وحيد غانم
كاتب عراقي
أصغى المسافر لوقع قدمي الصيّاد على خشب القارب المبتل الذي أداره عند نقطة يعرفها ولا أثر لها على سطح الماء، متّجها نحو البحر، وعلى رصيف الكورنيش، بعيدا، لاحت لعينيه شبه العمياوين خيالات وهي تشيّعه بصمت. ربما انتظروا عودته عبر مواعيد حيواتهم وميتاتهم، الأسلاف والأبناء والأحفاد. أغمض عينيه وغطى رأسه بمنديل مبلل، كان يرتدي ثوبا فضفاضا، فقد ذاكرته وعاش سعيدا أيامه المتبقية، حتى أعاد إليه الصيّاد كتاب رحلاتٍ قديما، وأقنعه بأنه يعود إليه إذ اقتناه لدى مروره بالإسكندرية، وهو يحتوي على ذكريات وجوده.
كلما تقدّم القارب في شط العرب باتجاه البحر نشرت ريح الجنوب الساخنة طعم هالة الملح، بينما اتّسع وهجها وملأ الأفق. كدَّ محرك الرينو مجهدا وكأنه يتسلق التيار، بينما كسا بياض السبخ سعفات النخيل المتدلية على الضفة الموحلة، بينما حاصرته خيوطَ الزيتِ وتسلقت سيقان نباتات الأسل. غفا المسافر فلم يكن ينتشله غير رشقات رذاذ بارد، بينما وقف الصيّاد في طرف القارب محملقا إليه بعينين بالكاد رأى بصيصهما في حلمه الأبيض، كان الصيّاد رجلا نحيفا في الخمسين، يصغره بعدد غير محدّد من الأعوام ويعامله كشخص لا وجود له.
بعد إغفاءات متقطّعة فتح المسافر عينيه فتبدّت له كتلة بياض مشعّة، ومن خلالها لاح حطام سفن غارقة ونطاق الصخور المطحلبة التي تلامسها أمواج لها حفيف مزبد. استبشر بملح الخليج المتدفّق في الصباح دافعا تيّار الشط العذب، مخرّبا الأنهار الخضراء والنسوغ الحيَّة، محيطا الصخور ودعائم الخشب بلحى بيضاء متصلّدة.
الصيّاد والمسافر مدينتهما البصرة، وكما قيل عنها هي طريق كل عابر، مومس هرمة تطلّ على البحر وتئنّ الريح بين كثبان أرومتها. ما أن أبحر بين سطور الكتاب حتى شعر بطعم القبل والوجوه والعيون تنأى غريقة في الظلام، ذهبت سكرة الحبّ، وتلبثت مريراء الظمأ. راوده شعور غامض بخطئه، فالصيّاد ليس إلا متطفلا ماكرا على قصة حبّه، وهو لا يملك القدرة على منعه.
لكن الصيّاد الماكر أنعش غروره، فها هو المسافر يستحضر طيف محبوبته في كتاب الرحلات، متلمّسا وجودها بين سطور صفحاته وفي الهوامش التي دوّنها يوما ما، وقد أربكه وجودها، فلزمه بعض الوقت للجمع بين عالميها.
قال الصيّاد مذكّرا إياه بما حدث: عندما التقاها المسافر لم يكن يشغله سوى التطواف عبر بحار العالم، هي الهائمة بين السطور، وخلال أيام، شغفته نظرتها الفاتنة، شعرها الحنّي وشراشب فستانها، كانت تتروّح على ظهر السفينة، خفيفة كريشة ومنغلقة كقوقعة تلوّنها خطوط الضوء البحري بلون محّاري لامتناه. أبحرت السفينة للتو في جو نيسان المعتدل تمسحها رياح الساحل الأسباني المنعشة، وراوده إحساس بأنه يعشقها وأنها حلمه وحده بلا منازع. حين هبطت تلك اللحظة بقلبه كموجة عميقة رفع رأسه فغادره طيفها، بينما واصل خياله البحث عنها وهو يهمّش مناجاته لها على حافة الصفحة«يا حورية الجحيم.. تقبّلي مني هذه القبلة المخضّبة بعذاباتي!»
حدث هذا في عام ( 1934) إذا كان لهذا التاريخ معنى أو وجود حقيقي أو أنه مدون في الكتاب ككل الأرقام والأسماء الأخرى، فذاكرته لا تستحضره، فهي ليست رحلتها ولا حياتها، ذاكرة خاوية، مستقرّة في أعماق ظلامها. استرجع الكتاب عبور المسافر المحيط الأطلنطي من إسبانيا في طريقه إلى أميركا الجنوبية على ظهر الباخرة (Monte cerro) التي تسع حمولتها أكثر من ألفي راكب، بينما لم يزد عدد المسافرين الذين نقلتهم على ثلاثمائة وستين، وبدا له أنه الشرقيّ الوحيد بينهم، زائدا مؤلف كتاب الرحلات الذي شكلته عصارة الوريقات والأهواء والخيالات. بدت له ذاكرته منعزلة عنه، لا تضيؤه بنورها، لا تلامسه ولا تستفزه فهي ذاكرة مسافر آخر، شخص منطوٍ بين الصفحات بعيدا عن الأنظار. لكن هذه المشاعر ذهبت ما أن استعادته سطور الكتاب، انشطر كيانه وتبدّل مساره. أحسّ برفاسات الباخرة تخبط مبحرة في دمه.
كان مؤلف كتاب الرحلات يسافر على متن السفينة نفسها وأتى على ذكر تفاصيل رحلتهما، ملاحظاته عن ترجمته لقصة بلزاك «مأساة على الساحل» التي باشر بها في الاسكندرية، بفارق أنه كان في سبيل العودة من أميركا. ضوء خافت تبدّى من عتمة هوامشه على حواف الصفحات سرعان ما غاب تاركا إياه في الظلام مع تلك الوجوه المتحسّرة، المتعطشة للثروة والحياة اللتين بدّدهما، ومع إبحار المسافر في الكتاب استسلم لإدراك مشتّت أنهما يقطعان بحرا باتجاهين مختلفين في الرحلة والتوقيت ذاتهما وأنهما يهيمان بالحسناء نفسها. انتابته شكوك سوداء بأن لا شيء منه سيصمد للزمن في مواجهة غريم خلقته الكلمات، جمّدته في مدارها، شظّته وحمته، فبصمة الرغبات الحارّة والأوهام العظيمة مهيأة أبدا للضياع كعابرة المحيطات التي لاشك اختفت من على خطوط الملاحة، دُمّرت واستقرت في الأعماق كمصير الكثير من وحوش ذلك الزمان.
لم يعد يتذكر أهو نفسه الصيّاد، الذي أقلّه في قاربه، من منحه الكتاب، من تجشّم عناء حمله بين ذراعيه ووسَّده فرشة تحمي ضلوعه منطلقا به إلى أقصى نقطة يراها مناسبة وسط هالة البياض الملحي المستعرة في الشمس؟ لا تعينه ذاكرته في العثور على وجه الصيّاد، ولم يكن الوهج الساخن يتيح له الاستغراق في حلمه والتخلص من وجوده الثقيل، كان بياض السبخ يحرق عينيه العمياوين فيطبقهما مستيقظا على وجوده المرمي خارج صفحات الكتاب، وكلما غفا تبدّى له الصيّاد الملحي، وحده متحكمًا بمنحى رحلته الأخيرة.
في الأيام التالية استيقظ المسافر على وجوده الحبيس برفقة ركاب من أعراق مختلفة، ألمان وإسبان وهولنديين وأرجنتينيين ويهود، ثم إنه مضى يبحث عنها، وهو لا يعلم لِم تغيب طويلا بين الصفحات الصفر؟ أتحاول خداعه إذ تسرق انتباهه إلى تفاصيل معتمة بعيدا عن طيفها؟ كان يفتح عينيه فلا يجدها، ينحني ملتقطًا وشاحها أو دبوس شعر تركته أو سقط منها، يتنشّق رائحة عطرها، شذى زوايا جسدها وعرقه وهيجان دمائها. بحث عنها في ممرات السفينة وأدوارها، ومن أعماقه انساب أنين مؤذٍ ردّدته الزوايا، ولم تكن هناك سوى درجة واحدة متاحة للجميع فلم تتّضح فروق طبقيَّة حادة، بينما بدا عدد المسافرين قليلا ومريحا ناسب وسق السفينة الثقيل، مع أن الطهاة والبحارة كانوا متجهّمين وهم يتابعونه في بحثه الأعمى وكأن نظرته وذاكرته تتهدّدان وجودهم، كأنما يعلم أن مرورها يوقظ أحلامهم، فتتبّع أثرها عبر ابتسامات رسمها رئيس الطاقم ومساعدوه والقبطان نادر الظهور، كما تصادف وجود ثلاثة من القساوسة، كاثوليكيين وبروتستانتي ما انفكوا يتناوبون على الرقص بتؤدة ملاطفين العجائز الشاحبات، رقصوا على «A Hundred Years From Today» ، وأومأوا إليه عندما لاحظوا ظهوره، مضطربا، قلقا، ربما سرّهم اختفاؤها في ظلام السفينة، بينما طاوعتهم أصابع العازفين.
كان رفاق المسافر في حجرته مكسيكيين شبّانًا، وهم من العامة، سعداء وتعساء على طريقتهم، فنادرا ما خلدوا للنوم، كانوا يلعبون الورق ويدخنون ولا يكفون عن اللغط والتشاجر والانطلاق بالغناء طيلة الليل في ساعة مبكرة من الصباح ويستمرون على هذا المنوال، فلم يطبق له جفن، حتى أعيته رفقتهم وأصابه الدوار. أغرق نفسه بالشرب وانحنى على كتاب الرحلات.
انشغل المسافر بمراقبتها وتتبع حفيف ثوبها على الأرضيّة، اندسّت في ممرّات السفينة وصالاتها وسلالمها السرّيّة وتشمّست على سطحها حتى أصابها دوّار البحر فذبل وجهها، عاد بها إلى غرفتهما، منهكة، مختنقة بدموعها، يضوع جسدها برائحة رغبات محمومة. سأل رئيس الطاقم دواءً فأعطاه شيئا من الأملاح، الرجل أعتاد رؤية سحن عديدة يصيبها السقم وليس لديه إلا الأملاح، لكنه انتبه إلى نظرته، ابتسامته، وكأنه يتهمه بحبسها وتعذيبها.
راوده إحساس مضنٍ كلما تطلع إلى وجهها، كأن البحر سلب روحها وترك له كائنا خاويا. لم تفارقها عيناه، ليلتها لاحظ انغلاق وجهها، وهي تطبق ركبتيها، وشعر أنها مستعدّة للقفز والفرار متى سنحت لها الفرصة، عيناها تحملقان إلى المسافرين بشرود، الألمان مديدي القامة والأرجنتينيين المفتولين، وهناك أصحاب الكروش، كهولا وشبابا، الذين انتظروا انطلاق الموسيقى، مرتدين السراويل وأربطة السيقان والأوشحة.
أرهقته هواجسه فلم يدعها تغيب عن نظره، بينما أضطر أحيانا لحبسها في كابينتهما المزيّنة بشكل باهر ومبتذل، ورأى دموعها، توهّج سخطها في نظرتها إليه، كأنما اصبح سريرهما سجنا لروحها، بدت له أشبه بعروس متعطّشة للفرار، في السهرات التي يشاركان فيها كانت تتعلق بمرفقه لكنه أدرك استحالة منع خيالها من الهروب. يمضي طيفها إلى حيث تهوى، مرافقة الراقصين الأسبان، العوم وسط صدى ضحكات البحّارة، مرتمية في حضن مكان دافئ، ذاكرة شارع أو سهب كروم، نافورات ثلجية، في مطبخ رثّ أو حافلة ركاب.
في الليلة التي وقف فيها عند حافة كوثل الباخرة العملاقة، متحسّسا سنواته التي بدت باردة كملمس حافة الإفريز، وهو يفكر بالقصة البلزاكية التي لم يتم ترجمتها، متلقّيا صفعات الريح وهي تلفّ جسده وتكاد تقتلعه من مكانه، نسمات أيام الربيع تصير خلال الليل شياطين مقهقهة حارقة عمرها القصير. وقد أثارت حزنه سطور المسافر التي ما فتئت تلتهب بذكرها. سيكون شخصا آخر وقد تملكته رغبة بكسر قوقعتها وإذلالها ما دامت منغلقة على شحوبها، أفعمت لغة خليل مطران الشكسبيرية جوانحه وأرجفت ذاكرته. لم تكن ذاكرته، بل هي جزء من المسافرة التي تخافه وليس في أعماقها إلا اضطراب فتاة مليئة بخيالات ورغبات لا يحصرها كتاب، وهو يفكر بها محملقا إلى نهر يحرثه مرور السفينة في البحر وتنسحب رغوته اللامعة بعيدا، بينما يطمسه ظلام لا تضيء بَهْمته سوى نجوم السماء.
عدا أن الأيام المحيطية مملّة بالنسبة لمسافر وحيد يحيا في ظل كتابٍ التقطه مصادفةً، ففي الليلة التي عصفت فيها الريح وترنَّحت الباخرة لازم البار متناسيا اضطراب البحر بقدح نبيذ ومتذوّقا ثمار التوت التي وضعت في إناء فضّي صغير. كان يودّ التحرّر من ربقة الكتاب واستعادة مسار حياته الخاوية، خموله ولامبالاته وتفاهة رغباته، لكنه بدلا من ذلك مضى بتطلع إلى صورة الحسناء التي شحب وجهها، متذكرا اللحظة التي سارت فيها من صالة الرقص المتوهّجة بالأضواء إلى سطح السفينة، مرّت به، مخلّفة عطرها، وأحسّ بطرف ردنها يلمس كتفه، حين خطت بين طاولات المحتفلين وسط موسيقى صاخبة، لعلها رغبت بتنشق نسمة بحرية تطرد شعور الغثيان الذي لازمها.
لم يبد بحرا مأمونا لدى رؤية تلال أمواجه. تطلع المسافر في رحلته الأبديّة إلى أضواء جزر نائية، ربما تسنّى لها رؤيتها حين مرور الباخرة خلال عودتها إلى مرافئ إسبانيا، وها هو على ظهر السفينة ذاتها يبلغ المكان ذاته برحلة الذهاب وتدور زواياه بين ظلال الحياة.
اللحظة التي شعر فيها أنه بلغ مكانا ما في البحر مغلقا وهادرا وشديد الظلام، فلا معنى من رؤية أمواجه في العتمة الرطبة وتقافز كائنات فضّيّة تدفعها الريح، لا معنى لشيء في ذلك الفراغ المحيطي الكبير، شعر أنه في اللامكان المفرغ من الامتداد الذي بلغته هي، وتملّكه شعور بوجودها بين الظلال، رآها تخرج متجاهلة نذر العاصفة، فتسلل بأثر ظلها مخالفا تعليمات الأمان.
سار المسافر على سطح السفينة وفي جوفه تترنح شعلة الكروم، وخيّل إليه أنه يراهما يسيران متمهلين. الريح التي تهبّ ناشرة الرذاذ تغيّب ملامحهما، لكنه يستطيع أن يلاحظ أنها سبقته وبدأت تدنو من حافة الباخرة مُمرّرة أصابعها على قضبانها، منحنية. لم تكن الريح شديدة وهي تخفق فستانها وتطيّر شعرها وترشق وجهها بالرذاذ، بينما تعلو السفينة وتغطس في تنهدات طويلة.
هناك ضوء فسفوري لا معنى له تصدره سارية السفينة وأبراجها ونوافذها.. دوّن المسافر الأعزل في كتاب الرحلات ما ليس موقنا منه، ما حفظه غيبا واستبدله دائما عن لحظة رحيلها، التغيّر المستمر للكلمات، أشباح عجزه وخيبته تواصل رقصتها، ثمن استبدال حرارة الأيام وعادياتها بشيء موهم، انبعاث همسات وصمت أخرى، يأتي المعنى ويتبدّد، سائرا بين تلال الأمواج، بين وحوش العباب على السطح المعتم، دون أن تنتشله عيناها المتألقتان، ولم ينقذها هو نفسه من مخلب الوحش، إذ مالت السفينة فجأة وكأن المحيط انحنى عميقا، وهدرت موجة عالية اكتسحت السطح واختطفتها.
طالما رحل وحده، أعزبَ، متضجّرا، حتى تجلّت ذات يوم في خياله، لكنه شعر بالغمّ عندما اكتشف أنها أسيرة مسافر آخر لم يفتأ يصفها، معتدًا بأنها «حسناؤه» فكأنه يحاول تزيين نعش تحكّمه البارد بصورة قلبها. وقد رسم لها صورة من يشعّ وجهها حبورا، ولاحظ أنه يناديها هكذا باستمرار ناشرا صدى جمالها وفرحها بين الجميع، في كل أسطر وصفحات كتاب الرحلات، في خلوتهما وعلى مائدة الطعام، حين تعكس لمعة الملاعق الفضية الفاترة نظرته ولمسه لأصبعها، وعندما يسيران، وهو يقبض على مرفقها، متطلعا إليها بوله، ولا يسمح لها أن تغيب عن ناظريه. أثاره استسلامُها لسعادتها بوجوده،
مم كانت تستمد سعادتها؟ تساءل المسافر، الفرح الذي في عينيها، وكركراتها الطفولية. محمومة، التقت خيالاته بأمنياته في رؤيتها متجمدة بصورة في الكتاب، ومع أن المسافر وصف ملامحها والألوان التي كللتها عبر كلمات قليلة، إلا أن ما تبدّى له لم يتخط صورة فوتوغراف رمادية ضمّتها صفحة من الكتاب، رآها تتمهل في الممر وآذاه أنها لا تراه، لعلها فكرت في لحظة ما بظل هامش ما، كائن سيثيره طيفها العابر، لكنه يعرف ألا وجود له في خيالها، فاغتباطها يسبح على متن سحب بعيدة، وفي اللحظات الحميمة من خلال عناق رجل يشتهيها بشدّة.
في صورتها بدت له نحيفة اعتمرت قبّعة على طريقة الفرنجة وفستانا ربما كان لونه كحليًّا مخضرّا بتطريزات يضيق عند خصرها، حاول خياله غمرها بالألوان بينما أضاءت طيفَها الرمادي القديم الظلالُ المتموّهة لنور البحر الذي داعب وجهها الشاحب، وهي تقف في ممر مزجّج، وترافق نظرتها الجانبية ابتسامة.
كان ربيعا عابرا كسرب فراشات رفرفت في مدار نظرتها وتوارت، فخلال اليومين التاليين هبّت ريحٌ جنوبية حملت معها حَرّا مفاجئا. حلّت أيام الصيف. لاحظ المسافر أن الفصول قصرت وصارت أياما في رحلته. كان جوا خانقا، ثم هبّت رياح غربيّة خفّفت من تلبُّده ولاطمت الأمواج. شارك الاثنان المسافرين الاستعداد لعبور خط الاستواء، تهيأوا لحفل بالمناسبة وارتدى الجميع ثيابا فضفاضة مزركشة ورقصوا. راقصها المسافر وهما متعانقان وملتصقان ببعض، منتشيين وغريقي سعادتهما. وكانت تضمّه بحنو. رقص الألمان ومرحوا وغنى الأسبان وثملوا واكتفى اليهود المتوجّهون إلى الأرجنتين بالتدخين. كانوا خائفين، ففي أيام الصيف القصيرة تلك صمتت الموسيقى فجأة. أعلن الحداد على موت الرئيس الألماني العجوز هندنبرج، ثم سرعان ما أخلي المجال لطبول الاحتفالات بتنصيب الفوهرر الشاب.
سيخاتله طيفها ويفرّ منه باستمرار، مذكرا إياه بأنهما لن يلتقيا أبدا. تبعها إلى الصالة الكبيرة ورآهما هناك. كان رفيقها يتطلع إلى وجهها الذي منحه البحر شحوبا وهالات أحاطت عينيها فغدت أجمل، بينما أثار اهتمامهما زوج من الحمام رفرف تحت الثريا الكبيرة في صالة الموسيقى. كان رئيس الطاقم يفاخر بجلبه الحمامات من روما، أشبه بصنف الطوراني البرّي الذي تجده في الساحات العامة، رآه الصيّاد في بغداد وروما وباريس وموسكو ومدن أخرى زارها، حمام نال ما يشبه القدسيّة، في موسكو نفسها حظي بالحماية، وفي الستينيات جرّب الصيّاد التمتع بطعمه، أغرى الحمامات بفتات الرغيف الذي يضعه على إفريز نافذته في الطابق الثالث وهو يتطلع إلى أبراج الكرملين الذهبية، وراح يصطادها ويشويها خفية، وجبة رائعة مجانيّة، حمام مبارك لا يصلح لغير التقاط الصور التذكارية، وقد هلّل المسافرون بظهوره فتسابقوا لإطعامه وتصويره، وحطّت حمامتان على كتفها ورأسها وهي تدور حول نفسها ضاحكة.
خلال أيام بدأت ريح باردة تنذر بشتاء خط العرض 2ْ0 جنوبا، ريح لاسعة حوافها بيض قارسة جمّدت أطرافه وزادها البلل حدّة، وهي تئنُّ وتعصف.
سار المسافر حتى آخر السفينة وكأنه اتّبع الريح، رأى ضحكتها تلمع تحت وهج الثريا الساطع، رأى طيف المنطاد «غراف زبلين» يعبر عاليا، وراحت تومئ بمنديلها للناس الصغار فيه، أصغى لذبذبة لاسلكي الباخرة، كل شيء مضى، سعادتها وحزنه. مرّت في خياله إنما بالاتجاه الآخر، ورأى أنه سيلتقيها في نقطة العماء اللا مرئية قبل أن يفترقا ويمضيا كل في اتجاه، أحسّ رذاذ الأمواج الذي تطويه الريح من جانب السفينة وتنشره على السطح الزلق، فلم تكن العاصفة هدأت بعد.
أطال النظر إلى الظلام والبحر المهتاج وعتمة سحب تسدّ الأفق وتلامس نجوما نائية، متشبثا بالحافة الباردة التي تعلو كالمنصّة ويرشقها بين حين وآخر الموج فيفيض ويترك رغوة عند انسحابه، رأى الموجة العظيمة وشبح مسافر يجري بلا اتجاه على السطح، بينما لاحقه صدى صرخاته المختنقة وقد تعلق بحبال أحد قوارب النجاة محاولا انتزاعه دون جدوى، رأى الموجة تعلو فجأة وتنهار، تضربه وترميه جانبا، وتعقبها سقطة خفيفة لجسم لامع، خيّل إليه أنه رأى شيئا يظهر قبالته في الظلام، له لمعان سمكة فسفوري، وحين تخطى تأثير الوهم البارد بأنه لمح شيئا، أشبه بشعاع مذنب عبر على مقربة منه، رأى طيفا مستلقيا على السطح بين عتلات سلاسل الحديد الغليظة، ربما حسناءَ مستندة إلى مرفقها، أحاطتها هالة مزرقة أو قشرة لامعة.
كان مأخوذا ومبْتلًا ومحطمًا، لكنها همست له ـ لا تخف! أنا أسيرة البحر ولن اؤذيك. سعادتي تكمن في هذه اللحظة، عندما أتحرّر من سجّاني، اعلم أنك ستنتظرني طويلا.
ارتعش قلبه وهو يصغي لهدير مراجل السفينة في الأعماق، سرت في دمه بهجة حدوث شيء ما، عيناه اللتان تتشرّبان أطياف جزر ضبابية أعماهما البحر وأخفى عريها عنه، ففي مقابل هبته المفاجئة لم يدع له إلا بصيصا من نور عينيها ولمعة انحناءة كتفها، كأنما تعمد منعه من رؤية ملامحها، بينما استلقت هناك وليس له إلا النظر إلى ظلام وجودها أو وجوده المعلّق بين الأزمان.
كان هناك مسافر وجنيّة فاتنة، وليس الصيّاد سوى محامٍ متقاعد يهوي الحكايات المشؤومة والاحتفاظ بالأوراق القديمة وابتزاز الناس. عاد لارتداء دشداشته * ولفّها حول خصره فبرزت ساقاه السمراوان وهو يقود قاربه القديم. كان إيكالو** المرسل من الأعماق لكشف الأسرار المهترئة، ولم يكن مدينًا لأحد بشيء، لم ينقصه المال وهو يهيم بين البحار، وقد أحاطه النسيان بأنه شيء من كتاب رحلات تغلفه هالة صفراء، كانوا يخشونه لكنهم لم يغفروا له تبديده ثروة أسلافه، فانتظروا طويلا ساعة يدفنون فيها ذكراه الضائعة، سيفنى شبابه في الملاهي مأخوذا بجمال السيقان المحجّلة والأرداف الثقيلة، وسيبحث في وجوه من أغواهن عن لهفة ظمئه، مُتوَّهًا بين رخام أعمدة سواحلهن الخمريّة، تائقا لرؤية شيء توارى بين الألفاظ وغفل عن إدراكه دائما، رآه ولم يره، أضاء بلادة وجوده برهة وغاص في عتمة الأيام، وعندما صادفه المسافر استوقفته هالة حضور لامرئي تكسو محيّاه وتحيط بشعيرات ذقنه الشائبة، شرود يشبه تموّه ظلال البحر، كائن آخر متبدّد يسلبه وجوده، هو الذي لا وجود له إلا في الوحدة والتذكّر.
ثمة شيء في نقاء البياض اللاسع يملأ أيام المسافر ويشعره بدنو مجيء «حسنائه» من الأعماق، تطلع إلى البحر في رحلاته على ظهور سفن أخرى وحدّث بحارةً أغرابا عن وجودها، فوصفوها كما رآها أو كما توهّمت ذاكرته أو حيثما سمعوا وتخيّلوا، حتى أنه شكّ بنواياهم. كانت فتيّة أبدية جميلة، ربما بدا ظهرها عندما لفظها البحر أزرق أو فضيًّا مثلما بدت له مرَّة في ليلة حبّه المعتمة، تخيّل الصيّاد نهديها اللذين غطتهما نباتات البحر وشعرها الطويل المنسرح، أي شيء من الأعماق، مظلما ومروعا، يسفر في النور، ما أن تظهر حتى تشابه زبد الموج الذي يخلفه القارب ويتلاشى، تخلّص وجودها من شحوب الكلمات وانطبع في اللاشيء.
رآهما المسافر يسيران في الضوء الذي تسقطه نوافذ الباخرة، عمارة عظيمة من الأنوار تعبر الظلام ويلفّها الخواء، ثم لم يعد يراها، لكنه لا يستطيع نسيان تلك اللحظة التي بدت مديدة كصدى، كرفرفة تقلّب الأوراق وبعثرتها وعودتها إلى صفحة البدء، قوّة في داخله باتت تستعيدها، فيرى نفسه من بعيد وهو ينظر إلى كفّ باردة تختطفها، بينما بدا لأنين المسافر الجحيمي ترجيعا مفزعا في جوف السفينة وعلى سطحها الذي يجلده البحر.
ذهل وهو يرفع عينيه عن دوّار الكلمات ولا يراها، إذ مالت الباخرة وتلاطمت الأمواج ففقد المسافر توازنه وانزلق مصطدما بفوهة منحنية، متحسّسا الرعب الذي تملّكه وقد أعقبه ألم تفجّر في منكبيه وضلوعه. موجة محيطية عاتية رمت به نحو ثلاثة أمتار ثم شعر بالتفافها وانسحابها وهي تجرفه قبل أن تخليه.
وكان ينحني على كأسه وثمار التوت، مستعيدًا هذيان البحارة عن حلم لا يتحقّق، كرّت وتيرة الأيام رتيبة في ظل إحساس بصقيع غمر الآفاق، لا شيء يحدث، مصغيا لعزف يتسرّب من الصالة، مطبقا بأصابعه على كتاب الرحلات الذي شُدّ كعبه بأسلاك نتأت تحت جلد رمادي خشن الملمس، وعندما غادر بهو السفينة رأى الألمان، يزينون الجدران بنباتات ورسوم وماركات، استعدادًا لانتخاب الفوهرر الجديد عبر اللاسلكي، اندفعوا بالغناء وبدا حماسهم منقطع النظير مهلّلين للرجل الذي دفع بالفتية إلى الانخراط في الألعاب الرياضية ومنح الأمة شعورا باستعادة مجدها. لمح وجوه المسافرين اليهود الذين لم يجرفهم الحماس، شارك الجميع في الاحتفال، منتشين بوعود العالم الجديد، الأسبان والأرجنتينيون وآخرون، لم يعد أحد يصغي لأنين شبح الموت الذي تردّده ممرات الباخرة.
داعب رموشه شعاع النور الملحي، مخلّفا خط رؤية ضائعا رسمه الساحل البعيد، ظل صخرة كبيرة، أتخطيا ساحل البصرة الموحل والجزر التي تتعرّى صخورها في الضوء؟ ربما كان يرى قيدوم سفينة محطّمة أو كرات أبراج لامعة أو بناءً قديما معتما، وبدا أن الصيّاد منشغل بالإيماء لأحد ما لاح في الظلام، صيادي قارب آخر خفّ هدير محركه ثم صمت، بينما اتضحت الخيالات المتلاشية، همهماتهم وهم يردّدون كلمات متطاولة كهدير الموج.
مضى مدُّ أصواتهم بعيدا، كانوا يجيبون مغنيا عجوزا يتحكم صوته بأشباحهم، وعندما تلامس القاربان رأى المسافر نتفا من أكليل وجودهم الذي يغمره ازرقاق سبخي بينما علت زمجرتهم، كانوا شيئا من العراء وأنفاس رائحة البحر. أيقظه خبط خطوات الصيّاد، رمى شيئا ما ارتطم بالماء، ربما تكون المرساة، فلم يعد يسمع هدير المحرّك، توقفا في البحر وتراخى القارب مستسلما لهدهدة الموج. أحسّ بنفسٍ يلفح أذنه، أنفاس وأصوات عجلى، وظلالٍ تنحني عليه وترفعه. كانت أصواتهم تلهث بترديدات غير واضحة، حملوه إلى قارب آخر بدا أكبر، أكبر كثيرا، رأى أشكالهم في ظلامه، بدوا له بصور بشرية وأطراف غريبة، كانت أصواتهم تنتشر عبر السبخ، مديدة، ملتاعة.