سعد القرش *
إلى سعد الدين الشاذلي
(1)
ها هم يقتربون..
أهمس لنفسي، وأتحسس بندقيتي الآلية. كيف يكسوها الصدأ بهذه السرعة؟ لا تكفي الأدوات المتاحة لتنظيفها، ولا وقت لذلك. أنظر، على بُعد أمتار، تماما على آخر حدود هذا الأسفلت، تقف سيارة چيب، تبدو جديدة، مكتوب على جنبها المواجه لي «UN». يهبط منها ثلاثة، ملامحهم لا تشبهنا، فماذا يريدون مني؟ طوال عملي سائقا لسيارة القائد لم أرَ مثل هذه الـ «UN». هل أرسلهم إليّ، بعد هروبي فجر اليوم؟ سوف أقسم له، بدموعه التي لم تكن ليلة أمس عزيزة، أنني لم أهرب، بل سعيت إلى أرض المعركة، أتلقى الرصاص بصدر عارٍ، هكذا إذن: اتجهت شرقا، إلى سيناء، عبر قناة لا تزال مياهها ساخنة. أسلمتني الطرق إلى مدقّات، ثم تُهت عن كتيبة انضممت إلى أفرادها، لكن قلمي الرصاص ضاع، وعليّ أن أكتب إلى خطيبتي رسالة.
قال الرجل أمس إن المعركة التي بدأت في 6 أكتوبر لن تستمر أكثر من أسبوع ثالث، وإنه قرر سحب وحدات من الشرق، من سيناء، لمواجهة وصفها الوزير بأنها تبرْجس غربي القناة. هكذا تليق بي البطولة قبل زواجي بأسبوع، ولن أضطر إلى قطع شهر العسل، باستدعاء عاجل. في جيبي رسالة، من الشهيد فرج إلى عروسه، أرملته. قال لي إنهم أتوا به من السرير ثالث أيام الزواج، إلى المعركة مباشرة، ولا ينسى دموع عروسه، وهي تودعه بيد مرتعشة ووجه شاحب.
فجر اليوم، فتح الرجل باب السيارة الخلفي، جذبه بشدة، فاهتززت في مقعدي. قال قبل أن يعتدل في الكرسي: «اطلع يا زفت» فطلعت، وبعد خطوات سألته: «إلى أين يا أفندم؟». تعمدت إضاءة نور صالون السيارة، فانفجر غاضبا، وفي المرآة لمحت دموعه، واضطراب نظراته. قال: «أي داهية». صمت، وثبّت نظراته، وقدّرت أنه لا يرى شيئا من زحام ليل رمضان، وتكرار توقفنا، وأنفاسه اللاهثة، وحركته القلقة من دون تعليق، إلا من كلماته القليلة: «يحاكمني، أحسن ما يعدمني بلا محاكمة، ويحرجني».
هبط المساء ساخنا، توقع أحد زملائي السائقين أن يحدث تشابك بالأيدي، بمجرد وصول الرئيس وقادة الأسلحة إلى مركز العمليات. ثم طال انتظارنا، أنا وبعض سائقي القادة، وهم شامتون بي لضعف موقفي؛ فأنا سائق الرجل الثاني. ضحك صول قديم، وعلق ساخرا بأن الليلة لن تمرّ بلا ضحية نسيت أمه أن تدعو له، بالتحديد أثناء صلاة الجمعة اليتيمة أمس. ثم سرت في نسيم الخريف شائعة عن انفعال الرئيس، وأنه خبط المائدة بكلتا يديه، وأن ذلك أوجعه، فقرر تعيين قائد آخر، وعزل الجالس خلفي يكلم نفسه: «لو قدّ القرار يعلنه، ويقول إنه قرر وقف الحرب.. غلط».
(2)
ها هم يقتربون..
خلفهم تمتد رمال لا نهائية، صامتة تماما مثل هذا الصباح، إلا من ضجيج شاحنة، أو «ڤو» سيارة چيب، وأنت لا تكاد ترى جنودا، حتى هؤلاء الثلاثة يرتدون ملابس مدنية. ربما أعيد إلى الرجل منصبه، وعزّ عليه أن يترك سائقه. جرّب حقك في التمنع، فبعد أسبوع ستغادر، وتسلم السيارة والأوفرول والمخلاة كلها، وتعود إلى عروسك، ولعله يستبقيك إلى أن تنتهي الحرب. أنت تفهم إشارته، تعفيه من الكلام، وهو دائم الصمت، تقرأ ملامحه، وتمتص انفعالاته الطارئة، ثم تحظى بكلامه، بحلو الكلام الأقرب إلى الاعتذار. من حقك إبداء بعض العزوف، وأنت لا تزال تشعر بطعم عبور القناة، وحدك هذه المرة، بقرار شخصي. مغامرة بدأت بأمر مفاجئ من الرجل: «قف». ابتعدتما عن مركز العمليات والرئيس والقادة، وهو يهذي متأثرا بعزله، وخلافه مع الرئيس. ثم أعاد الأمر: «قف» فوقفت. هبط، ففتحت بابك أيضا، وقفت في وضع «انتباه» وأديت التحية. ابتعد عن السيارة، ولم يردّ التحية. غيّبه الظلام، ثم إنك أحسست ببوادر دوخة، كنت قلقا وجائعا. دوار شديد أنساك نفسك، والرجل، والرئيس، والقادة، وزملاءك الشامتين. دعاك هاتف «انطلق» فاستجبت. في يدك طبنجة 9 مم، وعلى كتفك بندقية آلية، ونظارة ميدان. وسقط القلم.
اسأل أحد هؤلاء الثلاثة القادمين عن قلم، وغدا تصل رسالتك إلى فتاتك. سوف تستقبل ساعي البريد بملامحها الطفولية، كأنها بالضبط تتوقع وصوله. ثم تعيد القراءة، وهي لا تزال واقفة، تقرأ بصوت عالٍ سطور زهوك بنفسك، وفخرها بك.
… أمس، أول الليل، تحركت السيارة على غير هدى. قال القائد إنه قرفان، ومستعد للمحاكمة، بل سيطلبها، ليثبت حقه في نصر شارك فيه، ويحاولون إقصاءه. ابتعدنا عن مركز العمليات، وأسفلت المدينة، لنواجه ليلا رمضانيا متوترا. قبيل السحور، قال الرجل: «اختر منطقة غُرود؛ فنموت ونستريح». تسألينني عن الغرود؟ كثبان رملية صنعتها الريح، تتهادى من مكان إلى آخر، في أشكال متغيرة. دارت عجلات السيارة من دون أن تتحرك، قلت: «هذا ما توقعته». فتح الباب، كأنه لا يسمعني. حاولت أن ألتمس له في الظلام أثرا، وناديته، ثم إن دوامة أبعدتني عن المكان. أيقظني خاطر، دفعني إلى الرحيل، مع أول ضوء أصبحت في عمق سيناء، تحاصرني أعمدة دخان معارك صغيرة، دارت ليلا… هل تسمحين لي بالتوقف قليلا؟ أشعر بثقل في مؤخرة رأسي، ورعشة خفيفة في ذراعي، امتدت عدواها إلى عيني، وإلا كيف أصدق أن هذا الذي يمرّ الآن، على بعد أمتار، أتوبيس سياحي، توقف سائقه، وانتشر حوله عدد من الركاب، بملابسهم الملونة، الزاهية، يرطنون مع سائق السيارة الچيب بلغة لا أفهمها، ويذرون رمالا ناعمة، ويأتيني صوت مذيع من راديو إحدى السيارتين:
«… وأعلنت وزارة الدفاع ـ في بيان ـ عن وصول القوات المصرية إلى مناطق عملها في السعودية، للمشاركة في دعم القدرات الدفاعية للمملكة لحماية المقدسات. وقد نشرت صحيفة الأهرام اليوم على لسان قائد قواتنا في السعودية أن مهمة القوات المصرية تقتصر على تحرير الكويت، ولن تشارك في أي هجوم على العراق، ومن المقرر أن…».
(3)
ها هم يقتربون..
ليتهم يذهبون. لا أريد ترك هذه الأرض، قبل انتهاء المعركة. سأحاول التفاوض معهم، على أن أستبدل بسلاحي سلاحا آخر. منذ ساعة فشلت في تنظيفه، وإزالة صدأ غير معقول سدّ الماسورة، وأتلف الذخيرة. لكن نظارة الميدان سليمة، تبحث عن عين لم يصبها العطب كعيني. كيف لا أشاهد في عدساتها تحركات لجنود، أو أرتال من السيارات والمجنزرات، هل طوّرْنا الهجوم ليلا، إلى آخر مدى؟
في قفزات، يقترب مني أحد ركاب الأتوبيس. شاب طويل الشعر والقامة، أشقر ونحيف، يخرج كاميرا. أحذّره:
ـ «ممنوع».
أردد ولا يفهمني. ويتأملني آخر، مصري الملامح أيضا:
ـ «أنت من مخلفات الحرب؟».
أكاد أقذفه بحجر، لولا إحساسي بشيء من الدوار:
ـ «أنت أعمى؟ أنا جندي، وهذا سلاحي. من سمح لكم بدخول أرض المعركة؟».
تعلو ضحكته. يقهقه، ويخلع نظارته الشمسية السوداء، ويقربها من عينيّ:
ـ «بُصّ».
أسأله، وأسأل نفسي، عن هذا الشيخ الأشيب المقيم في عمق عدستيْ نظارته. وأطلب قلما، وهو يردّ ساخرا:
ـ «ماذا تفعل بالقلم يا والدي؟».
إذا كانت نظارته ملساء، لدرجة تنزلق معها صورتي، فمن ترك ذلك الوجه على هذا السطح الأسود اللامع، ثم مضى؟
يقرّبها مرة أخرى، وينبهني:
ـ «المرايا بلا ذاكرة».
أقدّم إليه قصاصات، نشرتها الصحف، طوال أيام الحرب، على مدى الأسبوعين الماضيين. هذا هو الرجل الذي أقود سيارته، بُصّ: الرئيس والوزير والرجل، ثاني أيام الحرب، 7 أكتوبر 11 رمضان. صائم أنت مثلي يا ترى؟ عطشان والله، ومازلنا أول النهار. وهذه صورة أخرى في «الأهرام» أيضا: الرئيس، وعلى يمينه الوزير، وعلى شماله الرجل. هذا الرجل أنا قائد سيارته الواقفة هناك. لا لا، تركها بالليل، قبيل السحور، مغروزة في الرمل. لا تعجب، اسأل هؤلاء الثلاثة القادمين إلينا. تخيل أنني صائم بلا سحور، والرجل بالتأكيد لم يتسحر. ربما أعد لي مفاجأة، إجازة طويلة تبدأ قبل العيد، لأكون أول جندي يزفّ بعد النصر. لن يبخل بها عليّ، هو يحبني، ويقدّر حرصي على الاحتفاظ بهذه القصاصات. اليوم السبت 20 أكتوبر، فمتى يأتي الخميس 29 رمضان، وقفة العيد؟ عطشان وحياة النبي.
بعينيه، يمسح الشاب الجبال والتباب والغُرود والصحراء الصامتة. تتجاوزني نظراته، وتتكسر على شفتيه حروف مبهمة. أقفز إلى زاوية رؤيته، ولكن ألما في ركبتي يقعدني، كيف لم أشعر بالألم إلا الآن؟ في اشتباكات أمس سقط جرحى، وتحاملت على نفسي، وها أنا ممدد، عيناي في عينيْ هذا الشاب، وهو يتجاهلني، ويرفع سبابته إلى شفتيه:
ـ «هُسّ».
ننصت إلى صوت مذيع نشرة الأخبار القادمة من الأتوبيس، أو من الچيب. يسألني الشاب باستنكار:
ـ «سامع؟ اليوم 20 أكتوبر».
أردّ بثقة:
ـ «آ.. السبت 20 أكتوبر».
يتنهد، ينفث السأم:
ـ «صدّعت رأسي برمضان والقائد والسحور والإجازة والعيد والفرح والوهم. أنت تحفة، من مخلفات الحرب يا والدي!».
أتحسس شعري. أطول مما يجب، لا يليق بجندي، بسائق قائد. لكنني الآن بلا مرآة، ولعل أحد هؤلاء الثلاثة يمنحني نظارته السوداء، لحظة وأعيدها. آمل ألا أرى فيها شيخا أشيب مقيما، يحمل بعضا من ملامحي.
أستعد لهم بابتسامة..
فها هم يقتربون..