رضا عطية
اتسم النص الشعري للفلسطيني زكريا محمد (1950 2/ أغسطس/ 2023) بمجموعة من الخصائص التعبيرية والسمات الجمالية ما جعل له شخصية فنية مميزة الملامح، حيث تبدت مجموعة من الموضوعات كثيمات حاضرة في الخطاب الشعري لزكريا محمد مثَّلت همومًا وجودية شاغلت وعيه كمبدع أمسى الشعر لديه أداة جمالية ووسيلة تعبيرية عن الذات في حضورها الفرد وكذلك الإنسانية في مواجهة المسائل الفلسفية الكبرى، ورغم حضور فلسطين في خطاباته، لكنَّ هذا الحضور تجاوز الخطابات التقليدية التي تغنت بالقضية الفلسطينية بمباشرة وخطابية في كثير من الأحيان، كما اتسم الأسلوب الشعري لزكريا بشكل ميَّزه، يقوم على التجريب الواعي في بنى القصيدة، ورغم تكرار قضايا بعينها في خطابه الشعري، غير أنَّ أسلوب زكريا محمد بدا كأنَّه تنويعات تعبيرية على موضوعات بعينها، وبدا الشعر تأملًا فلسفيًّا وتساؤلًا حول المعاني والأفكار الوجودية الكبرى.
ديالكتيكية الوجود
في خطاب زكريا محمد الشعري تَمثُّلات رؤيوية لسر الكون ولغز الحياة وديالكتيكية الوجود، حيث يتشكل العالم ويتكوَّن الوجود من تفاعل ثنائيات قطبية متقابل كالحياة والموت، الوجود والعدم، الليل والنهار، الحركة والسكون، وغيرها، فيبدو الشعر هو معاينة فلسفية بوسائل جمالية لمثل هذه المكونات الوجودية، ويمضي الشاعر متتبعًا ومتأملًا تفاعل الأضداد وصيرورة هذا الجدل الوجودي في تشكُّل ديالكتيكي لجوهر العالم.
من أكثر الثنائيات القطبية حضورًا في منظومة التأمل الفلسفي في الخطاب الشعري لزكريا محمد، الوجود والعدم والحياة والموت:
«يعلم الله أنّني شجرة، وأنّك أختي في الرضاعة. ويعلم الله أنّك أنتِ الريح التي تذرّي قمح أخيها، والنجمة التي تكفّنه. عرفت الحجر قبل أن أعرف ذاتي. قبضتُ حفنة طين وقدّست بها مفرقي. ولست على يقين من أنَّ أنين النّاي سيبقى بعد أن يفنى الوجود. الوجود كلمة في لسان العرب، والعدم أخوها في الرّضاعة.
كان من الأصلح لي لو أنّني قُتلتُ في الثلاثين. كنتِ وقتها بكيتني كما بكت خندق حبيبها خميسًا بعد خميس. كنتِ زرعتني نبتة في الأصيص.
تركت لكِ شالي على كتف المقعد ثم مضيتُ في هيماني الطويل. تركت لك عظاءة بعين دوّارة على السياج، وغرابًا يدّق البنّ في المهباج.
وفى هيماني مررتُ بقبر مالكٍ بين اللوى فالدكادك. لكنّني لم أبكه. أنا غير قادر على البكاء. لقد ولدت من دون جينات البكاء. وفوق هذا فقد ضيّعني تكرار الدال والكاف في الدكادك. أنا ضائع فيكِ، وضائع في طريقي، يعلم الله أنكِ مدينة، وأنّني أخوها في الرّضاعة. يعلم الله أنّك حفنة طين، وأنّني أملأ بها محجر عيني».
الشعر عند زكريا محمد هو تدفُّق غنائي، متلاحق في بث التلفظ الشعري، إيقاع سريع للخواطر التي تزجي الوعي وقد تخرج من تضاعيف اللاوعي، هو انفجار تعبيري باللغة عن حال الذات في وعيها بنفسها ورؤيتها لعالمها وتَمثُّلها للوجود، هو حالة من التداعي السوريالي الذي لا يعني تغريبًا في اللغة، أو قطعًا للصلة بين الدال والمدلول، وإنَّما الشعر هو تهويم فلسفي نتيجة تدافع الأفكار التي تسعى لأن تسبر أغوار الوجود وتميط اللثام عن سره.
يعتمد زكريا محمد بنية الوحدة التدويرية، في معظم قصائده، حيث نظام الفقرة لا السطر هي وحدة الانتظام القولي، وهو شكل نثري أكثر منه شعري، لكنَّ زكريا يستعمل هذا الشكل ليستوعب هذا التدفق المنهمر لتداعيات التفجُّر السوريالي في موجات متتابعة هادرة تبدو تمثيلات لتدافع الأفكار.
في خطاب زكريا الشعري، أحيانًا ما يكون ثمة آخر، يخاطبه ويوجِّه إليه حديثه، أيًّا كان هذا الآخر، قد يكون الآخر هي امرأة ارتبط بها أو قد تكون مدينة ارتبط بها كأريحا، أو تكون ذاته الأخرى، ويتبدى كما في هذا المقطع أنَّ الذات تُعرِّف نفسها قياسًا لهذا الآخر أيًّا كانت هويته. كما يتجلى كثافة حضور عناصر الطبيعة البكر في تشكيل عوالم التصوير الشعري لدى زكريا محمد، كالشجرة والنخلة والماء والطيور وخصوصًا الحمامة، فيبزغ لديه مبدأ وحدة الوجود، في اتصال الذات بالطبيعة والتصاقها بها، حد التلبس بها.
يتبدى في خطاب زكريا محمد تشبعه الثقافي بتراث الشعر العربي، حتى أنَّه يجادله وكذلك نصوص الشعر والغناء الحداثية، كما في إقامته تناص مغاير لقول جبران خليل جبران في قصيدته الهَيْرة التي تغنَّت بها فيروز، “أعطني الناي”: (لست على يقين من أنَّ أنين النّاي سيبقى بعد أن يفنى الوجود) في تعميق الشك في خلود الأثر الفني والجمالي للناي أو بالأحرى أنين الناي، الذي يبدو معادلًا لأنين الذات الإنسانية.
كما يبدو الموت والعدم حاضرين بشكل لافت في خطابات الشاعر، كما يبدو الشاعر سائحًا، هائمًا، في انطلاق سوريالي ليس في المكان فحسب وإنَّما في الزمن أيضًا، عبر رحلة يقطعها تهويمه المارق، إذ يقيم تناص تخالف مع الشاعر العربي القديم المخضرم، متيم اليربوعي، في رثاء أخيه مالك:
لقد لامني عند القبور على البكا
رفيقي لتذرافِ الدموع السوافكِ
أمِن أجلِ قبرٍ بالملا أنت نائحٌ
على كلّ قبرٍ أو على كلّ هالك
فقال أتبكي كل قبرٍ رأيته
لقبرٍ ثوى بين اللّوى فالدكادك
فقلتُ له إن الشجا يبعثُ الشجا
فدعني فهذا كلُّه قبر مالكِ
فيستعمل زكريا محمد في تعاطيه مع الشعر، حديثه، كما مع نص جبران خليل، جبران، وقديمه، كما مع نص متيم اليربوعي، أسلوب “البارودي” أو المحاكاة التهكمية، إذ يقول: (وفى هيماني مررتُ بقبر مالكٍ بين اللوى فالدكادك. لكنّني لم أبكه. أنا غير قادر على البكاء. لقد ولدت من دون جينات البكاء. وفوق هذا فقد ضيّعني تكرار الدال والكاف في الدكادك)، في إشارة إلى خصوصية ظرف الشاعر المعاصر وإخلاف حاله وطبيعته عن حال سلفه، الشاعر القديم، فضلًا عن تأكيده لخصوصية انتماءاته وارتباطه اللصيق، بمكانه الأول والخاص.
وفي مواجهة الفقد، يركِّز الصوت الشعري، على آليات الذات في مقاومة هذا الفقد، عبر استعادتها الموتى الراحلين:
فجأةً ردّ لى الموت ما أخذه منّي. وقفتْ عربته أمام بيتي، وأنزلتْ كلّ شيء: أحبّتي الذين اختطفهم منّي، أصدقاء طفولتي، والأمل بتنورته القصيرة، لم يعد لديَّ ما أبكيه. أستطيع الآن أن أضع نعلي تحت رأسي وآخذ غفوة طويلة، غير أنَّ فاختة ناحت على الدّالية.
لمَ النّواح يا فاختة؟ ألا ترين أنَّ أخي القتيل قد عاد؟ ألا تبصرين كيف عاد الأمل يلثغ مثل طفلة في الثالثة من عمرها؟
ردّت الفاختة بصوت لا رحمة فيه: “ما فُقِد لن يعود. لن يعود أبدًا”
أيّتها الكذّابة. سوف أكسر الغصن الذي تقفين عليه، والمنبر الذي تعظين من فوقه. الكون دائرة. وكلّ شيء يسافر من نقطة على محيط الدّائرة ثمّ يعود إليها. والموت ذاته حصان يجري على هذا المحيط. يحمل حمله ثم يفسخه. يأخذ القتيل ثم يردّه. ردّت الفاختة ثانية: “لا، لا، الموت حرَّاث. يصيح ببغلته: دي، دي، ويشقّ ثلمه الطّويل. ثلمه لا يتوقّف أبدًا، وبغلته لا ترتد”.
سحبتْ الفاختة نعلي من تحت رأسي.
خرّبتِ الحفلَ الكبير الذي كنت أنوي أن أبدأه.
يتبدى حس نيتشوي في رؤية الشاعر للموت وحركية الحياة، ثمة اعتقاد لديه، بمبدأ نيتشه، عن العود الأبدي، في تصوُّر دورة الحياة، رغم الموت، فيتسم خطاب زكريا محمد، بحيوية متدفقة، نتيجة الجدل الدائر، على مستوى المقولات والأفكار، أما على مستوى التلفظ وبث الخطاب الشعري، فثمة تجسيد لصراع قد يقوم بين الصوت الشعري، وصوت آخر، يحاوره ويجادله، عبر القصيدة، كما في حواره هذا مع “فاختة”، الحمامة القمرية البرية، ما يوجد حالة من التوتر الدرامي، فالجدل هنا بين صوت الذات الشاعرة وصوت الفاختة، بين التمسك بأهداب الحلم وتصديق الشاعر لرؤاه الحلمية باستعادة الموتى، أي تجاوز الموت ونفي العدم، وصوت الفاختة، المعروفة في الثقافة العربية بالكذب، فيُضرب بها المثل (أكذب من فاختة)، التي تكذِّب الشاعر في رؤيته بعودة الراحلين، وقد يكون مثل هذا الصوت الآخر، في تمثُّلات الذات الشاعرة هي الذات المضادة، التي ينشب بسبب قلقه الوجودي، صراع حاد، في داخل الذات الشاعرة، بين صوتين يمثلان رأيين ضدين. كما يدخل في بنية قصيدة زكريا محمد آليات السرد القصصي المزاوج بين الوصف المشهدي لموقف أو حالة ما، مع الحوار بين ذاتين أو صوتين.
وتبدو استعارات الشاعر مُحكمة، بلا إسراف أو تقشف، مع ميل معظم قصائده لأن تكون استعارة كبرى، موازية لفكرة أو نسق من الأفكار، كما في تمثُّل الأمل يرتدي تنورة، في استعارة تشي بطفولية ونضارة وبكارة إحساس الذات الشاعرة بالأمل واستعادتها له، وكذلك في استعارتين متمايزتين للموت، بتمثُّله أولًا حصانًا يدور عبر دائرة هذا الكون، ليرد من أخذهم بعد إتمام دورته، في تمثيل لمبدأ العود الأبدي، في مقابل تمثُّل الموت “حرَّاثًا” يحصد أرواح من يختارهم، والواضح بجلاء، في استعارات زكريا محمد، سلخه لمكوناتها من معطيات الطبيعة الحية، حتى في تجسيد المعاني المجرَّدة والأفكار الرمزية.
الذات وأشباحها
في حضور الذات في شعر زكريا محمد، قد تتناسخ الذات وتتلبس ذواتًا أخرى، وأحيانًا ما يكون هناك انبثاق لأشباح الذات في فضاءات شعر زكريا محمد، تمثيلًا لانقسامات الذات وتوتراتها، ما يجعل قصيدته أحيانًا بمثابة استعارة تشريحية للذات وتمثيلًا لحضورها الشبحي:
لي صديق يأتيني في المنام. أسأله: “أين أنت؟ لم غبت عنّي هكذا؟”،
فيبتسم ولا يجيب. الابتسامة جوابه الوحيد. ابتسامة فوق اللغة. وحين أراها يطمئن قلبي.
لكن حين أصحو أكتشف أنَّه مات منذ ثلاثين سنة. في كلّ مرّة يحدث هذا. يحدث أن أكتشف موته من جديد.
ليس ثمّة موتى في المنام. الكلّ أحياء. ليس ثمة فقدان. ما تفقده في اليقظة تعثر عليه في النوم. النوم أعمق من اليقظة، وأكثر صحّة منها. من أجل هذا يظلّ النوم متعتي. هناك أناس يذهبون إلى النوم آسفين. أنا أمضي إلى النوم كأنّني أعود إلى بيتي، كأنني أذهب إلى الحقل.
لي صديق يجري مثل النهر. أنا على الضفّة، وهو يتدفّق تحتي. لا أستطيع أن أوقفه. “إلى أين تمضي؟” أسأله. “تعال نستيقظ معًا. حوّل مجراك لكي يتدفّق تحت عتبة يقظتي”.
لكن هذا لا يحدث أبدًا. هناك رافد كبير يتدفّق في نومي. يد النهار القصيرة تفشل في أن تغرف لي حتى غرفة واحدة من مائه.
يبدو هذا الصديق الآخر الذي تعاينه الذات في منامها هو شبحها، عبر نشاط اللاوعي وتوالد صوره من خلال مسرح الحلم، فمن هذا الصديق الذي يتدفَّق نهرًا تحت الذات، وتعاينه بعد ثلاثين عامًا من موته؟ هل يكون هو الذات في عرامة تدفُّقها في شبابها، هل يكون النهر رمزًا لجريان الحياة وفورانها ويفاعتها، فتمسي القصيدة مثل أليجوريا، في بناء أمثولي، فيكون هذا الصديق هو شبح الذات، نفسها أو هويتها التي تفتقدها منذ ثلاثين عامًا، كينونتها الأولى الغائبة عنها وتحاول استعادتها عبر فعل الحلم بنشاط اللاشعور؟.
وإذا كانت قصيدة النثر تنحي الوزن الذي هو عنصر أساس في تشكيل إيقاع الشعر، لكن ثمة وسائل أخرى لتوليد إيقاع شعري في شعر زكريا محمد، كما في آلية التكرار؛ إذ قد يكرر في بعض مواضع قصيدة كلمة أو أكثر، تكون بمثابة لازمات أو متكئات إيقاعية، كما يتبدى ذلك في: (فيبتسم ولا يجيب. الابتسامة جوابه الوحيد)، فالجملتان المتتاليتان ترتكزان في تكوينهما على عنصرين: (الابتسام) كمسند إليه، و(الإجابة) كمسند، لكن الإجابه تأتي في الجملة الأولى منفية في عطفها على فعل الابتسام، ثم تأتي في الجملة الثانية مثبتة ومسندة إلى فعل الابتسام، وهذا تكرار إيقاعي بتكرار عنصرين مركزيين في الجملتين، واستدراك دلالي، فبعد نفي فعل الإجابة، يكون الاستدراك بأنَّ الجواب الوحيد هو الابتسامة، ثم تأتي جملة ثالثة تالية، توضيحية، ويكون مركزها والمسند إليه فيها أيضًا هو فعل الابتسام: (ابتسامة فوق اللغة) وهو ما يحل ما قد يبدو من تقابل لفظي بين نفي الإجابة ثم التأكيد على فعلها بأسلوب واحد (لا يجيب) و(جوابه الوحيد)، بالإبانة بأنَّ فعل الابتسام هو فعل ميتالغوي، فهو ليس جوابًا بواسطة اللغة التقليدية التي تستعمل الأبجدية والصياغة الأجرومية النحوية، لكنَّها لغة أخرى من تشكُّل ملامح الوجه وحركة قسماته، وهذا التدوير والتراكب الدلالي يؤسس تدويرًا إيقاعيًّا للقصيدة.
التمرُّد الشعري
في رؤية زكريا محمد للشعر عبر خطاباته الشعرية يتبدى وعيه المتمرِّد وروحه المتوثِّبة نحو كتابة شعرية مغايرة، فبمثل تمرُّده الوجودي كان أيضًا تمرُّده الشعري وحسه الفني التثويري الذي يحلم بشعر بقدر ما يستوعب خطابه هموم الذات الإنسانية ويلم بعوالمها ويعيد رسم الوجود جماليًّا، فإنَّه يتجاوز في الآن نفسه الأساليب التقليدية وطرائق التعبير القديمة:
قتيل أيار أنا، والشّعير يُغطّي جثّتي، ويقفل شفتي.
لا تبحثوا عن قاتلي، ولا تَكْتَروا ندّابات يندبنني، فقد قتلت ذاتي بذاتي. قتلتها لأنَّ البراكين لا تتجاوز المقاييس، ولأنَّ البراهين كلّها على الدرجة ذاتها من القوة.
ألف برهان لا تجعل حبّة شعير واحدة تغادر صفّها.
تمنّيت لو أنّني نجحت في تخريب الشِّعر.. فالمعنى تخريب.
تبدو ذروة التمرُّد الفني والنفسي في قتل الذات لنفسها، أي ثورتها على ذاتها القديمة، ذات في حالة تمرُّد وجودي عارم وثورة فكرية متأججة، ثمة رغبة في نسف الذات القديمة، رفض لانحسار داخل “المقاييس” الموضوعة سلفًا، وكذلك لتساوي براهينها على الأشياء في درجة قوتها كما في استعارتَي: (قتلتها لأنَّ البراكين لا تتجاوز المقاييس، ولأنَّ البراهين كلّها على الدرجة ذاتها من القوة) المعبِّرتين عن تمرُّد الذات على نمطيتها وتثويرها لمنطقها القديم، وشعورها بأنَّ مثل هذا المنطق المثالي لا يستطيع أن يحدث أدنى تأثير في هذا العالم: (ألف برهان لا تجعل حبّة شعير واحدة تغادر صفّها)، وهو ما يتوازى مع رؤية الشعر بأنَّه ممارسة متمرِّدة جماليًّا، كما في استعارة: (تمنّيت لو أنّني نجحت في تخريب الشِّعر.. فالمعنى تخريب) فتتجلى رؤية الشعر بأنَّه تخريب، أي كسر التقاليد الجمالية المستقرة وخلخلة المعاني الراسخة، كتابة ضدية، كتابة ضد الكتابة، تجريب فني وتثوير جمالي، وهو ما يراه الشاعر مستلزمًا الخروج عن الأعراف والعادات الشعرية، حتى لو كانت تخصُّه هو:
سأبحث لي عن موضوع آخر غير النخلة. فقد أكلت من التمر ما يكفيني حتى تقوم الساعة، كما أن السُكّر أقفل لي قلبي. ويجب البحث عن غير نسرين كذلك. فنسرين فقدت معناها. لذا أصلي كي لا تأتي، وإن أتت فسأطبق الباب على أصابعها.
وعليّ أن أعترف أنَّني ضائع، وأنني أضيّع الآخرين معي.
لكنني أبرّر ضياعي بالشعر ذاته. أقول: وما هو الشعر إن لم يكن الضياع ذاته. وأضيف: الشعر هو ألا تعرف أين تضع قدمك.
وأنا لا أعرف أين أضع قدمي، ولا أعرف متى أفتح فمي.
الشعر عند زكريا محمد فعل هدم وممارسة محو قبل أن يكون تأسيسًا وبناءً، ثمة طرح ميتاشعري في تضاعيف الخطاب الشعري لدى زكريا محمد، بحث دائم وتردُّد حائر في كيف يمكن أن يكون الشعر. ثمة رغبة في التخلُّص من الموضوعات والرمزيَّات التي ترسّخ وجودها في خطابات الشاعر، كما في إعلانه رغبته في التخلي عن موضوع “النخلة” التي هي مكوِّن رمزي بلغ درجة الاستعارة لدى عدد من الشعراء الفلسطينيين ومنهم زكريا محمد، وأحيانًا ما يتضمَّن الخطاب الشعري ممارسة حجاجية في تدارس علل الأفعال والممارسات، في دفقة بوحية، كما تفسير الصوت الشعري لسبب سعي الشاعر في التخلي عن موضوع “النخلة”: (فقد أكلت من التمر ما يكفيني حتى تقوم الساعة، كما أن السُكّر أقفل لي قلبي)، كما يبدو هذا التفسير مبطنًا بسخرية نابعة من حسٍّ تهكُّمي، يخرج من جوف وعي ملتهب، يريد أن يتمرَّد على المواضعات القديمة. وبمثل الرغبة في التخلص من موضوع “النخلة” هناك رغبة أخرى في التخلُّص من الأنثى/ المرأة/ الآخر/ “نسرين”، الذي اعتاد الشاعر حضوره كشريك له في خطابه الشعري، إمعانًا في تأكيد تمرُّده الشعري وثوريته الوجودية على كل ما هو مترسِّخ وقديم مهما كانت درجة ألفته وحميميته. ثمة شعور يداخل الشاعر بأنَّ الثيمات والأشياء والرمزيَّات قد فقدت معناها وفقدت تأثيرها الجمالي وهو ما يدفعه إلى البحث عن موضوعات جديدة ورموز مختلفة أو تمثيلات مغايرة للرمزيَّات التي يود بثَّها في خطاباته الشعرية.
ويتبدى الفكر الطليعي والتصوُّر التجريبي لمفهوم الشعر بتعريف الشعر باعتباره مرادفًا للضياع، الضياع بمعنى الجموح المارق خوضًا لكل جديد، معنى وأسلوبًا تعبيريًّا، كما في الاستعارة المرشَّحة: (وما هو الشعر إن لم يكن الضياع ذاته. وأضيف: الشعر هو ألا تعرف أين تضع قدمك)، فتكشف هذه الاستعارة المُرشَّحة عن مفهوم زكريا محمد للشعر بتجاوزيته لحدود الثابت والمستقر والمألوف والمُحدَّد سلفًا.
ويرتبط الشعر المتجاوز المواضعات التقليدية عند زكريا محمد بجسارته التعبيرية وتجريبه الأسلوبي:
أشياء كثيرة خجلنا منها فى حياتنا، ثم اكتشفنا متأخّرين أنها أجمل ما فينا. هذه هي لعنة الحياة: الأشياء الجميلة تتكشّف متأخّرًا. نكتشفها ونحن على وشك الرحيل.
(…) جناحي مقطوع. لكنني أحبّ أن أغنّي. أصلّي وأغنّي معًا. ولا أجد حرجًا في هذا. أنا لا أجد حرجًا في موتي حتى.
(…) وأحب كذلك أن أصفّ الكلمات قرب بعضها، هكذا بلا هدف، أحيانًا. لا يهمّني أن يخرج منها معنى. لا يهمني أن يرمّ الحمار التبن من المخلاة، أو أن يغبّ الطائر الماء من البركة. فلقد رأيت بعيني يومًا طائرًا يتوضّأ في بركة فضّة. كان هذا في أغنية قديمة لريم البنا.
أنا لا أخجل من الثرثرة في الشِّعر عند اللزوم. فالباب الذي يفتح نفسه أمامي سأدخله.
البساتين الأشد جمالًا هي التي وقفنا عند سياجها، ولم ندخلها قط.
تمتزج رؤية زكريا محمد للشعر برؤياه الوجودية وفلسفته للحياة، فيربط بين جمال الأشياء التي قد يخجل الإنسان من ممارستها في حياته بعفوية وجمال الشعر الذي يخرج بعفوية، في إفصاح الصوت الشعري عن صف الشاعر الكلمات في نسق متجاور بلا هدف محدد أو مقصود عند تشكيل البناء الشعري، وهذا لا يعني عشوائية الشعر بقدر ما يعني سوريالية التدفق الشعري الذي يمارسه الشاعر، مؤثرًا التعبير الحر غير المتقيِّد بمعنى على الشعر الواضح المعاني، لأنَّه يعلي من شأن العفوية التعبيرية غير المتكلِّفة في الممارسة الشعرية.
وبمعاينة هندسة القصيدة نجدها بمثابة استعارة كبرى مُركَّبة، فالشاعر يضع أولًا المبدأ الفلسفي العام للحياة والشعر، المتمثِّل في ممارسة الإنسان ما يحب بعفوية ودون خجل أو قيود، ثم يأتي بمبدئه في الفن الذي يناظر ويماثل مبدأه في الحياة، فبالمثل أيضًا في الشعر، يفضل أن يكتب الشاعر ما يحسه في لحظته دون تقيُّد بمدى وضوح المعنى، في سلاسة تعبيرية وتدفُّق سوريالي، حتى لو اعتبر البعض هذا التدفق ثرثرة، لكنَّ الشاعر يؤثر التعبير بحرية عما يشعر وما يساكنه من أفكار ومشاعر بالطريقة التي تناسبه. فكأنَّ القصيدة تتأسس على استعارة تقوم على بنية تناظرية، شطرها الأول بمثابة المشبَّه به، المتمثِّل في رؤية الشاعر للحياة وضرورة عيشها ببساطة وتلقائية، والشطر الآخر، المشبَّه، المتمثِّل في رؤيته للشعر الذي يجب أن يكتب ببساطة وعفوية، حتى لو لم يحمل معنى مباشرًا وصريحًا، تمامًا مثل الحياة التي يجب أن يعيشها الإنسان، على طبيعته وبكل حرية في ممارسة ما يحبه.
وفي رؤية الشاعر السوريالية للشعر الذي يهمه أن يُكتب تعبيرًا عن حالة الشاعر وما يحسه، حتى لو بدا هذا الشعر، في تدفقه اللغوي وتشكيله السوريالي، بلا هدف أو معنى، تأتي الصياغة الشعرية باستعارة، مرشَّحة، تشبيهًا للمعنى مرة بالتبن الذي هو غذاء الدواب ومرة أخرى بالماء الذي يشربه الطائر، في تأكيد على تغليب زكريا محمد في نسيجه الشعري لعناصر الطبيعة الحية في تكويناته الاستعارية، كما يمارس هوايته الأثيرة، بلضم بعض خيوط نصه الشعري بخيط آخر من نص آخر كما في استعارته المشبِّهة لعدم ضرورة تقيُّد الشعر بمعنى واضح أو هدف تقليدي بتوضؤ طير في “بركة فضة”، متواشجًا مع أغنية “بركة الفضة” للمطربة الفلسطينية، ريم البنا، التي تقول كلماتها الاستهلالية: (يا بركة الفضة/ هون الطير يتوضا)، في تأكيد على اقتدار الفن وسحره، في تجاوز المواضعات والمفاهيم التقليدية للأشياء بمنطق جمالي يتجاوز منطق الواقع ويتعالى عليه، وهذا جوهر الرؤية السوريالية للشعر عند زكريا محمد.