تتخذ رواية «هوت ماروك» (دار الفنك، الدار البيضاء ، 2016)، للكاتب المغربي ياسين عدنان، من الواقع، بتشابكاته ومتواليات أحداثه، مادة أساسيّة لتشكيل وبناء عوالمها. فعبْرَ إسقاطات واضحة، تتبدى للقارئ مع توالي الصّفحات، تجسّد الرواية وترسم معالم الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمغرب.
تتوّزع الرّواية، التي تمتدّ على حيز ورقي من 460 صفحة، عبر ثلاثة تمفصلات ذات عناوين دالة، كل عنوان يدل على مرحلة معيّنة: الفصل الأول «الفراشة في طريقها إلى المسلخ» يغطي فترة الدراسة الجامعية للشّخصية الرئيسية «رحال العوينة» إلى غاية اشتغاله في محل الاتصالات الهاتفية، حيث شرّح هذا الفصل أعطاب الجامعة: التربوية والتعليمية والبحثية، وكذا اعتمالاتها الطلابية. كما سلّط الضوء على جانب من الواقع الثقافي والأدبي. الفصل الثاني « السنجاب يدخل العلبة الزرقاء»، وهو فصل يغطي بالسّرد فترة اشتغال «رحّال» في سيبيركافي، وهي فترة شهدت انتقال الحكم بين ملكين، الحسن الثاني ومحمد السادس، وما صاحب ذلك من تغييرات واقعية، ومنها الانفتاح التواصلي، وما رافق ذلك من خلق آليات للتّحكّم وتوجيه الرأي العام. أما الفصل الثالث فعنونه الكاتب « الكوميديا الحيوانية «، وفيه يرصد التّحولات التي عرفتها مدينة مراكش، ومن خلالها المغرب، على المستوى الديمغرافي والجمالي والسياسي (الحزبي والانتخابي).
وهكذا تغطي أحداث «هوت ماروك» مجالا زمنيا يمتد من الثمانينيات، بداية ظهور التيارات الإسلامية في الجامعات المغربية، ومحاولة فرض سيطرتها على الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، إلى غاية اللحظة الاجتماعية والسياسية الراهنة؛ بل في الصّفحات الأخيرة من الرّواية نجد استشرافا لأفق سياسي ربما يعيشه المغرب، وهو حكومة ائتلافية بين الإسلاميين وحزب الأخطبوط الذي عبرت عنه الرواية «بالرقم الجديد» وهو ذراع الدولة الحزبي. فعبر كلّ هذه المنعرجات والمنعطفات التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية، التي تمضي الرواية في سردها، يلفي القارئ حضورا قويا وواضحا لما اعتمل في الواقع المغربي الحقيقي، وكأنّ رواية «هوت ماروك» هي رواية إسقاط للواقع المغربي بأدقّ تفاصيله؛ وهي إسقاطات على أشخاص وهيئات تحركت وتجسدت في الرواية، كما تحركت وتجسدت في الواقع. وكأن كاتبها ياسين عدنان طبّق، عن وعي، الفكرة القائلة بأن الواقع أبهر من الخيال.
تتأسس باكورة ياسين عدنان الروائية هاته، على تسليط الضوء الكاشف على تحوّلات فضاء مكانيّ معروف هو مدينة مراكش، وتحديدا شارعها الداخلة الموجود في الواقع. وعلى تتبّع دقيق لمسار شخصيّة رحّال العوينة، ابتداء من دخولها الجامعة إلى تخرّجها منها، فيقدمه السّارد، منذ البداية، نموذجا للإنسان السلبي المعوّق والمعطوب ثقافيا واجتماعيا وقيميا، الّذي لا يملك القدرة على التّحكم في مصيره الحياتي، بل لا يتصور أنّ له الحق حتى في التّفكير في هذا الحق؛ حق عيش حياته كما يشتهي هو لا كما يريد غيره، والذي لايملك الجرأة للتعبير عن كينونته ووجوده، لأنه لا يعرف أساسا ماذا يريد ولما هو موجود. فعبر مسار هذه الشخصية المخادعة في الظل والسّرّ، يرسم السّارد التحوّلات التي عرفها المغرب، فمساره الجامعي كشف مآسي البحث العلمي(الضعف والترهّل وانحسار الأفق المعرفي للمعلم والمتعلّم)، وطلاّبيّا (صراعات الفصائل حول فضاءات الجامعة: الكافيتريا على سبيل المثال، ونقاشاتها العقيمة). أما مسارها الحياتي والعملي فلم يكن إلا تأكيدا لهذه الخصيصة، إذ بعد أشهُر عطالته القليلة، بدأ بالعمل بمدرسة خصوصيّة كتعويض له على زواجه بحسنية، وكإغراء له للقبول بها زوجة، وتعمية له عما يمكنه أن يكتشفه من عدم عذريتها الذي انتهكها ربّ العمل. ثم تحولت طبيعة عمله دون تغير محله، إذ تحوّل المحل إلى محل للاتصالات (تليبوتيك)، ثم إلى محل للانترنيت (سيبير)، وصولا إلى مزواجته بين هذا العمل وبين عمله مع جهاز المخابرات، بعد اكتشاف هذا الأخير لمهاراته في الألاعيب الالكترونية، وخلق البروفيلات الوهميّة، وتقمّص التّحدث باسمها؛ هذه الهواية التي كان يمارسها بالمجان ستتحوّل إلى عمل مسؤول يتقاضى عنه أجرا مجزيّا. وهنا تكشف الرّواية جزءا من ألاعيب السلطة للتّحكم في الرأي العام وصناعته وتوجيهه إلى الوجهة التي تبتغيها وفي الوقت الذي تشاء. ومن هنا رصدت الرّواية واقع الحريات المتوّهم الذي يعيش فيه النّاس والمجتمع، من خلال تعاملهم الحرّ والمفتوح عبر الفضاء الإليكتروني، فهو واقع متحكّم فيه ومصنوع من خلال شبكة من المتعاملين الموجَّهين والموجِّهين للرأي العام من خلال تعليقات متعددة لبروفيلات مختلفة قد تحمل أسماء تراثية أصيلة كما قد تحمل أسماء عصرية. وهو واقع لم يظهر مع الصحافة الالكترونية بل كان معمولا به قبلا في الصحافة الورقية، وهو الذي تجسده شخصيّتا: ميمي ونعيم مرزوق اللذان سخرا قلميهما لتنفيذ مخططات وإملاءات الجهاز السري للدولة.
وكما أن الفضاء الإلكتروني (صحف إلكترونية، مواقع التواصل…) يمكن أن يكون فضاء لصراع جدي وكبير وآلية من آليات التحكم في صنع القرار واستمزاج الرأي الشعبي وتغيير وجهات نظره، والتلاعب وصنع توجهاته وأنماط تفكيره قد يغدو، كما في الرواية وفي الواقع، فضاء للألاعيب الصغيرة ولتصفية الحسابات الشخصية، وهكذا تنسج الرواية العديد من الحكايات الصغرى وفق هذا المعطى.
سعى الكاتب إلى استخدام تقنية فنية مطروقة، غير أنه وظفها بشكل ذكي. وهي حيونة الشّخصيات، أي إلباسها لبوسا حيوانيّا، انطلاقا من تصوّرات السّارد وتمثلاته عنها، ورصده لتصرّفاتها ولأشكالها الخارجية؛ بدءا برحال العوينة الذي رأى نفسه سنجابا، مرورا بحسنية التي غدت قنفذة، وعزيز سلوقيا، وبوشعيب المخلوفي فيلا، وعبد السلام سرعوبا، وحليمة بجعة، وأنور ميمي نمسا، ونعيم مرزوق حرباء.. وغيرها من الشخصيات داخل الرواية. فمن خلال هذه الحيلة الفنّيّة تشكّل جانب من اللعبة السردية لرواية « هوت ماروك». إضافة إلى السّخريّة باعتبارها ملمحا فنيا تلبّس هذه الرواية، ومن تجليّاته: السّخرية من الواقع الحزبي، حين تشتعل معركة حامية الوطيس بين حزب الإسلاميين والحزب الذي نُعِت بالرقم الجديد حول قضية تافهة هي: أكل الحلزون، حيث سخّر كل طرف آلياته للدفاع عن رأيه، باستعمال حجج من نفس مَعِينِ الطرف الآخر، متناسيين القضايا الحقيقية للناس. وهكذا تغدو هذه الواقعة تجسيدا للسخافة التي آلت إليها الممارسة الحزبية في مغرب اليوم.
تكاد رواية هوت ماروك في جزء كبير منها أن تقول الواقع كما هو، وتسمي الأشياء بمسمياتها بتحوير بسيط فقط، بلا مواربة وبلا محاولات كبيرة من طرف الكاتب للتمويه على واقعية الأحداث والوجود الحقيقي لبعض الشخصيات أيضا. وكأن هذا الرهان، هو رهان الكاتب ياسين عدنان: تقديم المغرب، كما هو، روائيا بلا تضليل أو تمويه. وهذا ما توفق فيه بشكل كبير، فرواية «هوت ماروك» هي رواية تعريةٍ جريئةٍ لاختلالات الواقع المغربي تعليميا واجتماعيا وقيميا وثقافيا وسياسيا وحقوقيا.
محسن أخريف*