نبيل منصر
كاتب وشاعر مغربي
«إنَّ حَساسِيَّة الشاعر الميتافيزيقية تُساعِدُنا على التقرُّب مِن أودِيتِنا السَّحيقة واللَّيليةِ… ميتافيزيقا اللَّيل لإنسانِيِّ الكبير»
شاعرية أحلام اليقظة-غاستون باشلار
شِعريةُ تَجرِبَة في الكتابة
ثمة تجارب، في الشعر المعاصر بالمغرب، تَخُطُّ لِفرادة فنية تُضيء مَجاهيل مُمارسة شعرية، خارجة بقوة مِن ضَغط الواقع والسياق ومُخلفات البنية التقليدية في الِانتاج والتلقي. تجارب لَمْ تَعبُر زمن الحداثة خَطفا ومُروقا، وإنما مُكابَدة صَعبة استدعت الإنصاتَ والمُساءلة والحِوار والصمت والمحو والمُجازفة. أفعالٌ تنطوي على وَسْمٍ مُتعدِّدٍ لِحداثَة كتابَةٍ تَنظُرُ لِتاريخِها الشَّخصِيِّ ولِأفقِها العَربيِّ والكَونيِّ. أفعالٌ جَعلتِ اللغة الشعرية، هذه المَرَّة، مَوقِعَ التزامٍ، على أرضِها تَشِمُ الذاتُ مُكابداتِ أثرها وَوُعودِها وتَحوُّلاتِها. اللغة الشعرية هي إذن مَدار الصِّراع والحُلم، على أرضها تُبنى الأشكال وتَتحطَّم، على نَحْوٍ يَجعل لِلمُمارسة الشعرية، بِرَنينِها الأونطولوجي، تاريخا ومَحطَّات.
تَجربة عبدالله زريقة عَلامة مُتوهِّجة في هذا السياق. لَمْ تَرث شِعريَتها على نحو هادئ وبرَّاني، وإنَّما اختبرتْ حداثَتها على أرض جَسَدِها الشِّعري واللُّغَوِي بِما هو امتداد حَميمٌ لِلْجَسد الحيٌّ في قلقِه وسَعيِه لِلعيش والحُرِّية. إن أسئلة السياق الحارق عَثرتْ لِنفسها، بالتدريج، على أجوبة في اللغة الشعرية ذاتِها، التي كابدَتْ إبدالَها الحداثي بالتضحية بِغير الشِّعري في أفقِها ووَعدِها. الحارِقُ في أسئلة السياق، اندمجَ في أفق لغة شعرية تَختبرُ الشرطَ الإنساني، وتُعيدُ، في ضوء مُكابداتِه، خلقَ شَكلِها الفني الحداثي. وليس الشكلُ، ضمن هذه الرؤية، لُعبة شكلية مُتْرفة، مُتحرِّرة من الأعباء، وإنما ديدنٌ فنِّي أونطولوجي يولدُ عبرَه الجسدُ الشعري وتنحفِرُ فيه تَوتُّراته ومُكابداته.
اِختبَرَ عبدالله زريقة حداثَته الشِّعرية اختبارَ قَلَق. وقد انتظمتْ «ثورته» لِتُصبِحَ توتُّرا باطنيا، ليس فحسب حِدادًا على «موت» اليوتوبيا، وإنما على انهيار قيمة «الإنساني». إن التزام الشاعر تَزحزحَ عن مَوقِعه، باطرادٍ مع تَزحزُحِ القيمة المَرجعية لِلحقيقة ولِكُلِّ حَقيقةٍ، بِغَضِّ النظر عن إطارها المَرجِعيِّ والثقافي. مُكابدَة هذا الِانهيار، الذي سَيتجذَّرُ في اللغة الشعرية والمفاهيم المُسيِّجة لها، سَيُوَسِّع أفق الحِداد، بِجَعْلِه حِدادًا على الإنساني، وليس مُجرَّد انجلاءِ وَهْمٍ وَطنِي. هنا، لَمْ يعُد عبدالله زريقة أسيرَ ثورة أفقيةٍ تأسرُ اللغة الشعرية في نموذج أو شِعار، وإنَّما تفجَّرَتْ حساسيتُّه لِتنتظِمَ في «ثورة باطنية» عمودية، حَرَّرتْ لُغته وجَعلتها قادرة على امتصاص وتَحويل قلق ثقافة كونية، تَكثَّفتْ خاصَّة في ثقافة ما بين الحَربين الكَونِيتين وما بَعْدَهُما.
روحُ العَبث والسُّوريالية استجابا شِعْريا لِثورَة عبدالله زريقة، ولكنَّهما تَخلَّصا من إطارهما النظري وهما يُواكبان انحدارا عميقا في ظُلمات الذات، في استجابة لِصوفية وَثنية أقرب إلى العفوية بالرغم من الوشائج الرهيفة التي تشُدُّها إلى الأفق الفكري. اللغةُ الشعرية تعيد صياغة أسُسِها الفكرية والثقافية، على نَحْوٍ يُخلِّصُها من كل إطار مَدرسِي أو تصلُّب نَظري. اللغة الشعرية تُعيدُ أساسا بِناءَ الذات في ضوء مُراجعاتِها وكُشوفاتِها المُستمِرَّة، فتدَمِّرُ كل كوجيتو يَتأسَّسُ على أسبقية الوعي أو الفكر. الكوجيتو هنا شِعري يَرتبِط بِهبَات اللغة الشعرية التي تُعيدُ اكتشافَ الذات بالِانحدار إلى مهاويها البعيدة. اللغة الشعرية، بِذاتِ القَدْر، تُعيدُ اكتشاف طاقاتِها نَفْسِها، في الوقتِ الذي َتخترِقُ عَموديا أشياء اللغة والعالم، لمُمارسة فِعلِ الإيقاظِ وتَفجير الطاقات المَطمورةِ.
سُريالية عبدالله زريقة غير مُخلِصة لِغَيْر جُذورِها، لِأنَّها مُنبثقة مِن تورُّط خاص في شَرطِها الإنساني، ومِن صياغة خاصة لِهواجِسِه وقلقِه. وهي أقرب إلى ينابيع «اللاوعي» الشعبي التي تمنحُ لُغتَها الشعرية جُذورا ثقافية خاصة، بِذاتِ القدْر الذي تَعملُ على إعادةِ اكتشاف وبِناء السِّيمياء السِّحرية لتلك الجُذور. ثمة صوتٌ غنائي «شعبي» يُعلِنُ أحيانا، في بداية الكلام الشِّعْري، عن هذه السِّيمياء بِفاعليَتِها الشعرية التي تَخترِقُ اللغة والمُتخيَّل، فيما هي تَستدعي نداءاتِها الثقافية البعيدة. فاعلية تتحطَّم معها الحدودُ لِأنها تَصيرُ حُدودا شِعرية، تَنصَهِرُ بداخِلِها الأقطابُ وتندمِجُ الآفاق، فلا يَكون ثمة «لا وعي» شعبي إلا مُنصَهِرا في عَمَلٍ كبير لِلُغَة شعرية مُتوتِّرة، مُقتحِمة وغَير مُهادِنة.
ثمَّة مَجهولٌ كبيرُ في الذات غَير مُنفصِل عَن العالَم وعَن اللغة الشِّعرية التي تَكتُبُهُما بِحَرَكاتٍ خاطفة، ولكنَّها حَركة ذات إصرار. لُغة ما تَنفكُّ تَعودُ مُكتفِية بأوْهَى الرَّوابط لِتنسُج رَتْقا وخَطْفا حِصَّتَها مِن مَجهولٍ يَكبُر بِاستِمرار. لا يَنفصِل هذا النسْجُ عَن حَساسية اللعنة وإلهامِها، الذي يَبني جمالية أخرى تَنْهَضُ على تبادُل بين «المَلاَك والشَّيْطان»، يَتعيَّنُ فيه على الأوَّل أنْ يُصغي لِكلام الثاني. لا تَنْغرِسُ لَعنة هذه التجربة في تُربة الشِّعر الرَّمزي، ولكنَّها تمدُّ جُذورًا أبعد مُخترِقة القِصة الدِّينية الأصلية، ومُنتمِيَة لفيْضِها الشِّعْري ولِمَا يَتوامَضُ في السِّيمياء الشعبية مِن رُموز وأخيِلة. وهُنا، تتقاطَعُ حَساسية اللَّعنة مع نَزْعَةٍ وَحْشِية وسِحْرية جَريحَةٍ، عَبرَها تَنزِلُ اللغة الشِّعرية إلى كهوف الذات، عَميقة الغَوْر، التي تَتوامَضُ فيها حياةٌ باطنية غريزية تبدو وكأنها تَبْدَأ، مُتخلِّقَة مِن العَدم أو مِن عَناصِر الطبيعة المُوغلَة في القِدَم.
يَنْعقِدُ مَجهول تجربة عبدالله زريقة في سياق تَركيبٍ جَدلي لِثُنائية الغُموض والوُضوح. كفَّتْ هذه الثنائية عن العمل في تجربة زريقة بالمَنطِق الذي شطَرَ تجاربَ مِن الشِّعر المُعاصر ومِن مُقارباتِه النقدية. ما مِن مانَوية تَفصِلُ في هذه الكتابة بين الليل والنهار، بالرغم مِن تواتُر مُعجمِهما في البِناء. هو تواتر جَدلي لا يكتفي بِتبادل مكان الرّؤية وتداخلِها، وإنما يَنمُّ عن حَيْرة لا تهدَأ. حيرةٌ بلا قَعْرٍ ولا حُدود تقِفُ عندها في المَدى المَفتوح لِلكلمات والأشياء. لعلَّها حَيْرَةٌ تأسيسية، تفاقَمتْ مع السَّيرورات التاريخية والثقافية والميتافيزيقية، التي طبعتْ حياةَ الإنسان. تَنبثِقُ التَّجربة من هذه الحَيرة إذن وتُوزِّع دمَها ضَوْءًا على الكلمات. بها تَعيش وتَتنفَّس وتَرَى العالَم الذي تتأمَّلُه وتَخوضُ فيه.
ثمة وُضوح غامض أو غير مَفهوم (بالرغم مِن كونه جدليًا) في كتابة زريقة. وإذ نُرجعُه إلى تلك الحَيرة الأصلية أو المُقيمة في السَّيرورة، فنحن لا نَحْرِفُه عن مَنابِعه الشعرية العميقة. لا نحرفه عن رؤية الشاعر وهِبات لغته الشعرية الخاصة. البناءُ الشعري، في هذه الرؤية، لا يَستمِدُّ جَدارتَه مِن غُموض التَّركيب واسْتِغلاق الصُّورة (بالرغم من غرابتها)، بل مِن غُموض العالَم والحياة التي تَرغَبُ في تَعميره، لكنها لا تظفَرُ مِن مادَّته بِغَير اللَّاجدوى واللامعنى، بغير النافل الذي يَمتد أثرُه الماحي إلى المعاني الكُبرى كاللغة والشِّعر والحُب والجسد والطفولة والموت. المَحْوُ هو الذي يَجعَلُ الحَيرةَ تمارِسُ عَملَها الشِّعري، فتُبدل مكان الرؤية، في الوقت الذي تُعيدُ فيه كتابة مُغامَرة الكلمات والأشياء.
لا تَكادُ تَسْتقِرُّ قصيدة زريقة على شيء. تَقِفُ بِغَير دعامات تركيبية في مكانها الهش. تنطلق بلا تَصميم استئنافا لِكلام نافِل قيل أو يَجِبُ أنْ (لا) يُقال. ثمة تَرتيبُ مُجاورةٍ يَحْكُم سَيرورة تواتُر الأسطر الشعرية مُثقلة بأنفاس كلماتِها المُجهَدة، الجَريحة في صَميمِيَّتِها. كلماتها الرَّازحة تحت ثِقل تَجهَدُ هي في تَسْمِيته. ثمة إجهادٌ لكن هناك مثابَرة في فعل التسمية. الشِّعْرُ يَحفر تحت «قدمَي» الكلِمات، حين تتعَبُ هذه الأخيرة من مُلاحقة الأشياء ومِن مَسافاتها. العالَم مَليء بالخَواء، والكلمة فقدَتْ براءتها (وربما سداها الداخلي) منذ أنْ أصبح لِلتلفظ تاريخ وسِجِّلات. غير أن الشعر هنا ليُمارس حقَّه في المَحو واليأس والكتابة. حقه في إبدال مكان الرُّؤية وإعادة صياغة تعاريف معجم الكلمات والأشياء. حقه في تسمية مُبلبِلة لقيم الشعر والجمال والحقيقة والموت والحياة.
تَتوسَّل قصيدة زريقة بِبنية الاستفهام دون أن تُثبتَ علامَته. بل إن الجُملة الشعرية المُهيمنة تَنطوي غالبا على حيرة لا تترسَّخ في التركيب. ثم ما مِن علاماتِ تَرقيم تُنظم الكلامَ باستثناء النقطة. الحَيرَة استفهام (أو تعجب) صامتٌ يَتواتَر في جُملة خَبرية، يَتجدَّد بناؤها على رأس كُل سَطر شعري. تقول الحيرةُ تأمُّلا أو تفصيلا غريبا، يتحيَّز في الذات أو في العالَم أو في الجَدل غيرِ السعيد بينهُما. أحيانا تَبدو هذه الحَيرةُ لصيقة بِجِلْد العالَم الصغير، الذي تَغرق فيه خطواتُنا اليومية. يَكفي نَفْضُ الغُبار لِتَلْمع أشياءٌ رؤيوية كانت تَحتجِبُ عن حَواسِّنا. يَكتفي الشاعرُ بما قلَّ مِن الكلمات، وبما استقام أمامَه من تراكيبَ، ليقول هذه الحيرة اللامعة. هي حيرة في الرؤية وليست في التركيب. بل إن التركيب يستسلِم لرتابة مُفَجِّرة، على غير العادة، لِالْتِماع رؤية تبدو قائمة سلفا في أحشاء اللغة أو العالم، أو في جَوف مَن يَتعهدُهما بالإيقاظ.
تَتكشَّفُ تجربة عبدالله زريقة عن مَتاهة شعرية، مَسالِكُها المُتعرِّجة والغامضة تُومِض بالأحلام والكوابيس، بالأشياء الكبيرة أو المُتناهية الصّغر، بأشياء الأرض والسَّماء في توالُج مَحموم بين العوالِم السُّفلِية والعُلوِية، بين مَلذات الفِردوس والجَحيم، لأنها ملذاتٌ غير مُنفصِلة عن تيار اللعنة، الذي يَخترقُ العمَل الشِّعري، فَيحوِّل الكلمات والأشياء والعلاقات المُحتَمَلَة بَينهُما. تيار يَتغذَّى في لحظاتٍ كثيرةٍ على حَساسِية الخوف، ليس بِوصْفِه شُعورا سَلبِيا، يَتنظمُ في علاقة تضاد مع «الشجاعة»، بَل بِوصْفِه قُوَّة، هاجِسا مُهَيْمِنًا، وشَرطًا مُؤسِّسا، بِدونِه تفقِدُ الحياةُ جَدارتَها، بَل اسمَها. فالخوفُ هو الذي يُسمِّي، وعن فاعليتِه تنتظمُ الحياةُ وأشياؤها في رَعْشَة ميتافيزيقية كبيرة.
يَتشكَّلُ خِطاب عبدالله زريقة بين الأنتَ والأنا، في تبادُلٍ يُؤسِّسُ لِغنائية أخرى، غِنائية مُنقَطِعة عَن نَبْع أو جَوهَر، وهي لا تُنشُدُ هذا الوصْلَ المفقودَ، بَل تُقيمُ في لَحْظَة تَمزُّقِها وتَغْرَق في عَبثية الحياة، وعَبثية المَسعى. تُقيمُ في تَقَطُّع يَكونُ استمرارية للِمزَق والشذرات. وتأتي بِنيةُ الاستفهام لِتُوَسِّع الهُوَّة بين المعرفة ومَجهولِها في تشكيلٍ شِعري، لا يَتطلَّعُ إلى المعرِفة والإشباع، وإنما إلى مُراكمة الهواجِس المُعلَّقة وإيقاظ الأعلاق الدفينة أو المنسية، وملءِ الفراغ بالخوف، وإفراغ الكلام مِن المَعنى. في سياق هذا التمزُّق الغِنائي غير قابل للاِلتئام، يرْتَفِعُ صَوتُ نَزعَةٍ تهكُّمية، مُفْرغَةٍ من دواعيها الاجتماعية. تهكمية ميتافيزيقية، تُدنِّسُ النبيل، وترفعُ القداسةَ عَن المُقدَّسِ ومُعجَمِه ومُتخيَّلِه الأثير. هُنا، يُقلَبُ المَنظور: الحِكمةُ تتهكَّمُ مِن نَفسِها، ويتوتَّرُ النَّفَسُ الفلسَفي فلا يُفضي لِغَيْر حِكْمةِ الفراغ والعَبث واللامَعنى. الشعرُ هو الذي يَقودُ هذه الحركة المُبَلْبِلة، التي تُحبِطُ الخطابات وتُؤزِّمُها، فيما هو يَشُكُّ في نفسِه، وفي جدارتِه بِحياةٍ لا شيء فيها جَديرٌ بأن يَحمِلَ المَعنى.
تَغتَنِي غِنائية عبدالله زريقة بِرَوافِدِ أخرى، تَجْعلُ وَضعِية الذاتِ في اللغة والخطاب تَكونُ وَضعِية شِعرية بِقدر ما تُوسِّع مِن فضاء تدخُّلِها واقتحاماتِها. تَوسيعٌ يُغذِّي الغنائية بِرافدٍ كِتابي وفكري، يَنبثِقُ مِن وظيفة اللغة الواصفة باعتبارِها مَنبعا لقلق شِعري، يَتساءلُ عن الفن والشعر واللغة والمَعنى والتأويل والكاتِبُ والقارئ والنَّص والبياض والمَحو. قضايا الشعرية تَنبثِقُ من بين ثنايا اللغة الشِّعْرية فيما هي تعيدُ تشكيل الشعري والفني والملحَمي تشكيلَ تَفتيتٍ، يَكسِرُ لُحمةَ الخطابِ ويُخرجُه مِن وَحْدَتِه التجنيسية والثقافية، زاجًّا بعلاماتِه في سياقات تَشذيرية تَجنحُ نحو التفكيك أكثر مِن البِناء.
إنَّ شرطَ التحرُّر أصبحَ عند عبدالله زريقة أكثر تعقيدا، بِحيثُ تحوَّلَ مِن الشرطِ الِاجتماعي إلى الشرط الميتافيزيقي. تحوُّلٌ تَحقَّقَ على أرض اللغة الشعرية التي أصبحتْ مُلتزِمة أكثر بِتفجُّرِها الداخلي، بينابيعِها الباطنية. القيدُ أصبحَ داخلِيا، وهو ما تُكابِدُ اللغة الشعرية لِلتحرُّر منه، باكتشاف فضاءات الغريزة البِكر، وثراء المُخيِّلة السِّحرية ونِعمة التفكُّه الأسود ولذة الفراديس واللعنات القديمة. بالداخل، تحوَّلَ الصراخ إلى عويلٍ مُتقطِّع، وَضحِكٍ مَكتوم وتأمُّل باردٍ، وسجايا غنائية تُعيدُ تشكيل اللغة والذات والخطابات، في ثنايا اللغة الشعرية ذاتِها بوَصفِها ديدن التزام الشاعر. تلك وَضعية خِطاب شِعري تبدو القصيدة فيه مُتحَرِّرة مِن عُضوية البِناء ونَقاء المُعجَم وسُمو الرِّسالة. فالقصيدةُ، في مُعظم الأحيان، ليست إلا رَتْقا لمجموعة من المِزَق والجِراح واللذائذ والحِزَم الصغيرة، بل النافلة أحيانا.
قصيدةُ عبدالله زريقة لا تبدأ، وإنَّما تَنبثِقُ فجأة بِقُوَّةِ جُرْحِها الذاتي وبِحاجَتِها إلى الكلام. كما أنَّها لا تنتهي، وإنَّما تَتوقَّفُ مِثلما يَتوقَّفُ الماءُ عَن التدفُّق بِحُكمِ عارِض خارجي. ويَبقى هناك، في النهاية المُؤقَّتة، وَعْدٌ بِالِاستئناف. يَقَعُ ذلك بين البداية والنهاية، ويَتخلَّلُ الشذرات والكتل الشعرية، التي تتكِئُ على ذاِتها في تجاوُر ميتافيزيقي أكثر مِن كَونِه عُضويًا وتركيبيًا. القصيدةُ تنفُذُ خِلسة إلى مَكانِها الشِّعري بِجِهتِه وقِوامِه المَجهولين. تَنفذ مُتجرِّدة مِن سُلطة البداية والنِّهاية، ومِن «قدسية المَوضوع وطقوس المقام»-بتعبير فوكو- فالذات ليستْ أكثر من «فجوة رَهيفة» في المَجْرَى العرَضي الكبير للشِّعْر.
الكلامُ المثلومُ ومُتخَيّلُ الكتابة
أوضاعُ اعتبارية أرضية، تتحقَّقُ لِتجربة الشاعر في قصيدة زريقة. أوضاعٌ تَقطعُ مع أمكنة «الإلهام» ومفاهيمه التي طبعتْ الشِّعريات القديمة. إن «الإلهام» لن يَكون في هذه التجربة إلا الاسمَ «الميتافيزيقي» البعيد لِجسدية الكتابة ومادِّية مُمارَسَتِها في النص. لذلك، فالكلامُ الشعري، وهو ينبثق، في هذه الكتابة، مِن مَكانٍ مَجهول، فإنَّه لا يَبْرحُ الأرضي. في الأرضي، تتنفَّسُ الكلماتُ مادِّيةَ العناصر فيما هي تَنبثِق من جوف الشاعر، لِتنتصِبَ جارحة (أو جريحة) على الورقة. تَنبثِقُ بِبَساطتِها (هَشاشتِها)، وقوَّتها، وجَلال مَجهولِها المُتلفع بِرَوائح الأرض وغُبارِها. الجَليلُ والنبيلُ يَخُوضان تَجربتَهُما الشعرية، فيَنفصِلان عن جَوهَرِهِما الرُّومانسي. القصيدةُ تصلهُما بِخطوة الشاعر على الأرض، التي تُعيدُ تأسيسَ الماهيات والأوضاع وعلى رَأسها أوضاع الشِّعر والشاعر.
شاعرُ عبدالله زريقة، لا يمشي في «الوِديان»، ولكنَّه يَخترق»غبار» الساحات إلى فضاء الكتابة والتأمُّل. وكلمتُه مادِّية وتنبثقُ تحديدا مِن مَكان غَير قُدسي. أحيانا تَسبِقُ الشاعرُ صيحاتُه «هايا هايا ها جُرح» (فراشات سوداء)، مُذكِّرة بـ «البهلول»، الذي يَنتزِعُ كلماتِه مِن جِرَاح الحَياة وتقلُّباتِها. البهلولُ لا يَبتهِلُ، ولكنَّه يَضغَطُ على «خامَة» الأصوات، لِيُحفِّزَها على الِامتصاص الفَورِيِّ لِلنُّسوغ والحِكَم والمَخاوف والإشراقات الوَثنية. ما يَراهُ الشاعر(البهلول) بِحَواسِّه وبَصيرَتِه، يَتنزَّل على الوَرقة، دون أنْ يَبْرحَ الفعْلُ جَسدَية الكِتابة.َ جَسَديةٌ تتغذَّى، مِثل أي شيء عُضوي، على الدَّم: «أنا دمُها المَنسِيُّ تحت الجِلد. وجِلدي جِلدُ الوَرقة المَرأة البضَّة» (نفسُه، ص7). ثمة وحدةٌ عُضوية بين جَسدَيْ الشاعر والكتابة، بيد أنها وحدة لا تُفضي إلى امتلاء فنِّي وأنطولوجي، لأنها مُخترَقة جَوهريا بالعبث والسِّلبية.
أحَد أهمَّ تَمظهُرات هذه السِّلبية، تكمن في فِعل «الهدم». فالكتابةُ فِعلٌ لا ينطوي فحسب على انهيار للمفاهيم التقليدية، بل إنه فِعلٌ مُخيف. وإرادة الهدم، إذا لمْ تَطُل العالَم فهي تَصُب فعاليتَها الملعونة على الذات نفسِها. ذاتُ الكِتابة تولَدُ مُتحطِّمةً من فِعلِها الجَسور. لِفِعْل الكتابة إرادة مُزلزلة: «أيُّ زلزال سيَدُكُّ هذا الشكل/ وأيُّ كلامٍ سيقودُ إلى عالَم آخر»(نفسه، ص10)، لكنها إرادة لا يَتَجاوزُ فِعلُها «عالَم الكلمات». والطريق الشعري مِن «الشكل» إلى «العالَم» غير سالكة بالمرة. هذا «الانحباسُ» الذي وسَمَ تجربة الشعر المُعاصِر (منذ تجربة رامبو: الرغبة في تغيير الحياة)، كانت لَه -في سياق تجربة عبدالله زريقة- ارتدادات ذاتية، على الذات نفسِها، وعلى مفهومها للشعر واللغة والعالَم نفسِه.
لذلك، لن نَجِدَ في شِعْر زريقة ما يُمكِن أن نُسميه بِـ «غنائية الهَدْم» المَألوفة في تَجربة أدونيس مثلا، بَلْ نَعثُر لَدَيْهِ على هَدْمٍ «سلبي» آخَرَ، يُؤدي إلى ما يُمكِن أن نُسَمِّيه بـ «غنائية الخوف»، التي يُمكِنُ أن نُمثل لها بالنماذج الشعرية التالية، من ديوان «فَراشات سوداء»:
ـ وَخِفتُ أن يَكون
وجهي وَجها آخرَ
مُلصَقا بِوَجْهي. ص23.
ـ (هذا ليس بِقلَم
وإنَّما مِعْوَلٌ لِهَدمِ هذا الشاعر المُستبِدِّ بي). ص27.
ـ رَأيْتُ عَيْني تأكُلُ عَيْني الأخرى بِنَهَم
ويَدي تَنزعُ خُطوط الحياةِ عَن باطِنِها
وسِكِّينا يَخرُجُ مِن أذُني. ص41.
ـ مَن يُبعِدُ عنِّي هذه الكلمة التي تَدبُّ في جِسمي كَحَشرة
ومَنْ يُبعِدُ اسمي الذي تلوّى على جِسمي كالثُّعبان. ص56.
ثمة خَوفٌ مُركّب في هذه الشَّذَراتِ: خَوفٌ مِن الوَجْهِ، خَوفٌ من القلم، خوفٌ من الكلمة، وخوفٌ من الاسم. خوفٌ مِن العُضوي والرَّمزي المُحدِّدَيْنِ لِلجَسَدِ، لِلكينونة، لِلهُوية والمُتخيَّل. أنْ تُوجَدَ، أنْ تحيا شاعرا، أن تَملِك وَجْهًا واسْمًا، معناه أنْ تَعيش تجربة الخلط والتفكُّك والتآكل والانهيار. مَعناه أنْ تَعيشَ في عالم «كابوسي»، الوَحشُ فيه ضاعفَ مَواقِعَه فأصبحَ داخليا أيضا وأساسا، وأثرُه المُرعِب اِمتدَّ إلى النفَّس: الكلماتُ ومنبَعُها. لذلك، يُريدُ الشاعرُ أن يُبعِد «الكلمة» عَن جِسْمِه، إرادة تَستتبِعُ رغبة الِانفصال عَن نَفَسِه، بِما هو دعامة الاسم الشخصي، لأنه بِه يَكون الاسمُ ويَمضي في سَيرورة تَحقُّقِه وتَحوُّلاتِه. بَيْدَ أنَّ التفافَ «الاسم» على «الجِسْم» (الشاعر) يَتَوَسَّل بِمُتخيَّل «الثعبان»، لِيَكشِفَ أيضا على «سُمِّيَة» الكِتابة، التي تَجعلُ نُصوص التجربة تَتوالجُ مع بَعْضِها في هيئة ثُعبان يَعُضُّ على ذيلِه. مُتخيَّلٌ يَعْضُضُ أيضا مادِّيةَ الكتابة، لِأنَّ السُّمَ يَسْري في جَسَدِها مُرَقِّشًا بِذات الفِعْلِ.
إنَّ الكتابة المُختَرَقة بِسُمِّها، لا تَكونُ مُستقيمة بل مُلتوِيةً، مُترنِّحة. غنائيةُ الخوف لا تَدفعُها إلى الِانسحاب مِن العالمَ، بل إلى التَّموقَع في أماكنِه المائلة (أريدُ النوافذ المائلة إلى التحت. والأبواب المُتَبَرِّمة عن الحائط»(نفسُه، ص10). اِختيارُ هذا المَوقِع مَشدودٌ إلى سُمِّية الكتابة، التي تتقدَّم بِوَصفِها قدَرا شخصيا مأساويا: ما يُميتُ هو ما يُحيي، وما يُسمِّم الجسَدَ والاسمَ هو ما يَمنحُهما حياةً مُؤلِمة، تَسهَرُ، بدون أمل، على الِانهيارات. هذه الرؤية المُؤسِّسة لِلكتابة غَير بَعيدة عن مَشهد الفارماكون الإغريقي، لكنْ بعْد إفراغِه مِن جَدلِه السعيد. كتابة زريقة تُثبتُ النَّفْيَ والسّلبِيَةَ، وسُمِّيتُها تُمجِّدُ مَوْتًا غَير جَدَلي. إنهُ ليس ذلك المَوتُ التَّموزي، الذي وَسَم تجربة الشِّعر العَربي المُعاصر منذ «أنشودة المطر»، التي جَعلتْ مِن الِابتهال التمُّوزي صلاة وثنية مُترَعة باليأس والأمل والِاشتهاء.
يَكتُبُ شاعرُ عبدالله زريقة بـِ «يدٍ مُلتوِية». يَدُ تَرزَحُ تحت فِعلِ سُمِّها، الذي يَسْري في الكلمات وفي الاسم الذي تَبنيه. لذلك، فَعندما تَتلفظ القصيدةُ الأولى، في «فراشات سوداء»، بِعبارة: «بَدلَ أنْ أكتُبَ ألوي يَدي. وأترنَّح»(نفسُه، ص10)، فهي تَكشِفُ عن «نبع المُتخيّل» والمَبدأ الشِّعري المُفجِّر لِأغوارِه البَعيدة. ويَنبَغي التشديدُ، في سياق هذه الشعرية، على أن «الاِلتواء» ليس بَديلا عن فِعلِ الكتابة، ليس صَمتًا تترنَّح في هاويتِه، بَل هو مَبدؤها المؤسِّس، إذ إن الكتابة تَتحقَّقُ التواءً وترنُّحا. تتحقَّقُ بهما وفي عَملِهما الشِّعري. إن السُّم الذي سَرى في جِسْم الشاعر، هو ذاتُه الذي ما يَزال يَسْري في جِسْمِ كلامِه، المُمتدِّ حتى الوقتِ الراهِن، وربما إلى ما لا نهاية، إذا أخذنا بعين الاعتبار التَّرْجيعاتِ الوُجوديةَ، التي تبقَى مُلازمة لهذه الكتابة حتَّى بَعْدَ المَوت.
يَسْتدَعي «السُّمُّ» دَوالً مُتَّصلة باللغة وحَقلِها المُعجَمِيِّ، في صياغة مُتخيل الكتابة. استدعاءٌ لا يَكُفُّ عن نَشْر جَذاميرَ تَصِلُه بِفَضاء «الصحراء» بِوَصفِها مَوطن ولادةٍ غامضًا وتُخوميًا. بِهذا الفضاء، تَشكَّل نَفَسُ الكلمات، لِيَحْمِلَ عِبْءَ الكينونة. لَكنَّها مُهِمة مُعبَّأة بِعُصَاب المٌغامَرة، خاصَّة بَعد أن انفصلتِ الكلماتُ عَن نَفَسِها الإلهيِّ وَاستقرتْ في مَنفاها البَشرِي على الأرض: «خرَجَتِ الكلماتُ مِن الصحراء لِغير/ رجعة» (سلالم الميتافيزيقا / ص23). خُروجٌ قَدَريُّ تَتشكَّل عَبرَه قدَريةُ الغِناء الشِّعري. حَمْلُ أعباء الكينونة في العالَم تستدعي عَدمَ مُبارَحة ذلك الغِناء. لذلك، يَستقرُّ جِسْمُ الكلام، مُقطَّعا وَشَذَريا، مُلتويا ومُترنِّحا، في أرضه، مُتخلِّصا مِن الحَنين. ثمة تعَبُ: «تعبتُ فقط مِن حَمل نفْسي من كلمة إلى أخرى» (حشرة اللامُنتهى/ ص81)، و ثمة أيضا رَغبة في «الهُروب» والصَّمت، لكنَّها رغبة مُستحلية، مُفرغة مِن رومانسية الأصول. الأرضيُّ في هذه الكتابة، يَبقى مُشِعا، بالرَّغْم مِن «الدَّم» و«التُّراب» اللَّذيْن يَتلَفَعانِه.
تَتحقَّقُ الكِتابة حتَّى بالرَّغبَةِ في نَفْيِ ذاتِها. يَنفُذُ السُّم إلى جِسْم الكلام، لكنَّه لا يَتمكَّن مِن إخْراسِه. يَبقَى الكَلامُ شاهدا على تَرنُّحِه والتوائِه. خَرجَ الكلام مِن الصحراء مَثلوما بِثُعبانِها، ويَتعيَّن عَليه أن يَبقى حَتَّى وهو يُمارِسُ المَحْو. السُّم يَسْري في المَحو ذاتِه بما هو كِتابة بالنَّفي والسَّلب. سُمٌّ يُحيلُ على الثُّعبان الذي يَلتفُّ على الاِسم الشَّخصي ويَثلم لِسانَه. لِسانُ الثعبان مَشقوقٌ ، ولسانُ الكلمة كذلك: فيه يَسْري السُّم القديم. بَرَحَتِ الكلمةُ الصَّحراء بلسانِها المَثلوم، وَسُمِّها الناقع. لا جَدوى من أيِّ رَغبة في الصمت أو الِانفصال. وحتَّى عندما يقول الشاعرُ: «لا أقول شيئا/ فالكلمة مُمزَّقة بِشفْرة اللِّسان» (سلالم الميتافيزيقا/ ص40)، فإنه يَكتبُ رازِحًا تحت سُمِّه المُرنِّح، الذي يَسري في الاسْم وفي جسْمِ كلامِه المثلوم.
كثيرا ما تستدعي كتابة زريقة دالَّ الدَّم: «الكتابةُ الدَّمُ الذي يَسيلُ/ خارج نُقطة الجُرح»(4) (إبرة الوجود/ ص25). جِسْمُ الكلام المَثلوم يَكشِفُ باستمرار عن ذلك. دَمٌ لا يَرتَبطُ بإيحاءات الصِّدق المُسيِّجة لِمَفهوم الِالتزام في الكتابة، وإنما يَكشفُ أكثرَ عَن وَرطة وُجودية في صحراء الكِتابة وانجراح بِسُمِّها، الذي لا شِفاءَ مِنه. لَمْ تَخرُجِ الكلماتُ مِن الصَّحراء إلا لِتتورَّطَ في صَحراء الكتابة، نازِفة بِسُمّها. إنَّهُ نَزْفُ وُجودي الدَّم فيهِ يَرشَحُ بسياسَة الشعر وليس بِشِعر السياسة. ذلك عُبورٌ أثرُه مَوشومٌ على جِسْم الشاعر وفي جِسْم كلامِه. هو دَمٌ قديمٌ (سابِق على كل نظريات الكتابة)، لكن حَرارَته تَتجدَّدُ في كُلِّ دَوْرَةٍ شِعْرِيَّة، تَنوءُ فيها «الصحراءُ» بِكَلْكَلِها على ذات الشاعر، فَتَجْرَحُه وتثلُم كلامَه.
ولَمْ يَكن عَبَثاُ (رغم هَيمنة العبث الوُجودي على تَجربته الشعرية)، أن يَسِمَ الشاعرُ عَمَلينِ له بهذين العُنوانين: «حشرة اللامُنتَهى» و«إبرة الوجود». فدالُّ «الحشرة» يتبادلَ مع دال «الإبرة» إيحاءاتِ الثلم والسُّمِّ السارية في الكتابة، بينما دال «اللامُنتهى» يَتبادَلُ مع دال «الوُجود» الشُّسوع الأنطولوجي، الذي يَمْنحُ الكتابة كُلَّ إيحاءاتِ «الصَّحراء». فِعْلًا لقد خَرجَتِ «الكلمة» مِن الصحراء، لِتحُلَّ في صحراء أخرى:
ـ وأينَ أروحُ
والمِرآةُ تقودُ إلى العَمَى
والظِّلُّ إلى الشيطان
والصحراءُ إلى الكتابة
(حشرة اللامنتهى/ ص16)
بِنيةُ الاِستفهام في عبارة «أين أروح» لا تَشمَلُ المقطعَ بعَلامَة «استفهام» خِتامية (عادةٌ دَرجَ عليها الشاعر)، وإنَّما تكتفي بالأداة «أين» لِتكشِفَ عَن سُمِّ التَّيه «الأنطولوجي» الذي يَلثُمُ الذاتَ في علاقتِها بالمَكان. كلُّ مَكان هو «أينٌ» كبيرٌ لِلتَّيْه والضياع. بَل إنَّ أمْكنةَ المَوتِ ذاتِها «القبر» تُصبِح امتدادًا لهذا «الأيْن» الغامِض، المُقلِق. إن قلق الذات والثلم الأنطولوجي الذي تَحمِل في ذاتِها، يَفيضُ على أمكنتِها، هُنا وهناك فيما وراء العالَم. كلامُها يَحمِلُ أثَر ذلك، وما تعتبِرُه فلسفة الشِّعر (هيدغر) مَأوى الكائن، لَن يَتحرَّر أبدا مِن طبوغرافية الصحراء. طبوغرافية تَجرِفُ اللغة الشعرية وتَملأُها بأصداء الرُّعب والسقوط والتَّيه. ثمة أنطولوجيا دائريةٌ يَكشِفُ ثلمُ الكلامِ الشِّعريِّ عن وَرطتِها التي تأخذُه مِن الصحراء إلى الصحراء.
بين «العَمَى» و«الكتابة» يَنتصِبُ «الشيطان». هل يَرَى الشاعرُ بِعَينيه؟ الشيطانُ لا يُغَذِّي «إلهامَ» الشاعر، ولكنَّه يَكْشِفُ عَنْ لَعْنَتِه المُختَرِقة لأيِّ بَراءة. لذلك، فـ «مِرآة» الشاعر هي «عَماه»، كما أن «ظِلّه» هو «الشيطان» نفسُه، أما «الصحراء»، طبوغرافية التَّيْهِ الكبير، فهي لَيستْ شيئا آخرَ غير الكِتابة. في رَمْلِ هذه الطبوغرافية، يَتقلًّبُ «ثعبان» غير مَرئي يَثلم/ يلثم الكلامَ، ويَجعلُ كُل نظرَةٍ في «المِرآةِ تقودُ إلى العَمَى»، كما يَجعلُ كلَّ لِقاء بِالذاتِ ضياعًا مُؤكَّدًا لها. إن «إلهام» هذه الكتابة، لا يَتأتَّى مِن غَيرِ الجُرْحِ، الذي يَقِفُ خَلفه هذا «الثُّعبان»، الذي لا يَكتفي بِثلْم الكَلام، بَل يَلتفُّ على «الاسم» الشَّخصي ويَسِمُه بِجُرحٍ لانِهائي.
تَنوءُ كَلِمة زريقة تحت جُرحِها، وخِفَّتها المُشوَّهة أيضا. إنها «كلمة بِدون لَحْمٍ»(حشرة اللامُنتهى/ ص17). لذلك فهي تتقدَّم مُفرَغَة مِن ميتافيزيقا «الخَلَاص». الكتابةُ لا تُؤسِّس عالَما بَديلا عَن هذا العالَم، بل تتورَّط أكثرَ، دونما أمل، في طبوغرافيتِه الصحراويَّةِ. وهي ليستْ تعويذةً روحية تَحمي الذاتَ، أو تَرتيلَةً صوفية تَسْمو بها، بل إنها كلمة/ كتابة مَنذورة لِتَدحرُجٍ وسقوطٍ مُتواصِلَين. ما مِن بَراءة في الأصل، والجَنَّةُ نَفسُها طريق إلى جَهنَّم: «وكتابةُ قصيدة كدُخول/ جَهنَّمَ مِن باب الجَنَّة» (حشرة اللامُنتهى/ ص54). إنَّ كافَ التشبيه بِوَصفِها مَدخَلا بلاغيا مُهَيْمِنا لِلمُتخيَّل في تجربة زريقة، تُؤسِّس لـ «حَقيقة» شعرية مُحايِثة لهذا العالَم: «لَمْ يَبْقَ شَيء. الحقيقَة كَوْجْهٍ مَيِّت تَفَحَّمَ بِظلْمة قَبْر» (نفسُه/ ص57). هذه «الحقيقة» تَمحو كلَّ مُتخيَّلٍ مُتعالٍ، لِتَنغَرِسَ في «سُفلية» تَجعلُ من «وَجه مَيِّت» تَمثُّلا مُرعِبا لِحقيقة عارية، تَتحلَّل بِاستِمرار. حقيقة مُتحلِّلة (كَوجه ميِّت)، هي الحقيقة «المَسْمومة» التي يُلقي بها الشاعر على الأرض.
المُتخيَّلُ السُّفلي الذي تَبنيه التجربةُ الشِّعرية لـِ «الحقيقة»، يَنسَحِبُ على غَيرِها مِن القيم الرَّمزية، المُتَّصِلة بِفضاء الكتابة. الأشياءُ «المائلة» أو «المُهتَزَّة» التي تَمتدِحُها تَجربة زريقة، تَنتمي لِأفق هذا المُتخيَّل، الذي يَتَّشعَّبُ بِقيم اللغة والكتابة والحُلم والمَوت. مُتخيَّلٌ يَتشعَّبُ كـ «الصَّحراء»: منها خَرجَ الكلامُ، لِيَلِجَ «صحراء الكتابة»، التي فيها يَقترنُ الهولُ بالتَّيه والمَضايِق في آن. إن «الكلمة» نبعُ المُتخيل عادة، هي التي تَسُدُّ منافذَه في تجربة زريقة: «لا أكتبُ لِأني مُكَبَّلٌ بِكلِمَتَيْن في قَبْو اللُّغة» (إبرة الوجود/ ص9). تتقدَّمُ الكلمة بِوَصفِها حَبْلا وليستْ أفقا. حَبْلًا يُقيِّدُ وليستْ بَيتا فسيحا يَحتضِن. حَبْلًا يَحبِس الشاعر في «قبو اللغة». داخل هذا «القبو»، يَتمدَّد المُتخيَّلُ السُّفلي لِلحقيقة، مثلما يَهوي الحُلْمُ: «والأحلامُ مَدفونة في الرَّمْلِ قُربَ حَيَّة «(حشرة اللامُنتهى/ ص21). ومِن جديد، تَتحرَّك «الحيَّة»، لِتجعَلَ «حياة» الكتابة مَثلومة بِسُمِّها الزُّعاف، الذي يُحوِّل «الصحراء» الشاسِعة إلى «قَبْو».
يَضيقُ «القبوُ» لِيُصبِحَ «قَبرا»، وتَضيقُ طوبوغرافيا «الصحراء» لِتصيرَ «جَسَدا» يَسْكُنُ الشاعر، لا يَكفُّ مَجهولُه عَن تَوسيعِ خِرَق الدَّواخلِ. ضِيقٌ يَستَتبِعُ، في آن، توالُجا في المَواقِع، وتضييعا لِموقع «الذات» في العالَم:
ـ آه أقيسُ الغُربةَ بِصَمتِ الأشياء
وَبِالْتِواءِ الأفُق على القلب
أو حينَ أسْمَعُ
وَشوَشَة عُصفور
وَأنا في قاع قَبْر جَسَدي
(إبرة الوجود/ ص64)
لا يَكون امتلاكَ «المِقياس» شِعريا إلا بِفُقدانِه، أي بانزياحه عن مَرجِع «الحقيقة» العامَّة، بِما هي تَصلُّبُ اسْتعاراتٍ. المِقياسُ هنا مَوصولٌ بشِعرية المائل والمُهتَز والضَّيِّق والسُّفليِّ بِوَصفِها مَنابع المُتخيَّل في تجربة زريقة. بهذا المِقياس، تتحدَّدُ الغُربة بـ «صمت الأشياء»، أي بِخَرسِها، الذي يَجعلُها مُفرَغة مِن أيِّ «نِداء»، كما تتحدَّدُ بـ «التِواءِ الأفُق على القَلب»، حَيْثُ يَصيرُ الأفق «حَبْلاُ» يُطبِقُ على مَنبَعِ الحياة. بهذا المقياس، تَكونُ «وشوشة العُصفور» غُربَة أيضا، لأنَّها لا تُسْمَعُ إلا في «قاع قبْر جَسَد» الذات المُتكلِّمَة في النَّص. وبذلك، تَؤُولُ «حقيقة» الغُربة إلى «خرَس» تُأوَّلُ (الغُربةُ) في مِقياسِه الشِّعْرِيِّ، المَشدودِ إلى شِعريَّة السُّفلي. إنَّ «الفضاء»(حيث تَينَعُ وشوشةُ العُصفور) يَستحيلُ، في سياق هذه الشعرية، إلى «قَبر» مُلازِم لِلجَسد. الرُّومانسي مُفرَغٌ مِن جوهره، لذلك فَهو بالِغُ المأساوِيَة. هُنا، تَنْحَفِرُ الدَّرجة القُصوى للاِغتراب: الجَسدُ قَبِرُ الذات، فيه تتحوَّل «وشوشةُ العُصفور»، أغنيتُه الهادئة، إلى خَرَس ومَوْتٍ، مثلما يَستحيلُ»الأفقُ» حَبْلا خانِقا.
هَلْ يُمكِن لِلكلمات أن «ترتُق» الرُقَع الأنطولوجية؟ هلْ يُمكِنها أنْ تَنقلِبَ على «قبر الذات» وُتَقلِبُ تُربَته إلى بُذورِ واعدة؟ لا تُلامِسُ تجربة زريقة عَتبَة هذا الوَعد. بل تَبقى رازحة تحت عِبء رؤيتِها «اللانُشورية»، بلا بَعْث أو رَجاء. هنا تَكمُن مأساويتُها. كَلماتُها الخاوية، مائلةُ، مُهتزَّةٌ، سُفلية، مُدَبَّبَة، بلا جَدوى. وهي رغم إصْرارِها على «الرَّتْق»، فإن «خِرَق» الذات والعالَم تَتسِعُ أكثرَ بِداخِلِها:
ـ وبَعْضُ الشُّعَراء يَقصِدُ خيَّاطا
لِيَهرَبَ مِن اتِّساعِ رُقَعٍ في داخِلِه
أمَّا أنا فأهرَبُ إلى رُكامِ فَراغٍ أو كومةِ ظِلٍّ لِأنْمَحي هُناك
(سلالِم الميتافيزيقا/ ص57).
اِتِّساعُ «الرّقع» بِالدَّاخِل مَوْصُولٌ بالمُتخيَّلِ السُّفلِيِّ لِلذاتِ بِوَصْفِها، قَبْوًا وقَبْرًا مَفتوحا (الجِناسُ نَفسُه يَفْتَحُ أفُقَ التبادُل بَينهُما). وقَدْ جاءتْ دَوالُّ: الرُّكام والكَوْمة والظل والمَحْو، لِتُرسِّخ أكثرَ مُتخيَّل المَوْتِ كفعلٍ لازِمٍ، لا نُشورٍيٍّ، غَير قابِل لِلرَّتقِ ولا لِلتَّجاوُز. إنَّ «الإبرة لا تُريدُ أن تَخيطَ كَفَن أحَد»(إبرة الوجود/ ص18)، ومِنْ ثمة، فالقَبْرُ لا يَنْغَلق أبدا. القبْرُ يَبقى مَفتوحا، بينما الرُّكام (الكومة) مُتناثِرٌ يَشهَدُ على تَحلُّلٍ لا يُواريهِ تُرابٌ. الكلِمةُ مَثلومةُ مِن الداخل، رازِحَةٌ تَحْتَ سُمِّها، وهي في الوَقتِ الذي تُمارِسُ فِعْلَ الرَّتْق، عَبْر المُؤالَفَة بين غَرابَة الكلمات والأشياء، فإنها تَكشِفُ أكثرَ اتِّساع رُقعة الخَرْقِ. صَحْراءُ الدَّاخل تَبقى مَفتوحَة مِثل «قَبر»، فيه تَغْرَقُ الذاتُ، دون أنْ تكونَ قادِرَة أو راغِبَة، في تَحويلِ السُمِّ المُستَشْري في جِسْمِ كلامِها إلى تِرْياق، لِيبْقَى المَأساوِيُّ مأساويا، مُفتَقِرا إلى أيِّ إرادةٍ جدَلٍيَّةٍ.
تَتقدَّمُ كتابة زريقة مُراوِحة مَكانَها العَبثي، الذي يُفرغُ كلَّ فِعْلٍ مِنْ عُصابِه الضَّروري. بل إنَّ بِنية الجُملة نفسَها كثيرا ما تُؤسِّسُ بُؤرَتها على الااسم، فلا تَتسِعُ لِـ «الفعل» إلا لاحِقا وقليلا. بنيَةٌ تركيبية، تكتفي بأوهى الرَّوابط وأكثَرِها شيوعا، لِتُؤسِّسَ لِدهْشَة التَّجاوُر والتراكُم مُجرَّدة مِن أيِّ قُوَّة. إنَّ إرادة الرَّتق، التي تَكشِفُ عَن حُدود إرادة مُخترَقَة مِن الداخل، لا تُؤسِّس لِغير شعرية لا عُضوية، لا نظفَر مِنها بِغَير المَكان السُّفلي وغنائية الخَوف والعبث واللعنة والموت. لهذا المَكان دوالٌ إيقاعية أساسٌ، على رأسِها «الصحراء» التي ليست مُجرَّدَ طبوغرافية خارجية قاحلة، بل حَيِّزٌ هائل وضَيِّق لِلكتابة والمَنفى الداخلي، الذي جَعلتْ مِنه اللغة مُستقّرَّها الجَريح، في الوقت الذي فقدتْ بَراءَتها وعافيتَها، منذُ أن تشقَّقَ لِسانُها (هي الأخرى)، بِفِعل ثَلمِها الأنطولوجي. إن اللغة الشِّعرية لا تَتلقَّى هِباتِها (المَلعونة) مِن غير تَجربَتِها، المُحايِثة لهذا العالَم (السُّفلي)، المُنبثِقة عُضْويا منِ جسَدٍ مَثلوم، أصبحَ يحمِل قبرَه المفتوحَ بداخِله، على نحو تتلاشى معه الحدود بين الذات والصحراء، بين الكتابة والمَنفى، بين الحياة والموت. لغة تجعل مِن الكتابة رَتقا مُستحيلا (بِحُكم عبثيتِه)، ومن إعادة الكِتابَة مَحوًا عبثيًا، تتشبثُ بِه على نَحو غَير مفهوم، غير بَريء، وغَير جَدَلي تماما.