علي عبد الأمير صالح
« العلاج بالمياه» قصة تجري أحداثُها بعد كارثةٍ تُحوِّل البَرّ الرئيس إلى حساء كيماوي سام، حيث تَجدُ ثلاث بنات بالغات -غريس، ليا وسكاي -لأبوين يُسميان كينغ والأم- ملاذًا في جزيرة صغيرة جدًا . البنات أتين إلى الجزيرة لمّا كنّ صغيرات السن إلا إنهن لم يعدن يُدركن كم طول المدة الزمنية التي أَمضينها هنا . البنات نشأن على الإيمان بأنّ العواطف صعبة المراس ، بخاصة تلك العائدة للرجال ، وتُفضي إلى الدمار الكيماوي للبَرّ الرئيس . أحاسيس الرجال غير المُسيطر عليها والعنف الذي يُحدثونه تستمر كي تكون التهديد الأعظم بالنسبة للأسرة الصغيرة من الناجين ، ولهذا كان الأبوان يستعملان التمارين اليومية كي يربطوا الأحاسيس الجسدية السلبية -الألم في الأغلب- مع الاستجابات العاطفية لبناتهم.
عبر قصة هذه الأسرة ، تُبحر صوفي ماكنتوش ، الكاتبة البريطانية الشابة في مسألة ما إذا ثمة معنى في أن نُلقي المسؤولية على النساء في أن يُبقين أنفسهن آمنات في عالم خطير. وكي يُبقى كينغ بناته الثلاث في صحة تامة يُخضعهن لـ « علاجات» غريبة ومعقدة بغية تنقية أنفسهن من سموم غير مُحدّدة . تُرغمن على أن يبقين على نظام غذائي غريب وعلى أن يعرّقن أنفسهن إلى درجة فقدان الوعي في الساونات، تجميد أيديهن في دلاء الماءالمُثلّج ، وحَبس أنفاسهن إلى أن يغبن عن الوعي، ناهيك عن طرائق أخرى، من بينها ( كيس الإغماء )، كما يتعلّمن على مرّ الأعوام أن يخففن حدّة العواطف التي تجتاحهن، وكيف يمتلكن وجعهن. وهنالك أيضًا، علاج الصراخ. تقول البنت الوسطى ليا: « في الأيام المبكرة، علاج الصراخ، كان من المفترَض أن ينزع السدادة عن أحاسيسنا الثاوية في داخلنا. الأم تلبس سدادات الأذن وتطوّقنا بذراعيها، تسندنا في هبّات الريح الحارة. كينغ يحمل عصا كان يدعوها عصا القيادة الموسيقية. كان يقف على بُعد أقدام قليلة منا، من دون سدادات أذن، وهذا أحسن كي يتأكد من أننا نصرخ بإيقاع صحيح، وبحماسة كافية».
باختصار، «العلاج بالمياه «قصة أسرة عزلت نفسها في جزيرة بلا اسم، في مكان ما في العالم، وفي زمن غير محدد، إلا أنه حتمًا، عالمٌ معاصر نعيش في كنفه الآن، وهو عالم كان سائدًا طوال الوقت.
يرحل الأب كينغ، وحين يطول غيابه يسود الاعتقاد بأنه قُتل، وبعد ذلك بمدة وجيزة تغادر الأم على متن زورق، البنات الثلاث ينتظرن عودة الأم على أحرّ من الجمر، محترسات دومًا من التعامل مع الرجال الثلاثة الغرباء الذين أتوا إليهن، وباتوا يسكنون معهن، ويتناولون الطعام صحبتهن، ويتوددون إليهن.
وتأتي إلى الجزيرة أيضًا نساء فتكت الظروف بهن، نساء مُصابات بالأذى، تعرّضن لعنف الرجال، رجال لا يؤتمن جانبهم وكن يرددن فيما بينهن أنه ينبغي تقليل التعرّض للرجال. تكتب ماكنتوش على لسان واحدة من البنات الثلاث: « قلّصي تعرّضك للرجال، أوجدي الشخص الذي لا يُريد لكِ الأذى. سمعتُ ذلك مصادفةً ذات مرة، كلام يُمرّر من امرأة مصابة بالأذى إلى أخرى، حوار مُلّح، مُغمغَم لم يكن يُفترض بي أن أشهده. « إنهم الرجال الذين لا يعرفون أنفسهم أولئك الذين يُريدون أن يؤذوكِ – أولئك هم أخطر أنواع الرجال. إنهم يجعلونكِ تنكمشين مرتعدةً من الخوف باسم الحب، وتحسين بأنكِ حساسة تجاهه. هذا الصنف من الرجال هم الذين يكرهون النساء كرهًا شديدًا».
المنزل الذي تُقيم فيه الأسرة ذو غرف لا تُعَد ولا تُحصى، ويبدو أنه أشبه بمصحة تؤمها نسوة متألمات، نسوة كنّ يفضلّن النوم بجوار النوافذ، أو كنّ يرغبن أن يُبقين أعينهن مُدّربة على الباب في الأوقات كلّها. نساءٌ تُزعجهن الرؤى، قلوبهن تؤلمهن ليلًا. البنات يشعرن بالسعادة حين يرين تأثير العلاجات عليهن. كيف قويت أجسادهن إلى أن أصبحن أخيرًا جاهزات للخضوع للمعالجة بالمياه.
على طول الرواية، تكرر الكاتبة الشابة بلا انقطاع أنّ العالم مليء بالسم، وهذا السم لا يزال باقيًا، إنه فقط ينتظر فرصته المناسبة كي ينقض على النساء، لأنّ أجسامهن ضعيفة، سريعة التأثر على العكس من أجسام الرجال.
تكتب صوفي ماكنتوش: « إن جزءًا مما يجعل العالم القديم رهيبًا جدًا ، ميالًا بشدة للدمار، هو النقص التام للاستعداد للطاقات الشخصية التي تُسمى عادةً المشاعر. حكت لنا الأم عن هذه الأنواع من الطاقات. وهي طاقات خطيرة خاصة بالنسبة للنساء، أجسامنا هي جد ضعيفة أصلًا بطرائق لا تكون فيها أجسام الرجال كذلك. إنها لأعجوبة أنه لا تزال توجد أمكنة آمنة، جُزر كجزيرتنا حيث بوسع النساء أن يكنّ صحيحات الأبدان، متمتعات بالصحة».
العالم الخارجي مليء بالسموم ، يُلحق أضرارًا بالغة بجسم الإنسان، وبخاصة المرأة، إن لم تأخذ الإجراءات الوقائية الصحيحة كي تصون بدنها. ومن بين هذه الأضرار ذبول الجلد وهزال الجسم وتحدّبه، الإجهاد، فقدان الشعر، الهذيان، ونزف غير قابل للتفسير من أيّ مكان، بخاصة من العينين، الأذنين، الأظافر، هالات حُمر تُحيط عيون النساء.
أما الرجال فقد نمت أجسادهم وباتت قوية على الرغم من الهواء المسموم. بعضهم ازدهروا على السمّ، ويبدو كما لو أنّ أجسادهم تعلّمت ليس الانتصار على السمّ فحسب بل الحاجة إليه. رجالٌ من ذلك النوع يمشون حول السموم من دون مبالاة. بوسع المرأة أن تشعر بمفعول السمّ في نَفَسهم، لمسة أيديهم. رجالٌ من هذا الطراز يكسرون ذراع المرأة من دون تفكير. هؤلاء الرجال هم الذين يُلحقون الأذى بالنساء، ويدفعونهن إلى الجنون، كما تُشير إلى ذلك الكاتبة والمحللة السيكولوجية فيليس تشيسلر، في كتابها ذائع الصيت «النساء والجنون».
على أن النسوة في هذه الرواية ينتابهن الخوف الذي يتكلّس في أوردتهن وتجاويف أفئدتهن، وكانت نوافذهن وأبوابهن كلُّها مغلقة، تحسبًا لأيّ طارئ. غير أنهن يشعرن بالتضامن مع النساء المصابات بالأذى اللائي يتوافدن تباعًا، وينشجن بطريقة هستيرية، كلّهن من دون استثناء. إنهن قادمات من عالم ملوّث، مشبوه أو مُعرّض للخطر. عالم يُسيء إليهن، يُلحق الضرر بصحتهن وأجسامهن، يجردهن فيه الرجال من كرامتهن. غير أنّ البنات الثلاث وأمهن لا يثقن بالرجال ويعرفن كلّ ما يتصل بأكاذيبهم وألاعيبهم وسمومهم. وكن يتوجسن خيفة من مخالطتهم وملامستهم، ولطالما حذرت الأم الرجال الغرباء من ملامسة بناتها، قائلة لهم: «إذا لامستم البنات، يتعين عليّ أن أقتلكم».
هذا العداء وعدم الثقة والشك المتبادل بين الجنسين يعمّ ثنايا الرواية ومجرياتها. «سيكون شيئًا لافتًا إذا ما قتلتهم سمكة قرش». النساء يضمرن العداء للرجال على الرغم من الود الظاهر بينهم والعناق والملامسة بين الجنسين. لم يكن يثقن بالرجال، وكن يخبئن الأسلحة تحسبًا لكلّ طارئ، أو لكلّ انقضاض. تقول إحدى البنات: إن «جسمي، حتى في الوقت الحاضر، لم يكن سوى شيء ينزف. شيء ذي رصيد ضخم من الألم. أداة غريبة لا أفهمها على الدوام».
هذا العمل الروائي الفذ ينتصر للمرأة بنحو جليّ، الكاتبة تقف إلى جانب النساء المضطهَدات، وربما هو مجموعة حكايات عن كيف يؤذي الرجال النساء. غير أنّ هذه الحكايات لا تتعلق فحسب بالبنات الثلاث وأمهن، بل حكايات النساء اللواتي يتوافدن على المنزل الواسع ذي حمام السباحة كي يخضعن للعلاج بالمياه. هؤلاء النسوة ينزفن دمًا غزيرًا ، جلدهن يترهل. عيونهن تسفح الدمع بنحو لا إرادي، شعرهن يخف. وكان لا بد أن تقف صوفي ماكنتوش إلى جانب هؤلاء النسوة المُضطهَدات، إذ «يجب على الشاعر أن يكون إلى جانب الضحايا، لا الجلادين. ولئن كان التاريخ قاسيًا وظالمًا ، فعلى الشاعر أن يقف ضدّه»، بحسب قول مارينا تسـﭬيتايـﭬا».
تكتب صوفي ماكنتوش على لسان إحدى هؤلاء النسوة: « أصبحت كارهة لزوجي. رفض الاعتراف بمسألة إلى أيّ مدى جعلني مريضة. قال لي إني كنتُ أفتعل ذلك، وإن هذا لم يكن ممكنًا، حتى لمّا كنتُ أسعل دمًا ، لمّا كان شعري يسد ثقب حوض الاستحمام. احتجزني طوال الليل وبحلول الفجر أصبح جلدي صلبًا وأحمر في الموضع الذي ضربني فيه. وما إلى ذلك. اتركني وحدي، تضرّعتُ إليه، ألا يُمكنكَ أن تستغني عن ذلك. اشترى لي غسول ستيرويد وقناع شاش لم يفعلا شيئًا، كان يتركني أتنفس بنحو سطحي في السرير كلّ صباح».
ترمينا الكاتبة باستمرار في لجة بحر من الشكوك والوساوس، تقول إن الأب كينغ ربما لدغته أفعى سامة، وربما قتله عدو مجهول كان مختبئًا بين الأشجار. أو قد تكون الأم هي التي قتلته. وتنتاب الفتيات الرغبة في الانتقام من الرجال، وتفكر ليا في أن تستعمل غصن شجرة ساقطًا وتضرب الرجل الذي نام معها على رأسه وترديه قتيلًا.
ولا غرابة أن تكون حتى قبلات أحد الرجال الثلاثة مفعمة بالسمّ، فبعد أن تتبادل ليا القبلات مع أحدهم يغدو بصاقها منقطًا بالدم، وعندما تنظف أسنانها في المرة الرابعة يكون بصاقها دمًا. تتمضمض وتتمضمض إلى أن يكون كلّ أثر من السُمّ قد خرج حتمًا من ثقب حوض الاستحمام. وزيادة على ذلك، تحدّث الفتاة نفسها قائلة: إنه لا بد لها أن تفكر في التكفير عن تلك القبلة المسمومة، وأن تدفع ثمن العاطفة المتأججة التي قادتها إلى حضن الرجل الذي نامت معه، إنه «القلب الغادر»، الذي قادها إلى هذا المصير. الحب قد لا يكون مسموحًا به لها على أية حال. لكن الفرصة حلّت الآن. وتعترف قائلةً: إنّ الرجل طوّقها بذراعه غير أنها لم تنسحب مبتعدةً. «جسمي خائن. أنا أيضاً خائنة».
تبتهل هؤلاء البنات البريئات من أجل الصحة والعافية لأمهن، ويُصلين من أجل النساء المصابات بالأذى، من أجل قوتهن وطمأنينتهن. كما يُصلين لحمايتهن من أجساد الرجال. أن تكون دماؤهن لا عيبَ فيها، خالية من السمّ تمامًا، معافاة. أن يبقين أنفسهن آمنات، بعيدات عن الخطر الذي يمتد إلى الجو نفسه تحديدًا. إنهن يتوّجسن خيفةً من انتقال العدوى إليهن إذا ما لامسن الرجال، أو اقتربن منهم. وتلاحظ إحداهن الكدمات على جسمها، وتحرّك سنًا مُخلخلة في مؤخرة فمها.
ولا يفوت القارئ أن ينتبه إلى اللغة الشعرية التي تسللت إلى النص الروائي الذي بين أيدينا، وهذا لا يُثير استغرابنا لأن صوفي ماكنتوش شاعرة أصلًا ، بدأت مسيرتها الأدبية في كتابة الشعر. وفي أحيان كثيرة تعمد إلى الإيحاء والمجاز والتشبيه والاستعارة، لأن هذا هو حال الشعر؛ فالشاعر يُوحي ولا يقول، يومئ إنما لا يُفسر، يُلَمّح إنما لا يحدد ما يعنيه على وجه الدقة. ذلك أن معظم النقاد يذهب إلى القول إن اللغة الشعرية تقوم بتمويه الواقع، بل إنها تخلق مقاربات مجازية وجمالية لها وقعها المؤثر، وتنأى بالنص السردي عن اللغة التقريرية أو الصحفية. وقد درجت الرواية الحديثة على الاستعانة ببعض عناصر الشعر ومرتكزاته كالصورة والرمز والإيحاء والتكثيف والاستعارة والمجاز والكناية وسواها. ذلك أن استخدام هذه اللغة في الكتابة السردية له تأثير سحري تخلّفه عند القارئ، إذ تقوم بتحرير الدال وتركه مفتوحًا على تأويلات مختلفة تختلف باختلاف القارئ، ما يخلق ثراءً دلاليًا في الرواية. كما أضفت شاعرية التصوير في هذه الأثر الروائي جمالية خاصة على الوصف وزادت من تأثير اللغة الواصفة. غير أنّ هذه اللغة الشعرية لم تحتل مساحات واسعة في النص الروائي وتتحول إلى جزر معزولة داخل البنية السردية وبالتالي تُوقف أو تُبطئ تطور وقائع الرواية ونمو السرد فيها. لا، كانت اللغة الشعرية جزءًا جوهريًا من البنية السردية، كما أضفت عليها جمالًا وحققت التأثير المطلوب لدى المتلقي. وهذا ليس بالشيء الغريب، لأن «اللغة، لغة الكتابة الأدبية بعامة، هي لغة قلقة، متحولة، متغيرة، متحفزة، زئبقية الدلالة بحكم تعامل المبدعين معها تعاملا انزياحيًا في كثير من الأطوار. يعلو شأن الكاتب ويعظم قدرُه بناءً على تحكمه في لغته؛ وبناءً على قدرته على تحميلها بالمعاني الجديدة التي لم تكن فيها»، كما يقول عبد الملك مرتاض.
ولنقرأ أمثلةً على ذلك: «الهواء ناضج كالخوخ مشفوعًا بالسمّية»؛ «شكل الأب الذي يتركه وراءه يصبح بسرعة تجويفًا بوسعنا أن نضع حزننا فيه»؛ الأحاسيس القوية تُضعفكِ، تفتح جسمكِ كما لو أنها تفتح جُرحاً»، « نساء تُزعجهن الرؤى، قلوبهن تؤلمهن ليلاً»؛ «صوت النوتات الموسيقية يُزعجني كثيرًا، يخلق كرة صلبة من الحزن في صدري»؛ البسمات عريضةٌ ومُوجعةٌ على وجوهنا»؛ «أجزاء صغيرة من الغرام، محمولة في راحة اليد كالهدية»؛ «أرغب بالإمساك بكلّ شيء في العالم في ذراعيّ، أن أمسك بالكون نفسه»؛ «توجد كرة غضب ساخنة في وسط وجعي»؛ «قبضةٌ من الحزن تنفتح في فؤادي. ثمة خطأ جديد في الهواء بيننا يهدد بأن يبتلع كلّ شيء. هذا هو ما يحدث عندما يغادرك الأشخاص الذين تُحبهم. هذا هو ما يحدث عندما لا تعود الحماية مستمرة»؛ «إن تشرّب الإثم والحزن هو شيءٌ يتوّقعه العالم من النساء. هذا أحد الأشياء التي علَّمتني إياها فيما يتصل بالحب»؛«زمننا شارف على الإغلاق. السماء فوقنا تشتعل. الحدود لن تصمد بعد الآن».
كما إنّ الرواية تمتاز بنحو جليّ بالحبكة المُتقنة، وتشد المتلّقي لأنها تتحلّى بالتشويق. وتدفعه لترّقب ما سيحصل لاحقًا، وانتظار ما ستؤول إليه الوقائع تاليًا بنفاد صبر وقلَق. وفي مرات كثيرة، تطرح الكاتبة احتمالات كثيرة، ويتعين على المرء أن يصدّقها أو يكذبها، أو يختار واحدًا منها في الأقل، وهذه الصفة كثيرًا ما تُستعمل في الرواية البوليسية. الأب، على سبيل المثال، يتوارى فجأة عن الأنظار، لا نعرف ما إذا بات في عِداد الأموات، أم أنّ زوجته سممته وجرّت جثته خارجًا إلى الغابة بشكل من الأشكال. ولا نعرف سبب رحيل الأم أيضًا في يوم من الأيام، تاركة بناتها صحبة ثلاثة رجال غرباء يصلون إلى الجزيرة ذات يوم، ويدّعون أنّ كينغ، الأب، لا يزال حياً، وأنه هو الذي أرسلهم. كما لا نعرف لماذا توقفت النساء المُعرضات للأذى عن المجيء إلى المنزل – المصحة.» هل يعني هذا أنّ العالم قد تحسن، أم أنه بات أسوأ من أيّ وقت مضى. إنهن يَمُتن في سواحل بعيدة بالعشرات، بالمئات، بالآلاف. إنهن يعشن حيوات العنف، أبدانهن تشكلّت وفقه، كلماتهن موجعة، الهواء فوضى مُسننة في حناجرهنّ. أتمنى أن يكون هذا هو الجواب الأول. أتمنى لهنّ توازنًا معتدل البرودة، حيوات الانسجام. الموصلين يغطي وجوههن، طلاسم قوية كي تدرأ عنهن الخطر. الرجال الذين سيكونون صالحين معهن. أجسامهم ليست مُخيفة جداً».
الفتيات الثلاث يسعين جاهدات لئلا يطلقن العنان لأهوائهن. إنهن لا يرغبن في الاستسلام لغوايات الرجال. ويبقين صامدات حتى النهاية، بعد رحيل الأب والأم. متشبثات بالقواعد التي وضعها لهن الوالدان. تقول إحداهن إنهن أثبتن لأنفسهن بأنهن الأشخاص الوحيدين الذين يستحقون الإنقاذ.»حين تشتعل النار في المبنى، فإنك تنقذ أحب الأشخاص إلى فؤادك». يا ترى، هل كان هؤلاء الفتيات الثلاث هنّ الأحب إلى قلب صوفي ماكنتوش؟ أم أنهن مجرّد شريحة صغيرة من بنات جنسها تنتصر لهن بدافع من الأختية sisterhood، في عالم يسوده العنف ضد النساء. هذا العنف يتخذ أشكالاً عدّة، بدءًا من التحرّش، والإيذاء الجسدي والجنسي، وختان النساء، وجرائم الشرف؟ وربما يرافق العنف أو ينجم عن: كره النساء والحط من قدرهن في مجتمع بطريركي قاس، وغير عادل، وفي ظل عالم تسوده العنصرية والتمييز بين الجنسين والمعاملة الدونية ووأد النساء ورجمهن بالحجارة وفرض مزيد من القيود على حريتهن، وعدم المساواة في التعامل معهن في مواقع العمل، وتقاضي الأجور، وسوء استخدام السلطة معهن حين يكن عاملات في الفنادق أو البيوت أو المطاعم أو المزارع أو المصانع، إضافة إلى العنف المنزلي الذي يمارسه الأب، أو الزوج، أو الأخ الأكبر، ناهيك عن اغتصابهن خلال الحروب والنزاعات، وبيعهن في سوق النخاسة، كما حصل للإيزيديات في شمال العراق، حين احتلت داعش موطنهن، ومورست ضدهن أبشع أنواع الانتهاكات لحقوق الإنسان. ولا تزال هنالك ملايين النساء في العالم يتعرّضن لشتى ضروب الابتزاز وسوء المعاملة، وتُسحَق إنسانيتهن، وتُهدَر كرامتهن، باسم الدين تارةً، وباسم التقاليد تارة أخرى، وباسم الولاء لأنظمة سياسية فاسدة، وسلطات دينية قامعة في كثير من الأحيان.
لكن بطلاتنا الثلاث يبقين متشبثات بالأمل. ها هي ذي إحداهن تقول: « الحب يطلب منكِ دومًا أن تضحي بشيء ما، أعرف هذا الآن. إنه يُطلب دومًا المشاركة بالجريمة. أفكر بالأم على الغداء، ذات مساء منذ ردحٍ طويل من الزمن، تقول لنا، [حتى إذا كانت يوتوبيا فاشلة، فعلى الأقل أننا حاولنا] «.
من الجدير بالذكر أنّ «العلاج بالمياه» هي الرواية الأولى للروائية وكاتبة القصص القصيرة البريطانية صوفي ماكنتوش (وُلدت العام 1988)، وقد أُدرجت ضمن القائمة الطويلة لجائزة الـ (مان بوكر العالمية Man Booker International Prize) لسنة 2018، وأشادت بها الصحافة العالمية، كما أثنت عليها الكاتبة الكندية الشهيرة مارغريت أتوود.