، المفتقر إلى خصوصية المؤطرة له.وهو ما تحرص شعرية اللعبي على نسفه، بما تمتلكه من خبرة طويلة بتلقي الإشارات، وفك شفراتها.
ومن المحتمل، أن تكون التجربة السجنية الطويلة والقاسية، التي تجرع سمومها بالتقسيط، قد ساهمت بحصة كبيرة في تمرين الجسد على طقوس هذه اللعبة الصعبة والشائكة. حيث تجد الذات السجينة نفسها، في ظل قسوة انفصالها التام عن أصوات العالم وصوره، التي تضج بها الفضاءات القريبة والبعيدة، معنية بالبحث في دواخلها عن تلك المسالك والممرات السرية، التي تستطيع بموجبها، أن تؤسس علاقاتها الممكنة مع ذلك الجوهر اللامرئي، الذي تهتدي به إلى مفاتيح أبواب الوجود، باعتبار أن الاقتناع بحتمية الحق في الرؤية وفي الحضور، من منطلق الحسم في تبني قرار الممانعة، يساهم في تفجير تلك الطاقات المستترة، والتي بفضلها تستطيع الذات أن ترى، وأن تسمع ما لا يراه الآخرون.ضدا على سلط المنع.
طبعا، ليس من منطلق خضوعها لاختلالات فيزيولوجية، تصبح فيها عرضة لاستهاماتها، وتخيلاتها المنغلقة على دلالاتها. لكن، من منطلق اتساع وتوهج مساحة الرؤية، التي تسمح بتسليط الضوء على مجموع تلك العناصر، المغيبة، والمنسية خلف حجب الرؤيا المشتركة للشيء ذاته.كما تسمح “و هذا هو المهم” بالاقتراب من هسيس الإيقاعات الخافتة، التي تصدح بها حركية العناصر.حيث يمكن الحديث في هذا السياق، عن الرؤية المجهرية، والمتفحصة لمقومات الكينونة ككل. إنها الرؤية المعنية بالكشف عما يحجبه مكمن الطي، الذي تتكتم فيه العناصر على أسرارها وأحوالها. خشية أن تعبث بها الرؤية الآلية للعالم.باعتبار أن هذا الكشف، يساهم في إضاءة الحيز الافتراضي، القائم بين الثنيات، وبين التشابكات، والتداخلات اللصيقة ببنيات العناصر، والتي تحول دون التعرف على أبعادها الحقيقية، نتيجة خضوعها لقانون الطي/ الثنية، الذي يشوش على إدراك من تعوزهم الخبرة برؤية ما لا يرى.
ففي إطار هذه المسافات، أو المساحات الرمزية المستعادة والمستكشفة، يغتني مجال اشتغال الرؤية الشعرية، وهي تقترح علينا مواكبة حركيتها، حيثما حلت وارتحلت، كي نعاين عن قرب، آلية توظيفها لحدسها المجهري، الذي تجس به مستويات تدرج إيقاعات التفاصيل، في سلم التحول، الذي هو سلم التنامي، داخل جسد الكائن، وداخل جسد الكون.
جس موسيقى التدرج، من شأنه أيضا، الكشف عن المقومات الفعلية التي تتميز بها أشياء العالم، والتي تبدو للقراءة السكونية، مسهبة في غرابتها، وفي التباسها، فيما تتلقاها القراءات المتواطئة، بكل ما يليق بها من احتفاء.
ثمة إذن، متعة التردد الدائم على تلك البؤر الواعدة بكل ما هو محتمل.أي، بؤر الخراب المطيح بأبراج السماوات القصية، أو على النقيض من ذلك، بؤر الينابيع التي تنفتح مساراتها على الجنائن المؤجلة. أيضا ثمة تلك المطاردة العنيدة والمكابرة، لتلك الدوامات الهوجاء، المثارة تباعا من قبل الحوافر الفولاذية لوحوش الوقت.
التفكيك الجذري لسلطة العائق
في السياق ذاته، نستحضر طراوة اللحظة المعيشة التي تستمد الكتابة منها شعرية اللعبي مادتها” هنا والآن”والمتكاملة حتما، مع الصيرورة التاريخية لذاكرة المعيش، ومتخيله، الفاعلين في إثراء خصوصية ذاكرة شعرية، تشتغل بميكانيزمات جد مختلفة عن ميكانيزمات الذاكرة التاريخية، والمجتمعية، أوالذاتية. أولا، باعتبارها جماع هاته الذاكرات.وثانيا، لانتمائها إلى شعرية ذات، متميزة بمواصفات الاندماج الإنساني، إلى جانب امتلاكها لمواصفات الانفصال والاستقلالية، انسجاما مع طبيعة الشروط الفاعلة في اختيار هذا الموقف، أو ذاك.
فبقوة هذه الذاكرة الجمع، يمكن تلمس سمات هوس آبق، يتطلع إلى الكشف عن الجزء الداكن من بنية الذاكرة الكونية، والمجسد أساسا، في ذلك الشطط المتجذر لدى مختلف الممارسات السلطوية، ذات التوجه العقدي أو السياسي، والتي تروم بشقيها إحكام قبضتها الحديدية على مصائر الكائن. والملاحظ، أن هذا الشطط المؤثر بشكل مباشر في تنشيط مكيدة الترهيب، المتكالبة على الإطاحة بأطياف الأحلام المشروعة، المتطلعة إلى امتلاك الحد الأدنى من شروط الحياة، هو التعبير الصريح، عن ذلك الجرح التاريخي، الغائر في الذاكرة الكونية.جرح عصي على الاندمال، ومؤهل بامتياز، لوضع خارطة طريق، تستأنس بها الكتابة في تحديد موقع ما يمكن تسميته بسلطة ” العائق “، بوصفه التشخيص الرمزي، لكافة أشكال الحجز، الممارسة على تلك الأسئلة المفارقة، التي يمكن أن تغمر بأنوارها الحياة الإنسانية ككل.و أيضا، بوصفه دليلا على الحضور العدواني لمختلف السلط المتعالية، المتخصصة في قص أجنحة الهواء، كي يطمئن إلى خموله.وبالتالي، فإن تبني تجربة اللعبي، لشعرية تفكيك جبروت العائق، يصبح شوكة في حنجرة مهندسيه.
إنه رهان تاريخي دائم، حتمي، وملح، يأخذ شكل صراع مجتمعي وحضاري بامتياز، قصد الانفلات من قيم وتقاليد الأنظمة البدائية، الممعنة في تعميمطغيانها، وجبروتها.
ضمن هذا التصور، وحيث الرؤية الشعرية محكومة بمنطقها التفكيكي، والتركيبي في آن، لا مجال للتمييز بين المنظومات الكلية، وبين الأنساق الجزئية الكامنة طي التفاصيل. مادامت جدلية التعالق المتبادل بين الأطراف، تشحن نسيجهما المشترك، بالذبذبات ذاتها.
شرط الانتماء إلى زمن الشعر
ففي قلب هذه المنهجية التصحيحية لكتاب الكون، حيث لا مجال للفصل بين الكلي والجزئي، أو بين الأنساق العليا والمتدنية. خاصة حينما يتعلق الأمر بالحياة، التي لا تقبل أبدا أن تعاش بمحنة البتر، وهبات البقايا. لن نكون بصدد مقاربة تجربة مسكونة بهاجس إرضاء هاجس نرجسي، لتحقيق رغبة ما في الحضور، أو في البحث عن صيغة أنيقة لترجمة تلك الانفعالات العابرة، التي يحدث أن تعصفبالذات.كما أننا لن نكون بصدد التملي في ذات شغوفة باستعراض تمكنها من إواليات الكتابة، بقدر ما نحن بصدد إضاءة شعرية متميزة بتملكها الفكري والجمالي، لما تنتجه الفضاءات الدلالية العامة والخاصة، المستسلمة لتناحراتها اللآمتكافئة، التي ستتحقق فيها عملية تفعيل هذه الإواليات/القوانين.
والحديث عن جوهر الفضاءات الدلالية، ينتقل بنا رأسا من إطار التجارب العشوائية، المهيمنة على مشهد القول ككل، إلى عمق الزمن الشعري، الذي نعتبره بحق زمن الرهانات الكبرى، التي يتعذر على مستهلكي الفرجة المشبوهة، استيعاب مقوماتها ومقصدياتها.
عمق الزمن، هو مجال ترحال شعرية روح متمردة، لا تطمئن إلى الإقامات الدائمة في الملاذات ذاتها، مهما اتسعت مساحة ما يكتنفها من أمان ومن طمأنينة.
إنها تشتغل ضمن أفق واع بهويته، وبخصوصية ما يستشرفه من احتمالات.شعرية يمكن إلى حد ما، اختزالها على سبيل الإضاءة النسبية، في هاجس تصحيح كتاب الكون، بما هو مجموع تعاليم، وصايا، نصوص، وقرارات، تخترق شراراتها ظلمة الأمكنة والأزمنة، المسكونة بأرواح الشر على حد سواء.
يتحقق ذلك، عبر تصميم هندسي مضمر، قد تحدس القراءة اليقظة بوجوده، حيث يمكن اختزال خطوطه العريضة، في ما يشبه مجرى، يمتد عبر مسافة تعبيرية، قصيرة أو طويلة، باتجاه أفق ما، قد يكون واضحا تماما، كما قد يكون مشوبا بغمامة من الالتباس. والإشارة إلى امتداد المجرى، لا يلغي طبعا حضور إيقاعات مسارات محايثة، متفرعة عن المجرى المركزي بكل تخطيطاتها المحتملة، باعتبار أن إيقاع شعرية الحكي، هو في حد ذاته، رحلة بين مضايق القول، وبين منتزهاته. كما بين صحاريه ومتاهاته.ما يفيد احتمال تزامن مراوحات، وانعطافات، أو انكفاءات مشمولة بشعرية دلالاتها.علما بأن فكرة المجرى هنا، تحيلنا على الرؤية الموجهة لوعي القول الشعري، بما يتميز به من مسارات، معلومة، أو مجهولة. ذلك أن ما يحد من جموح المتاهة، ويخفف من غلوائها، هو توافر الوعي المتاهي، الخبير بأسرار وخفايا الأمكنة.كما أن العنصر الفاعل في التلطيف من بأس كل امتداد أحادي الاتجاه، ولا قبل له بغبطة المنحنيات والمنعطفات، هو التملك الضمني لرعونته. ونفس الشيء بالنسبة لحل معضلة انغلاق الدوائر، بإخضاعها لقوانين التكسير.
إن تحكم الكتابة الشعرية في المجرى المفضي إلى الأفق، لا يلغي بالضرورة، ، جمالية التعثر بنتوءات اللقى. أعني بنتوءات الصدفة، المشفوعة بنكهة الإدهاش. بل بالعكس، يقوى من فرص حضورها، حتى ليمكن القول، إن إصرار الكتابة على التمثل الضمني للمجرى، هو تشوف فعلي لاختلاق فرص اللعب مع الصدفة، المحيلة على انبجاس ما لم يكن من قبل متوقعا، أو مدرجا ضمن أولويات خطاطته.
غير أن ما ينبغي التأكيد عليه، هو استقلالية كل نص من نصوص عبد اللطيف اللعبي، بمجراه وأفقه الخاص به، حيث يظل المجرى الكبير، مجرد إطار منفتح على العابر، كما على المقيم.
وفي الحالتين معا، يكون الآخر مستحضرا بكل الصيغ الممكنة والمحتملة، التي يمليها علينا شرط الاستحضار.وبالتالي، إن زمنا شعريا بهذه الكثافة، وبهذه المواصفات، يستدعي حضور قراءة متواطئة، تدعونا لإعادة النظر في مفهوم” الهنا والآن “كيلا يظل سجين التفاعل الظرفي والضيق، مع مطلب ما، مهما كانت ملحاحية هذا المطلب وأولويته.ذلك أن إعادة النظر في أبعاده، وهويته، على ضوء كثافة الزمن الشعري، يضفي على ” الهنا والآن “بعدا تركيبيا، يتحول بمقتضاه إلى جماع أمكنة وأزمنة، مؤثثة بأكثر الرموز والعلامات تعبيرا عن جدل تلك العلاقة الدرامية المتحكمة في حركية الكائن، والتي لا تتحمل فكرة اختزالها في ثنائية البقاء والعدم، السعيدة بحيادها البارد.
إنها الحياة هنا برمتها في تجربة عبد اللطيف اللعبي، مهددة بجبروت الإذلال، في الشمال، أو الجنوب. في السماوات السبع، وما تحتها. في الأزمنة القديمة، أو في مالم يحن بعد أوانه.حيث يحط فنيق الكتابة رحاله القلقة، مستجيبا لقانون ومبدأ انتصاره إلى ما ينبغي أن يكون.أي إلى إعادة صياغة كتاب الكون، جملة وتفصيلا.