خالد طحطح
في كِتابِه «المَشْيُ فَلْسَفَةً» يتناول المؤلف فريديريك غرو حياةً أوسعَ وأعمقَ وأغْنى، حَياةً مجانِيَّةً توجدُ في الجِوار، فهي لا تتطلَّبُ أيَّ تعليمٍ مُسبقٍ أو مالٍ وفيرٍ، وإنَّما تتطلَّبُ فقط جسدًا وفضاءً ووقتًا وحِذاءً رياضيًّا. ولا تحتاج سوى المبادرة إلى الخروج في نزهةٍ عامّة بعيدا عن الفضاءات المغلقة. ستقف وأنت تُطالع هذا الكتاب على جوهر فلسفة المشي، من خلال تشعب معاني المسير في تأملات العديد من المفكرين والفلاسفة الذين جعلوا من المشي هوايتهم المفضلة، أمثال روسو وكانط ورامبو وثورو وهولدرلين ونيتشه.
لا يمكن لأي عمل أدبي أو تاريخي أو أنثروبولوجي يتحدث عن المشي تجاهل مؤلفات الكاتب السويسري الأصل الألماني الدار روبرت فالزر، حيث تتلاقى العديد من الخطوط التقليدية للنموذج السلوكي في نصوصه. يُعامل النموذج السَّردي للمشي عادة كفئة مستقلة ذات مواصفات خاصة. وقد ساهمت أعمال الكاتب فالزر بشكل أساسي في تمييز هذا النوع، فجميع نصوصه تقريبًا مستوحاة من موضوع المشي، وغالبًا ما يتم تقسيم أعمالهِ إلى قطع مشائية.
زاوج فالزر بين الكتابة والخروج في نزهات يومية، فرغم أنه شخص مريض غالب الأوقات، إلا أنه كان كاتبا جيدا، أشرك القارئ انطباعاته وعواطفه، فالراوي فالزر لا يترك مجالًا للشكِّ على أنه يمشي على الورق، إذ العمل الأدبي عنده لا يغدو ممكنًا إلا في حالة المشي. يُلفت فالزر الانتباه إلى العلاقة الموجودة بين المشي وفعل الكتابة حين يعبر قائلا: «بدون الخروج في نزهة وجمع التقارير لم أستطع تقديم أي تقرير». هنا، يحضر المشي إلى جانب الكتابة بوصفه نوعا موازيا، يتكشف من خلاله النص خطوة بخطوة مع شخصية المشّاء، ويتطابق وقت السرد والوقت المروي إلى حد كبير. إن أصابع القدم تنتصب لكي تستمع في حالة فالزر، وما فتئ يؤكد على هذه المسألة في كتابه «مشوار المشي» فتراه يردد: «أنا بالتأكيد يجب أن أذهب في نزهة (…) لكي أكتب (…) سأكون ميتًا دون أن أذهب في نزهة على الأقدام «.
تختصر لنا سيرة فالزر المؤثرة -والدراماتيكية إلى حد بعيد- حكايته مع مشوار المشي والكتابة. فهذا الأديب المزدوج اللسان والجنسية (سويسري-ألماني) توفي سنة 1956 في مصح هريسو بسويسرا عقب مشوار مشي مرهق في ليلة ثلجية باردة، فحق أن نطلق عليه «شهيد المشي». كان فالزر قبل هذه الحادثة المؤسفة مُداوما على مشاوير المشي الطويلة بالتزامن مع تطويره أسلوبه وموضوعاته، وقد عانى من نوبات اكتئاب شديدة في مراحل مختلفة من حياته، انتهت بتدهور حالته العقلية ودخوله مصحة خاصة بالعلاج النفسي سنة 1929. ظل في هذه المصحة النفسية معزولا عن العالم مما زاد من انفصامه عن الواقع وتكررت نتيجة لذلك محاولات انتحاره.
طوال الفترة التي قضاها فالزر في المصحة، والتي تقارب الثلاثة عقود، داوم خلالها على المشي وحيدا ولساعات طويلة. فهو لم يكن يُغادر غرفته بالمشفى إلا لمتابعة مشوار المشي الذي غدا عنده طقسا مقدسا، وحين عودته يعكف على تدوين ما شاهده من بشر وحجر ومناظر ومعالم. كل مشوار مشي لفالزر هو بمثابة نص وصفي لتفاصيل رؤاه وحواراته مع الآخرين وتأملاته الذاتية، ومما افتتح به كتابه «مشوار المشي» قوله: «أحيطكم علما بأنني في يوم جميل، قبل الظهر، لم أعد أدري في أي وقت بالدقة، حضرتني رغبة في أن أتمشى، فلبست قبعتي، وغادرت غرفة الكتابة. كنت متلهفا إلى كل ما قد يصادفني أثناء مشوار المشي أو يعترضني».
بدون شك، تغير المنظور للمشي كثيرًا في العقود الأخيرة، فقد غدا مجرد نشاط ترفيهي لدى البعض وطالما اعتبر نمطا لسلوك برجوازي مميز، وفي بعض الأحيان قد يرقى إلى النشاط الرياضي الأدنى الممتزج بالتسلية. يُثَمِّن المخيال المعاصر بشكل كبير فكرة الحاجة العَمَلِيَّة للمشي لأجل تكسير قواعد الروتين اليومي والحفاظ على صحة الجسد. كما أنه يبعث على انتعاش النفس، ذلك أن المشي هو قبل كل شيء رحلة طويلة في الهواء الطلق لاكتشاف البلد والتمتع بالوقت من غير هموم، وفي كل مرة ينفتح مُمارس المشي على تجربة جديدة وعلى تحول سعيد للذات. وهذا الأمر هو الذي جعل دافيد لوبروطون أستاذ علم الاجتماع بجامعة ستراسبورغ يُعيد سرد قصة المشي وتبيان فلسفات المشي في مؤلفاته الثلاثة التي خصصها لهذا الموضوع تحديدا، وهي:مديح المشي (2000) والمشي: مديح مسالك التؤدة (2012)، والحياة مشيا على الأقدام: فن السعادة وإعادة بناء الذات (2020)، والكتاب الأخير ترجمه فريد الزاهي إلى اللغة العربية، وصدر سنة 2022 عن المركز الثقافي للكتاب.
تتعدد المسارات الخاصة بالمشي، فهناك مُدمن الأفق، والماشي السريع، والماشي المتجول، والماشي المتأمل، والماشي المتفلسف، والماشي المتجول. ومن المستحيل أن نفصل فعل المشي (الموضوع) عن المكان الذي يُزاول فيه (المسار)، والطريقة التي يتم تجربتها به (البطء أو الإسراع). يتقاطع الثالوث السابق دائما، وقد يتحول إلى أسلوب حياة.
أثناء مسيرة المشي تحضر الدوافع الجمالية، فهي أساسية، إذ نستمتع بالمناظر الطبيعية ونتمعن فيها بشكل أعمق حين نمر وسط الغابات أو بجانب البحار أو الأنهار، وخلالها نكتشف عالم البَرِيَّة، فكثيرا ما نلتقي في المسارات بحيوانات حية أو ميتة (أحيانا مسحوقة). وتتحقق خلال مسيرة المشي أيضا الدَّوافع الروحانية، فالمشي أفضل طريقة للتخلص من القلق وحالات التوتر، فهو يبعث على الهدوء النفسي ويمنح للفرد السكينة والإحساس بالسعادة والنشوة. ولا ننسى أن عددا من المؤلفين تشكلت بعض أفكارهم وهم بصحبة «رفاقهم على الطريق»، من خلال المناقشة المثمرة ومتعة الحوار الهاديء. فهناك من لم يكن يعرف كيف يفكر دون أن يمشي.
في القرون الماضية كانت الأجيال الشابة تقضي أيامها في الأنشطة البدنية التي تشجع على التضامن وعلى الانفتاح والتفاعل المباشر، أما الآن فنلتقي بشباب جالسين جماعة، وكل واحد منهم منهمك في «الشات» وتبادل الرسائل الإلكترونية والصور والفيديوهات. يفرض المشي نفسه اليوم على الناشئة باعتباره مبدأً تربويًا يصالحهم مجددا مع ذواتهم ومع المحيط والعالم، ويمنحهم مذاق الحياة المفقود. فالأقدام هي مصدر تعليم للنفس، والقيام بالخطوات لبضع ساعات تخلِّص المرء من الرتابة المهنية والمنزلية، إذ ارتياد المسالك والدروب يعني أخذ الإنسان لعطلة من قصته الشخصية وتاريخه وهواجسه، والانصياع التام للطريق، ذلك أن المشّاء يتنفس الصعداء حين يتحرر مبدئيا من سطوة الهاتف لينفتح على محيطه البيئي وعلى اللقاءات والزمن الذي يمر، إنه يتملك نفسه بسيادة كاملة.
كتابات لوبروطون الثلاث هي دعوة ضمنية للحث على المشي، إذ تحمل سطورها تشجيعا حثيثا للقارئ على إدمان السير على الأقدام واستكشاف كل شيء خطوة بخطوة، وهو يعلم أن مهمته صعبة التحقق للمفارقة التاريخية التي نعيشها في زمن السرعة، ذلك أن السكون والكسل وملازمة الهواتف وكراسي المكاتب وحمل الأجسام في السيارات صارت قاعدة متينة.
صارت البشرية جالسة على الدوام، ترزح تحت ثقل الجسد. فكثرة المشاغل وتعدد المشاوير تدفع بالأفراد دفعا لركوب المواصلات ربحا للوقت، لذا يجب إعادة تنشيط حركتنا مجددا من خلال بدء مشوار المشي ثانية، وأن نعتبره سفرا دوريا. فالذهاب إلى هنا أو هناك مشيا على الأقدام هو أفضل سفرٍ رحليٍّ، إذ نمسح أجزاء من العالم بخطواتنا في تؤدة، من خلال التقيد بالمسارات المتاحة والممكنة، ونهجر خلالها الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي، فتتغير بذلك علاقة أجسادنا بالزمن والغير، وتستعيد كياناتنا وجودها الفعلي لتصبح عيانية. فتبدو الأمكنة المرئية تجارب شخصية تنفلت من التجريد الذي يطبع الخرائط، لأن المَشاهد تتجسد في الذكريات. فلا أحد يستطيع تملك منظر طبيعي إلا بالمشي والتنزه سيرا على الأقدام.
أراد لوبروطون أن يعلمنا مجددا كيفية المشي، الذي هو بكل بساطة وضع قدم أمام أخرى، وإتْباع خطوة بعد خطوة حتى يجد المرء إيقاعه الخاص به. لا يوجد أي إنسان لم يقرر يوما قطع مسافة معينة سيرًا على قدميه، إما لأجل التوجه إلى المدرسة أو إلى مقر العمل أو لزيارة صديق.
يُعيد لوبروطون النظر في الدعوة إلى المشي وبدء حركة الإنسان الذي كان منذ زمن سحيق حيث كان الفرد يدرك العالم وأعمق جزء من نفسه بواسطة قدميه، وآنذاك لم يكن المشي حظوة وامتيازا وإنما ضرورة ملحة. في وقتنا الحالي غدا الإنسان ينتقل من سريره ليجلس مباشرة في سيارته، لتمضي به في اتجاه المكتب الذي يشتغل فيه، ثم يعود راكبا ثانية إلى بيته ليقضي ما تبقى له من وقت مسمّرًا أمام شاشة تلفزيونية معلقة قبل أن يتمدد مجددا على الفراش وهكذا دواليك. بهذا الوضع الروتيني المتكرر تتجمد الأقدام وتتعود السيقان على الكسل، فيتوقف الجسد تدريجيا عن الحركة وكذلك العقل. لقد صارت البشرية قعودة في مكانها وتعاني اليباس مللًا، كما أصبح الجسد سكونيا يتحرك في حده الأدنى، وذلك بفضل اللجوء إلى مواصلات وآليات تقنية تعوض النشاط البدني. فبعد أن كان الجسد يحملنا وينقلنا من مكان لآخر صرنا نحمله وننقله معنا في وسائل النقل والمصاعد الكهربائية والسلالم الميكانيكية والأرصفة المتحركة، فلزوم الناس أماكنهم لفترات طويلة أمام حواسيبهم وهواتفهم النقالة أو أمام مقود سياراتهم أو في مكاتبهم أو أماكن عملهم أضحى من الهموم الصحية العمومية العالمية، وبدون استعادة عادة المشي يوميا سيتحول إنسان اليوم إلى إنسان مُحدودب.
الطريق إلى الذات ينجح بشكل أفضل خلال المشي لا أثناء البقاء في مكان ثابت، فالسائر يبحث عن الطريق إلى وجوده. بهذا يكون الشغف بالمشي نقيض النزوع المعاصر نحو السكون والثبات والخضوع للتقنيات. المشي هو احتفاء بالجسد والحواس والعواطف واستثارة للشخصية بكاملها وحضور نشط في العالم، وحده المشي يُصالح بين الحياة التأملية والحركة الجسمانية. لذا يجب أن يستمر الفرد في المشي حتى أرذل العمر، وأن لا يتخلى مطلقا عن المشي أسلوبا للحياة.
يمزج الشغف المعاصر بالمشي معاني متعددة في ذوات المشاة، فهناك الرغبة الدفينة في إعادة اكتشاف العالم من خلال الجسد، والانفصال عن الحياة الروتينية المفرطة، وتعليق هموم اليوم، والرغبة في التجديد والمغامرة. يتطلب المسير دائمًا ثلاثة أبعاد زمنية على الأقل: أولًا نحلم بها، وثانيا نحققها، وثالثا نتذكرها لاحقا. وحتى عندما تنتهي مشاوير المشي، فإنها تعيش في الذاكرة من خلال القصص التي نرويها للآخرين.
يبرز المشي اليوم كنشاط أساس للم شمل الجسد والآخرين. إنه يندرج في مجال مشبع بالطابع الاجتماعي والثقافي، ويشد المرء إلى استعادة اللقاء بالعالم. فمن خصائص المشي أنه يستعيد كثافة الحضور، فهو أداة للقاء والتفاعل مع الأقارب والأصدقاء، إذ يكون المرء خلال هذه اللحظات منتبها بكل حواسه ومستعدا للاستماع لمرافقيه ومشاطرتهم همومهم في غياب إزعاج الهواتف الخلوية. الشحذ الكامل للحواس على طول مشوار الرحلة والاهتمام بالبيئة المحيطة والإحساس الذي يعيشه المشّاء بانصهاره في المجال والاندماج يبعث الروح في الجسد، فيغدو هذا الأخير شفافا للجمال المحيط به.
إن جغرافيا المشّاء هي جغرافيا عاطفية، فطوال اليوم تتوالى العديد من المشاعر تبعا لحالات التأمل والأمكنة التي يعبرها الفرد على قدميه. ثمة العديد من المشّائين يُحسون بأنهم محاطون بالعديد من أنواع الحضور، وفي علاقة دائمة مع محيطهم البيئي، فالرفقاء الحقيقيون للمشائين هم الأشجار والأعشاب والصخور وأشعة الشمس والسحاب والأنهار والبحار والجبال، ففي هذا الكل تسري الحياة.
من خلال الاستشهاد بالعديد من المؤلفين من جميع الأزمان، ومن جميع الأماكن، يؤكد لوبروطون على أهمية حضور المناظر الطبيعية. فكل منظر بانورامي أو تاريخي أو ديني يعد مصدرًا للصفاء لأولئك الذين ينفتحون على جمال الأمكنة. عندما ينفتح الإنسان على المسارات التي يسلكها، فإنه يختبر دقة الضوء، وثخانة الصمت الذي يستمع إليه، ونكهات الحواس في جسده الذي يمكن أن تهتز له جميع إدراكاته في انسجام مع أعمق ما في نفسه.
المشي هو، في الأساس، وسيلة للإنسان ليجد نفسه، فكل واحد منا يعثر على ذاته عندما يمشي على البحر، أو يتجول وسط الغابات، أو يتسلق الجبال. المشي هو استعادة للوقت الذي لم يعد، الوقت الذي لا تتخلله مهام وعادات اليوم، وهو وقت قد يمتد ليشمل التجول والانفصال عن الضجيج وعن الساعة وعن وسائل التواصل الاجتماعي وعن الملل اليومي. وهنا لا يعود للوقت أي قيمة، ذلك أن المشّائين يلتهمون الوقت ويبطئون إيقاع العالم، فالتوقف لتأمل منظر طبيعي أو التمتع بمحادثة مع رفيق أو إزاحة حجر من الطريق تمنح الفرد نشاطا وحيوية وتلذذًا باللحظة المتسمة بالثراء والبطء والتؤدة والانغماس لحد الذوبان. ويقص لوبروطون في هذا السياق حكاية الراهب الذي سمع شدو عصفور فتبعه غير عابئ بالوقت الذي يمر. وحين عاد إلى ديره، كان قد صار أطلالا مهجورة منذ وقت طويل، فلقد اقتفى الرجل أثر العصفور مشيا لمدة قرون من غير أن يدرك ذلك.
الثناء على المسارات الممكنة والبطء في المسير هو تثمين للمشي ومدح للتؤدة. فحتى لو لم يعد المرء يتمشى كثيرًا، فيمكنه، على الأقل، التجول في المدينة ومراقبة حركة المارة وتفاصيل الواجهات بحثًا عن أي علامة قد تحيل على الحياة السعيدة و إبهار اللحظة. لاشك أنه عبر التجول في المدينة تكتشف عينيك طبقات مختلفة من تاريخها مما يجعلها حاضرة في الزمن. ولهذا فالثبات الجغرافي الذي نشاهده في الفضاء المعقم لصالات الرياضة الخاصة بالمشي أو العدو على بساط متحرك لا يضاهي التنزه على الأقدام في الفضاءات المفتوحة، إذ يظل مرتادو هذه الصالات غارقين بشكل افتراضي فيما يشبه المنظر الطبيعي، لكن عيونهم مثبتة على شاشات هواتفهم والسماعات ترجُّ آذانهم. إن النزوع للثبات والخضوع للتقنيات في القاعات الرياضية المعزولة عن الهواء الطلق والمناظر الطبيعية ليس سوى واجب قسري إزاء الصحة وحسن المظهر، ولا يتحقق فيها الهدف المنشود من المشي على الأرض، حيث الاحتفاء بالحواس والعواطف والعالم واكتشاف أماكن كانت ستظل مجهولة لو اكتفى المرء بملازمة مكانه.
هل لا زال الإنسان يفكر بقدميه بتعبير نيتشه؟ وهل ما زال قادرا على الحلم بالمشي أو المشي لمسافات طويلة أو على الأقل التنزه سيرًا على الأقدام؟