زهير الذوادي
باحث وناقد تونسي
سكنت فلسطين في وجدان نيكوس كازانتزاكي (1833-1957)، ودرس تاريخها القديم، وزارها وكتب عنها في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين. عشق كازانتزاكي فلسطين، وهي بالنسبة إليه أرض ميلاد المسيح، ومكان انطلاق دعوته ورسالته، كما أنه ناهض أطماع الصهيونية فيها قبل الكثير من المثقفين والكتاب الغربيين والشرقيين. ولم يكن موقف كازانتزاكي من “المسألة الفلسطينية” تحت تأثير عوامل دينية أو عرقية، بل إنه نابع من نظرة إنسانية راقية وعميقة، تمتزج فيها المعرفة بالعقيدة. ولا نعني بالعقيدة الجانب المتعلق بالمعتقد الديني، بل نشير إلى ما يخصّ القناعات السياسية والفلسفية المبنية على أساس. وبمعنى آخر، نريد أن نؤكد أن موقف كازانتزاكي من المسألة الفلسطينية يبرهن على أنه مثقف حر وعقلاني وأن البعد الإنساني في فكره وإبداعه وآرائه حقيقة ثابتة لا تكلف فيها ولا مزايدة، بل إنها ممارسة حرة للحقيقة (كما تصورها …) وممارسة حقيقية للحرية (كما عشقها …)1.
الرحلة.. نظرة إلى العالم وسبيل معرفة الإنسان والوجود
اختزل موقف كازانتزاكي من قضية فلسطين نظرته للعالم وللعلاقات الدولية من ناحية ومقاربته في فهم شروط الحياة البشرية من ناحية ثانية. وقد كتب أندري ميرانبال محللًا أعمال كازانتزاكي، أن هذا الأخير قد طوّر نشاطه الفكري على أساس ثلاثة عناصر تحيل إلى ثلاثة أنواع من المعرفة وهي “معرفة عالم الأرض ومعرفة الإنسان، وأخيرا معرفة القانون الأعلى للذات”2، مضيفا أن هذا التصنيف للمعارف التي سعى إلى حيازتها المبدع اليوناني لم يقع صياغته بشكل متتالٍ ومرتّب، بل إنّه شكّل حلقات بحث دائم وشامل عبر أعمال متنوعة ومتناثرة لكنها خضعت جميعها إلى أحد وجوه الثالوث المعرفي المنشود.
وتشكل الرحلة بالنسبة إلى كازانتزاكي المنهج الأساسي لتحصيل “معرفة عالم الأرض”. فالرحلة ليست نزوة أو رغبة في تغيير الأماكن أو حاجة للهروب من المألوف، بل إنها تبدو، بالنسبة إليه، وكأنها “منهج بحثي”، حسب عبارة ميرانبال، أي إنها تؤسس أسلوبا لاكتشاف الآخر ومعرفته والتفاعل معه، مما ييسر، لاحقا معرفة كنهه ومحددات هواجسه وهمومه وآماله. لقد كان كازانتزاكي دائم الترحال في وجهات متعدّدة وكأنه يبحث عن شيء أو عن جواب وعن معنى سؤال يؤرقه. وهو الذي كتب “في كل أرض نحط فيها أقدامنا يمكن بل يجب أن تتحوّل إلى سبب في فتح الآفاق لروحنا”.
وإن جعل كازانتزاكي من الرحلة منهجًا معرفيًّا، فقد جعل منها نوعا أدبيَّا، حيث إنّه دوّن الكثير مما عاشه وشاهده في رحلاته العديدة وما علمه منها وما استخلص من خلالها. وقد زار عديد البلدان وكتب عنها بأسلوب يتجاوز صيغ التقارير الصحفية أو الانطباعية، بل إنه كثيرا ما كانت كتابته حوارًا بين الجغرافيا والتاريخ وشروط حياة الإنسان المعاصر. وإن زار كازانتزاكي عديد البلدان، فقد أقام في الكثير منها3. ولا يمكن -بأي شكل من الأشكال- رسم مقارنة بين رحلات كازانتزاكي -بما في ذلك رحلته إلى فلسطين- وبين رحلات باقي المستشرقين الذين زاروا الشرق مثلا بحثا عن ماضيه وعن أسرار تراثه، كما أنه من غير الممكن ربط رحلات كازانتزاكي بأي مشروع منفعي شخصي أو لفائدة بلاده أو لأي جهة أخرى. كان ترحال كازانتزاكي لا يدور سوى حول المعرفة والرغبة العميقة في فهم الحاضر فهمًا يتجاوز المعهود والمعطيات الواقعية أو السطحية. فهو القائل أن الواقع لا قيمة له بدون الروح التي تتبيّنه وتفسره، لذلك وجب على كل من أراد فهم الواقع أن يفهم روح البشر الذين يعيشونه ويصنعونه، كما أنه يستوجب أن يكون الساعي إلى فهم واقع غيره مسكونا بروح سليمة وقادرة على الانفتاح على الغير وفهم ظروف وجوده.
لم يهتم كازانتزاكي في كل رحلاته بالماضي أو بالتاريخ القديم للبلدان التي زارها، بل إن مركز عنايته كان دائمًا معطيات وتحديات الزمن الحاضر محاولا فهم الواقع وتحليل شروط الوجود الإنساني وتقييم طبيعة التحديات التي تواجه البشرية راهنا. لكن الكاتب اليوناني كان مشدودا إلى الشرق وإلى حضارته ومتشوقا إلى معرفته أكثر من غيره من أماكن الدنيا. ونحن لا نلمس أي ميل أو منطلق (معرفي أو ثقافوي) استشراقي لديه، بل إن ما كان يسيطر على فكر كازانتزاكي وميولاته من خلال ترحاله في بلدان المشرق هو فهم طبيعة التناقضات التي رصد فعلها في ماضي وحاضر تلك البلدان وشعوبها. ففي مصر عاين كازانتزاكي التناقض المزدوج بين الإسلام والمسيحية والتناقض بين الشرق والغرب في آن واحد. وهو اعتبر أن ذلك التناقض هو قاعدة لصراع أو لتنابذ بين الحضارات والثقافات بل إنه استشرف من خلاله عمق الروح المصرية المتعطشة -تاريخيا وثقافيا- إلى الخلود والأبدية. ذلك هو المكون الحضاري للروح التي جعلت من مصر صرحا رمزيا للأبدية الإنسانية حسب رأيه. وقد عاين ذات النزعة “الخالدة والأبدية” في الصين. حيث كتب بعد زيارته الصين واليابان أن “اليابان عابر، وتبقى الصين أبدية”. ولا يضمر مفهوم “خلود الروح” أو “الروح الخالدة” لدى كازانتزاكي أي نزعة دينية وطائفية بل حدد له مدلولا إنسانيا شاملا حتى بمناسبة كتابته عن فلسطين باعتبارها أرض الرسالات الدينية الكبرى. وقد ذهب كازانتزاكي فيما كتبه عن إسبانيا التي أحبها ورافق ثورتها ضد الفاشية إلى اعتبار أن الثقافة الشرقية (العربية) تشكل أحد أهم روافد بناء “الروح الإسبانية الموزعة بين الولع بالحياة واليأس من العدم المنتظر”.
إن ما نريد أن نؤكده في مقدمة عرضنا عن رحلة كازانتزاكي إلى فلسطين وكتابته عنها هو أن المفكر اليوناني جعل من ترحاله الدائم مصدر معرفة ومناسبة للتفكير والتحليل وأنه في كل ذلك بقي مشغولا بمصير الإنسان دون ميز أو منطق أفضلية أو علوية بعض البشر بالنسبة للبعض الآخر.
ومهما يكن من أمر كل الرحلات التي قام بها نيكوس كازانتزاكي، طوال حياته، وما كتب عنها، فإن المادة التي وفرتها مدونته في أدب الرحلات ومضامينها الفكرية، تبدو وكأنها تتضمن برعما لفلسفة الحضارة (البشرية) لديه. وهو يبقى من خلال ذلك السعي إلى بلورة فلسفة للحضارة البشرية وفيًا لدور الفلسفة الإغريقية التي كانت -كما بيّن ذلك هايدغير- أساسا لفلسفة النهضة الأوروبية التي تمحورت -حسب الفيلسوف الألماني- حول التكييف الروماني- اللاتيني لأهم مقولات وأفكار اليونانيين القدامى4.
ولم ينخرط كازانتزاكي، تماما، في النزعة الفكرية “الهيلينستية الأوروبية” التي اعتمدها هايدغير بل إنه سعى أن يطور نهجا فكريا خاصًا به، معمقا الظاهرة التي رصدها جورج سيفيريس منذ سنة 1938 والذي تبيّن وجود فروق بين “الهيلينستية الأوروبية” (دانتي شكسبير، راسين، هولدرلين .. الخ) و”الهيلينستية الإغريقية” التي تكرست منذ أعمال هوميروس وصولا إلى كازانتزاكي5.
وقد شكلت أعمال كازانتزاكي مفترق طرق تجمعت فيها تأثيرات متنوعة (الوطنية، الماركسية، فلسفات كل من برغسون ونيتشه وماكيافللي، وغوته، ودانتي وهوميروس، الديانة المسيحية الأوثوذكسية …). كل تلك الفلسفات والتأثيرات صنعت فلسفة خاصة به متحررة من قيود الدوغمائية الناجمة عن الانتماء الحزبي للأفكار أو الاتجاهات. وقد فتحت تلك التأثيرات الفلسفية المتنوعة آفاقا واسعة أمام فكر كازانتزاكي وجعلته يصبو إلى فهم شروط الإنسانية دون تفرقة أو تمييز من ناحية وجعلته من ناحية أخرى يولي الواقع والحقيقة مكانة أولية مع اعتبار تفاعل كل منهما مع تأثير المُثل والأحكام العليا معتبرا أن “روح الشعوب” وذهنياتهم المتشكلة تاريخيا هي الدافع الأول في تحفيز ضمائرهم ووعيهم من أجل صنع التاريخ الخاص بهم والمعروض على كل البشر.
كان كازانتزاكي منفتحا على ثقافات الغير، وترجم كثيرا من الأعمال لرموز كبيرة في الثقافة العالمية (نيتشه، دانتي، غوته، ماكيافللي، برغسون …)، وكتب مسرحيات عن بوذا والمسيح، وعوليس، وكريستوف كولمبوس … وروايات عن المسيح “الإغواء الأخير” وعن الحرية “الحرب أو الموت”، “المسيح يصلب من جديد”، “زوربا” … الخ. إن إنتاج كازانتزاكي، مثل ثقافته، متنوع ومنفتح، لكنه كان مسكونا بهاجس صدقية ما يكتب، وما يسرد وما يتبنى من الأفكار. وذلك ما طور لديه هاجس علوية الحقيقة والواقع6.
إن الحرص على معرفة الحقيقة والتعلّق بالحريّة الذاتيّة وبحرية الآخر، هما اللذان قادا نيكوس كازانتزاكي إلى تبنّي موقفٍ مُناهض للصهيونية ولمشروعها الاستعماري في فلسطين.
نحو الشرق … نحو فلسطين
يكرّس الاهتمام بالشرق، لدى كازانتزاكي شغفه بمبدأ التفاعل الحضاري بين البشر. ويشكل ذلك المفهوم (التفاعل الحضاري بين البشر) قطيعة مع النظرة الاستشراقية التقليدية. وإذا كان الشرق البعيد (الآسيوي) هو تجسيد للغيرية الثقافية، فإنّ الشرق القريب، بالنسبة إليه هو الضفة الجنوبية للمتوسط والتي تقاسمت الأدوار والإنجازات الحضارية مع الضفة الشمالية قبل أن تصبح هذه الأخيرة سيدة العالم ابتداء من القرن الخامس عشر ميلادي. لقد خضعت الضفة الشمالية للبحر المتوسط لضفته الجنوبية، في البداية وأخذت عنها العلوم وأسباب الازدهار ومفاهيم ومعتقدات الوجود الإنساني على الأرض (الديانات…). ثم وبعد مرحلة قصيرة من الصراع (الحروب الصليبية) انقلب الأمر وانخرمت موازين القوى بينهما، و”تكاد أعمال نيكوس كازانتزاكي تجمع حول هذا الموضوع؛ لأنّ الضفة الجنوبية تحتل مكانة مهمّة في مساحة تفكيره وفي مخيلته الإبداعية (…) ذلك الشرق الحاضن للغير المقدس ! ذلك الشرق الذي مشى على أرضه المسيح حافيا داعيا للفضيلة وإلى المحبة، ذلك الشرق الذي قطرت على رماله دماء مقدسة. من هنا يبدو أن الضفة الجنوبية هي شمال بوصلة نيكوس كازانتزاكي …”7. وقد جاء في روايته “القديس فرانسيس”8 عددٌ مهمٌ من الآراء والأحكام السلبية لانحراف الحروب الصليبية المسيحية ضدّ بلاد المسلمين وفلسطين بالخصوص لأنها لم تكن سوى حروب نهب (ص 214) وتقتيل همجي (ص 212) رغم رفعها لشعارات دينية بريئة !!..
ودون اعتبار أهميّة زيارته إلى كل من السودان ومصر، فإن فلسطين هي اختزال للشرق كما كان يتمثله كازانتزاكي. فقد شكلت فلسطين إطارا لعدد من رواياته (مثل الإغواء الأخير للمسيح). وهو قد زارها سنة 1926 موفدا من صحيفة (الغيثروس لوغوس)، فكتب عن رحلته سلسلة من المقالات تجمع في شكلها بين ملامح الرواية والتقرير الصحفي، والرحلة9.
وتكتسي رحلة كازانتزاكي إلى فلسطين أهمية بالغة، بالنظر إلى ظروفها وإلى النتائج التي استخلصها. فقد جاءت هذه الرحلة قبل قيام الكيان الصهيوني (1948) أي إنها وقعت خلال مرحلة التمدد الاستيطاني الصهيوني (برعاية بريطانية وغربية) والتعمير السكاني، والتوريد البشري اليهودي من كل أقطار العالم قصد تكثيف وجود الصهاينة وأنصارهم على أرض فلسطين (تحت شعارات دينية) قبل الانخراط في مرحلة التقتيل والتشريد الجماعي واغتصاب الحقوق والأرض من أصحابها بقوة السلاح. وجاءت رحلة كازانتزاكي قبل وصول هتلر والنازيين إلى حكم ألمانيا (1933)، وهو أمر مهم في حد ذاته. لأن تقرير الكاتب اليوناني كشف نفسيات الصهاينة وأحلامهم ومخططاتهم قبل أن يتحولوا إلى ضحايا الهمجية النازية في أوروبا.
لقد كشف كازانتزاكي في كتابه “رحلة إلى فلسطين” عن حقيقة المشروع الصهيوني، ونقده بصراحة وحرية جريئتين مؤكدا أن المسألة اليهودية مسألة أوروبية وأن ماضي اليهود وحاضرهم لا يشرع لهم حقا في تحقيق مشروع استعماري (صهيوني) على حساب غيرهم (العرب) مما يجعل حلمهم تراجيديا إنسانية لا مناص من انهيارها حتما. وقد جاء في الفصول السبعة10 المكونة لكتاب “الرحلة إلى فلسطين” سردٌ لظروف الرحلة البحرية نحو فلسطين والتجوال في أرضها، إلى جانب “وصف رومانسي حالم” لمختلف أوجه وأماكن البلاد مع إشارات إلى تاريخها وإلى الأطماع الصهيونية التي كانت تترصدها. كما أن الكاتب اليوناني اعتنى بالجانب الديني والطقوسي في ممارسات كل من المسلمين والمسيحيين واليهود على أرض فلسطين مع عناية خاصة بمعابدها ومعالمها الأثرية التاريخية والدينية، مختتما كتابه بوضع رسالة موجهة إلى كل من اليهود والعرب مبينا خطر الأهداف الصهيونية ضد فلسطين وأهلها.
يتخلل كتابة كازانتزاكي لما شاهده في القدس (العنوان الثالث) تعبير عن محبة عميقة في نفسه لمدينة اقترنت في وجدانه بحياة المسيح وموته ورسالته. فهو وصف مداخلها وأبوابها وأسواقها وكنائسها ومساجدها وأهلها المنقسمين إلى طوائف وأديان. وصف كل ذلك بعطف وتلقائية بخلاف ما توخاه من دقة في الباب الرابع (من الكتاب) حين نقل كل ما عاينه من ممارسة لطقوس العبادة في كنيسة الانبعاث معبرا عن جلالة المَعْلَم وخشوع رواده. ويلمس القارئ ذات الروح المتسامحة من خلال وصفه لمسجد عمر في مدينة القدس (الباب الخامس من الكتاب).
ولا تعني الإشارات إلى تسامح وتعاطف كازانتزاكي مع أهالي فلسطين ومعالمها ومدينة القدس أنه كان مبتهجا ببلاهة أو بغباء، بل إنه دوّن العديد من الملاحظات النقدية ضد العديد من الممارسات والعادات والوقائع التي أثارت سخطه أو امتعاضه. فلقد كانت رحلته جولة جديّة وصارمة ولم تكن بحثا عن النوادر أو مناسبة لتوزيع المجاملات والابتسامات. فالبرغم من أصوله المسيحية فهو انتقد المسيحيين في القدس، الذين لا يعتنون بنظافة أبدانهم مما جعل “رائحة الماعز التي تنبعث منهم لا تحتمل، مؤكدا استهتارهم بقداسة الكنيسة، حيث إنهم لا يترددون في قضاء أوقاتهم مع زوجاتهم تحت البطانيات الملونة في الزوايا المظلمة للكنيسة”11. كما أنه انتقد غوغائية المسيحيين في التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم واصفا سلوكياتهم بالبربرية12. أما النقد الرئيس الذي وجهه كازانتزاكي إلى مسيحيي فلسطين فهو صراعهم الطائفي بعضهم ضدّ البعض الآخر حيث سرد ما يلي: “راهب أرثوذكسي كان يرسل نظرات حاقدة صفراوية نحو الأقباط والكاثوليك، والأرمن، انحنى علي وقال: المقدسة لنا، وهؤلاء المارقون الذين لعنهم الله، يريدون أن يأخذوها منا، ولكننا نقوم بتسييج كل المناطق المتنازع عليها بالعوارض المعدنية، كي لا نسمح لأي إنسان أن يدخلها …”13 وقد أشار كازانتزاكي إلى غوغائية المسلمين وقلة اعتناء سوادهم الأعظم بالنظافة والتنظيم في أسلوب عيشهم، لكنه أكد في سياق وصفه لمسجد عمر بالقدس: “طفت حول مسجد عمر، وقلبي ينبض ويغمرني بالهدوء، وكل من يزوره سيكون سعيدا بالتربع والتسبيح في هذا المسجد الذي ينبض بالإيمان والروائح الزكية”14.
ولما اخترنا -في حدود هذا العمل- ألا نتوقف طويلا عند التفاصيل والوقائع الجانبية من رحلة كازانتزاكي إلى فلسطين وإن كانت مهمة في حدّ ذاتها على صعيد تواترها وخصوصياتها كما على صعيد الأسلوب الأدبي الراقي الذي وظفه الكاتب لسردها بعفوية جميلة، فإننا ركزنا الاهتمام على ما هو دائر ومرتبط بالموضوع الأول في مضمون الكتاب: وصف فلسطين واستعراض أوجه حياة الناس فيها. وقد جاء ذلك الجانب كمقدمة لعرض آراء نيكوس كازانتزاكي فيما يتعلق بالمسألة اليهودية -الصهيونية.
لقد اهتمّ كازانتزاكي كثيرا بوصف بناءات ومعالم العمران والآثار في فلسطين، كما أنه أطال في وصف حياة الناس العاديين بهدف إضفاء طابع واقعي على كتاباته. لذلك نراه يطيل استعراض تصويره لكل التفاصيل اليومية والبسيطة (الطرق، الأزقة، العصافير، الحدائق، الأشجار والزهور والغلال، الطقس وحرارته، والبحر، والغبار … الخ) وقد جاء أسلوب الوصف المفصل الذي أورده كازانتزاكي في تدوين رحلته إلى فلسطين وكأنه وُضع لإطار راوية.
لكن قراءة وصف كازانتزاكي المبتهج بالأمكنة والمدن الفلسطينية (الجليل، حيفا، أريحا، البحر الميت … إلخ) تحيلنا إلى يأس غامض ينهي به الكاتب كل الفقرات التي تؤكد إعجابه بالجمال والسعادة التي عرفهما فيها، فكأنه تنبأ بأن كل ذلك الجمال والهناء متجه إلى زوال. مثلما بيّن ذلك حين وصف مدينة حيفا وبساتينها وحقولها الرائعة “تحس بألفة وطمأنينة الأرض وهي تستقبل محراث الإنسان”15 ليرصد حجم الأمراض والأوبئة التي تضربها فيقول: “حتى الطيور التي تحلق فوق الرؤوس يدركها الموت”16.
فإذا كانت مشاعر الألفة قد هيمنت على كازانتزاكي في منطقة الجليل فإن وصفه للبحر الميت17 ولمدينة أريحا18 يؤكد ما ذهبنا إليه من ملاحظة بخصوص وصفه لمدينة حيفا. فهناك شؤم ما يترصد المكان في الأفق، وخطر غير طبيعي متأهب بالمكان والزمان والبشر. ذلك هو ما سوف يتطرق إليه صاحب زوربا حينما يتناول مسألة اليهود في فلسطين وأخطار الصهيونية فيها.
كازانتزاكي … ناقد للصهيونية
يتخلل فقرات كتاب الرحلة وأبوابه استعراض للسلبيات الجلية في سلوكيات وذهنيات العرب المسيحيين أو المسلمين في فلسطين، ولكن جاءت تلك الإشارات في شكل تقريري معاتب. أما بخصوص ممارسات اليهود فإن كازانتزاكي كان ينحى منحى النقد والتشهير. فقد كانت كتابة كازانتزاكي منحازة إلى العرب بوضوح، بل إنه ينتهي إلى بناء صورة قائمة عن سلوك وذهنيات ومعتقدات اليهود الذين شاهدهم في فلسطين ليعلن في نهاية الأمر مناهضته للمشروع الصهيوني فيها.
فالبرغم من أن كازانتزاكي لم يكن متجذرا في المعتقد الديني (المسيحي الأورثوذكسي) فهو أبدى في أغلب مواطن كتاب “الرحلة إلى فلسطين” وخاصة في بابه المتعلق بالقدس، ريبة وقلقا إزاء سلوك اليهود معتبرا إياهم غير أمناء في كل ما يفعلون أو يقولون: “كنت على عجلة من أمري وأنا أشق طريقي عبر شوارع القدس المعتمة المسقوفة. كان وميض عيون العبريين يومئ بالتهكم، والقلق، والتشهي، والحسد … وأنت تمر بالقرب منهم … كنت تواقا للوصول إلى حائط معبد سليمان. ذلك الحائط الذي مرّ عليه أكثر من ثمانية عشر قرنا حتى الآن. كان اليهود يندبون بلدهم المفقود، ويدعون الإله “يهوه” للنزول ثانية، كي يعيد الألق إلى معبده”19. ويبدي الأديب اليوناني نوعا من التحفظ إزاء طقوس اليهود في القدس وخاصة فيما يتعلق بحائط المبكى “ذلك الحائط الذي أعيد تجديده، والذي يشكل الأثر الوحيد الباقي من معبد سليمان. وهو حائط عادي جدّا …”20 يقصده اليهود بهدف البكاء وتقديم الطلبات إلى الرب إذ إنهم … استمروا بالتوافد … وبتقبيل الجدران، وتمريغ وجوههم بالحجارة، وإطلاق التنهدات العميقة”21. ويرصد كازانتزاكي في كل ذلك المشهد نوعا من الوثنية الممزوجة بالكذب: “فقد احتشد حاخامات … كأنهم ممثلون عريقون قدماء، يتحلقون كالعناقيد، ويشرعون في بكائهم الرنان …”22، وهو يصف بشيء من الاستهزاء بعض الطقوس والعادات والحركات التي ينتجها اليهود أمام الحائط مثل “الاهتزاز أماما وخلفا وبإيقاع معين ويأس وقنوط”23، وإطلاق “لحية سوداء كذيل الغراب”24، وإقحام الأطفال في “كرنفال النواح”25. وقد رسم كازانتزاكي صورة سلبية للمرأة اليهودية و”لاستهتارها وهبوط أخلاقها” كما عاين ذلك في أحياء وطرقات مدينة القدس26 معتبرا ذلك السلوك السلبي أمرا ممنهجا وممارسة واعية تقبلها أخلاق اليهود وعقيدتهم -حسب رأيه- حيث كتب واصفا إحدى النساء اليهوديات أمام حائط المبكى: “كانت تتكئ على الحائط وترسل نظرات جانبية من عينيها، وتبتسم من فعل الرجال، كانت عيناها ما تزالان حمراوين من البكاء ولكنها بعد أن ارتاحت من ذلك الطقس البكائي استسلمت لطيش الشباب الذي استحوذ عليها في تلك اللحظة، فتناست اللعنة السماوية، التي ستزول بها، والهيكل المدمر، والقتلى من أبناء جنسها، وأخذت تنظر إلى أولئك الرجال نظرات شهوانية جائعة. كانت تدرك أن لا شيء سوى الحب، يمتلك القدرة على حماية جيلها، ويزيد من تكاثر اليهود، ويعيد بناء هيكل سليمان”27.
لم تكن الصورة التي رسمها كازانتزاكي لليهود في فلسطين (1926) مشرقة، بل إنها جاءت سلبية للغاية، وتضمر موقفا نقديا منهم ومن تراثهم وتاريخهم كما أنها تكشف رفضا عميقا لمشاريع قادتهم الصهاينة. فقد اعتبر كازانتزاكي أن الصهيونية أفسدت اليهودية واليهود وجعلت منهم تجار دين أو سماسرة مشاريع سياسية واستراتيجية. لذلك ذهب إلى حدّ اعتبار وجودهم في فلسطين (سنة 1926) أمرا غير طبيعي وغير مشروع، حيث كتب أنهم بعد أن عاشوا “حياة عار في أوروبا”28 صنعوا أسطورة “أرض الميعاد” في القدس بحثا عن كيان مفقود اعتقدوا أنه حق لهم منحه الله لهم ووجب استرجاعه عنوة “لقد اجتمع اليهود في هذا المكان الذي جاؤوا إليه من جهات الأرض الأربع، جاؤوا ليغرقوا في هذا الطقس البكائي الغريب، جاؤوا من غاليتسيا، بستراتهم الطويلة، وشعورهم التي تتهدل على الصّدغ، ومن الجزيرة العربية بجلابيبهم البيضاء، ومن بولندا بشعورهم الحمراء القصيرة، ومن بابل بكل جلالهم، ومهابتهم. تلك المهابة التي يتصف بها الآباء التوراتيون. جاءوا من روسيا وإسبانيا، واليونان والجزائر”29.
بيّن كازانتزاكي أن اليهود القادمين إلى فلسطين، لا يشكلون شعبا أو أمّة، بل إنهم خليط من الأقوام المتناثرة والمشتتة التي تسللت، تحت غطاء ديني وأسطوري إلى المجال الفلسطيني وإلى تاريخه الحديث ليحدثوا فيه انقلابا تراجيديا لا مكان فيه للحق أو للشرعية، وأن ذلك المشروع نتيجة لمخزون ثقيل من الحقد والكراهية المتراكمة في تاريخ وجودهم في أوروبا، بل إنه أضاف : “كانوا مبعثرين في كل بقاع الأرض، في غيتوهات اليهود المظلمة. وفي العصور الوسطى، كانت الجدران العالية تفصلهم عن بقية المدينة، وكانت الأبواب تفتح في الصباح، وتغلق في الليل، وكانوا يرتدون لباس الخزي، فقد كانوا يرتدون كبودا أو قبعة حمراء أو خضراء، وقد كان عليهم أن يفعلوا ذلك حتى يتمكن معذبوهم من تمييزهم من أجل إساءة معاملتهم أو مهاجمتهم، دون أن يعاقبوا على ذلك. وعندما كان عليهم أن يسوقوهم إلى المحرقة، كانوا يلبسونهم الحلل السوداء الحزينة بالصلبان، ولهب جهنم والشياطين، ويتركونهم يسيرون بين الجماهير المحتشدة التي ترتل اللعنات على رؤوسهم”30.
ذلك التاريخ المأساوي لم يكن من صنيعة الفلسطينيين أو العرب، بل إنه معضلة في علاقة اليهود بأوروبا، لكن اليهودية الصهيونية اعتمدت مأساة التاريخ لإنتاج مأساة الحاضر عبر خلق أسطورة الحق في العودة إلى فلسطين وتحويل ذلك الحق إلى مشروع استيطاني واستعماري في فلسطين وطرد شعبها منها. فقد أفرز العذاب اليهودي في أوروبا ثقافة عدوانية سرية معادية لكل الأمم استشفها كازانتزاكي من الدعاء الذي كان اليهود يرددونه أمامه عند حائط المبكى: “سوف أدمرهم، سوف أسلمهم إلى الخراب والأطلال، والنواح، والسخرية، سوف أنزع عنهم صوت المتعة وصوت السعادة، وصوت العريس، وصوت العروس … وضوء المصباح …”31.
تشكل هذه العدوانية المستبطنة والموجهة ضدّ أعداء مفتعلين قاعدة أساسية للوعي اليهودي المتحوّل إلى مشروع صهيوني استعماري. ولا يمكن، بأي حال من الأحوال ربط العدوانية الصريحة القائدة لمشروع “العودة إلى أرض الميعاد” بأي قيمة إنسانوية متسامحة، بل إن الصهاينة جعلوا من وعي الشقاء لدى اليهود قاعدة لبرنامج إبادة للغير. وقد دون كازانتزاكي مطالبهم حين يدعو اليهود ربهم أمام حائط المبكى حيث كتب: “هاهم الآن ينوحون، ووجوههم تتجه نحو هذا الحائط ويدعون ربهم… إلهنا، إلهنا أزح عنا كربنا، لقد اغتصب الآخرون إرثنا، واحتلّ الغرباء بيوتنا، وأصبح علينا أن نشتري الماء الذي نشرب، والحطب الذي نوقد به نيراننا، لقد غادرت البهجة قلوبنا، وتحولت رقصاتنا إلى نحيب وتنهدات، لقد سقط التاج عن رؤوسنا”32.
لم تكن بكائية اليهود تضرعا للرب من أجل عدالة سامية ونبيلة، بل إنها كانت مطالبة بإلقاء الظلم والقهر على الآخرين. ذلك ما دشنته الصهيونية التي فعّلت مخزون القهر الممارس ضد اليهود ووجهته ضد العرب الفلسطينيين بنجاعة قصوى. فقد قام كازانتزاكي برحلته إلى فلسطين في زمن تحولت خلاله الهيمنة الأيديولوجية والسياسية داخل أوساط اليهود في فلسطين وفي العالم لصالح الحركة الصهيونية… وقد لاحظ آثار ذلك في سلوكيات اليهود في القدس وفي باقي المدن الفلسطينية وتبيّن طبيعة الخطر الذي تضمره الصهيونية على حقوق العرب وعلى السلام في العالم. لذلك كتب بصراحة جلية ودون تعويمات لغوية أو خطابية ما يفيد رفضه للمشروع الصهيوني ومناهضته له: لقد اعتبر كازانتزاكي أن: “الروح اليهودية تريد أن تقهر الأرض، تريد أن تجعل كل الشعوب تابعة لإيقاعها وتريد سحق الواقع المعاصر، لأن الأرض لا تستطيع أن تحتمله، هذه هي خاصيتهم المميزة العميقة”33.
ولا يضمر موقف كازانتزاكي من اليهودية الصهيونية أي عداء للسامية أو نظرة عنصرية، وهو المتوغل في نزعته الفكرية التحررية والإنسانوية التي تثبتها كتاباته ومواقفه. لقد أورد كازانتزاكي حديثًا جرى بينه وبين شابة يهودية صهيونية متحمسة التقاها في القدس مؤكدًا عطفه على اليهود ورفضه للصهيونية حيث قال لها: “لقد بدأت بفقد حريتك، لقد بدأت بتقييد نفسك وشدها إلى ركن معيّن من الأرض، وبدأت بتضييق مساحة قلبك، فبعد أن كان فيه متّسع لكل العالم، أصبح الآن، يميّز، يفرّق، ويختار، ولا يقبل سوى اليهود…”34، وبعد أن أشار إلى إفساد الصهيونية لقيم اليهودية الأصلية يعلن لها (أي للفتاة الصهيونية) “آمل – لأنني أحب اليهود – أن يتمكن العرب، عاجلا أم آجلا من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم”35.
كان ليو تولستوي قد سبق كازانتزاكي في التعبير عن أمله في فشل المشروع الصهيوني حفاظا على السلم العالمي من ناحية، وحفاظا على روحانيات اليهودية الأصلية من ناحية أخرى. وتقود المقاربة التي تعارض الصهيونية ذودًا على سموّ القيم العليا للديانة اليهودية إلى إشكالية شاملة تبرز مفاسد ربط الدين بالسياسة، حيث إن ذلك الربط لا يقود -كما هو معلوم- إلى إشعال الحروب وسفك الدماء بين الأمم والشعوب والطوائف فحسب، بل إنه مفسدٌ لملحِ الأرض ولقدرة البشرية على صياغة الحضارات الراقية والثقافات المتمدّنة. وقد أشار كازانتزاكي إلى هذا البعد من المسألة الصهيونية حين كتب: “كان الإغريق يحبون بناء نسق موازٍ لنسق القوّة، وفرحوا به، لذلك استطاعوا الانسجام والتوافق مع كل لحظة تمرّ. لقد أوجدوا التوازن في هذا العالم، استطاعوا الانسجام والتوافق مع كل لحظة تمرّ. لقد أوجدوا التوازن في هذا العالم، ولكن اليهود يحاربون بلا انقطاع من أجل تحطيم هذا التوازن، وهو قلب الإنسان، لذلك فإن الواقع غير قادر على احتوائهم واحتمالهم. (حيث إنهم) وراء كل دقيقة زائلة يطالبون بالمطلق”36.
تلك هي استنتاجات كازانتزاكي من انسياق اليهود وراء التيار الصهيوني والسقوط في دوامة تأثيراته المتمحورة حول الأحلام بالسيادة المطلقة على أرض فلسطين وتشريد أهلها أي تلك الأحلام المشحونة بعدوانية عنصرية عالية والتي تجعل -حسب رأيه- من سفك الدماء والاضطهاد وسيلة وحيدة للتعامل مع الغير إلى حدّ أن العالم أصبح غير قادر على احتمال اليهود واحتوائهم. فقد استخلص كازانتزاكي أن الصهيونية تطرح مشروعا يتحدى كل العالم بمعنى كل الشعوب والبلدان وكل القيم التي يقوم عليها مبدأ العيش المشترك في العالم.
كان الموقف النقدي الذي طوره كازانتزاكي إزاء اليهود منطلقا من رفضه للمشروع الصهيوني في مستوى كلّ من الأهداف والقيم والممارسات. وقد أعلن الأديب اليوناني رأيه بصراحة غير خاضعة لأي ضغط أو تأثير، بل إنها شكلت صرخة ضمير في وجه البشرية وبدوافع عقلانية وإنسانية حيث إنه كتب متوجها لليهود “وهذه الحركة الصهيونية الحديثة، أيضا، ليست سوى قناع يلبسه قدركم المتجهم ليخدعكم إلى ما لا نهاية. ولهذا السبب فأنا لا أخاف الصهيونية: كيف يستطيع خمسة عشر مليونا من اليهود أن يحشروا أنفسهم هنا؟ لن تجدوا الأمن هنا، فخلفكم -وهذا هو الذي يجب ألا تنسوه أبدا- جموع من العرب السمر الأشداء المتحمسين”37.
ويعني هذا الكلام -في رأي كازانتزاكي- أن المشروع الصهيوني في فلسطين مشروع استعماري (استيطاني) وبالتالي سوف تظهر من جرائه عناصر لأزمة استعمارية لن يتخلّى ضحاياها (العرب الفلسطينيون) عن النضال من أجل حق تقرير مصيرهم ومصير بلادهم. فالصهيونية لن تحصد -حسب كازانتزاكي- سوى الخيبة والفشل في نهاية الأمر لأنها استبدلت المأساة اليهودية بمأساة فلسطينية بغير وجه حق، كما أكّد أن ذلك الاستبدال لن يضع حدّا للتيه اليهودي عبر التاريخ والجغرافيا.
كانت رحلة نيكوس كازانتزاكي إلى أرض فلسطين (1926) رحلة رجل حر لم يرتهن ضميره سوى للحق وللحقيقة. وما من شك أن نظرة كازانتزاكي إلى الوجود وإلى العالم قد تشكلت قبل تاريخ تلك الرحلة، وأنها قد حددت وجهة آرائه. لكن الأديب اليوناني لم يتعسف على الحقائق التي عاينها في فلسطين، فلم يتمكن ضميره النزيه من احتمال واحتواء المشروع الصهيوني ….