لرواية “الطلياني” مداخلٌ متعدّدة، ومنافذ جمّة لقراءتها، فظاهرها، سردٌ تقليدي، في اختيار موضوعٍ اجتماعي ثقافي، سياسي، ورصدِ مسار شخصيّةٍ اختِيرَت مركزا للسرد، في حياتها وصلاتها، ومختلفِ تقلُّباتها، وتحوُّلاتها. وباطنُها رؤيةٌ في تَخيُّر زاوية النظر، وترتيب الوقائع، وتصنيف الشخصيّات وضبط علاقاتها، وتبئير أحداثٍ وشخصيّاتٍ لها مرجعيّةٌ في تاريخ تونس الحديث والمعاصر. باطنٌ عليه بُنيت الرواية يحتمل شتّى الظنون، ويُحمَلُ على أوجه متقلّبة، ويسير من الضديد إلى الضديد.
ولذلك تحمّلت الرواية مختلف الآراء بين مُفرِطٍ في الإشادة ببريقها، ومُوجِعٍ في تتبّع سقطاتها، والحالُ أنّها خطابٌ تخيّرت فيه الذات المتكلّمة وسائطها وخطّطت لروايتها، مداخلِها ومخارجِها، تتابعها وتكسّرها، عتمتها وإضاءاتها، واختارت موضوعها الذي أزعج مثقّفي اليسار وأسلوبَها الذي أثار نقّاد السرد.
عُقِدت الرواية على أساس تقليديّ في إدارة السرد الروائي، وهو شخصيّة الطلياني التي اتّخذتها الذاتُ المتكلّمة عنوانا يمثّل كليّة العمل، ومدخلا لعالم حكايةٍ تخييلي له إحالات عدد على واقع سياسيّ واجتماعي وثقافي. عنوان الرواية يُبئّر الشخصيّة، ويجعلها نقطة ارتكاز الراوي الذي رشّحته هذه الذات شكليّا للقيام بوظيفة الرواية دون الرؤية.
“الطلياني” عنوانٌ يتّخذ سمةً من الشخصيّة دالّةً على اختلافها عن الموجود، إذ كان به شبه بالإيطاليين، فارتبط اسم الشخصيّة بالمكان، غير أنّ الجدير بالملاحظة أيضا أنّ الذات الكاتبة أرادت ألاّ تفرّخ عناوينها اتّصالا بالشخصيّة وصلاتها، أو بالأحداث وتطوّرها، وإنّما اختارت عناوين فرعيّة رمزيّة، دالّة، يتّصل بعضها بالموروث إحالةً، ويتصّل بعضها بالحديث معجما ومرجعا، إلاّ أنّها على رمزيّتها ترتبط كلّها بالمكان “الزقاق الأخير- شعاب الذكريات- المنعرج- رواق الوجع والألم- منحدرات- طلاّع الثنايا- مسالك موجعة- السكّة المقفلة- مفترق الطرق- الدروب الملتوية- المضيق- رأس الدرب”، وللقارئ أن ينفذ إلى الرواية من تنوّع هذه العناوين وأبعادها السيميائيّة والتداوليّة. وبذلك يُمكن أن تُمثّل الشخصيّة في بنائها وإدارتها وصلاتها، وعلاقتها بالمكان، منفذا هامّا من منافذ دراسة الرواية. فعتبات الرواية في هذا العمل مدخلٌ يمكن أن ينفتح به خطاب السرد وأن يبوح بأسراره وخفاياه.
تنفتح الرواية على حدث المقبرة، تعميةً وتعتيما، ليظلّ فعلُ الشخصيّة الرئيسة غامضا، حمّال أوجه، تبدو في ما يصدر عن الشخصيّات الحاضرة أو السامعة بردّ فعل الطلياني في موقف مهيب، هو دفن والده، وتنغلق الرواية على الحدث ذاته بيانا وكشفا عن المستتر في هذا الفعل، الذي حمل معه أحداثا مخفيّة، وصلات غير سويّة. ذاك بناءٌ أرادته الذات المتكلّمة هيكلا للرواية وعُقدة تُتَّخذ علّةً للشروع في حكاية الشخصيّة عبر إجراء آلة الاسترجاع. وقد اضطلعت برواية هذه الأحداث في ظاهرها وباطنها، جليّها وخفيّها، سرّها وعلنها، شخصيّةٌ ثانويّة صدّرتها الذات المتكلّمة للقيام بهذا الدور الجلل.
قد تبدو الرؤية في الرواية مرتبكة، مهزوزة، وذلك نظرا إلى أنّ الذات الكاتبة اختارت لرواية أحداثها شاهدا لا علم له بما يرويه في أغلب الحالات. الراوي في الرواية، الذي مثّل أداةً رئيسةً لنقل معلومات “الطلياني” لا يُمكن أن يكون قادرا منطقيّا، ووضعيّا، على نقل ما نَقَلَه من أفعال وصلات وتأملات ومساررات وثنائيّات قوليّة لم يكن حاضرا فيها. الرؤية في الرواية هي رؤية “الطلياني” الشخصيّة المركز، التي أرادتها الذات الكاتبة، ناظرةً ومنظورا إليها وفيها، بل هي أحيانا رؤيةٌ عالمة تتعدّى الشخصيّة المركز، وتنفذ إلى ذوات الشخصيّات المجاورة، تُبين مشاعرها، ورؤاها وإدراكها للشخصيّات وللأحداث وللكون من حولها.
الشخصيّة التي صدّرتها الذات الكاتبة مركزَ رواية، هي شخصيّة بسيطة، هي رفيق “الطلياني” منذ الصغر، تكادُ لا تحضر في نسق الأحداث ومجرياتها إلاّ لبيان فعل الرواية إدراكا للمنقولات، وبيانا لمصادر الأخبار، وهي شخصيّة موصولة بسبب من الأسباب بالحبّ السياسي الذي شدّ “الطلياني” إلى “زينة”، الحبّ الأعمق والأطول. تُنطق الذات المتكلّمة الراوي، وتجعله يُعلن عن مصادره، ومآتي الرواية لديه، وطرق تحصيله للأخبار، وفي الوقت ذاته يُظهر منزلته، ودوره، “وفي هذا حكايات بعضها سمعته من عبد الناصر وبعضها الآخر منقول عنه بسند صحيح وبعضها الثالث عرفته على سبيل الصدفة. وكنت أيّامها في قريتي بريف القيروان أعلّم أبناء الشعب الفلسفة والحكمة. ولو رويت ما سمعته لتطلّب منّي تدوينه ونقله بأقصى قدر من الأمانة والتماسك مئات الصفحات التي لا أقدر على تحريرها لطولها ولا أريد أن أفعل ذلك لأنّها استطرادات قد تضيّع عنّي خيط الحكاية التي أدّت بعبد الناصر إلى فضيحة المقبرة”(1). لعبة الرواية بيّنة في هذا الحدّ، فالشخصيّة الراوية ليست رائية، ليست شاهدة على الأحداث، بل هي ناقلة للأقوال، تنظر في منقول قولي، يبلغها من مصادر متعدّدة، من الشخصيّة الأساس، رفقةً وصحبةَ بَوحٍ، وهذا يتجلّى في الباب الأخير من الرواية. وممّا نُقل عن الشخصيّة المركز عبر قنوات، وَسَمَها الراوي بالسند الصحيح، وهو يستعير في هذا الخطاب مدوّنتين هامّتين في تاريخ السرد العربي وهما مدوّنة الحديث النبوي، ومدوّنة الخبر، وهما القائمتان على استنشاء الأخبار وبيان صحّة المنقولات القوليّة من عدمها. أمّا المصدر الثالث الذي أدرك به الراوي المعلومات فهو الصدفة، وهو مصدر حمّالُ أوجُه، فالصدفة يمكن أن تكون بالمعاينة ويمكن أن تكون بالرواية.
أدركنا أيضا أنّ الراوي الذي تكفّل بنقل الأحداث هو أستاذ فلسفة، وهذا يُبعّد صلته بالذات الكاتبة، التي تخصّصت في اللّغة العربية، غير أنّ تدريسها في أرياف القيروان يجمعها بسبب بهذه الذات التي كانت مدّةً من الزمن تدرّس أبناء الشعب في قرية نصر اللّه، في ريف القيروان، اللغة العربيّة وآدابها، وتركت بصمات حسان في هذه الأرض المخصبة.
ذاك تكسّرٌ قصديّ في الرواية، يُحدثُ تنافرا بيّنا بين طبيعة الراوي، وطبيعة المرويّ، بين قُدرات المتكفّل بالرواية المحدودة، واتّساع دائرة النظر المطلقة، وكأنّ الشاهد هو الكاتب، الذي أراد أن يقول لنا، أنا باعث الشخصيّة وأنا العالم بخفاياها وأسرارها وآمالها وظاهرها، وأنا القادر على تمكينها وتنفيذها، وأنا الذي أكوّن شخصيّةً على وهنها قادرةً على روايةِ ما لا أقدر على روايته.
لقد مثّل الراوي المعلَن تُكَأَةً تضليليةً، وسندا لا وجهَ له ولا أثر، فقد كان مُنْقِذا للذات الكاتبة في إيجاد مرتَكز، منه تخرج الرواية، إذ استُخدِم طرفا يبوح له “الطلياني” بأسراره ساعة الضيق، التي شكّلت نقطة فارقة في حياة الشخصيّة المركزيّة، هذه النقطة الفارقة التي اجتمعت فيها الشخصيّة مع الراوي، وباحت له بأزمة الرواية، قد تمثّلت في حدثٍ هزَّ “الطلياني”، وغَيَّر مساره في الحياة، وهو تَوافُق موتِ والده، مع انقلاب البنت التي خطّط لمضاجعتها، وهيُّئت له، على بطنِها، موجّهةً له مؤخرتها ليفعلَ فيها فعلَ المقدّمة محافَظةً على عذريتها. ذاك فعلُ مُهيَّجٌ، أثار في الذات المبأَرة ذكريات خبيئة، وفعلا أُتي فيه الطلياني من خلفٍ وهو صغير من قِبل من صار إمام الحيّ، أوقف انتصابه وحوّله إلى عاجز عن الفعل الجنسي.
يتلبّس الراوي وجهات نظر عديدة، وإن كان الغالبُ عليه مرافقة الشخصيّة البطلة في كامل تقلّباتها، نلحظه في أكثر من موقع بتلبّس رؤية الشخصيّات المجانبة، ليتحوّل من منزلة الرؤية المصاحبة إلى منزلة العليم العارف بما تُظهره الشخصيّات وما تُخفيه، فهو على سبيل المثال، ينقل جهة نظر العامّة في تبئيرها للبطل “الطلياني”، يقول: “كان الإحساس العامّ أنّ النار تخلّف الرماد. فأين وقار الحاج محمود وأناقته في جبّته السكرودة التونسية وشاشيّته الإسطنبولي أو في بدلته الإفرنجية وقبّعته المستديرة، على حدّ سواء، من طيش ابنه بسروال “الدجينز” وسترة “الدنقري والشعر الأشعث واللحية المعفاة؟”(2).
إنّ الرؤية في الشاهد هي رؤية المجتمع العارفُ بالطلياني، العارفُ بوالده، المُحدثُ مقارنة جائزة بين الابن الذي صُنّف خارجا عن الأعراف، منبتّا عن مسار عائلته، خارجا عن تقاليد والده وأخلاقه، والأب الخلوق الكيّس، المندمجُ في مجتمعه، المحقّقُ لصورة الرجل المثاليّ. والمتكلّم في هذا المقام الذي قُدّم على أنّه صديق “الطلياني” لا يغلّب رؤيته، وإنّما هو ناقلٌ لرؤية المجتمع وإحساسه، وكثيرا ما كان هذا المتكلّم المحدَّدُ عارفا بأحاسيس الآخرين وبمشاعرهم، معبّرا عن رؤية عالمة، عارفة. ينقل في أحيان كثيرة رؤية “الطلياني” نفسه، أو رؤية الشخصيّات الدائرة في فلكه. ولا يقصر أمر روايته على “النقل”، أو المعاينة، وإنّما هو داخلٌ في الجوهر، مدرك الظاهر والباطن في ما خفي عنه روايةً ومشاهدةً، مُبينٌ ما يدور في أذهان الشخصيّات، التي يجهل البطل الأساسي، ما غُرس في ضمائرها من تقدير وتدبير وتفكير.
فإن أخذنا هذا المقطع مثالا لوقفنا على تعقّد فعل الرواية في رواية “الطلياني”، وقدرة الراوي، “الناقل” على إدراك أفعال نفسية أو تقديرية، وعلى التوغّل في كلّ الشخصيّات لكشف سترها، “فسّرت له نجلاء أنّ زينة صديقتها وتبوح لها بأسرارها كلّها بما في ذلك السلسلة التي نسيتها. كانت تشكّ فيه. فلم تحاول أن تكذب عليها ولا أن تفضح علاقتهما. اتّخذت طريقا أخرى. أفهمت زينة أنّها أهملت الطلياني فلا لوم عليه إذا بحث عن متعة لدى الأخريات. وقد اكتشفت نجلاء، على خلاف ما كانت تتصوّر، أنّ زينة تغار على زوجها، ولكنّها لا تعرف كيف تحافظ عليه من جهة ولا تملك الوسائل التي بها تستطيع أنّ تجعله منشدّا إليها من جهة أخرى. فكلّ ما وقع من تغيير هو فعلا بإيحاء وتوجيه منها”(3).
نفس الأمر نلحظه في وصف لقاء جنسي بين “الطلياني” ونجلاء، يعمد فيه الراوي إلى تركيز عين رائية للظاهر، نافذة إلى إدراك مشاعر الشخصيتين، “البخار يصّاعد من جسدها المحمرّ. شعرها المجعّد منفوش. غرقا في ماء الحوض الذي فاض فتدفّق على أرضيّة غرفة الاستحمام. قبّلته بشوق امرأة مغتلمة فاض عليها شبقها كما لم تفعل من قبل. استرخت على الفراش بلباس الحمام. اتّكأ بجانبها يسألها ويلاطفها كزوج مخلص. التمست منه ألا يقطع تأملاتها”(4).
وتتكرّر هذه الصورة التي يتّخذها الراوي، نافذا إلى الشخصيّات ناقلا بواطنها، واصفا خارجها، فالراوي يصف لنا وصف المعاين حميمية الفعل الجنسي، وكأنّه شاهِدٌ على ما ظهر منه وما بطن٫
“يحرّك أحدهما العنان قليلا. يجذبه. اهتزاز مثير ضغط يشتدّ شيئا فشيئا. شدّ وارتخاء. … حنين كحنين الإبل فصهيل من الفرس. تنفّسٌ موزون فصياح الفارس من أثر السباق. كان ظهرها عزّا وبطنها كنزا. خير عميم في الفرس. أمّا الفارس فكانت الخيل والليل والبيداء تعرفه. كانت في مرح تامّ. ظهر مرحها في حمحمتها ثمّ وهوهتها إلى أن استحال الصهيل جلجلة تركها بعدها لا متعبةً ولا مستزيدةً”(5).
نتبيّن من هذه الشواهد، صورة مختلفة عن واقع الراوي الذي ذكر آنفا أنّه يعتمد في ما ينقل من رواية الطلياني على حديث الشخصيّة الأساس، وعلى أخبار موثوق في صحّتها، ليتركّز روايةً عارفا، تتعدّى معرفته معرفة “الطلياني” نفسه. فالألفاظ والتراكيب التي أبرزناهاـ تُظهر أحوالا، وأفعالا يعسر على الراوي إدراكها وإن كان معاينا.
تلك رؤية الذات الكاتبة، العارفة، العالمة، خالقة الشخصيّات ومُكَوِّنَتُها ومُحرّكة أهوائها وأعمالها، ومُوجّهة مسارها. تعرف مصائر الشخصيات، وتُتَابع تطوّر أحداثها، لتلخّص منتهاها، وهو الأمر الذي كان في تتبعه لخيط زهرة، ونجلاء، وللا جنينة وريم(6)، رباعي الحبّ على اختلاف مظاهره، ورباعي الهزّات الكبرى في الرواية، وهو مدخل آخر يُمكن أن تُقارب منه الرواية، وهو تحولات الشخصيات.
وإن كانت هذه الذات تُلوّن أحيانا من مظاهر الرواية، وتُظهر راويها الواهن في الأصل، المُحمَّل مالا يحتمل، عاجزا عن إدراك بعضٍ من مسار الشخصيّة، تتخفّى عنه المعلومات وتتأبّى، فيظهر أحيانا ناقلا الخبر، غير متيقّن منه، لا تبلغه المعلومة إن حُجبت عنه، “أمّا ظروف هذه الهجرة فسأعود إليها لاحقا، وأمّا عن أسباب العودة فليس لي الخبر اليقين. وحاولت أن أستجلي الأمر من عبد الناصر نفسه، ولكني فهمت من طريقته في الكلام ولفّه ودورانه أنّه لا يريد أن يتحدّث في الأمر”(7).
إنّ المتكلّم الظاهر هو هذا الراوي الشخصيّة الذي تحدّدت منزلته، وبان موقعه ودوره وظهرت مصادر الرواية لديه في خاتمة الرواية بشكل جليّ عندما أراده “الطلياني” رفيقَ محنةٍ، وموضعَ بوح، واصطفاه ليخلو إليه ويحكي له قسما من أزمته التي ظلّت طوال الرواية مخفيّة. فكأنّ المكوّن الأصل في شخصيّة الطلياني ليس صلته بزينة، ولا ثورته اليسارية على رموز الدين الشعبي، ولا رفضا للموت وكفرا به، وإنّما فعل إتيانه صغيرا من قبل شيخ الحيّ هو الذي شكّل عقدة عميقة ثاوية في نفس “الطلياني”. “أخذ يُحدّثني عمّا فعله الإمام به وهو بين الثامنة والعاشرة، حين استدارت ريم، على عادة كثير من الصبايا اللاّتي يردن أن يحتفظن بعذريتهنّ، انثالت عليه مشاهد اعتداء علاّلة، ناظر مسجد الحيّ الذي يشتغل لدى سي الشاذلي، والد للا جنينة.”(8).
وذاك فعلٌ مفاجئٌ في مسار أحداث الرواية التي رُكِّبَت بطريقة أرادت بها الذات المتكلّمة أن تحتفظ بالأجوبة إلى آخر الرواية. فالراوي العالمُ، العارف، لم يَبُح بعلّة ثورة الطلياني في المقبرة، وإنّما أرجأ ذلك إلى آخر الرواية، ليسترْسِلَ في سرْدٍ استرجاعيّ، تُرْوَى به الأحداث التي مرّ بها الطلياني لبلوغ هذه الذروة الحَدَثيّة التي تهجّم فيها على قارئ المقبرة وشيخ الجامع.
إنّ الذات المتكلّمة تعمل على قطع مسار السرد وتعطيل رواية الراوي في أكثر من مناسبة، فهي تجتهد في مَنْهجة روايتها، وتحديد ما يمكن أن يُروَى وما يمكن أن يُرجى وما يُمكن أن يُهمَل، فلا تسترسل في الاستذكار، ولا نوايا حسنة في الرواية، وإنّما عملٌ على استثارة القارئ وشدّه بوسائط مختلفة، في حركة الشخصيّة الأساس، وفي توقيت الإضاءة، وفكّ ما تعقّد من الأحداث، وفي مفاجأة القارئ الذي تنتهي صلته بأحداث المقبرة وعللها منذ بداية الرواية فإذا الذات المتكلّمة تعود إليها في آخر العمل، لتستأنفها وتبين مكتوما منها.
الذات العارفةُ، المتكلّمة، الراوية، الرائية، تُخطّط لروايتها كما يُخطّط الباحث نهجَ بحْثه، فتستهلّ فصول الرواية -على سبيل المثال- بمُجمَل تعمل الذات الراوية على بيان مفصّله في كليّة الفصل، فتقدّم صورة جامعة مختصرة مكثفة، لمسار الأحداث عند الدخول في فصل جديد، أو في ثناياه، مع كلّ حدث مغيّر لمسار الأحداث، مبدّل لما استقرّ من صلات بين الشخصيّات، ففي تطوّرٍ قاطع لصلة عبد الناصر (الطلياني) بزينة، المعشوقة التي أراد فكرا وسياسة ورجولة وجنسا، “أهمّ ما فعلته نجلاء، حين أصبحت سيّدة البيت، هو السهر بنفسها على إعداد حفل رأس السنى الجديدة. قررت أن يكون في الدار بعد أن عبّرت عن عدم رغبتها في السهر لا في مطعم ولا في نزل. ولكن السهرة انقلبت نكدا افتتحوا به السنة الجديدة 1988″(9)، فيعرض الراوي، الأصلي أو ممثّله، طبيعة التحوّل، وملخّص الحدث، في انتظار سرد التفاصيل.
تغلب على الراوي، في بعض المواقف، الرغبةُ في إتمام رواية الحدث، وإن تجاوزت الرؤية حدود الراوي، المصدر، أو الراوي الحاكي، وكأنّه يستعصي على خالقه، ودليل ذلك، ما كان من موقف إخوة “الطلياني” في ردّ فعلهم تجاه فعله بإمام الحيّ في موقف دفن أبيه، إذ ينقل ما قالته الأم، وما صرّح به الإخوة وما أضمروه وما تهامسوا به(10).
خلاصة الأمر أنّنا في رواية “الطلياني”، لسنا إزاء نمط واحد في الرؤية، فعدسة الرائي تضيق وتتسّع على حسب الموقف، تفصح وتضمر، وفقا لطبيعة الخطّة التي صمّمتها ذاتٌ عارفة، مدركة لمكائد السرد وصيغه. غير أنّنا يمكن أن نتبيّن بيسر أنّ الراوي الذي صدّرته الذات المتكلّمة لرواية روايتها أوهن من أن يقدر على حمل ما تحمّله من روايةٍ، ومن رؤيةٍ.
شخصيّة “الطلياني” شخصيّة تونسية بامتياز، تبين الانتقال السلس للسياسي اليساري المليء بالعقد من حال مطلق المعارضة، إلى حال الانخراط في الأنظمة القائمة، وهو أمرٌ تاريخي، غازلت فيه السلطة القائمة سنة 1987 بعض اليساريين الفاعلين وأدمجتهم في كونها فاندمجوا وصاروا يخطّطون لها، ويبرّرون ويقترحون، ويشكّلون العقليّة المخرّبة لمبادئهم التي كثيرا ما نادوا بها. “نصح عبد الناصر سي عبد الحميد بإصدار عدد استثنائي حالا ولو في صفحة واحدة وجها وقفا. نصحه أيضا بأن يختار صفّه من الآن مع بن علي، فبورقيبة لا مستقبل له حثّه أن يقامر ووعده بالربح.”(11)
وقد مهّدت الذات الكاتبة لحلقة ثانية من الرواية، بتحويل الراوي إلى عونٍ قليل المعرفة، فتتراجع نظرته الإلهيّة إلى ما دون رؤية الشخصيّة الأساس، ويُغمِّضُ أحداثا يعمل على بعثها في لاحقٍ سرديّ، قد يُشكّل جزءا ثانيا من رواية “الطلياني”. “بعد انتخابات أفريل 1989 التحق عبد الناصر بوكالة فرنسا للأنباء (أ. ف. ب) وقضى أكثر من سنة وبضعة أشهر في مكتبها بتونس إثر وفاة الحاج محمود. ثمّ سافر إلى أماكن أخرى سمعتُ مجرّد سماع أنّها قبرص والسودان والصومال ولبنان والعراق، ثمّ عاد إلى تونس سنة 1994 ليفتح شركة “عيون للاتّصال والإشهار والإعلان” ويبدأ حياة أخرى أغرب ممّا أرويه الآن”(12).
إنّ تدبير الرواية أمرٌ جليٌّ من ذات تُحكم سياسة نظريّة الخطاب، وسياسة الحكاية، وتفتح العين على التغييرات التي وقعت في تونس الحديثة، في الذوات والجماعات، وترى الواقع العفن، المقيت، والواقع العبق الجميل.
1- شكري المبخوت: “الطلياني”. دار التنوير للطباعة والنشر. تونس. لبنان. مصر. الطبعة الأولى 2014. ص. 266.
2- الطلياني. ص 5
3- م.ن. 245- 246.
4- م.ن. 24.
5- م.ن. 226
6- “احترفت (نجلاء) العهر ببطاقة شبه رسميّة. أصبحت تلعب في ميادين واسعة مع قروش كبيرة في المال والسياسة. صارت المفضّلة لدى المناضلة الكبيرة في جمعيّة الأمّهات، تدفعها إلى أن تكون أمّا لكلّ يتيم من أبناء بن علي تساعده حتّى يؤدّي مهامّه الجليلة من أجل الوطن في دولة التغيير المبارك والعهد الجديد السعيد” ( الطلياني 294). “لم يبلغا شهر نوفمبر 1989 حتى صدر حكم الطلاق بالتراضي، كانت زينة، قبل ذلك بسنة تقريبا، قد أضحت في الواقع “أمّ نفسها”، حرّة، تشقّ طريقها الجديدة وحدها، وحدها “تقريبا”، في إحدى ضواحي مدينة باريس.. برفقة إريك. ش.” (الطلياني 285)
7 م.ن. 295
8- م. ن. 318.
9- م. ن. 259
10- م.ن: 8- 9
11- م.ن. 232
12- م.ن. ص. 293- 294
محمد زروق