أيمن بن مصبح العويسي
مترجم عُماني
تسهم الترجمة أيّما إسهامٍ في تعزيز الاتصال بين مختلف الثقافات ومشاركة العلوم بشتى أنواعها بين مختلف الشعوب، ولولاها -كما قال جورج ستاينر- سنعيش في عالم حدودُه الصمت، صمت سيرخي سدوله على عالمنا، فالكل منعزلٌ في حدوده اللغوية والثقافيّة؛ بيد أن الترجمة ساهمت في سدّ هذه الهوة وجمعت الشعوب مع بعضهم بعضًا وكأنّهم يتحدثون لغة واحدة، فكانت حلقة الوصل بين هذه الشعوب، نقلت لنا علومهم وثقافتهم وتاريخهم، ونقلنا لهم بواسطتها علومنا وتاريخنا وثقافتنا؛ الأمر الذي دفع العديد من الدول والحكومات على مستوى العالم لبذل جهودٍ حثيثة لتهيئة البيئة المناسبة لقيام المشاريع الترجميّة من باقي اللغات إلى لغتها ومن لغتها إلى لغات العالم الرئيسة، وقد بلغت قيمة قطاع الترجمة في العام المنصرم حوالي 9.5 مليار دولار أمريكي، مما يؤكد الأهمية المتزايدة لهذا القطاع المتنامي، ومساهمته في تقدم البلدان ونهضتها.
لكنّ الناظر إلى واقع الترجمة وسوق النشر في البلاد العربية عمومًا وفي عُمان تحديدًا سيرى ضعفًا أو بمعنى أدق بطئًا في مواكبة ما يُنشر عالميًا من علومٍ وآداب، أضف إليه ضعف المحتوى العربي على الإنترنت، ومع هذا البطء نرى تركيزًا على أنواع معينة من النصوص دون غيرها، فالغالب على مشاريع الترجمة التي تتبناها دور النشر العربية هي الترجمة الأدبية وخاصةً الروايات والقصص، وكتب التنمية البشرية وتنمية الذات، ومع أهميّة الأدب في نقل ثقافات الشعوب وتعريفنا على عادات وتقاليد سنجهلها لولا هذه الترجمات، وأهمية كتب التنمية في تنمية المهارات الفرديةّ، تبقى أنواع أخرى من النصوص بعيدة عن مشاريع الترجمة وعلى رأسها الترجمة العلميّة، على الرغم من أهمية هذه الكتب العلمية في تقدم الأوطان وتسريع وتيرة مواكبة التطورات العلمية والإبداع بلغتنا الأم.
وكما نعلم، فإن الابتكارات العلمية والتقنية في تسارع مستمرٍّ وفي تطور متواصل؛ الأمر الذي يحتّم علينا اتخاذ خطوتين لا ثالث لهما؛ فإما أن نعزز من انتشار اللغات التي تكتب بها هذه العلوم وعلى رأسها الإنجليزية، وهذا هو الحاصل في تدريس العلوم في جامعاتنا باللغة الإنجليزية، أو أن نتبنى مشاريع ترجميّة ضخمة تواكب هذا التطور وننهض بحضارتنا عن طريق لغتنا كما نهضت اليابان بالترجمة ونهضت أوروبا بها أيضًا. والحل الأنجح بالطبع أن نولّي وجهنا شطر الترجمة ونوليها الاهتمام اللازم لنستطيع مواكبة التسارع المذهل في الاختراعات والاكتشافات الجديدة، وننقلها إلى لغتنا، ونعلم بها أجيالنا إلى جانب تعليمهم باللغة الإنجليزية التي باتت لغة العلوم، لكنها للأسف طغت على لغتنا الأم التي أصبحت غريبة في جامعاتنا وخاصة في التخصصات العلمية؛ ففي تقريرٍ نشره مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ذكر أن التعليم باللغة الأم عاملٌ أساسيٌّ في نجاح الأقليّات الشابة، ويسهم في توسيع مداركهم في مختلف العلوم، ومن بين من شارك في هذا التقرير إلزبييتا كوزبورسكا التي تلقت تعليمها في نظام مستند على لغة الأقليات في ليتوانيا وعبرت عن دعمها للتعليم باللغة الأم قائلةً: “يؤدي تعليم الأطفال بلغتهم الأم إلى حالٍ من التشجيع والقوة والحماسة والمزيد من النجاح أكاديميًا، بل يؤدي إلى انخراط في الأسرة والمجتمع على نطاق أوسع”.*
لكن كيف يمكن تشجيع دور النشر لتبني مثل هذه المشاريع الضخمة والتوجه نحو الترجمة العلمية؟ الأمر مرتبطٌ بالجمهور الذي تستهدفه دور النشر، وتلبية ما يطلبه الجمهور من أنواعٍ دون غيرها، ودور النشر لا تلام في ذلك كونها مؤسسات ثقافية ربحية تبحث عمّا يهم القراء وتنقله لهم، فطالما كانت الترجمة الأدبية مطلبًا للقراء ستبذل دور النشر جهودًا كبيرة في هذا النوع من النصوص وتخرجه بصورة ترضي القراء، والأمر ذاته إن وجد هذا الطلب على الترجمة العلمية من القراء فستتجه نحوه دور النشر.
لذلك وجب علينا بذل جهود من أجل جعل الترجمة العلمية محط أنظار دور النشر من خلال تهيئة البيئة المناسبة لانتشار هذه الكتب وإيجاد سوق لها في بلداننا، فيمكن على سبيل المثال أن تتبنى الجامعات والكليات موادَّ اختيارية باللغة العربية في شتى العلوم وتطرحها ضمن برامجها الأكاديمية، عندها سنوجد جمهورًا متعطشًا لهذا النوع من الترجمات كونه مرتبطًا بدراستهم، وحينها ستتجه دور النشر لترجمة هذه العلوم لوجود سوق لها في هذه الجامعات والكليات، وربما تنتقل مثل هذه الكتب إلى المراحل المتأخرة من المدرسة ونهيئ القراء المناسبين لها منذ فترة مبكرة من عمرهم، وبهذا ستتوافر البيئة الخصبة لتطور هذا النوع من النصوص.
يمكن كذلك أن تختار الأقسام العلمية في هذه الكليات والجامعات أمهات الكتب في تخصصهم وتقترح على الجهة المعنية ترجمتها؛ لكننا سندخل في إشكال آخر هنا وهو ماهية هذه الجهة المعنية؛ فما الجهة المسؤولة عن الترجمة في عُمان والترجمة العلمية على وجه الخصوص؟ للأسف سيكون الجواب غياب الجهة التي ترعى هذه المشاريع وتقوم عليها؛ وإن كانت هناك جهود فهي جهودٌ فردية ومؤسسية خجولة جدًا؛ إذن تكون نقطة بدايتنا وجود مرجعية للترجمة في عُمان لترجع إليها تلك الجامعات والكليات في مثل هذه المشاريع الترجمية، وترجع إليها الجهات المعنية لتبني هذه المشاريع الضخمة. كما يمكن أن تكون هذه الجهة مظلة تجمع المترجمين من كافة التخصصات وتوفر لهم الدعم والتدريب المناسب لترجمة مثل هذه المشاريع النوعية، وتضع سجلًا بهم. كما يمكن أن تطلق هذه الجهة مشاريعها النوعية في شتى أنواع العلوم وتستقطب لها أمهر المترجمين، كما هو الحال مع “مشروع كلمة” في الإمارات العربية المتحدة على سبيل المثال.
هناك تحدٍ آخر يواجه مشروعات الترجمة العلمية يتمثل في غياب التخصص في الترجمة؛ فبمجرد تخرجه من الجامعة يدخل سوق العمل بتخصص عام في الترجمة، ولمواكبة تخصص ما فعليه تكثيف القراءات في ذلك الحقل ليستطيع معرفة المفردات المناسبة في ذلك التخصص؛ لذا مع وجود المظلة المناسبة سيغدو بالإمكان توفير التأهيل التخصصي لهؤلاء المترجمين، وتمنحهم التراخيص اللازمة وتساهم في بناء قدراتهم؛ حينها سيكون لدينا المترجم العلمي والأدبي والطبي والقانوني وغيرهم من المترجمين المتخصصين؛ مما سيسهل تحديد الكفاءات اللازمة لمشاريع الترجمة الضخمة ومنها الترجمات العلمية، ويمكن كذلك أن تؤدي المؤسسات الأكاديمية دورًا هنا من خلال طرح مساقات متخصصة في الترجمة العلمية في مرحلة البكالوريوس، أو طرح دبلوم دراسات عليا متخصص في الترجمة العلمية على سبيل المثال، فضلًا عن طرح الدورات الموجهة للمجتمع في مجالات الترجمة التخصصية.
تحدٍ آخر يواجه الترجمات المتخصصة بشكل عام والعلمية بشكل خاص يكمن في توحيد المصطلحات العلمية، فهناك طريقتان لنقلها، فإما عن طريق الاقتراض اللغوي وهي إحدى الإستراتيجيات التي اقترحها العالمان الفرنسيان فيني وداربلني كما هو الحال مع كثير من المصطلحات المرتبطة بالتقنيات الحديثة والعلوم بشكل عام كالتشات جي بي تي والأتمتة والجينوم وغيرها الكثير، وإما أن نبحث عما يقابلها في لغتنا، فبدلا من أن نقول تكنولوجيا نقول تقنية، وبدلا من الكاميرا نقول آلة التصوير؛ وغيرها الكثير من المصطلحات الناشئة، ويمكن مواجهة هذا التحدي بوجود مجمع لغوي وطني وإقليمي يوحد هذه المصطلحات ويناقشها ويبحث أبعادها وما الحل الأمثل لنقلها، هل بالتغريب أم بالتوطين، كما ستعمل هذه المجامع على مشاركة هذه التجربة مع غيرها من المجامع الإقليمية. وهنا نرجع إلى المرجعية الترجمية التي ستؤدي دورًا حيويًا في صناعة المصطلح وإنشاء القواميس والمسارد المتخصصة التي تعين الباحثين والمترجمين وستحل محل هذه المجامع اللغوية، ويكون من بين أهدافها الرئيسة توحيد المصطلح في العلوم المتخصصة بالتشاور مع أصحاب المصلحة الرئيسيين.
موت الترجمة ظاهرة تعاني منها الكتب المتخصصة، فمجرد ترجمتها ونشرها تكون محط أنظار القراء، لكنها ما تلبث إلا أن تختفي من بين تفضيلات القراء، وتصبح طيَّ النسيان، وهذا يرجع كما ذكرنا آنفًا إلى وجود الجمهور المتخصص، فكما نعلم، تُدرس العلوم في جامعاتنا وكلياتنا باللغة الإنجليزية، والمتخصصون فيها يفضلون قراءة مصادرهم باللغة الإنجليزية كونها اللغة التي يدرسون بها، لكننا إذا أدخلنا بعض المواد المتخصصة باللغة العربية سيتجه القراء نحوها وتغدوا مصدرًا من مصادر معرفتهم إلى جانب كتب اللغة الإنجليزية. وقد حضرت مرةً ندوة لأحد المترجمين المتخصصين في الترجمة العلمية وذكر أن أهم تحدٍ يواجهونه هو ضعف قاعدة القراء وموت الترجمة التدريجي بسبب هذا الضعف.
ولكي لا ننسى التحدي الأهم المرتبط بترجمة الكتب عمومًا والكتب العلمية على وجه الخصوص ألا وهو التحدي المرتبط بحقوق الكتب، إذ يدخل الكتاب ضمن الملكية العامة بعد وفاة المؤلف بـ 70 عامًا وفقا للمادة 26 من قانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 65/2008 التي تنص على: “تُحمى الحقوق المالية للمؤلف المنصوص عليها في هذا القانون مدة حياة المؤلف وسبعين سنة تبدأ من بداية السنة الميلادية التي تلي سنة وفاته”، وهذا الأمر سبب أيضًا في رواج الكتب التاريخية والأدبية وكتب التنمية البشرية كون الكثير منها يدخل ضمن الملكية العامة؛ لكن الأمر ليس ذاته بالنسبة للكتب العلمية التي تتميز بحداثتها وآنيتها، ويمكن القول إن أغلبها محميٌّ بموجب قانون حقوق المؤلف والحقوق المجاورة المذكورة آنفًا، وهنا يجب أن تكون لدينا دار نشر محلية قوية تستطيع تبني هذه المشاريع والتواصل مع دور النشر الأجنبية هذه لشراء الحقوق والشروع في الترجمة، ومن خلال تجارب سابقة خضتها في هذا المجال وجدت أن دور النشر الأجنبية تبحث عن دور نشر عربية قوية لتعطيها ثقة ترجمة إصداراها، لذا من المحتمل أن تواجه الدار المحلية رفضًا من الناشر الأجنبي، وهذا يشي بأهمية تأسيس دار نشر محلية تصنع صيتها العالمي ويكون لها موطئ قدمٍ بين كبار دور النشر العربية.
إذن، علينا أولًا أن نؤسس تلك المرجعية التي ترعى الترجمة وتقوم على شؤونها وتؤسس المترجمين التأسيس الصحيح بعد تخرجهم، يمكن كذلك أن تؤسس هذه المرجعية دار نشرٍ خاصٍ بها أو أن تتعاقد مع دار نشر قائمة لها صيتها بين دور النشر العربية، بعدها علينا أن نهيئ الجمهور المناسب لهذه الترجمات من خلال إدخال اللغة العربية في تدريس العلوم ولو على شكل مواد اختيارية، وإدخالها في المدارس والمعاهد، وحينها ستجد دور النشر الجمهور المناسب لمشاريعها وستجد المؤسسات المظلة المناسبة التي ترشدها في مشاريع ترجمة الكتب العلمية وتزودها بالكادر البشري والاستشارات المناسبة لمثل هذه المشاريع. ولن يتحقق ذلك إلا بوجود رغبة سياسية حقيقية لتعزيز المحتوى العربي في مختلف العلوم واتخاذ الإجراءات المناسبة لتحقيقه من توفير الدعم المالي إلى تهيئة الإطار القانوني المناسب لها، حينها ستنشط حركة الترجمة وتجد دور النشر قراءها المتخصصين، ويجد المترجم مشاريع يقوم عليها ويبدع فيها، ويجد القارئ ضالته في كتبٍ متخصصة مواكبة للتطورات المتسارعة بلغته الأم.
الهوامش
https://www.ohchr.org/ar/stories/2017/12/education-mother-tongue-key-element-success-minority-youth