محمود شريح*
سعت مجلة نزوى العُمانية على مدى ربع قرن إلى رصد حركة الحداثة العربية، شكلاً ومضموماً، فكان لها ما سعت إليه، وطمحت نزوى الى أن تغطّي المشهد الفكري في دنيا العرب، من مسقط إلى طنجة، قصيدة ونصّاً وبحثاً ودرساً وخشبة مسرح ونقداً، فأفلحت فيما طمحت إليه. نزوى استمرارية لمجلّة أبولو القاهرية ( 1932– 1934 ) ومجلة شعر البيروتية ( 1957 – 1964 ؛ 1967 – 1969 ) وتكملة لهما بموازاة الآداب البيروتية (1953 – 2012 ) فصول القاهرية طال عمرها وعمر أحبائها.
ولكن مع تطوّر جذري وفارق جوهري، ذلك ان نزوى صوت حداثة صارخ آتٍ من زاوية جزيرة العرب الشرقية الشمالية مُعيداً إلى منشأ ديوان العرب بعض مجده ورونق أصالته.
فمنذ مطلع القرن العشرين ومع تزايد معطيات التكنولوجيا الأوروبية في المجتمع العربي وتمركزها في مدنه، ومع اندلاع حربين عالميتين تبعتهما حروب محلية، حدثت ثورة أساسية في عقل الكاتب العربي فتمرّد على القيم والمعايير الاجتماعية ( جبران خليل جبران، الياس أبو شبكة ) أو هرب إلى عالم مثالي طوباوي ( صلاح لبكي ، سعيد عقل ) أو طرح الحداثة بكل ثقلها (جماعة «شعر» و «حوار» و«مواقف») مع التركيز على أهمية التراث وما يحمل في طياته. أطلق جبران صرخة مدوية محتجاً على تغيير معلم الطبيعة وطالب أبو شبكة بتطهير مجتمع المدينة بالكبريت. صلاح لبكي غنّى ذاتيته المندمجة مع الطبيعة وسعيد عقل طارد هنيهات الجبل ومزجها بعطر وسحر. هكذا تحدّدت صورة الصراع بين الريف والمدينة، وعليه فان الشاعر الحديث يتمرّد على المدينة لأنها فقدت ارتباطها بالصفاء الروحي ووثقّت علاقتها بالمادة ، فحنّ إلى الريف ومثّلت له الطبيعة رحماً نقياً ( أبو شبكة ، فوزي المعلوف ، جبران ) ومن هنا كان اجماع الشعراء العرب المحدثين على العودة إلى المكان – الأم كما هي الحال مع بدر شاكر السياب، او إلى الزمان – الأم كما هي الحال مع خليل حاوي، حيث البكارة والطفولة والبراءة الأولى. هذا الحنين إلى الصفاء الطبيعي واكبه حنين إلى المرأة – المثال، النقية الجسد والوفية في حبها ( توفيق صايغ ).
وعى الشاعر العربي المعاصر أن الواقع غير الرؤية وأن المدينة ليست فردوساً وان المجتمع الذي يحياه يعاني من مرارة سقوط المثالية والقيم ، فمنشأ الصراع منبعث من عدم الثبات والتحول المستمر في عالم المدينة وما يقابله من أصول ومعايير لها جذورها في عالم الريف، وقد ركز الشعراء المعاصرون، والتموزيون منهم بشكل خاص ( الخال، ادونيس، السياب، جبرا، حاوي ) على استعمال رموز صيغة الصراع ما بين المدينة والريف ، فهم اعتمدوا في شعرهم على مبادئ متشابهة اهمها استعمال الرموز من ميثولوجية وغيرها، وبناء القصيدة على المعارضة بين ضدين : الموت والحياة، الظلمة والنور، الماضي والحاضر، أو الحاضر والمستقبل. وهكذا فإن طبيعة علاقة الريف – المدينة منسجمة مع الطرح الشعري الحديث.
بين غربة روحية مقيمة ووحشة نفسية مهاجرة جاءت قصيدة الحداثة وصلاً منطقياً بتراث المهجريين – رابطة قلمية في نيويورك وعصبة اندلسية في سان باولو – ودلالة حتمية على ترابط حلقات الشعر المعاصر الذي يتجاذب بعض محتواه قطبا المسكن والمنفى.
نشأ عن هذا التجاذب بحث عن نعيم ضائع وتمزّق في وطن قائم. فاعترى شعراء الحداثة اغتراب عارم مردّه ما طرأ على صفحة الواقع من تحولات تاريخية لم يفلت الشعر من عاقبتها، ولا سيما بنية القصيدة التي راحت تمظهر مضمونها الروحي المضطرب ، فما ان غاب أبو شبكة تاج الرومنطيقية العربية في 1947 حتى توجّه جماعة بغداد [ الملائكة / السياب / الحيدري ] إلى قصيدة الشعر الحر فالعراق كان الأسبق تاريخياً والأقرب جغرافياً إلى رصد التحولات اللاحقة في خارطة العرب الحديثة مع تفسّخ قشرة الكون عقب الحرب الكونية الثانية.
هذه العودة إلى حالة البراءة الأولى والرجوع المطلق إلى الذات وإلى الطبيعة ينبوع الشعر عنيا للسياب وصايغ وحاوي الحنين إلى رحم والبحث عن عذراء. بقي السياب في أيامه الأخيرة في المستشفى الأميري في الكويت يحنّ إلى شباك وفيقة حبيبته وأفياء جيكور مسقطه عند شط العرب ولما دهمته سكتة قلبية وهو في مصعد في بيركلي كان صايغ يهجس بعشيقته كاي التي خلّدها في ديوان يحمل الحرف الأول من اسمها. وفوق سريره كانت صورة العذراء ولوحة لبحر الجليل عند طبرية. أما حاوي الذي طفح يأسه عشية اجتياح بيروت وخانته القصيدة- المرأة فلم يجد بدا من اصطياد نفسه فحسم نزاعه الطويل وتأرجحه المضني بين قومية سورية نشأ عليها وقومية عربية جنح اليها.
ما بين وقوف خليل مطران ( 1871 – 1949 )، عند ساحل الاسكندرية في مستهل القرن، شاكياً إلى المتوسط حدّة غربته، وانتحار خليل حاوي على شرفة منزله المطلة على البحر نفسه، ثمانون عاماً شهدت خلالها دنيا العرب التفلّت من الضغط العثماني ثم خضوعها للتجزئة السياسية، وما نتج عنها من سقوط فلسطين وتعثر الاستقلال الوطني إلى الدخول في شعب الاقليمية ومتاهاتها. ولارتباط الشعري بالسياسي ، من محمود سامي البارودي ( 1840 – 1904 ) في القاهرة، إلى بشارة عبد الله الخوري ( 1885 – 1968 ) في بيروت، كانت قصيدة العرب الحديثة رصداً ليقظة أو كبوة، ومن هنا التغير الجذري في محتواها وهيئتها ، فكانت النقلة من رومنطيقية إلى رمزية فسوريالية في موازاة تفتق بنية الذهن عن شكل ومضمون جديدين.
وها نحن اليوم وقد اتسع الخرق على الراقع في دنيا العرب يبقى النصّ الصادق المتكئ على خلجات الروح ونبض القلب أساس الفكر ومدماك الرؤية وفسحة الأمل. وها هي نزوى تغذّ السير في هذا الاتجاه فبوركت أقلام المساهمين فيها والقائمين عليها.