يعمل الناقد المغربيّ يحيى بن الوليد، في كتابه «تدمير النسق الكولونياليّ: محمّد شكري والكُتّاب الأجانب»، ضمن استراجية تقوم على عمودين أساسين، يتكئ كل منهما على الآخر، الأول هو رسم وجه آخر، غير مألوف للكاتب محمد شكري، وهو الوجه المتمثل في نظرة شكري إلى الكُتّاب الأجانب الذين عاشوا في طنجة، وتحديدا بول بولز وتينيسي وليامز وجان جُنيه، والثاني هو فضح نوايا هؤلاء الكُتّاب وأهدافهم العميقة من وراء إقامتهم في المغرب، أو في طنجة تحديدا.. وهو من يقوم بتفكيك بنية التفكير الكولونياليّ لهؤلاء الكُتّاب.
ومن يقرأ كتاب يحيى هذا، يكتشف أنه هو، أعني يحيى، من يشتغل على تدمير النسق الكولونيالي، ولكنه يتخذ من كُتب شكري حول الكُتّاب الثلاثة المذكورين، وبعض مقولاته عنهم، منطلَقًا لهذا «التدمير» للتفكير الكولونيالي تجاه طنجة. وهو يعمل على ذلك من خلال منهجية واضحة المرجعيات والرؤية في آن. مستفيدا من مزيج من المناهج التي تلتقي كلّها مظلة نظرية عالمية هي «الخطاب ما بعد الكولونيالي» من خلال كتابات إدوارد سعيد عن الاستشراق وصور المثقف والثقافة والإمبريالية وتأملات في المنفى، وكتاب هومي بابا «موقع الثقافة» وغيرها.
ومن بين عدد كبير ممّن كتبوا عن محمد شكري، الذي ما يزال حاضرا بقوة في الحياة الثقافية المغربية، يبرز الناقد المغربي الدكتور يحيى بن الوليد (ابن مدينة وجدة، مواليد 1967)، في دراسة متميزة بدءا من عنوانها «تدمير النّسق الكولونيالي: محمد شكري والكُتّاب الأجانب»، صدرت عن وزارة الثقافة، وتقع في مائة صفحة من القطع الكبير، وتشتمل على تمهيد وسبعة فصول تتناول كتابات شكري كلها. فمع تركيز على كتابات شكري عن بول بولز وتينيسي وليامز وجان جُنيه، ثمة التقديم بمقالين هما «طنجة المتأمركة» و«محمد شكري مقاوِما الكتّاب الأجانب»، والختام بمقال «تدمير متفاوت» ومقال رد على سعدي يوسف بعنوان «محمد شكري ومعادلة المستعمِر والمستعمَر».
الدكتور يحيى، ناقد بأدوات حادة، وعدّة نقدية هي «أسطول من الأسلحة» المفاهيمية والاصطلاحية الواضحة الملامح في وُجهاتها، واضحة إلى الحد الذي لا تخطئه رؤية قارئه، فضلا عن كونه صاحب مؤلفات متميزة أيضا يطوف من خلالها في قضايا متشابكة ومعقدة، بمصطلح منحوت لحسابه الخاص غالبا، بدءا من «التراث والقراءة»، و«الخطاب النقدي في المغرب»، و«الكتابة والهُويّات القاتلة»، ثم «الوعي المُحلّق: إدوادر سعيد وحال العرب»، و«سلطان التراث وفتنة القراءة»، و«هدأة العقل النقديّ».
أبرز ما يهمنا في كتابه الجديد هذا، أنه يعتبر أن محمد شكري يمثل «علامة ثقافية لافتة في الكتابة السردية بوجه خاص، وفي الواقع الثقافي في «المغرب ما بعد الكولونيالي» بوجه عام، ومرد ذلك إلى ما اتّسمت به كتاباتُه من «مواقف» تندسُّ في ما يمكن نعتُه بـ»المغرب الآخر» أو «المغرب الاحتجاجي»، وخصوصا من ناحية نصه الاستثنائي «الخبز الحافي» الذي كان وراء شهرته العالمية». وأن شكري كان ضحية كتابه هذا، رغم أن كتاب «الخبز الحافي»، بحسب ابن الوليد دائما، غير كاف بمفرده لفهم جانب مهم من خطاب شكري الذي يندرج، لا سيما من جهة اتّكائه على «السرد الثقافي»، ضمن «خطاب ما بعد الاستعمار»، الذي يعدّ «مدخلا جديرا بأن يُدنينا من طبيعة «الإسهام الثقافيّ» الذي يمثله عمل شكري». ورغم أن الهمّ الشاغل لشكري في «الخبز الحافي» كان هو «الخبز»، وليس «أرض الوطن»، لكنّه كتاب ينطوي على سِمات «النصّ الثالث» أو «ما بعد الكولونياليّ».
يستخدم ابن الوليد هنا ما يسمى «المقاربة البينيّة»، وهي جماع نظريات ومناهج أساسها نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي بوصفها آخر نوع من الحضور النقديّ الحداثي في العالم، والأنسب للعالم الثالث، التي كان إدوارد سعيد أحد أبرز من دشّنوا هذا الحقل من الخطاب. وبعد قراءته الموسّعة والمعمّقة والتفصيلية لشخصيات الكتّاب الأجانب الثلاثة، يخلص، من بين خلاصات عدة، إلى أن «تعامل هؤلاء الكتّاب وغيرهم من الذين أقاموا في طنجة، وسواء على مستوى الكتابة أو السلوك، لا يخلو من «دلالات الاستشراق».
أحد أهم هواجس ابن الوليد في كتابه هذا هو «التحرر من سطوة «الخبز الحافي»، ليعرض بعده، من خلال كتب شكري الثلاثة («جان جينيه في طنجة» 1973، «تينيسي وليامز في طنجة» 1983، و«بول بولز وعزلة طنجة» 1996)، محاور أساسية بقدر من التفصيل والتفريعات حتّى، أولها أن شكري يكتب بخلفية الكاتب المتورط في «المزايدة» بـ«الهوية القومية».. ولكن ليس «الأصولية القومية» في نطاق «رد الاعتبار» لـ«الذات» العربية الجريحة والمثقلة بذكريات الاستعمار. والثاني هو أن شكري يمثل في كتاباته عن الكتّاب الثلاثة «التابع» الذي أصر أن «يتكلم».. بحسب مقولة الهندية غياتري شاكرفورتي وسؤالها «هل يمكن للتابع أن يتكلم؟». والثالث هو انتقال خطاب شكري من الذاتي إلى الثقافي، النسق الكولونيالي إلى مواجهته.
وفي سياق قراءته للأعمال الثلاثة، يستخلص الناقد «حِدّية السرد ضد كولونيالي»: هذه الحدية ضد جان جينيه هي الأقل، ثم تينيسي وليامز، وتبلغ ذروتها ضد بول بولز الذي يصف المغاربة بالقرود. وأن معظمهم «مثل الذي يجيء ليرى قردا يقفز من شجرة إلى أخرى». بل أقاموا في طنجة البوهيمية لدوافع «اللواط» و«المثلية الجنسية» و«اغتصاب المغربيات» وخلق فضاءات «ألف ليلة وليلة».. و«الرغبات الكولونيالية».
وبالنسبة إلى ناقدنا ابن الوليد فإن «بول بولز وعزلة طنجة» 1996 هو «الأقرب من التأكيد على «الحضور الحدّيّ» لـ«تدمير النسق الكولونيالي» في كتابات شكري. فعلاقة شكري مع بولز «ملتبسة قائمة على التنابذ»، بناء على أن كتابات بولز كانت «تتسم بالحقد والسخرية والعنصرية والاستخفاف بالأهالي»، لذا «يتصدى محمد شكري، وبـ«جروحه» الشخصية التي تلتبس بـ«جروح ما بعد الكولونيالية»، لهذا «الخطاب» الذي ينطوي على نسق مخصوص هو، في صميمه، «نسق الخطاب ما بعد الكولونيالي» الذي كان لا يزال يجعل من الفضاء الطنجي مجلى له». فضلا عما يمكن اعتباره «استراتيجية القتل» المتمثلة في ما يراه شكري «الدهاء، الانتهازية، السخرية، الكتمان بخصوص الشذوذ، الغموض والبخل والهروب.. وأنه في طنجة «يربض فيها مثل أبي الهول». وأن «معظم كتابات بول بولز تنصب على «الحنين» إلى العهد الاستعماريّ». وهنا يبرز دفاع شكري عن «نحن»، وحديثه عن «صدام الحضارات» و«الإسلام والغرب»، والدفاع عن الإسلام. ويبلغ الذروة في اعتبار أن بولز «أحب المغرب المستعمّر، لا المغرب المستقل! وتعامل مع المغاربة كقرود، أو حيوانات قذرة..». حتى أن شكري يعتبر كتابه عن بول بولز «رد اعتبار للشخصية المغربية». نص «مزعج» وانتقامي» و«عدواني».
أما تينيسي وليامز، الذي زار طنجة للمرة الأولى العام 1964، ثم عاد إليها العام 1973، فقد كتب عنه شكري بنوع من التجرد، إذ حرص شكري في كتابه عن وليامز على «إقحام» الأدب العربي في النقاش معه بدافع «تدخل الهوية القومية»، ولكن لم يكن ثمة وقت لدى وليامز لهذا النقاش، كما لم يكن لديه الوقت لملاحقة دور النشر العربية التي تترجم كتبه وتنشرها فهو يقول لشكري «أرجو فقط أن يعطوني غلاما جميلا وجملا أركبه»، ومع أن «تينيسي لا يشبّه المغاربة بالقرود، ولا يسقط في أي نوع من «التنميط» أو «القولبة» لهؤلاء»، غير أنه كان يتحرك في الدائرة ذاتها التي كان بول بولز يتحرك فيها.. فهدفه من المجيء إلى طنجة، بحسب ابن الوليد، لا يحيد عن دلالات «الغزو الأبيض» و«أساطير الهيمنة البيضاء»، تشديد وليامز على «مَسْرَحَة رغباته الكولونيالية».
ولأن حالة جان جينيه هي الأقل «حدّية»، ربما، تركها مؤلف الكتاب كحالة ثالثة، رغم أن كتاب شكري عن جينيه هو الأول. هنا نرى أن جنيه هو «مرآة» لشكري، ورغم أهمية مسرحيته «الستائر»، التي يعتبرها إدوارد سعيد «المسرحية الهائلة، المحطمة للتابوهات والمؤسسات التقليدية، المتمحورة حول الاستعمار الفرنسي والمقاومة الجزائرية»، ورغم اعتبار جينيه «البطل القومي» للعرب، وأن طنجة بالنسبة له كانت «رمز الخديعة»، إلا أنه لناحية جهله بالأدب العربي فهو لا يعرفه، رغم ذلك كله فإن جينيه في نظر ابن الوليد، وليس عبر شاشة شكري، يظل في دائرة «النسق الكولونيالي» نفسه، نظرا لانتمائه إلى هذا الفضاء الثقافي.. فمناصرته (جينيه) تجسد ما يسميه إدوارد سعيد بـ»الاستشراق المعكوس». كما أن قراءة شكري لجينيه «سعت إلى أن تصل ما بين الأسطورة والواقع».
تفاصيل كثيرة لم نستطع الإلمام بها، ولكن بقي أن نلفت إلى إشارة ابن الوليد أخيرا إلى أن قول شكري «أنا لست ضد هؤلاء الناس (يعني الكتّاب الثلاثة)، لكنّهم لم يمنحوني الفرصة لأعيش مثلهم..»، بالنسبة إليه «لا يطرد محمد شكري من حقل نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي التي تشير بدورها إلى الفكرة ذاتها»، ولكي يبرّر اعتباره هذا، فهو يستشهد بقول فرانز فانون «ما من مَحلّيّ إلا ويحلم مرّة في اليوم على الأقل بأن يحلّ محل مكان المستوطن».
ويظل السؤال الأساس الذي يطرحه قارئ الكتاب هو: هل كان شكري يملك من الوعي ما يؤهله ليدرك الأبعاد «الكولونيالية» أو «الاستشراقية» الخفية لرحلات هؤلاء الكتّاب إلى طنجة وإقامتهم فيها؟ أم هو وعي بن يحيى ما وصل إلى هذه الأبعاد؟ وهل كان محمد شكري على علم بنظرية الخطاب الكولونيالي؟ أم أن الأمر يتعلق بنوع من «لاشعور» شكري؟ أم أن الأمر لا صلة له بالسؤال الأول ولا الثاني مما يدل على نوع من «الإسقاط» من المؤلف على محمد شكري؟»
يجيب ابن الوليد في لقاء خاص معه: في الحق هي أسئلة مشروعة، وعادة ما لا نوليها أهمية وخصوصا من منظور «علم اجتماع المعرفة». وحقا يصعب الخوض في موضوع من هذا الحجم وفي إطار مقال مقتضب مثل هذا. ولكن مع ذلك لا بد من التأكيد على أن أكبر الكوارث الفكرية، في واقعنا الفكري والإيديولوجي، هي أن نقدم على دراسة موضوع دونما استناد إلى منهج محدد. والمقصود، هنا، المنهج بمعناها الفلسفي الاصطلاحي المعاصر وليس المنهج بمعناه الديداكتيكي التطبيقي والتبطيقي في الوقت ذاته. أظن أن منهجا بمعناه الأول، وبمقولاته النظرية ومستنداته التصورية، جدير بأن يقي القراءاة من «الثرثرة» ومن «الشقشقة». وجدير بأن يجعلنا ننظر، وبشكل مغاير، إلى النصوص التي هي موضوع قراءتنا.
والفكرة الأخيرة، المتعلقة بإنتاج وعي قرائي بالنصوص، تستلزم، بدورها، نصوصا قوية تسعف الناقد على تحريك أسطوله النقدي والفكري. فالناقد من حقه «التدخل» في النصوص، ومن حقه صياغة نص على نص. ونص شكري، ورغم بساطته الظاهرية، لا يخلو من «نتف فكرية» مجابهة لنوع من «الاستشراق الباطن» تميزا له عن «الاستشراق السافر» كما كتب عنه إدوارد سعيد في كتابه الإشكالي «الاستشراق» (1978) الذي كان وراء تدشين حقل «نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي» التي تبدو الأقرب لأبناء العالم الثالث الجديد في دراسة ظواهر الثقافة وألغام الثقافة من سرد وذاكرة وأمة وهوية… إلخ.
الفكرة الأخرى حول أن الكتاب يجعل قارئه يغيـِّر نظرته إلى جان جنيه وتينيسي وليامز وبول بولز. ومهما كان فهؤلاء، وحتى إن كان لا ينبغي التسوية بينهم، هم «نتاج الغرب» ذاته. «الغرب الثقافي» لا «الإدراي» الذي هو غرب «الكراهية والحروب… إلخ.
وأخيرا، أعترف أن العنوان «تدمير النسق الكولونيالي» كان مستفزا، وكان ناشر مصري قد اقترح استبداله بعنوان آخر. فكان ردي، السريع، أني حريص على الدلالة الحدية للعنوان.
——————
عمر شبانة