جئتُ جوًّا، قد يبدو غريبا قول ذلك، ما الطرق الأخرى إذن! بعضهم مشى وبعضهم غرق، كانوا يائسين، ولم أكن يائسا، لكنني كنت خائفا لأنني أغضبت بعض الناس، كانت جريمتي هي إخبار الفتيات اللواتي التحقن بمدرسة الأحد التي أدرس بها بأن يرفضن الختان، كان من المفترض أن تكون مدرسة الأحد عبارة عن فصل للقراءة والكتابة، بيد أني انزلقت بالكلمة الطيبة على كل حال، أخبرتهم أن الختان كان تشويها للأعضاء التناسلية وممارسة بربرية ومتخلفة أجبر الرجالُ فيها النساء على القيام بذلك حتى يعرفن أنهن مجرد قمامة، وكان الهدف الحقيقي هو إيذاءهن وشلّهن والسيطرة عليهن.
حين جاء اليوم الذي ينبغي على الفتيات الموافقة على الختان رفضت ستة منهن ذلك. لم أكن هناك، لكنني اكتشفت ما حدث في نفس الليلة حين سمعتُ أصواتا غاضبة خارج منزلي تطلب مني الخروج كي أتلقى الضرب لتدخلي في شؤون بناتهم. كانت قرية مسلمة في بلد مسلم، وعلى الرغم من أنني مواطن، إلا إنني مسيحي تم اتهامه الآن بالتطفل على بناتهم. يمكنك أن تتخيل رعبي حين يعمّ الهدوء في الخارج ويذهب الغاضبون بعيدا ربما لجلب المزيد من الناس لمساندتهم. أخرجت دراجتي في جنح الظلام وقدتها بعيدا إلى بر الأمان في قرية مجاورة.
سمعت في اليوم التالي أن حريقا شبّ في قش منزلي تلك الليلة، وأن من أشعلوا النار يسعون سعيا حثيثا للبحث عني لرميي بصنوف الشتائم. لذلك، ركضت بعيدا صوب المدينة إلى مكتب المنظمة الخيرية غير الحكومية التي عملتُ بها مع الضابط. كان هناك رجل إنجليزي، كان برنارد صديقي، وأخبرني أنه سيحقق في الحريق وينبغي ألا أشعر بالقلق، كل شيء سيكون على ما يرام. ولكنني ارتأيت الاختباء بضعة أيام، أخبرني أن من أحرقوا منزلي جاءوا للبحث عني في المكتب قائلين إن لديهم بعض الأعمال العالقة معي. نصحني بالذهاب إلى الشرطة مما جعلني أضحك، لم أقصد الضحك، فالضحكة انطلقت هكذا نحو برنار! سيضربني رجال الشرطة أولا ثم يسلمونني إلى إخوانهم لإنهاء المهمة، وفي هذه الحالة ليس لديك خيار سوى الاختباء لأن هؤلاء الرجال يبدون خطرين. عاد هؤلاء الأشخاص الغاضبون إلى المكتب، بحثوا عني عدة مرات، وفي النهاية اقترح برنارد أن أهرب إلى بريطانيا طلبا للجوء، فهي بلد مسيحي، وخادمكم المسيحي مضطهد بسبب قيامه بعمل مسيحي. قال برنارد أنه على يقين بمنحي حق اللجوء، وبرنارد نفسه كان مغادرا وأعطاني رقم هاتفه في لندن في حال احتجت إليه.
ساعدني أصدقائي للحصول على المال، ووعدني أقاربي أن يعتنوا بأسرتي، كلهم أجمعوا أن حياتي كانت في خطر. تحدث هذا إلى ذاك حتى تم العثور على أجرة رحلة طيران مغربية إلى لندن بتدبير من الأصدقاء، ثم جئت جوا كما أخبرتك بالفعل، ووصلت لندن لا أعرف حقا يميني من شمالي، متوترا أمام المساحات الكبيرة والحشود صامتة، لكني تحدثت مع نفسي بشعور قوي لأخبرها أنني كنت أفعل شيئا شجاعا. كنت أرتدي بدلة ارتديتها قبل مغادرتي ومازلت أرتديها في المناسبات الخاصة، لذلك أخبرت نفسي أيضا بأني حسن الهيئة. استلمتُ بعض الاستمارات لإكمالها وكتبت ما هو ضروري لإنقاذ حياة، فسُمح لي بالدخول. ولا أستطيع وصف توتري حينها وضياعي بين اليمين والشمال. ولكن بطريقة ما، قلت ما هو مطلوب لأنني كنت أعرف أنهم لن يبعدوني، فقد تعرّضت للاضطهاد لقيامي بعمل رحيم وعرفت أن لندن لن تبعدني.
اتصلت بالرقم الذي أعطاني إياه برنارد وكان سعيدا جدا لسماع أخباري، لكنه قال إنني لا أستطيع الذهاب والبقاء معه، زوجته رفضت ذلك، واقترح إمكانية اللقاء في مكان ما لتناول القهوة بعد استقرار أوضاعي. جلست هناك في المطار جاهلا ما أفعله بعد ذلك، ثم اقترب مني رجل شرطة واقترح عليّ الصعود إلى الطابق العلوي كونه أكثر دفئا هناك، وسألني إذا كنت بخير وإذا كنت بحاجة إلى المساعدة! وأردت إخباره أن ليس لدي مكان أقيم فيه، ولم يكن لدي سوى القليل من المال، لكنني فكرت بما أنه عاملني كشخص محترم، فإن الحديث معه على هذا النحو سيجعله يظن أني مجرد مشاغب افريقي.
صعدت إلى الطابق العلوي ولم أطلب مساعدته، اتصلت بصديق من بلدي كان يعيش في كولشيستر، أخبرته أنني في لندن، قال إنها أخبار رائعة، قلت له: إنني قادم لرؤيتك، قال: رائع، قلت له بأني لا أملك مالا، فأرسل لي مال الأجرة عن طريق ويسترن يونيون، وفي ذلك المساء نفسه كنت في كولشيستر مع صديقي وعائلته. شاكسني صديقي بشأن بدلتي الأنيقة وسعدنا برؤية بعضنا مرة أخرى بعد فترة طويلة. ورغم اضطراري إلى التحايل، فقد كانت زوجته حازمة بشأني، أخبرني بصعوبة إقامتي معهم، فقد رأيت جليا أنه وزوجته وأطفالهم الثلاثة الصغار كانوا يعيشون في شقة صغيرة بها غرفتان فقط، وأوحى كل شيء رأيته في المنزل أن حياتهم كانت كفاحًا. قال لي: بما أنك وصلت الآن، يجب أن تذهب إلى وزارة الداخلية لطلب اللجوء، وأعطاني المال.
وفي اليوم التالي ذهبت إلى كرويدون، نعم إلى لونر هاوس(2). لا، لم أكن خائفا، ربما كنت قلقا بعض الشيء لأني لم أرغب في الضياع وخداع نفسي. هناك في لونر هاوس، أجرت امرأة مقابلة معي، وكتبت كل التفاصيل، أخبرتها بأني كنت ناشطا ضد تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وأن حياتي في موطني كانت في خطر. حسنا، قالت، سأذهب لأخصص لك سكنا مؤقتا، فقط اجلس هناك وانتظر الآن.
بحلول نهاية اليوم، كان ستة منا ينتظرون هناك وركبنا جميعا شاحنة أقلّتنا إلى بيري هاوس، كنا اثني عشر شخصا ونستطيع الخروج متى ما أردنا. غالبا كنت أمشي على الطريق ذهابا وإيابا، وإذا التفت أي شخص تجاهي ابتسمت له لأظهر امتناني للترحيب الذي قدمته لي بلاده. بقيت هناك لمدة خمسة أيام، كل منا حكى للآخر عن قصص هروبنا من الخطر والموت.
تم إرسال ثلاثة منا للعيش بمنزل في نيوكاسل حيث مكثنا لمدة شهر، ثم حصلت بعد ذلك على شقة في غلاسكو ونقود لثلاثة أسابيع، وطوال هذا الوقت كنت ما أزال انتظر إجراء مقابلة حتى أتمكن من شرح حاجتي إلى اللجوء. كنت أتوق لإجراء المقابلة لعلمي بأن الضابط سيتفهم ويتعاطف مع أسباب مجيئي إلى هنا في غلاسكو. التقيت برجل نيجيري في متجر ودعاني إلى كنيسة، كل شخص في أفريقيا كان في الكنيسة بما في ذلك القس، وفي نهاية الصلاة تم تقديم طعام افريقي أعدّه المصلون. وجدتُ جماعة هناك وشعرت بترحيب أكبر مما شعرت به منذ وصولي، كانت لدينا مناسبات ورحلة ليوم واحد إلى البحر وإلى ستيرلنغ مما جعل الانتظار أقل إزعاجا وقلقا.
بعد شهر واحد في غلاسكو، تم استدعائي لإجراء مقابلة استغرقت خمس ساعات من قبل ثلاثة أشخاص مختلفين، كانوا جميعا هادئين ومثابرين، لكن أستطيع القول إن هناك شيئا ما من الطريقة التي طرحوا بها الأسئلة. لم يصدقوني، ومع مرور الساعات بدأت أفكر فيما لم أكن أظنه ممكنا خلال الأشهر الثلاثة التي كنت انتظرها. لم يرغبوا بي هنا، ولم أعجبهم، وكانت نتيجة المقابلة أن تم رفض الإذن بالبقاء. شعرت بأنني كنت شيئا مكسورا وتم التخلص منه بعيدا مع أشياء مكسورة أخرى، ولم أستطع التغلب على العداء العنيد والمزعج للضباط. ربما كنتَ تعلم تماما أنه سيؤول إلى هذا المصير، ولكنني لم أتوقع ذلك، فقد ظننتُ حقا أنه سيتم سماعي بشكل مختلف خلال العامين المقبلين.
تم رفض طلبي مرارا وتكرار، ولم يسمح لي منذ بداية عام 2007 حتى منتصف عام 2009 بحضور جلسة الاستماع. ولكن تم إخباري لاحقا برفض طلبي، ولا أعرف ما الذي كان سيحدث لولا محامية مجلس اللاجئين التي تولت قضيتي، فقد كان من المحتمل أن أكون على طائرة تعود بي إلى القتلة. أخيرا، تم قبول طلبي عام 2009، إلا أن الإذن بالبقاء لم يكن يعني نهاية قصة وصولي، لم يُسمح لي بالعمل، تم إيداع مصروفي في بطاقة إلكترونية، مما سمح لي فقط بالتسوق في متاجر محددة ولأشياء معينة.
أخيرا، حصلت على وظيفة بشكل غير قانوني لبضع ساعات في الأسبوع بمتجر قطع غيار مغمور، فقط مقابل مصروف الجيب. لا أعرف كيف اكتشفت الشرطة أمري، فقد داهموا شقتي في الساعة الرابعة صباحا وقلبوا كل شيء يمكن أن ينقلب وأخذوني بعيدا على عجل كما لو كنت مجرما خطيرا. فقدت كل أوراقي وجميع ممتلكاتي أثناء الاعتقال لأنه لم يُسمح لي بالعودة، وأُخفيتُ بعيدا عن الأنظار عدة أشهر كما لو كنت ثعبانا ساما أو حيوانا معديا. أخيرا، حين وصلت قضيتي للمحكمة، حُكم عليّ بالسجن لمدة 12 شهرا لأنني تجرأت على تولي وظيفة صغيرة بدوام جزئي.
علمت الآن أنني قد أنهيت المدة، تم إطلاق سراحي عام 2011، فقط للعودة إلى النسيان الذي كنت فيه قبل ألا يُسمح لي بالعمل. مكثت هنا إلى الآن مدة ثماني سنوات ليس لدي خيار سوى العيش، حيث قيل لي أن أعيش، وانتظر جلسة الاستماع التالية للسماح بالنظر في طلبي. هل تعرف ما معنى النسيان؟ يعني أن تكون على حافة الجحيم.