حين تحدث الشاعر الألماني ريلكه في بداية هذا القرن عن المناخ الهاديء واللذيذ لـ "بول سيزان"، انما كان يعبر عن فهم عميق لجوهر لوحاته، وللتوازن الداخلي الذي يطبع ألوانه. من المؤكد أنه بدون هذا العجوز العنيد ذي اللحية الشعثاء، الذي أراد أن يكون رساما، كما يفضل آخرون أن يكونوا رهبانا، كان قدر الفن الحديث سيأخذ مجرى آخر.
في أي فضاء كان على بيكاسو أن يسجل عائلته لو لم يدله سيزان على السبيل الصحيح لتصاميمه الملونة ؟ وبأي معنى يمكن فهم كلام ماتيس الذي لم يكف أبدا عن التأكيد بأن أعماله كلها تخرج من (مستحماته) التي اقتناها من فولر سنة 1899.
ان الطريقة التي يدرك بها القرن العشرون فن الرسم ومساره – يكتب وليام روبين – كلها مستقاة من بول سيزان، حيث يبدو أسلوبه جديدا في التكوين، وتصبح مأساة الاندماج التشكيلي هي موضوع فن الرسم. هاهنا يكمن مجد سيزان، ومأساته أيضا، وما ينبغي أن يكون عليه في نفس الوقت رهان هذا المنظور الاحتفالي الكبير. فكيف يتوصل الفنان الى هذا الاتصال الروحي، هذا الالتحام المتميز باللوحة التي لا تقتصر على كونها نافذة مفتوحة على الطبيعة، بل إنها تفتح فضاء جديدا للفن التشكيلي.
إن تجميع اللمسات الخالصة والمريعة، حسب تعبير سيناك، قد أتاحت للرسام في نهاية حياته أن يشيد بنفس الصلابة أي موضوع يرغب فيه، سواء أقام مسنده في خلاء بيبيموس، أو في بادية ايكس أون بروفانس أمام أعين جارته أو في اتجاه أشجار الفواكه.
واذا كان دولاكروا في سنواته الأخيرة قد جاهد من أجل اقتحام عتبات المؤسسة، واذا كان كورى قد أصيب بالجنون عند مواجهته لطغيان الدولة الفرنسية التي كانت ترغمه على تأدية ثمن الكؤوس المكسرة للكمونة،فإن سيزان لم يكن يملك: "إلا طموحا واحدا: أن يصير أشد وضوحا أمام الطبيعة"، كما اعترف بذلك في رسالة بعث بها الى ابنه قبل شهرين من وفاته، لقد كانت غايته هي أن يتقدم بهدوء في الطريق التي اختارها بغية تحقيق حلم الفن الذي يؤرقه.
ولذلك اختار للمرة الأخيرة موضوعات عظيمة ومتواضعة مثل حديقة "لوف" والتفاحة، والقدح، ولم يعد للحياة أي معنى خارج زمن الرسم. سيزان شاعر الخلق، أراد أن يعيد الحياة للفنان الشهير "بوسان" في الهواء الطلق من خلال اللون، والضوء.
ولكي يضفي على لوحاته ذلك التألق النبيل، الذي يليق بها في متاحف العالم، وحتى تبدو في كامل القوة والاستعداد، بل والحضور، خلق الخلاء، والخواء من حوله، كان يداعب العدم ويمسك بالفرشاة في الصباح الباكر ويعيش وحيدا مع خادمته العجوز، حيث يقول عن زوجته الحمقاء التي كانت تضايقه باستمرار "هذه الكتلة الجوفاء لا تفهم أعمالي".
وابتداء من سنة 1886 سيحصل سيزان على ثروة كبيرة تخلصه من كل هاجس مادي، ويعيش في (هدوء) وراحة. أصبح الآن يتمتع بعزلة مطلقة أمام قماشته البيضاء التي تتيح له فرصة أن يعبر عن جرأته، وفي كل لوحة جديدة، كان يصب مشاعر اللعب بحياته ويقفز في الفراغ بفرشاة واحدة، ويلتحم بالقماشة التي تتدفق أحيانا بين لمستين.
كان سيزان يترجم ظلال الحدائق وارتعاشتها بكيفية تجريدية، تبدو معها اللوحة عذراء، لكن الألوان البنفسجية، والمتواليات الخضراء الموزونة تتجلى في أوج توهجها. الى جانب هذه الطبيعة الميتة المرسومة في أغلب الأحيان فوق نفس الطاولة القديمة، كانت له القدرة على منحها الحياة الأبدية واضفاء طابع خاص عليها يذكر بروائع القرن السابع عشر.
يكتب ريلكه عن قدح سيزان، وبرتقالاته، وتفاحاته، وتنيناته العتيقة: "انه يخلق منها القديسين ويجبرها على أن تكون جميلة وأن تعبر عن الوجود وعن سعادة العالم وبهائه".
في سنواته الأخيرة كان سيزان يسكن لوحاته بقدر ما تسكنه. لم يكن العالم يفلت من بين أصابعه، ولذلك كان يلامس أعماقنا، لأنه كان وحده يفتح باب عالم آخر يتألق في فضائه الساحر فن تشكيلي مغاير ومتفرد. وكان الواقع يتحول لديه يوما بعد يوم الى أن بات بمثابة ميلودية ميزانية. أما البستاني الذي كان يشذب ديكوره، فقد انخرط كله في هذا العالم. وفي آخر لوحة رسمها قبل مماته فقد البستاني وجهه وتحول الى هباء.
لماذا تعلق سيزان هذا العجوز الغريب، بالرغبة في العيش داخل لوحاته بعيدا عن هؤلاء الأشخاص المزعجين الذين لا يفكرون الا في مشاكل الحياة اليومية ؟، لماذا يرغب، هذا الرجل المثقف قاريء فرجيل ومترجمه، بالعصر الذهبي للفن ؟، ألم تكن "المستحمات" عزاء ساطعا على سعادة منتقدة ؟
"عندما يكون اللون في قمة ثرائه، يكون الشكل في أوج اكتماله"، تلك هي الصيغة التي أراد بها سيزان أن يسجل اعترافه بمساره الانطباعي. ولو أنه لم يرد أن ينصاع للعبة الضوء التي تبقي أهم شيء بالنسبة للانطباعيين.
بإمكاننا القول أن سيزان بالبورتريهات التي رسمها في أواخر حياته وبالغموض الذي يلفها، وثقل المعاني الإنسانية التي تكتنفها، انما يعبر عن إرادة الانتماء الى القرن العشرين. ويختزل رهانه العنيد على ادهاش باريس بتفاحة واحدة.
اعداد: عزيز الحدادي (كاتب من المغرب)