خليفة بن عربي
أكاديمي وباحث بحريني
المكان وأسئلة الذّات
يعمد الشّاعر كثيرًا إلى البحث عن الذّات وإجاباتها في حيّزٍ ما، يحاول أن يجعله المرتكز الّذي يدور في فلكه، ليعيد تشكيله وفق رؤيته الكامنة في ذاته، والمكان له تعلّق غائر بالذّات الإنسانيّة، حيث إنّه الفضاء الّذي يجمع ذاكرة الإنسان، وتاريخه، وماضيه، ومن ثمّ فإنّ التّعلّق بين الذّات الإنسانيّة والمكان لا حدود له، لأنّ “المكان هنا هو كلّ شيء، حيث يعجز الزّمنُ عن تسريع الذّاكرة … إنّ الإنسان يعلم غريزيًّا أنّ المكان المرتبط بوحدته مكانٌ خلّاق”(1).
وهنا تتشكّل العلاقة الجدليّة بين ذات الشّاعر والمكان، فالشّاعر بما أوتي من قدرة خلّاقة على تجاوز أطر التّعبير السّائدة، يعيد تشكيل ذلك المكان ليجعل منه علامة دالّة على فلسفته، ورؤيته، والملجأ الّذي يجد فيه إجابات الوجود كلّها، فضلا عن أنّ المكان هو الحقيقة الظّاهرة الّتي تربط الشّاعر بواقعه، وتجعله منجذبا نحو تفاصيل الحياة، ضمن إطار تخييليّ شعريّ ثرّ.
ذاكرة الأشياء:
“لا يتشابه الشّجر” عنوان يتّكئ على عنصر له اتّحاد عميق بالذّات والمكان جميعًا، على اعتبار أنّ الشّجرة مندغمة في غور الإنسان، فالشّجر هو الّذي يشكّل جماليّة المكان، والشّيءُ يخلق المكانَ بلا شكّ؛ إذ لا شيء إلّا وهو محدود بمكان يلمّه، ومن ثمّ بذاتٍ ملتصقة بذلك المكان، وبجميع سياقات الذّاكرة المكتظّة بذلك الشّيء/المكان، “إنّ ما يصل إلينا – وما يعلق في ذاكرتنا وما يبدو كشيء جوهريّ، لا يمكن اختزاله في مفاهيم عقليّة غير واضحة – هو السّلوك والحركة في حدّ ذاتها، كذلك الأشياء والانتقال والحدود الّتي تعيد الصوّرة لها (دون قصد) حقيقتها”(2)، ولذلك فإنّ الشّاعر يشير إلى تلك الخصوصيّة المكانيّة الّتي يُحدثها الشّجر في نصّ “لماذا الشّجر” ليختم ذلك النّصّ بقوله:
“لماذا يُعاودني في المنام الشّجرْ؟!
لماذا يكاد غريقًا؟!
لماذا الشّجر؟!
لماذا يشاركني الحلم ..
ذات الحُلم نفسُ الرّفيقْ
بذاك المكان .. بتلك البلاد؟!
لماذا القمر؟!
لماذا يكادُ ..
لماذا أكادْ؟!”(3)
يضع الشّاعر هاهنا الوطن (المكان) نقطة فارقة في توحّده مع الشّجر، فبعد أن أطلق عدّة استفهامات دالّة، كان ذلك الشّجر هو التّلاقي الحقيقيّ للوطن، والمشارك الوجوديّ لذلك المكان المكتظّ بالذّات والذّاكرة والحياة.
إنّ ذلك النّصّ وما حواه من دلالات متّحدة بالمكان، قد يفسّر لنا تداعيات عنوان الدّيوان نفسه الّذي هو عنوان بلا نصّ معنون به في الدّاخل، وأيضًا بقراءة مجموع نصوص الدّيوان، فالشّجر الّذي لا يتشابه هنا هو إيحاءٌ بذلك التّباين بين مساحات الذّوات البشريّة – أو الأنثويّة – الّتي يخاطبها الشّاعر في عموم النّصوص، وهو حين يناجي تلك الذّوات الّتي لا تبعد عن الرّمزيّة كذلك، فإنّه يجعل من المكان حيّزًا لتنقّل مشاعره وأحاسيسه وذاته، ولذلك فإنّ هذا التّباين يخلق ذاتًا متردّدة ومشاعر مرتبكة، يقول في قصيدة “تفاحة على النّهر”:
“أخاف ويملؤني رعبُ نفسي
ولا تستقرّ بي الرّيحُ، مهمومةً
لست أدري الّذي في هواي أريدْ
وتنتابني رغبةٌ بالمضيّ إليك بكلّيّتي
وتنتابني رغبةٌ بالمضيّ إليك بعكس الطّريقْ
أقولُ لعقليَ خذ جانبًا وانتحِي
لعلّي أفكّر كيف المصيرْ
وكيف أنال الرِّضا داخلي
وأيّ الرّضا ها هنا يُستحَبُّ؟”(4)
هذه الحالة من القلق والتّردّد عبّر عنها شاعرنا بكلّ وضوح من خلال ذلك العنوان، فلقد علّق ذاته ونفسه بالشّجر (الشّيء) المتداخل بالمكان، والّذي وشى بكلّ وضوح بما يكتنف نفسَه.
الذّات/المكان/الطّبيعة
مجمل النّصوص المكتوبة استخدمتْ رمزيّات الطّبيعة بوصفها عناصر يستمدّ منها الشّاعر جماليّات موحية، وهي تحمل في طيّاتها دلالات رمزيّة عميقة، إنّ خلف كلّ عنصر من عناصر الطّبيعة فضاءات من الدّلالات المفضية إلى مساحات تلامس ذات الشّاعر، وهي تُسهم كذلك في بناء الصّورة الشّعريّة الكُبرى لدى الشّاعر وإغنائها، حيث تصبح الرّموز متّحدةً مع مدلولاتها، لا يمكن إدراك المرمى من الصّورة دون الغوص في متلازماتها، ” فالرمز ثريُّ الدّلالة، منعدمُ القرين، لا يشتغل مفردًا ضمن ثنائيّة، ولا يقوم بوظيفة الإخبار. أما الاستعارة فإنّها بعكس ذلك، ولأجل هذا كان الرمز أعلى منها، لأنّه يؤسسُ العالم ولا يعكسه.”(5)
والعناصر الّتي استخدمها علي عبدالله خليفة في نصوصه تعبّر عن البحرين بتفاصيل دقيقة، لها إشاراتها الخاصّة بالبيئة البحرينية، والمتّصلة بذات الشّاعر نفسه، فالبحر وتوابعه من عناصر لا يكاد يغادر مجمل نصوصه، وحيث إنّ البحر له من رمزيّاته بما يدلّ على العمق، والفضاء الفسيح، وله من الثّنائيّات المتضادّة ما له، إلّا أنّ البحر له من تجربة الشّاعر ما يضفي على دلالاته خصوصيّة له، لذا فإنّنا نرى شاعرنا قد استخدمه ليرمز إلى عدّة تفاصيل، ولعلّ من أبرز تلك التّفاصيل هو التّماسّ الغائر بين البحر والمرأة، يقول في قصيدة “زبرجدة في إناء الورد”:
“لعصف الشّاطئ الفاصل ما بين الحدودْ
غبطةٌ يوحي بها ألق المُحيّا
وشموخُ امرأةٍ تكتم ما يُقدح في القلبِ ..
تُعادي زيت ما يهجسُ الوقتُ وما
ينبئُ ميلادُ حريقْ
جاء البحرُ من النّهر مع الوردِ
وأغصان الشّجر
وطأتْ أقدامُها رملَ الخرافاتِ
وأشجى قلبها نوحُ المآذن
واحتمال قُدّاس الخطرْ” (6)
الشّاطئ هنا يوحي بغبطةٍ وبشموخ امرأة، والبحر يلتف على أقدامها الواطئة رمالَه، الشّاعر يختزل هذا المكان المفعم بالذّكريات في ذلك الشّموخ الأنثويّ، مؤكّدًا معنى التلاقي بين المرأة والبحر.
ويلفت انتباهنا كذلك رمز (النّخلة) الّذي بدا حاضرًا في الدّيوان بكثرة، مكتنزًا بدِلالات المكان، وللنّخلة لأهل البحرين والخليج عامّة موقع مهمّ من حياتهم، فإنّها العنصر المُفضي إلى الإحساس بالرّاحة والأمان والفرحة والغبطة، بل هي ومضة الخير والعطاء والنّماء وسط البيداء القاحلة، يجد فيها الشاعر راحته وأمانه من قفر الصّحراء ووحشتها ووحشيّتها، ولذلك فإنّ تعلّقه بها أشبه ما يكون بتعلّقه بمكوّنات الحياة برمّتها، وكأنّها السّلاح الّذي يواجه به الشّاعر جنود الصّحراء: الخُضرة في مواجهة الصّفرة والقحول، والرُّطَبُ في مواجهة المجاعة والعطش، وظلّ السّعف في مواجهة حرارة الهجير، بل إنّها تمثّل الوطن في نظره، فلا يجد الرّاحة والسّكن إلاّ في أحضانها، والأمر نفسه عند فراق النّخلة، فهي فراق للمكان/الوطن، فيكون الأمر ضياعًا وتيهًا واضطرابًا.
إنّ استحضار رمز النّخلة يقود إلى التّفتيش عن مساقات الدّلالة المرتكزة في المجال الحركيّ والتّاريخيّ لها، ويسير نحو التّفكّر الوجدانيّ في معنى الصّمود والوقوف بشرف وقوّة وصلابة أمام المدّ العمرانيّ الإسمنتيّ القاسي الّذي قتل كلّ معاني العطاء والنّضارة والحبّ والأفق الممتدّ، ومن ثمّ فإنّ الشّاعر “يظلّ يحرّك النّخلة كلفظة لها بُعد إشاريّ واحد ذو دلالة رمزيّة ضيّقة هو ما تعنيه أو تدلّ عليه أو ترمز إليه، وهو الوطن، أو الشَّعب دائمًا. ولأنّ النّخلة تتحرّك لفظةً لغويّة أو إشاريّة أو رمزيّة ضيّقة، أي مطابقة لصورة الواقع، فإنّها تظلّ محتفظة بكلّ ما حولها ويتّصل بها من ذلك الواقع الّذي تتكامل معه وبه مشهدًا طبيعيًّا ذا بعد واقعيّ”(7)، ومن ثمّ فإنّ تجربته الفنّيّة تبقى ملتصقة بالواقع وبالمكان، فتكون النّخلة هي البُعد الواقعيّ الجميل الّذي يتوق له الشّاعر ويحاول استحضاره من ذاكرته ووعيه الدّاخليّ، إزاء الواقع المرير الّذي يفرض نفسه بقسوة وعنف، وهي الخضراء الجميلة الّتي تجعل من المكان بهيًّا حالمًا جميلا يحسُن المُقام فيه والرّكون إليه.
في قصيدة “نافذة”، تقف النّخلة في عمق المكان بكثرة عدديّة لتكوّن صورةً حيّة لفسيفساء المكان، يقول:
“وكان المكانُ حميمًا
يُطلُّ على فسحةٍ في الطّريقْ
تحدَّثْتُ عن شُعلةٍ في البعيدْ
وعن قاربٍ في المضيقْ
وراهنتُ خمسَ نخيلاتِ حبٍّ
على موسمٍ للحنينْ”(8)
فالنّخلاتُ هي الّتي قدّمت الحبّ والحنين إلى ذلك المكان، وهي الّتي أعطته ذاكرته الّتي لا تنضب. ويقول في قصيدة “كان البنفسجُ حاضرًا”:
“من وجد نخل الدّارِ ..
من قلبي، ومن سِهِرِي
كتبتُ بيتًا من الشّعر للقمرِ
أوتيتُ كلَّ أشواقي به
وحوى أرقّ ما يُفضي به عشقُ(9)
نرى أنّ النّخل في هذا المقطع قابع في صميم الدّار، والدّار مكان البدايات، ومهد الطّفولة، ومحطّ الذّاكرة الجميلة، فالنّخل في وجدان الشّاعر وذاته هو بداية البدايات، وهو بداية النّصّ، وأوّل الحبّ.
إنّ الشّاعر حين يستخدم أيّ عنصر أو مظهر من مظاهر الطّبيعة “يريد أن يخبرنا عنه بشيء ما، وقد يكون هذا الشّيء ملاحظة أو شعورًا نشارك نحن فيه الفنّان، ولكنّه غالبا ما يكون اكتشافا أصيلا حقّقه الفنّان، ويريد أن يوصلنا إليه”(10)، وهذا ما حقّقه الشّاعر في استثماره لتلك العناصر، ليجعل من المكان يعجّ بالحضور العميق في تجربته.
لهذا المكان
من النّصوص اللّافتة في الدّيوان نصّ بعنوان: “ذاكرة المكان”، هذا النّصّ يتناول بشكل مباشر تأثير المكان على ذات الشّاعر، فهو نصّ يمتلئ بكلّ سياقات المشاعر الّتي تتراكم في نفسه جرّاء ما يخلّفه المكان من ذكريات وشخوص، وهو في مفتتح هذا النّصّ يقول:
“لهذا المكان رائحةٌ
من خليط (العودِ) (والصّندل) (والكادي)
وزهر البيلسانْ
لهذا المكان شكلُ أناسٍ
متراصّين بثياب بيض
يؤدّون صلاة الفجر قبل الأذانْ”(11)
العلاقة الأولى الّذي قرّرها الشّاعر هنا هي علاقة الرّائحة بالمكان، حيث إنّ للرّائحة في تحفيز الذّاكرة أثرًا كبيرًا جدًّا، وخصوصًا تلك الرّوائح الّتي أشار إليها، والّتي اعتاد الإنسان البحرينيّ أن يشمّها في أركان بيته، ثمّ ينتقل إلى التّخييل الذّهنيّ لارتباط المكان بأشكال البشر.
ثمّ يستمرّ في سرد ذاكرة المكان فيقول:
“لهذا المكان
لونُ ما يدفع القلبُ به حيًّا إلى العروقِ
فيَلقَى في الجذر بالياسمينِ
ليعطيَ وجه الحياة حنوّ الأمانْ”(12)
المكان هو حياة القلب، ودماء الشّرايين، ووجه الحياة، وأمان الرّوح، هنا يجعل من ذلك المكان – أيًّا كان – ذا ارتباطٍ عزيز في ذاته ومخيّلته. ويستمرّ في بقيّة النّصّ ليخبرنا أنّه في هذا المكان تعلّم فنون العشق، وكيف غرس الحبّ ُفي فؤاده بذرته فظلّ مؤجَّجًا فيه، إلى أن يقول في خاتمته:
“من بعدِ خمسين من العمرِ
أعودُ وقد شاخَ التّرابُ ..
تآكلتْ بيوتْ
وقاومتْ بيوتْ
وقلّةٌ من المنازل القديمةْ
صارَت حوانيت وساحاتِ انتظار
مشيتُ، ما كان للرّيحان ذاك العبقُ المشبوبُ
ولا رائحةٌ حافلةٌ للبَهارْ
أمعنتِ الأيّامُ في التّهديمِ، فما تبقّى لنا
رسمٌ نقشناه بالفحمِ
لا، ولا ضوءُ شُبّاكٍ بعيدٍ خَفوتْ
أكادُ لا أستجمع الأطيافَ من حولي، قد غُيِّبَتْ
أشياءٌ ما كان لها أن تموتْ”(13)
العودة هنا كانت قاسية، فالمكان قد فقد مكانته بمجرّد أن اختفت تلك الرّوائح، ومن بعد ما تهاوت الجدران، ومن بعد أن انحسر ضوء شبابيك الخافت، الذّي على الرّغم من ضآلته، إلّا أنّه كان يبعث في النّفس أمل الحياة كلّها، فالمكان لا قيمة له بلا أشيائه، وبلا كائناته العتيدة.
إنّ تجربة علي عبدالله خليفة في ديوانه: لا يتشابه الشّجر” تعدّ تجربة ناضجة، استطاع من خلالها أنّ يجعل من المكان كونًا موازيًا لذاته، واستطاع أيضًا من خلال أدواته الشّعريّة أن يضع المتلقّي في دائرة من التّداخل الرّوحيّ والشّعوريّ مع عناصر المكان، وهذا ينمّ عن الشّاعريّة القديرة الّتي يتحلّى بها شاعرنا، وعمق التّجربة المكانيّة الّتي عبّر عنها في ديوانه بكلّ صدق.
الهوامش
-1 غاستون بلاشار، جماليّات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للنّشر والدّراسة والتّوزيع، بيروت، لبنان، الطّبعة الثّانية،
-2 بطرس الحلّاق: المكان والأدب في الرّواية والمسرح، ضمن كتاب: شعريّة المكان في الأدب العربيّ الحديث، لمجموعة من الباحثين، المركز القوميّ للتّرجمة، القاهرة، مصر، الطّبة الأولى، 2014، ص: 12.
-3 علي عبدالله خليفة: لا يتشابه الشّجر، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى، 2005، ص:54.
-4 السّابق، ص: 81-82
-5 أحمد بلحاج آية وارهام: دلالات الماء في شعر عبد الكريم الطّبّال، مجلّة عنود النّدّ، العدد 90: 2013/12.
-6 علي عبدالله خليفة: لا يتشابه الشّجر، ص: 7.
-7 علويّ الهاشميّ: ما قالته النّخلة للبحر.. دراسة للشّعر الحديث في البحرين، المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الثّانية، 1994م، ص:80.
-8 علي عبدالله خليفة: لا يتشابه الشّجر، ص: 115-116.
-9 السّابق، ص: 149-150
-10 هربت ريد: معنى الفنّ، ترجمة سامي خشبة ومراجعة مصطفى حبيب، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1998م، ص: 112.
-11 علي عبدالله خليفة: لا يتشابه الشّجر، ص: 25.
-12 السّابق، ص: 26
-13 السّابق، ص: 29-30.