يحيلنا عنوان رواية الكاتب السوري خليل النعيمي (تفريغ الكائن) الى مواجهة نص روائي (فكري) بمعنى أن الواقعة الروائية (أو الحدث) لن تكون في مقدمة العمل الا بمقدار ما سوف يتطلبه ترتيب الأفكار؛ أو صدفة تداعيها ومناسبة تسلسلها.
إن هذا النوع (الفكري) لا يغدو للحدث فيه – بمعناه التقليدي – أي أثر بنائي أو أسلوبي ؟ بل لا قيمة له في صنع (حبكة) مستقلة يمكن للقاريء تلخيصها أو إبرازها كحكمة نهائية للنص الروائي، فمثل هذه الروايات المنتمية للحداثة رؤية وأسلوبا – كما سنرى – تخذل القاريء التقليدي سواء بحث عن (أحداث) متتابعة في نسق لتصنع (مادة لم الرواية، أو عن (طريقة) تنتمي للتقاليد التي يعرفها، تقدم له تلك الأحداث من وجهة نظر واضحة ونهائية، فالسارد نفسه لا يعرف شيئا، وغير متيقن من شيء كما أن الرواية – بسبب حداثتها – تبدأ وقد انتهى كل شيء على مستوى الحدث، ولم يظل سوى مراياه فوق وجه البطل – السارد.. بل نجد السارد يصارح قارئه بأن ما سيقرأ في هذه الرواية ليس الا هما فكريا يتعلق بتفريغ الكائن كما يقول له عنوان الرواية.
وهو عنوان من النوع (الاستباقي) الذي ينبيء عما ستؤول اليه الرواية او ما يريد الروائي أن يصل اليه لأنه يساهم في تهريب محور العمل ومركز اهتمامه.. فالكائن يعاني من تفريغه. ويكافح ضد هذا التفريغ الذي تعده له الحياة والسطوح التي تعبر عنها.. لذا فقد كان الرسام محيي الدين اللباد موفقا في صنع غلاف الرواية، حيث رسم كائنا احتلت الحروف رأسه وشكلت هيأته، كما دخلت الصحيفة الى صدره من وراء قفصه انجرف وشكلت الأحرف حدود جسده كلها: اليدين والقدمين وما بينهما من جذع، حتى أعضاءه الموشومة من الأمام بالحرف (ن).
تتحدث الرواية إذن عن فكرة (تفريغ) الانسان المعبر عنه هنا بلفظة ( الكائن) ذات البعد الفلسفي المذكر بالكينونة واختياره – من بين ألفاظ مشابهة في الدلالة مثل الشخص أو الانسان أو الرجل – يدل على ابراز هذا البعد التأملي – الفكري. وهذه هي إحدى صلات الرواية بالحداثة السردية الى جانب أسلوبيتها التي سنتحدث عنها لاحقا. فالاشكالية بين الروائي والكائن المراد تفريغه هي التي ستتقدم السرد وتتصدر عملية القص.
ومما يعمق هذه الاشكالية، ما نقرأه في الصفحة الأولى من مقطع الرواية الأولى (وهي مكونة من أربعة وثلاثين فصلا مرقمة بالأرقام دون ذكر الفصل) حيث يصارح الروائي قارئه أنه لن يواجه (كتابة) روائية بل سيجد (حكيا) وبذلك ينقله من تقاليد (كتابة) عمل روائي الى (حكاية) يتسلم فيها السارد زمام السرد ويوجهه بالارتجال والعفوية والتداعي الذي تتسم به الشفافية الحكائية أو سرد الحكاية شفافة.
لنقرأ الأسطر الأولى من الرواية كي نؤكد ذلك التوجه نحو (الحكي) غير المترابط بقانون كتابي:
"لن أجلس بعد اليوم ملتاعا لأكتب.
أكتب لمن ؟ ولماذا. وكيف:
يكفي تغير كل شيء
الكتابة ؟ التفكير المستمر بها؟ هوسها وخفاياها.
الكتابة. قناع التفه والأفاقين.
لا يكفي، هذا المساء أريد أن أحكي. أريد أن أبكي. أن أبحث عن نفسي بين الأنقاض. الكتابة صامتة وبليدة. وأنا هذا المساء أبحث عن ضجيج." وتأتي أهمية هذا الاستهلال الى جانب عنوان الرواية لنفي يستقيه السرد الروائي المكتوب بتسلسل ووضوح ومنطق. فمادام السارد.والذي يستخدم الضمير الأول: ضمير المتكلم فهو راو داخلي وضمني مشارك في العمل – يقترح (تفريغ الكائن) علامة على العمل أو عنوانا: فإن الحكي – كنفي للكتابة – سيطلق خطاه حرة في اختيار نقطة انبثاق السرد أو هدايته. وهي نقطة ليست خطية أي إنها ليست بداية لسواها أو نهاية بل هي لحظة عشوائية يندمج فيها أفق الراوي المشارك هذا، بأفق حياته التي يريد مواجهتها الآن بحرية وهو يطل على المدينة (باريس) من زجاج نافذة في الطابق السابع والعشرين، وخلفه تماما نجد المرأة في سريرها (تحكي). هي الأخرى "كانت تحكي. ولم أكن أسمع ". إنه يحاول الإفلات من سلطة حكيها: مستذكرا أمثولة شهرزاد – رغم أنه لم يذكرها بالأمس – ورغم أنها كانت تقاوم الموت بالكلام: الكلام الذي يدور في مكان مغلق حتى ليتساءل السارد ".. وكأنها لا تسمع ما أقول. عجبا! وأنا الذي أخاطبها منذ اول الليل. أيقتل المكان المغلق الكلام ؟" لكنه لا يملك الا مساحة هذه الغرفة ( 4م×4م) المطلة على باريس مقتسما مع المرأة نصف هوائها. هو يتكلم ويتذكر ويمشي وهي تتكلم وتقعد في ساحتها (السرير) تؤنب وتذكر.
سوف يفاجئنا من البداية ان الرواية ذات الفصول الأربعة والثلاثين والصفحات التي تبلغ (مئة وسبعا وستين صفحة) تدور في ليلة واحدة. وهذه إحدى أعاجيب الرواية الحديثة التي تزهد بالزمن الطويل أو الممتد.. لأن الانسان فيها متعدد الأبعاد في ذاته ولا حاجة لمزيد من الامتداد.. وان أراد الخروج من كتلته فإنه يحرك طاقة التذكر في داخله. وهذا ما يفعله السارد حيث يعود الى دمشق ويتذكر هواءها وصباحاتها وحتى ظلامها – ويتذكر العنف الذي لاقاه، والجور الذي جعله يفر الى حلم المغادرة ممتثلا لنداء الغرب حيث وهم الحرية والتحرر والحياة.. لكن لعنة الذات: التي لا ترضى بشيء أو تستقر على شيء؛ تلاحق السارد. فها هو في الشام يتوق لأضواء الغرب ويلجأ حتى لتزييف إقامته في البلد البعيد. إلا أنه يعود لحنينه الى أجواء الشام التي رفضها؟ وينعى الحرية الموهومة أو المزعومة وهكذا يشد الكاتب حبال روايته متوترة بين (ماض) قاس مرفوض يهرب منه (ثم يحن اليه)؛ وبين (حاضر) يسد عليه أفق حريته خارجيا (في المحيط والأجواء) وداخليا مع نفسه ومع امرأته؛ حتى يقرر أن يرمي نفسه من نافذة غرفته على علو سبعة وعشرين طابقا عن الأرض ولكن ؟ لنسأل: ما سر ضجر هذا الكائن ؟ وما القوى التي تريد تفريغه ؟
إن لب مأساته تتركز في اكتشافه المتأخر بأن "الحياة لم تكن ما أعيشه بل ما أفكر فيه" وهذه المعايشة الفكرية للحياة لا لمجاسدتها؛ ستجعل السرد فكريا كما قلت في البداية. وأيضا ستوقع السارد فيما أسماه "مصائر" تنتج خصوصيتها فيتحول أخيرا الى، أعقل صغير في عالم واسع شديد الاختلاط " وهو عقل صغير كما تصفه المرأة لا يستطيع النهوض بمهمة مواجهة العالم وفهمه فضلا عن طموحه بتفكيك الأشياء من أجل استيعابها. وتبدأ من هنا إشكالية وجود الكائن في العالم متوزعا في محاور مؤرقة نستجلي منها:
– صلته بالمكان عبر تحديده الزماني: الماضي – دمشق والحاضر: باريس.
– الحنين الى ذاك الزمن (الماضي) لدرجة أن يصبح حتى (الظلام) مختلفا.
– صدمة الوهم، واكتشاف زيف الغرب الذي كان حلما فصار قيدا.
– صدمة الحب: حيث المرأة تصبح جلادا يصادر حاضره وماضيه.
– صدمة الذات التي ترغب بشيء وتفعل شيئا آخر
ولعلنا بهذا التلخيص (نهتك) حرمات النص الروائي أو نقزمه ونحجمه؛ لكننا لا نستطيع إلا استبيان الضواغط الكبرى الفاعلة في أزمة هذا الكائن الذي يعذبه ما هو كائن بالقياس الى ما يجب أن يكون:
"إن الحرية – حريتنا التي يمكن أن نخسرها، أحيانا لأتفه الأسباب ليست في أن أكون كما أنا عليه ؛ فحسب ؛ بل أن أصير أيضا وباستمرار كما أريد."
ولعل هذه (العلة) هي سبب شقاء وعي الكائن. فثمة قوى تريد إفراغ جسده وروحه أو تفريغه كليا.. وبإزاء هذه (الحكمة) لا يغدو لتفاصيل المكان والزمان والأحداث أي معنى. فكل ما مر وسيمر ما قيل وما يقال، ما عاشه وما سيعيش ؟ إنما هو جزء من (مواجهة المحيط) ضديا لهذا التفريغ الوحشي المسلط عليه.
ثمة مواجهة أو تعارض أهم بين الكتابة (المنطقية – العاقلة) وبين الحكي (العفوي – اللامنطقي). ومنه تتفرع معارضة أهم بين (كلام القلب) و (لسان العقل).. وعبر ذلك يريد الروائي أن يستعيد الكائن – بطل الرواية الذي لا بطولة له ! تفاصيل ماضيه ورعبه من حاضره وإعدامه لمستقبله.
– صدمة الغرب كانت تساوي عنده صدمة الحرية كلها , فهنا في الغرب تستطيع أن تكون حرا ولكن كحرية طير مشدود الى شيء ثابت بخيط طويل.
"أنسيت كيف كانوا يقنعوننا بأننا أحرار؟ والحرية، عندهم هي أن يمسكونا بين أيديهم، وأن نتصرف (كما نشاء) بين مخالبهم، وهل يمكن أن يتصرف ممسوك إلا بما يمليه عليه ماسكه ؟"
ولو كانت صراعية الكائن مع محيطه (القديم أو الجديد) صراعا سياسيا لهان الأمر. لكن المسألة أعقد من ذلك بكثير. فهي تمثل أزمة الواحد أو الكائن وحيدا بمواجهة المحيط نيابة عن سواه:
"صراع الكائن مع محيطه ليس صراعا سياسيا بحتا. إنه أعقد من ذلك بكثير". إنه يريد معرفة "مكونات تلك البنية التي فرغتنا من محتوانا "وحولتنا الى مجرد مصفقين، ومن ثم دفعتنا الى التخلي، بعد أن فتحت لنا الأبواب لنهرب. لنهرب تاركين لها كل شيء.."
ولا خيار الآن إلا أن "نحكي لنفضح ذلك كله" أو "أن نسكت الى الأبد" وقد اختار الكائن أن يحكي – نيابة عن ذاته وسواه.
ولعل النعيمي أراد قاصدا الا يعطي لبطل روايته اسما لكي يظل رمزا جماعيا للكائن المفرغ من محتواه.. ولعله أمعن في تعميمه حين جعله يعيش حياة جديدة تمتد بباريس عشرين عاما بجواز سفر مزور.. كناية عن سلخ هويته. تبدو حرب الكائن ضد تفريغه: أحيانا حربا وهمية لا تتوقف. لكنها كما يتذكر السارد تفاصيلها في لحظاته الأخيرة:
"حرب ضد أعداء حقيقيين، حقيقيين جدا ونكاد نعرف أسماءهم وسماتهم نعرف ما فعلوه بنا وما لم يفعلوه. لكن الاحساس بعدم الجدوى في خوض حرب (وهمية) نقابل فيها أعداء ليسوا وهميين، هذا الاحساس المريع، ليس في حقيقته إلا بعض مزايد (تفريغ الكائن) وهو أهم سلاح بين هؤلاء الأعداء."
ومما يضاعف عذاب هذا (الكائن) المعاني من تفريغه أن إدراكه (متأخر) دائما. إنه يبرر تأخر إدراكه بأنه طبيعي. والا لكان الادراك إشراقا إذا جاء في موعده. ومما أدركه متأخرا هذه الحقيقة المريعة التي تؤكد توسيع ضمير أناه ليشمل الجماعة:
"إنني كنت بحاجة الى شجاعتين لتغيير حياتي: واحدة تعوض عن جبني، والأخرى تعوض عن جبن الأخوين. ومن أين لي بهما معا؟" ولا أظن أن موقفه من المرأة إلا جزء من أزمته هذه، فقد أحبها وعانى معها التشرد والاضطهاد واختار الغربة بتشجيع منها، لكنها الآن (امرأة) ينطبق عليها هذا القانون الذي يقوله بسخرية أثناء تداعياته الأخيرة.
"تناضل المرأة لتكون حبيبة، وعندما تكون، تناضل لتصير زوجا، وعندما تصير، تناضل لتكون أما، وعندما تكون، تناضل لتغدو عشيقة، وعندما تغدو، تناضل لتصبح حبيبة، من جديد. ويكون الأوان قد فات وعندها تدرك أن تلك الأدوار، رغم تعددها لم تكن في الحقيقة الا دورا واحدا: دور الكائن الذي فرغ من محتواه.."
وتحيلنا هذه الفقرة الى مقولة (تفريغ الكائن) التي انشغل بها الكاتب، ومثلت لب أزمة السارد الاشكالي. لكنها تضيء لنا جانبا من رؤية السارد للمرأة كوجود ملازم للحياة. فهي تعيد هذه الدورة المتعاقبة (حبيبة – زوجة – أم – عشيقة – حبيبة) ولكن بهاجس تفريغها من روحها لصالح كسب حربها مع الرجل. فهي تعاني تفريغا كونيا وكيانيا من نوع أخر: تنجزه هي ذاتها بسبب بحثها عن هذه الأدوار المتعاقبة.
إنها بالنسبة لهذا الكائن الذي يحكي ليست الا وهما: "كان يكفي أن أستدير لأراها خلفي، وأن أراها، هو أن أرى "أوهامي". أوهام الحياة الأول التي بدأت تتجمد.."
إن خيبة الرجل بالمرأة – الحلم وتحولها الى وهم هو جزء من إشكالية السارد ودوافعه (أو تبريراته) لموته المعلن من البداية واختلافه مع العالم. فما جرى بينه وبين هذه المرأة لم يكن الا وهما أو هو (سقطة) كما يقول:
"تلك كانت سقطتي الأولى. سقطة الحب الذي تجسد حقدا ولؤما، فيما بعد لا. لم يكن ما بيننا حبا. وكيف يحب مضطهد مضطهدا أخر.. ولم يكن ذلك إلا كذبة أخرى سأكتشفها بعد ذلك بزمن طويل.."
إذن فتفريغ المرأة – الكائن ليس بإرادتها أو لسبب ذاتي بل لأن الحب نفسه غير ممكن في مثل تلك الأجواء التي جاء المحبان السابقان منها: أجواء المنع من المشي والكلام والتظاهر والركض والتعبير.
لماذا الموت إذن ؟ وهل هو الحل الأخير بعد سلسلة الخيبات والأوهام وانكشاف الأكاذيب والسقطات ؟
حين تسأله المرأة أو (تسائله) بدقيق العبارة فإنما لنعرف موقف السارد نفسه من الموت: إنه لن يغير العالم بفعلته تلك: إلقاء نفسه من نافذة الطابق السابع والعشرين في فجر باريس لكنه يرد على تعليقها بأنه لم يكن يحلم بأن يغير العالم بموته. كان يريد فقط أن يعاقب نفسه على ما يسميه (تفاهتها)..
إن الموت هنا إجابة على أسئلة تتحدى وعي السارد. أسئلة الوطن والحرية والغربة والحب والآخر. وأشد صدماته كانت صدمة الحب.
"لم أكن أدرك أن الكائن المفرغ لا يعرف (ولا يستطيع) أن يحب، لأنه لا يحسن إلا الانسلاب. وأن عملية تفريغ الكائن لا تستقيم إلا بتفريغه من طاقة الحب العظيمة (والتي هي وحدها أساس تمرده).."
على المستوى البنائي نحن لا نرى كيف سينتهي مصير السارد أو كيف ينجز موته المعلن منذ بداية الرواية. إنه يضعنا في وهم الانتحار "ذلك المساء العاصف الذي سينتهي بموتي – (بموتي مقذوفا من الشباك)."
وها هي هيبته تصل الى مداها الاخير فتنتهي مرحلة بحتة وأسئلته.. وخيباته.
"دكنت أتصور أن مشروعي الشخصي مشروع كوني".
بهذه الجملة تتركز أشد أزمات السارد. فهو مصاب بتحول أحلامه الى أوهام.. ركض وراءها وناقشها وحللها عشرين عاما ثم انتهى كل شيء في ليلة واحدة إن مستويات الدلالة في الرواية هي أشد المستويات إغراء للتحليل. فقد وجهت قراءتنا الى معاينة الدلالة لأنها العمود الفقري للرواية التي وصفناها بأنها رواية أفكار.. وقد وظف الروائي تقنيات السرد لهذا الهدف،،فالأحداث أو أفعال السرد تأتي ثانوية دائما وبما يكفي فقط لاضاءة عتمات الماضي ومراجعة الذات وعلاقات الكائن بالعالم.. والماضي هنا حاضر عبر المونولوج الطويل الذي يستغرق مساحة المكان والزمان على امتداد الرواية التي تجري في ليلة واحدة في مواجهة نافذة مشرعة للانتحار بينما تقبع المرأة في الخلف كصوت متعارض مع صوت السارد.
وتجريد الرواية من أسماء شخصياتها (وهما الرجل والمرأة فقط) ترميز لتعميمها كي تحكي أزمة (الكائن) وليس كائنا محددا..
تعكس الرواية عذابا متعدد الأوجه.. فثمة حنين للشرق.. لظلمات الشام المضيئة وخيبة بالغرب الذي يلد الظلام دائما ويعطي الأوهام.. ويمكن أن نعد الرواية جزءا من أدب المنفى أو المهجر حيث يفلسف الكاتب غربة بطله (كائنه بالأصح) فهو يلقي اللوم بخيبته في رمز الغرب ووهمه الينا "لقد ذهبنا الى باريس بصرعانا" ثم الى الغرب نفسه الذي يند الأحلام ويمنح جرعات الحرية بحدود قاتلة.. إضافة الى أننا نحمل معنا أزمات ذواتنا التي لا يغيرها تغير الأمكنة.
الأزمنة مختلطة مبثوثة في ثنايا جسد السرد وانعطافاته. وعلى القاريء أن يغير منظوره وموقعه مع كل تغيير أو رجوع.
لقد دخلت الرواية مناطق خطيرة على مستوى الوعي بالغرب والغربة والحب والمرأة والحرية والجنس والقمع بدون اختلاف عقدة تقليدية أو افتعال مواقف وأفعال فضائحية على مستوى الوعي أو البوح كالجنس مثلا، فهو عابر في سياق علاقة الكائن بالمرأة وخاضع لأطروحة تفريغ الكائن ؛ وليس مقصودا لذاته بطريقة استعراضية طالما رأيناها في روايات عربية كثيرة.
أما علاقة الكاتب بالسارد وتحقيق انتظار القاريء لمطالعة كسر من سيرة ذاتية أو خرائط حياتية لانسان محدد، فهي بحاجة الى دراسة منفصلة حقا لأن كثيرا من الشواهد الروائية على مستوى تحقق النص تشجع على الاحالة الى الذات الكاتبة. فالمخيلة لا تعمل هنا بطاقتها الكاملة وانما هي تفسح المجال للذاكرة كي تعمل وتستعيد رؤى الوطن البعيد، وأحداثه ومعايشة الكائن لما يحل به من قمع وكبت واضطهاد تشوش على اختياراته وقراراته وتتبعه في مصيره اللاحق.
إن قراءة رواية خليل النعيمي تفرض أعرافا جديدة هي جزء من أعراف قراءة نصوص الحداثة سواء في متابعة الملفوظ السردي المتمرد على تراتب المنطق المألوف أو تناميه الخطي. أو في الانتباه للحوار المكثف فكريا، ومراقبة حركة الكائن في ساعات حاسمة يستعيد فيها حياته كلها ويواجه محيطه وعالمه وماضيه وعلاقاته ووعيه واختياراته.
لكأنها إذن محاكمة للذاكرة والحاضر والمستقبل، لا تليق بها الا قراءة موازية تنهض الى مستوى ما تؤجج من هيجانات عاطفية وكلامية في معركة الحكي التي أعلنها السارد على العالم عبر النافذة في ليل باريس الموحش.
حاتم الصكر (ناقد واستاذ جامعي عراقي يقيم في اليمن)