محمّد الكحلاوي
أكاديمي وناقد تونسي
في 09 من آذار 2022، رحل عن هذه الدّنيا العلّامة المغربي الأستاذ محمّد مفتاح، وهو الباحث والناقد المتخصّص في السيميائيات وتحليل الخطاب والتنظير للنصّ وآليات قراءته وتأويله. ليترك ذاك الرّحيل أثرا بارزا وموجعا في وجدان النخبة الثقافية والأكاديمية العربية مشرقا ومغربا، حيث اعتبرت وفاته خسارة تتجاوز الفضاء الأكاديمي والثقافي المغربي إلى الفضاء الجامعي والثقافي النقدي في سائر أرجاء الوطن العربي، إذ مثّلت كتاباته أرضيات معرفية عبرها تمّ استقبال المفاهيم والنظريات الجديدة في مجال علوم النصّ وتحليل الخطاب وفلسفة المعرفة وإبدالات النماذج الجديدة للفكر وأدوات القراءة النصّ والتأويل، وانطلاقا من تلك الأرضية المعرفية، تمّت، ضمن مشروع محمّد مفتاح، محاورة متون التراث البلاغي والنقدي والفكري العربي والإسلامي، بحثا عن سبل تجديده وتحديثه مع المحافظة على خصوصية ما يمثّل له هويّة حضارية ومعرفيّة، لاتّخاذ ذلك منطلقا لاستقبال معرفة الآخر في مجال التنظير للمناهج والمناويل العصرية، ذات المرجعية الفلسفية واللسانية والسيميائية والمنطقية والعلمية الحديثة، ودون التشبّث أو الانحياز لمنهج بعينه.
لذا جاءت كتابات محمّد مفتاح حاملة لمعالم منهاجية موسعة، تعدّدت آفاق تشييد بنائها المعرفي، وتنوّعت دروب تنظيرها لأدوات القراءة والتحليل، من خلال تضافر مستويات من التفكير العميق والدقيق في سبل التلقّي وفاعليّة المنوال النظري (الإبدال)، الذي استنادا إليه، يمكن أن يتأسّس النقد العميق وتنبجس القراءة المنتجة الخلّاقة بعيدا عن أحادية الرأي أو الإقصاء أو التلفيف، وتُستأنف، تبعا لذلك، حركة مساءلة المفاهيم والمقولات لتحقيق التجاوز المعرفي الذي من شأنه أن يضيء عتمة النظرية ويمنح دينامية وفاعلية لأدوات المنهج ومسالك القراءة والتأويل، عبر تجدّد فعل القراءة وإنتاج المعرفية الناظمة لتماسك أدوات المناهج والنظرية.
ذلك ما سنحاول بيان أهمّ ملامحه وخصائصه، من خلال مسألتين نطرقهما باختزال، وفاء للعالم الرّاحل محمّد مفتاح واعترافا بالقيمة العلمية الخالصة لما ألّف وأنتج. وتتّصل الأولى بتراكم لبنات المسار المكوّن للمشروع المعرفي، في حين تتعلّق الثانية ببيان وجه طرافة الإبدال مع بيان أهمّية ما خلص إليه معرفيّا وحضاريّا.
1 – حول مسار تشييد معالم المنهج والنظرية
لقد كان العلّامة محمّد مفتاح رائدا في التنظير لمنهاجية معرفية شاملة مركّبة تجمع بين السيميائيات ونظرية التناص والتأويلية وأدوات تحليل الخطاب ومفاهيم البلاغة الجديدة. وقد كان رائدا وسبّاقا في النقل والتطبيق لبراديغم القراءة الخاصّ ببعض المناهج والنظريات. حيث كان أوّل من طبّق منوال التحليل السيميائي في دراسة الشعر العربي، من خلال دروس ألقاها على طلبته، ليصدرها لاحقا في كتاب، وسمه بـ “في سيمياء الشعر القديم- دراسة نظرية وتطبيقية”، (ط1، 1982)، جاءت محاوره جامعة بين القديم والجديد في توليف معرفي متماسك بعيد عن التلفيق والسطحية، وهو ما يدلّ قوله: “هدفت إلى بثّ روح البحث المعمّق في الطلبة وفتح آفاق جديدة أمامهم لدراسة الأدب”، وذلك ضمن نظرية نحتها “ممّا ورد عند بعض النقّاد العرب القدامى من مبادئ، وممّا انتهت إليه الدراسات الشعرية السيميائية الآن، فالمحاولة تدخل ضمن القراءة المتعدّدة” (ط، 1989م، ص 5)، واختار موضوعا لذلك “النونية”؛ القصيدة الشهيرة لابن البقاء الرُّندي (تـ 684هـ)، وواصل الأستاذ مفتاح مغامرة العالم الباحث عن الجدّ والطرافة والعمق في آن، يبدو ذلك من خلال انفتاحه الموسّع على نظرية التناص في علاقته بالتداولية والبلاغة الجديدة وعلوم النصّ، حيث خصًّص لذلك كتابه: “تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص” (ط1، 1985م)، ثمّ عمل بعد ذلك على التأسيس لمفهوم النص، ضمن السياق التداولي العربي، فتركّز اهتمامه على إشكال نظرية النصّ، من خلال بحث قضايا ما النصّ؟ وما نظام تكوّنه وديناميته وسياقات قراءاته الممكنة؟ وهو ما مثّل محور اهتمام مركزي في كتابه “دينامية النصّ: تنظير وإنجاز”، (ط1، 1987م)، حيث لاحظ تباينا وتواصلا في آن، بين ما يعنيه مفهوم النصّ في النظرية الغربية العصرية، وبين ما يدلّ عليه مصطلح النصّ في اللغة العربية، ليرصد المشترك، ويعمل على إعادة التأسيس المعرفي المتماسك، فبدا كأنّه يحوّل ذاك التباين وتلك المفارقة إلى عنصر خلق وإغناء، عبر سعيه إلى تجاوز جوانب الإشكال، وهو ما يدلّ عليه قوله: “إنّ من يقرأ ما كتب حول نظرية النصّ ومفهومه باللغة العربية يهوله ما يجد من خلط وتشويش واضطراب. ومن بين أسباب تلك الآفات غياب تصوّر نظري محدّد المعالم ومنهاجية مضبوطة الحدود والأبعاد والغايات”. لذا بدا له من الوجيه أن يتمّ التأسيس لمفهوم النصّ من خلال استعمال “مفاهيم مثل النمو والحوار والتناسل والصراع والحركة والسيرورة والانسجام، وهذه المفاهيم ترجع كلّها إلى مقولة جامعة هي الدينامية” التي هي مفهوم ذو أصول علمية، رياضية فيزيائية وبيولوجية طبيعية، “نمت وتفرّعت (في مجملها) عن فلسفات اجتماعية ولغوية” (دينامية النصّ، ص7). لقد استطاع الأستاذ محمد مفتاح أن يوظّف بإحكام مفهوم “الدينامية” في امتداداته السيميائية التأويلية والتناصية البلاغية، ومن جهة جذره العلمي الدقيق. ومن ثمّ مضى يقرأ نظام الخطاب ونسيج الدلالة ويستنتج رؤى الفكر/ الذهن إلى الأشياء والعالم والإنسان، من خلال تحليله العميق والدقيق لنصوص وكتابات أدبية شعرية وفلسفية وصوفية، ودينيّة مقدّسة، فتجلّى ذاك التنوّع في الدراسات والبحوث التي اشتمل عليها الكتاب، ومنها: “نموّ النصّ الشعري: قراءة في قصيدة القدس لأحمد المجاطي”، “الحوارية في النصّ الشعري”، “تناسل النصّ الشعري”، “سيرورة النصّ الصوفي”، “الصراع في النصّ القصصي”، أفقية النص، عمودية النصّ”، “الانسجام في النصّ القرآني”.
تبعا لذلك رأى الأستاذ مفتاح أن يستأنف التنظير للتأويل بوصفه منوالا للمعرفة ونظرية في القراءة والتحليل، عبر استدعاء أصوله الفلسفية والسيميائية والفكرية الدينية والأدبية البلاغية، ومن خلال تجسير علاقته بسؤال “التلقّي” وإشكالياته قديما وحديثا، في معرض ذلك جاء كتابه “مجهول البيان” (1990م)، ليبيّن فيه كيف أنّ التأويل مهما ذهب بعيدا إلى أقاصي المعنى ومآلات القول يظل في صراع مع النظرة التي تقول بأنّ له حدّا وسقفا يقف عنده. ومن ثمّ مضى يفتح نوافذ على الفلسفة والعلوم الإنسانية والبلاغة القديمة في علاقتها بالريتوريقا اليونانية والبلاغة الجديدة في علاقتها بعلوم النصّ لأجل تشييد متماسك لبراديغم القراءة والتأويل. وهو ما جدّد الاشتغال عليه بعمق وفق نظرية نسقية علمية لسانية منطقية فلسفية ضمن كتابه الذائع الصيت: “التأويل: مقاربة نسقية”، (1994)، الذي جاء لضرورة تعميق البحث في المسائل المطروحة في كتابه “مجهول البيان”، من خلال الكشف عن “المبادئ الإنسانية الطبيعية والكونية للتأويل، ومن ثمّ “غاياته الظاهرة والخفيّة” (ص7).
معنى ذلك أنّ مشروع القراءة المنهاجية الشمولية ذات الأبعاد السيميائية التأويلية التي نظّر لها الأستاذ مفتاح، عبر التأسيس لمفهوم جديد جامع وإشكالي لـ “النصّ”، قامت عبر استناد إلى مفاهيم علمية طبيعية فيزيائية ورياضية وإنسانية منطقية علمية، ومن خلال توظيف محكم لروحها المعرفي لأجل تأسيس متماسك للمفهوم، إذا النصّ نظام وانسجام في مستوى البناء، وهو كائن ينمو ويحيا، وتتجدّد حياته عبر القراءة والتأويل، تلك القراءة التي يجب أن تكون نسقية من جهة انتظام عناصرها وتماسك مبادئها المعرفية، لضمان دقّة مسار تحليلها الذي يظلّ يتابع سيرورة تدليل لغة الخطاب على المعنى، لا سيّما وأنّ اللغة بدورها نسق والكائن المنتج لها خاضع لنظام وجود بيولوجي وفيزيائي وذهني إدراكي وكوني كسمولوجي، وذلك هو معنى القول إنّ الإنسان “كون أصغر” في مقابل “الكون الأكبر”، وهي مفاهيم استقاها الأستاذ مفتاح من الفكر الصوفي العربي الإسلامي وأعاد دمجها في بناء نظرية النصّ والقراءة، وتفسير وضع اللغة بوصفها نظاما من الرموز والإشارات يقول معنى الوجود ويتناغم مع نظام الكون، ذلك ما عبّر عنه في كتابه “رؤيا التماثل” (2005م)، لا سيّما من خلال مباحث؛ “تجلّيات فلسفة انتظام الكون”، الصور المتماثلة: مكانة الإنسان”، “إبدالات فلسفة انتظام الكون”، “النغمية؛ خصائص التناسب اللحني في الشعر” (ص 21 و 32 و88، 153).
لكن قبل ذلك رأى الأستاذ مفتاح أنّه من الضروري أن نبحث في معقولية الأسس المعرفية لنظرية النص والقراءة وإبدال التأويل، تلك المسائل التي دارت عليها أغلب كتبه الصادرة إلى منتصف التسعينيات، فألّف كتابه “التشابه الاختلاف” (1995)، ليبسط القول في كيفيّة إنجاز التلقّي والتأويل عبر المقاربة نسقية، حيث اشتغل بالبحث في مكوّنات “المقاربة النسقية؛ وأبعادها وغاياتها، وفي سرّ إثبات العلاقة بين أصيلها ودخيلها” (ص5).
2 – في البرهنة وطرافة إنجاز التطبيق
لقد قام المشروع المعرفي للعلّامة محمّد مفتاح، وكما يذهب إلى ذلك الصديق محمّد بوعزّة، على تجسير العلاقة بين دراسات الأدب وتحليل الخطاب من جهة والعلوم الإنسانية والدقيقة من جهة أخرى، إلى الحدّ الذي تغدو معه الأولى بمثابة فرع من الثانية، أي يصبح إنجاز دراسة الأدب وتحليل الخطاب خاضعا في منطلقاته وتنظير أدواته للنماذج المعرفية المنجزة في العلوم الدقيقة، فإنّ ذلك قد اقتضى من الأستاذ مفتاح تجاوز النزعات الوضعية والبنيوية الكلاسيكية التي تحتكم لنموذج واحد محدّد العناصر. وبادر إلى تأسيس معالم “النقد المعرفي”، بوصفه نسقا في التحليل والتأويل متنوّع الروافد المعرفية ومحكما في مستوى بناء عناصر نسق القراءة وتماسكها، وفي معرض ذلك تكثّفت بحوثه التي موضوعها التنظير والتأسيس للمفهوم وللأطر المعرفية المجرّدة التي في فلكها تشتغل أدوات المنهج. وتنوعّت تفاعلا مع هذا المسار تجاربه في مجال إنجاز التحليل وإنتاج نماذج من القراءة التأويلية الثريّة لنصوص قديمة وحديثة، شعرية وسردية، أدبية وتداولية حجاجية؛ فلسفية وبلاغية وكلامية وصوفيّة، يحدوه في ذلك بحثه الدؤوب عن برهنة مقنعة وذات معقولية بخصوص فاعلية الأدوات النظرية الجديدة التي شيّدها منوالا للقراءة والتأويل، لا يقطع مع الموروث المعرفي القديم وإنّما يُعيد إنتاجه، بعد أن يبعث الرّوح فيه، ليتمّ وصله وفق معقولية جديدة بعلوم العصر والنظريات الحديثة. بحثا عن سبل إظهار طرافة نتائج تطبق ذلك المنوال وجدّة توظيف أدواته، من خلال إبراز أهميّة قيمة تلك النتائج المعرفية والحضارية من ناحية أخرى. لذا تعدّدت في مشروع الأستاذ مفتاح دروب البحث في قراءة النصّ وتحليل الخطاب ودراسة التراث البلاغي والفكري العربي الإسلامي.
كان من أبرز منجزاته في مثل هذا السياق تكثيف الاهتمام بالبحث في محمول المفهوم ودلالته سواء من جهة علاقته بالمصطلح أو من ناحية وظيفته في بناء النسق، ودوره في إنجاز مستويات المعرفة والإدراك، ذلك أنّ تفكيك المفهوم يعدّ مدخلا إلى إدراك عالم النظرية وخصائص النصّ منهج القراءة، وهو ما مثّل موضوعا محوريّا لكتابه “المفاهيم معالم؛ نحو تأويل واقعي” (1999م)، الذي بيّن كيف أنّ العناية “بشروط امتلاك المفهوم وكيفيّة تحديده والمعرفة بشكله وبأصنافه ووظائفه”، من شأنها أن تساعدنا على استخدام أفضل لمنوال القراءة والتأويل وإدراك أقاصي المعاني وجماليات الأثر المقروء حين يتعلّق الأمر بالنصّ الأدبي أو الأثر الفنّي، إذ تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ مستويات إنجاز فعل القراءة والتأويل لدى الأستاذ مفتاح تتجاوز حقل الأدب؛ شعرا وسردا إلى حقول وإبداعيّة أخرى كالتصوّف، حيث جدّد صياغة رسالته الجامعية لأطروحة الدكتوراه، فصدرت موسومة بـ: “الخطاب الصوفي: مقاربة وظيفية” (1997م)، وطرق مسألة كتابة التجربة الصوفية في أكثر مؤلّفاته الأخرى، ناظرا إلى الكتابة الصوفية بوصفها أدبا وفنّا، يجيء حاملا لرؤيا فلسفية إشراقية إلى الإنسان والعالم، أيضا طرق الأستاذ مفتاح موضوع تناسب جماليات الفنّ الإسلامي في كتبه “رؤيا التماثل” وأعاد قراءة تحوّلات البناء المعرفي للبلاغية والفلسفة وإشكالية الكتابة في نظرية المعرفة في الحضارة العربية، وفق منظور تلقّي نسقي تأويلي إبستمولوجي…
لقد اقتضى مثل هذا المسار المعرفي الذي انتهجه الأستاذ مفتاح في البناء والتشييد، تجدّد فعل الفحص العلمي النقدي للمفهوم وبراديغم المنهج وصرح النظرية، فغدا في أكثر من موضع من كتبه أو مقالاته العلمية المنشورة هنا وهناك، يبيّن ما طرحه في كتب ودراسات سابقة، وظلّ يعود باستمرار إلى شرح مدلول “التلقّي” والتلقّي النسقي”، و”التحليل النسقي” الذي يوفّر للباحث إمكانية النظر في مجموعة مهمّة من العناصر منفصلة ومجتمعة، تربط بينها خصوصيّة ما، تقرأ في ضوء “إبدال معيّن”، من خلال إدراك طبيعة السيرورة التاريخية المرجع، وهو ما من شأنه أن يساعد على المعرفة بخصائص “الأدب باعتباره نسقا”، أيضا خصائص “النسق الثقافي و”النسق الاجتماعي”، (انظر، النصّ من القراءة إلى التنظير، 2000، ص 49، 50).
وقد ظلّ الأستاذ مفتاح يختبر إبدال النظرية ومنوال التأويل في ضوء فاعليّة المفاهيم التي شيّدها مثل مفهوم “التناسب”، حيث نقل مبادئ “نظرية التناسب” ذات الأصول الرياضية الكسمولوجية الفلسفية، بما تعنيه من “مقايسة” و”استعارة” و”مشابهة”، لينظر في أمثلتها ونماذجها ضمن كتب البلاغة، وليثبت وجود التناسب بين أنواع من الخطاب ومقايسة خطاب على خطاب. واستنادا إلى ابن سينا وحازم القرطاجنّي أعاد مفتاح صياغة نظرية التناسب في بعدها الجمالي من جهة علاقتها بالموسيقى والصوت والنغم، ليوسّع عبرها مجال قراءة جماليات الشعر العربي، بوصفه غنائية كلام اتّخذ أسلوب إنشاء أدبي، استقام تناسبا وتناغما بين الإيقاع والموسيقى، وبين المعنى والأوزان وبين دلالات المعنى وتمثّلات حقيقة الوجود الإنساني وشكل علاقته بالكون وبالقيم الجمالية؛ كالمحبّة، والجمال ذاته، وبمصادر الإبداع التي من رحمها تتكوّن شعرية القصيدة والقول الشعري، مثل: “التناغم”، و”التخيل”، ذلك ما مثّل موضوعا محوريّا لكتابه “الشعر وتناغم الكون: التخييل، المحبّة، الموسيقى”، ومثّل لديه منطلقا معرفيّا إبستمولوجيا ساعده على صياغته نظريته العميقة حول الشعرية وقراءة جماليات الشعر العربي القديم والحديث، تلك التي ضمّنها كتابه الموسوعي “مفاهيم موسعة لنظرية شعرية؛ اللغة، الموسيقى، الحركة”، 3ج، (2010)، وظّف لتشييدها معرفة دقيقة بعلم الموسيقى والمنطق والرياضيات واللسانيات والأصوات ومعارف أخرى دقيقة، ليضع بذلك لبنة مهمّة في التأسيس لصرح نظرية الأدب، مدارها على فنّ الشعر العربي خصوصا، إذ تمثّل شعرية القصيدة وكيفيّة دراسة إنشائية أسلوبها وجماليات بنائها ولغتها المحور المركزي لاهتمام نظرية الأدب، التي صار لها من خلال هذه الأطروحة امتداد علمي نظري مجرّد خاض فيه الأستاذ مفتاح ضمن مدار “مشكاة المفاهيم”، وتربطها صلة متينة بفعل النقد وآليات تحليل الخطاب، سواء من جهة البحث عن المعنى والدلالة، أو من جهة رصد مظاهر الحسن وجمالية التركيب والإنشاء، وهو ما ظلّ العّلامة محمّد مفتاح يتابعه بالبحث والدراسة إلى آخر العمر، ولم يسجّل قط نهاية خدمة في مجال البحث والكتابة، إذ صدر له في العام الماضي ضمن السياق نفسه كتاب فريد في النقد المعرفي والقراءة ذات الآفاق المتعدّدة، وسَمه بـ “فلسفة النقد: مقاربة مركّبة”. قامت أطروحته على محاولة تبديد سوء الفهم الذي ظلّ محيطا بمفاهيم متداولة، تبدو إشكالية يصعب إدراك مستويات التداخل والتباين بينها، وهي “النقد”، التأويل”، “القراءة”، “التاريخ”، “الحقيقة” وفلسفة المعرفة والمفهوم..
هنا تجدر الإشارة إلى أنّه ليس المهمّ لدى الأستاذ مفتاح أن نحلّل دلالة القول وندرك جماليات الفن وشعرية الأدب، بل من المفيد أن نبحث للمعرفة عن وظائفها المثلى في الواقع وبالنسبة إلى حياة المجتمع وتدبير أوضاع الشأن العامّ وترتيب العلاقة مع الآخر، عبر الوعي بدور القراءة والمعرفة الخالصة في تشييد إنسانية الإنسان، وتحويل الاختلاف إلى أرضية للإنتاج والتواصل الخلّاق، فمثلا، من المهمّ أن ندرك بحسب ما يذهب إليه محمّد مفتاح: “أنّ ما (كان) يتغيّاه المفكّرون والبلاغيون من كتاباتهم وتأويلهم هو توحيد الأمّة وتوحيد الدولة”، ليتمّ تجاوز الخلاف عبر البحث عن المشترك، وتحويل الاختلاف إلى تنوّع داخل الوحدة. وهو ما يعني “أنّ الأوائل من علماء الأمّة ومفكّريها، كانوا يقرأون ويؤوّلون لا للمتعة (المعرفية) وحدها، أو لإثبات مهارتهم في استنباط القراءات الّلامتناهية، وإنّما كانوا يهدفون إلى توجيه التاريخ والمساهمة في صنعه” (التلقّي والتأويل، 8)، لنلاحظ مدى قيمة هذا الاستنتاج المتعلّق بالبعد الوظيفي للمعرفة في الواقع وفي حياة الأمّة، حيث بات ممكنا على حدّ عبارة الصديق محمّد الداهي القول إنّ الأستاذ مفتاح “كان يحرص عبر مشروعه على تحقيق كثير من الأهداف؛ ومن ضمنها تشييد منهاجية سيميائية مركبة وشاملة، وبلورة نموذج شامل للتحليل مستخلص من بنية الشعر المعقدة، ومحاجّة الأطروحتين الوضعية والتجريبية بالدفاع عن إنسانية الإنسان وتناغم الكون ووحدة الأمة”.
ولعلّ ذلك ما نجد له صدى بيّنا حاضرا في أغلب ما كتب الأستاذ مفتاح الذي ما فتئ ينحت المصطلحات ويشيّد المفاهيم ويبحث عن المشترك بين حقول المعرفة ومجالات الإبداع ومناهج النقد والقراءة، ذلك ما تتّضح معالمه من خلال الحفر في أطروحة مفهوم “النقد المعرفي” ضمن كتابه “مشكاة المفاهيم” (ط1، 2000)، حيث رأى أنّه لا معنى للانتصار لمنهج نقدي بعينه، أو الزعم بالتوفيق بين سائر المناهج والنظريات، وإنّما قد تتحقّق الفائدة عندما ترسي سفينة النقد والقراءة “عند النقد المعرفي على غرار الدلالة المعرفية وعلم النفس المعرفي والأنثروبولوجيا المعرفية، ويكون سداه ولحمته مفاهيم مستوحاة من المنطق والرياضيات واللسانيات والسيميائيات وفلسفة الذهن، وهي كما يدرك حكماء الأمّة علوم العصر”، ليصبح ممكنا عبر ذلك “إعادة الاعتبار لكلّ كائن بشري وأحقيّته في الحضارة والوجود، (أيضا) اعتبار التخلّف ظرفيّا ولا تاريخيّا ولا طبيعيّا”، (مشكاة المفاهيم، ص 278).
هكذا كان هذا المقال بمثابة إضاءات مختزلة، حاولنا من خلالها أن نطلّ على عالم المشروع المعرفي النقدي للأستاذ محمّد مفتاح في أبعاده البلاغية والفلسفية والسيميائية والعلمية النظرية والنقدية التجريبية، اعترافا بقيمة علمه الذي سيظلّ يمثّل لبنة مهمّة في صرح بناء النظرية النقدية العربية ومثالا لعمق التفكير في إمكانات القراءة المثمرة والتأويل الخلّاق للنصّ ولتحليل الخطاب ضمن الحقل التداولي للثقافة العربية المعاصرة، استنادا إلى منهاجية منفتحة على سائر حقول المعرفة لا تصادر الاختلاف، بل تبحث عن المشترك لتأسيس إنسانية الإنسان ولتدرأ الخلاف والصراع رغبة في تحقيق وحدة الأمّة وإرساء علاقة تعاون مفيد وتواصل خلّاق مع الآخر المختلف، انطلاقا من الوعي بوجود تماثل يجمع بين الذّات والآخر، إذ “الدّفاع عن فلسفة التماثل (هو عينه) أساس فلسفة الاختلاف”. تبعا لذلك تغدو أسمى غايات المبادئ المعرفية التي انبثقت عنها مؤلفات مفتاح والمنهاجية التي نظّر إليها، متعلقّة بمطلب “إيضاح تماثل آليات التفكير البشري لتماثل بنياته الذهنية، وإيجاد علائق وصلات بين كلّ ما في الكون، حتّى تنتشر روح التعاون والتسامح والأخوّة، وتُقَلَّلُ النزعات العرقية، ويخفّف التعصّب الفكري والديني”، (رؤيا التماثل، ص 7،5)… لعلّه عند هذا المقام تبدو مدى طرافة المشروع المعرفي العلمي للأستاذ مفتاح في مجال تشييد نظرية النصّ والتأسيس لمنوال النقد المعرفي والتأويل النسقي، ومن ثمّ القراءة المنفتحة الخلّاقة التي من شأنها أن تظهر معالم القيمة الحضارية والفكرية والإنسانية العالية لثمرات المعرفة وتجلّيات الجمال في النصّ والخطاب، أي لما يمكن أن تتأسّس في ضوئه روح معرفية منفتحة وخلّاقة تمهّد لظهور قيم مثلى ورؤى سامية تمنح المعنى للوجود وترتقي بإقامة الكائن في العالم عبر تجديد تمثّل ما تنعقد به إنسانيته.
ومن ثمّ أمكن الاستنتاج أنّ أعمال الرّاحل محمّد مفتاح، جاءت تحمل إضافة علمية نظرية إجرائية نوعية، لكونها أرادت أن تؤسّس للنقد المعرفي القائم على تكامل النظريات وتضافر مناويل القراءة والتأويل ضمن نسق معرفي متماسك الأجزاء والعناصر، دون وقوع في التلفيق، ذلك أنّها شُيّدت ضمن نموذج تحليل (Paradigme) جامع قائم على التوليف المحكم والربط الدقيق بين مفاهيم ومبادئ نظرية مقتبسة من معارف المنهج والعلوم الدقيقة، غرضه طرق كون النصّ وعالم الخطاب من زوايا نظر وفهم مختلفة ومتباينة، تجمع بينها وحدة المشترك العلمي ووحدة الكائن الإنساني المنتج للمعرفة والفن. وهو ما يعني أنّه جسّم بامتياز ولوج عالم الدراسات البينيّة (Interdisciplinarité)، التي تقوم على الجمع بين أكثر من اختصاص معرفي وآلية قراءة وتأويل. ومن ظلّ بعيدا عن الاقتباس السهل يرفض الانحياز للتطبيق الآلي للنظريات والمناهج الغربية الحديثة على النصّ العربي، إنّه يؤمن بخصوصية هذا النصّ، وينطلق من معرفة واسعة بالتراث وأمّهات مصادر النقد والبلاغة والفلسفة والتصوّف وعلوم العقل، وينفتح على النظريات الغربية السيميائية والفلسفية والتأويلية والعلمية في مجال الطبيعة والإنسانيات، ليشيّد تلك المنهاجية الشمولية التي تبدو ذات فاعليّة، ومجدية في قراءة التراث وفي تحليل الشعر والسرد، أيضا في فكّ أبعاد الخطاب التداولي الحجاجي في مجالات أخرى اتّصالية إعلامية وسياسية ودينيّة وثقافية عامّة. لذا انتهى ذاك التركيب المتماسك والتوليف الخلاق للمنهاجية الشمولية تشييدا عميقا ومتينا لمنوال قراءة وتحليل ذي أسس معرفية صلبة، تجعله مجديا وفعّالا في سبر أغوار النص والخطاب، عبر تجديد أشكال من التواصل والتفاعل مع جديد النظريات مع المختلف، مرجعه وعي عميق قائم على المساءلة المعرفية لمتن المنهج والفحص الإبستمولوجي لأسس النظرية، منفتحا باستمرار على أسئلة الهويّة ورهانات الحداثة وقيمها المثلى، متفاعلا مع قضايا الفكر الحديث في أبعادها المعرفية والوجودية والإنسانية.
الهوامش
المصادر والمراجع الأساسية:
– مفتاح (محمّد)، في سيمياء الشعر القديم، الدّار البيضاء، ط، دار الثقافة، 1989م.
– تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص، بيروت، الدّار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1985م.
– مجهول البيان، الدّار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط1، 1990م.
– دينامية النص (تنظير وإنجاز)، (ط1، 1987م)، بيروت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2006م،
– التلقي والتأويل: مقاربة نسقية، بيروت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994م.
– التشابه والاختلاف: نحو منهاجية شمولية، بيروت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1996م.
– الخطاب الصوفي: نحو مقاربة وظيفية، المغرب، مكتبة الرشاد، ط1، 1997م.
– المفاهيم معالم: نحو تأويل واقعي، بيروت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 1999م.
– النص من القراءة إلى التنظير، الدّار البيضاء، شركة النشر والتوزيع، المدارس، ط1، 2000م.
– مشكاة المفاهيم، بيروت، الدّار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م.
– الشعر وتناغم الكون: التخييل، الموسيقى، المحبّة، الدّار البيضاء، شركة النشر والتوزيع، المدارس، ط1، 2002م.
– رؤيا التماثل، بيروت، الدّار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط1، 2005م.
– “مفاهيم موسعة لنظرية شعرية؛ اللغة، الموسيقى، الحركة”، بيروت، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 3ج، 2010م.
– مساءلة مفهوم النصّ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، وجدة، المغرب، ط1، 1997.
– الدّاهي(محمّد)، تنسيق أعمال كتاب جماعي، “التأسيس المنهجي والتأصيل المعرفي”: قراءة في أعمال الباحث الناقد محمّد مفتاح، الدار البيضاء، دار نشر المدارس 2009م.
– محفوظ (عبد اللطيف)، وبن دحمان (جمال)، محمد مفتاح؛ المشروع النقدي، الرياض، الجزائر، منشورات الاختلاف، 2009م.