صدام الزيدي
ينتمي عبد اللطيف الوراري شعريًّا، إلى جيل التسعينيّات في المغرب، وهو جيل “فقد ثقته بالفضاء العامّ وخطاباته، على الرغم من إتمامه مشروع تحديث القصيدة المغربية”.
“غبشيًّا، لقد فقد جيل التسعينيّات حماسته بالأشياء وبالعالم إلى حدّ العدم”. ويشقُّ علينا أن نجمع أفراد هذا الجيل في كتلة قارّة وإطار منسجم. لهذا، تجده جيلًا غامضًا، وغاضبًا، وهجينًا، ويتيمًا “لا يسند ظهره إلى جدار أو جهة ما”، يقول الوراري.
غير بعيدٍ، يتحدّث الشاعر والنّاقد الأكاديمي المغربيّ عبد اللطيف الوراري عن وضع الشّعر العربي قائلًا إنه “بات متَغيِّرًا”، لا إلى وضع أسوأ أو أقلّ اعتبارًا، بل إلى ظروف أخرى تبعًا لـ(إبيتسم) العصر، ومع ذلك، ليس مقبولًا، اليوم، أن نكرّر الموتيفات السابقة وألا يتغيّر خطابنا حول الشعر.
في هذا الحوار مع مجلة “نزوى”، يشدّد عبد اللطيف الوراري على أن نُصغي لروح الشّعر المعاصر وأسئلة تلقّيه من منظور إبستيمولوجي. أما “خطابه حول الشعر” فيقول إنّه وليد مرحلةٍ معاشة الآن: مرحلة خَفَت فيها الزّعيق الأيديولوجي وخفّ عبء السياسيّ على الثقافيّ والجَمالي.
إلى ذلك، ينوّه الوراري، في سياق رؤيته لمستقبل الثقافة العربية (في ظلّ الانهدام الحضاري وفقدان الثقة بين الشباب)، أننا اليوم نعيش حركة ثقافيّة معرّضة للتشويه والهدم في أي لحظة، بسبب كثرة الغيابات: غياب بنيات الاستقبال الضرورية، غياب دعم الدولة اللازم للفاعلين في الحقل الثقافي بلا إقصاء أو تمييز، غياب قواعد الشفافية والاعتبار بمبدأ الكفاءة، ثم غياب خطط المستقبل على المديين القريب والمتوسط، “وهذا ما ينخر العمران من الداخل ويفقد شبيبتنا الثقة بنفسها”.
ومتحسّرًا، يضيف الوراري قائلًا: “إننا إذ نلقي نظرةً على خريطة العالم العربي الممزق والمهان، نشعر كأنّنا نسقط في هوة يأسٍ ما لها قرار”، لكن “مع السواد القاتم الذي تبعث عليه مسارح الحياة في راهننا العربي البئيس، فإننا مع ذلك نظلُّ (محكومين بالأمل) على حد تعبير سعد الله ونوس”.
ومسوِّغًا اتخاذه مصطلح “الحساسية” بديلًا عن “الجيل”، قال الوراري إنه لم يجد في مفهوم (الجيل) ما يدلُّ حقيقةً عليه، لهذا فهو يقترح: استبداله بـ”مفهوم (الحساسية)”، كخطاب ورؤية في آن.
وفي هذا الصدد يحيل الوراري القارئ إلى كتابه: “في راهن الشعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية”، (2014)، معتبرًا أنه (أي الكتاب) أعاد مَفْهمة هذا المصطلح ضمن قراءته للشعر المغربي المعاصر وتأويله: “مفهوم (الحساسيّة) أوسع من مفهوم (الجيل) الذي لم يعد له ما يقوله أمام مشهديّة الغنى والتعدّد التي أصبحت تطبع الحركة الشعرية.
وفي حين أوضح أن جهده حاليًا، ينصرف إلى قراءة السيرة الذاتية في الشعر وتأويل اشتغالاتها الخاصة عبره، فإن الوراري يرى (إجمالًا) أن الكتابة لم تعد مجرد شكل أو أسلوب، وإنما باتت تحمل محتوىً يعكس فلسفة ما، وفهمًا خاصًّا للذات والكتابة واللغة والعالم، لا يخلو من سمت القلق وروح المفارقة الهازئة بمرأى حياة سيميولوجية متفكّكة وعالم يسوده منطق الخلل.
وبالتطرق إلى كتابه الجديد: “سير الشعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهوية”، أوضح الوراري (مجيبًا عن سؤالنا له: إلى أي مدى يمكن الحديث عن سيرة شعرية لا تُبنى من القبلي والمرجعيّ بل من المحتمل والمرجأ باستمرار؟)، أنه دَرَس ثلاثة أنواع السير التي كتبها الشعراء: سير ذاتية، وسير ثقافية موازية، وسير شعرية.
ويبين في هذا السياق أنه في شعرنا المعاصر نجد هذا النوع من السيرة الشعريّة لدى شعراء مارسوا على ما يكتبونه وعيًا سيرذاتيًّا بقدر ما مزجوا هذا الوعي بخبرة الحياة وشرط التخييل وفعاليّته التي تُحرّر الأنا من وعي التاريخ وتُطلق إمكاناته في شبكة هائلة من التخييل، مثل وديع سعادة، وصلاح فائق، وسيف الرحبي، ومحمد بنطلحة، وأحمد الشهاوي.
ووفقًا للوراري: ما يُنْجز سيرذاتيًّا لا يتمُّ إلا عبر سيرورة الكتابة ودلاليّتها الخاصة فحسب، ومتابعًا حديثه، ينوه الوراري أننا صرنا لا نتعرّفُ على سيرة ذات الشاعر إلّا وفق ما يمليه عليها المشروع السيرذاتي الذي بات ينزاح عن التاريخي والمرجعيّ، ولم يعد يرتبط بواقع ثابت وقارّ، أو هو يتطابق كُلّيًا أو شبه كلّي مع إحالاته التي كانت تتقيّد بالقناع، وإنّما أصبح ينفصل عمّا يشدُّهُ إلى المرجع ويكفُّ عن أن يكون هو نفسه.
إلى ذلك، يشدد الوراري أنه لا يصحّ أن نقارن الشعر بأجناس أدبيّة أخرى، الرواية مثالًا. ومتصديًا للقائلين بأنّ الشعر خفت صوته وانحسر دوره بفعل بروز فنون أخرى أكثر جاذبيّة وتمثيلًا لحركة المجتمع، يعتبر (الوراري) قولًا كهذا “من تكرار المملّ، صار سخيفًا، ولم يعد يعير انتباه أحد”.
وأردف قائلًا إن الأزمة طبيعية وعلامة عافية وليست دليل إدانة، لأنّها تخص فنًّا حسّاسًا وخطيرًا مثل الشعر: “لا يصحّ أن نتناول قضية الشعر المعاصر تحت تأثير أرقام أو إحصائيات آنيّة ومفبركة، أو نقوم بمقارنته بجنس أدبي آخر مثل الرواية التي صعدت بحكم شروط ليست دائمًا شروطًا فنّية بالضرورة، أو نتناوله بمعزل عن هذه التحوّلات بانفجاراتها وهجراتها وإحباطاتها وموجات اليأس والشك والعدمية التي أشاعتها”.
وبحسب الوراري: عندما تنتقل السيرة الذاتية إلى الشعر، فإنّ هذه السيرة تتخفّف من قواعد تآلفت معها داخل السرد لتتخذ صيغًا وممكنات جديدة نابعة من إملاءات الحدس الشعري. لهذا، علينا أن نُحرّك مفهوم السيرذاتي ولواحقه (النثر، الاسترجاع، الذات، المرجعية، التطابق الاسمي..)، حتى نجعله “يتجاوز المتن السردي”.
ونشير هنا إلى أن عبد اللطيف الوراري (1972) شاعر وناقد مغربي، يشغل أستاذا للأدب المعاصر في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. نال جوائز أدبية عربية، وصدرت له مؤلفات عديدة في الشعر والنقد وأدب السيرة، نذكر منها: تريــاق (منشورات شرق غرب- بيروت 2009)، ذاكرة ليوم آخر (الوراقة الوطنية – مراكش 2013)، من عُلوِّ هاوية (منشورات بيت الشعر في المغرب – الرباط 2015)، تحوُّلات المعنى في الشعر العربي (دائرة الشارقة للثقافة والإعلام 2009)، نقد الإيقاع: في مفهوم الإيقاع وتعبيراته الجمالية وآليّات تلقّيه عند العرب (دار أبي رقراق- الرباط 2011)، في راهن الشّعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية (دار التوحيدي- الرباط 2014)، سِيَر الشُّعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهوية (دار فضاءات، عمان 2020)، ضوء ودخان: شذرات من سيرة ذاتية (منشورات سليكي أخوين – طنجة 2016)، رسائل فدوى طوقان مع ثريا حداد: أضواء جديدة على حياتها وشعرها (راجعها وقدّم لها)، طباق للنشر والتوزيع- رام الله 2018، القاهرة من أبواب متفرّقة: محكيّ سفاري (منشورات دار التوحيدي، الرباط 2019)، ترجمة النفس: السيرة الذاتية عند العرب (كتاب مجلة الدوحة، العدد 137 مارس 2019)، الذّات، الكتابة والهوية: حواراتٌ في الشعر المغربي (منشورات بيت الشعر في المغرب، الرباط 2019). فإلى حصيلة الحوار:
جيلٌ فقد حماسته بالأشياء وللعالم
أنت تنتمي – شعريًّا- إلى جيل التسعينيّات بالمغرب، وهو الجيل الذي أتمّ مشروع تحديث القصيدة المغربيّة. حدّثنا بإيجاز عن هذا الجيل؟
صحيح، خربشاتي الأولى في مجال الشعر كانت في نهاية الثمانينيّات، لكني اتّخْذتُ المسألة بجدّيةٍ في بحر التسعينيّات، وهكذا استمرّتْ إلى اليوم قصة الغرق.
أمّا هذا الجيل الذي نشأتُ بينه، قد فتح عينيه ووعيه – معًا- على مشاهد الخراب السياسيّ والحضاريّ بوجه عامّ، وفقد ثقته بالفضاء العامّ وخطاباته. ولهذا، تجده جيلًا غامضًا، وغاضبًا، وهجينًا، ويتيمًا لا يسند ظهره إلى جدار أو جهة ما، وغبشيًّا فقد حماسته بالأشياء وبالعالم إلى حدّ العدم
وبعد هذا وذاك، هو جيلٌ متعدّدٌ ومتسامح؛ أي ضمّ إليه كل صنوف الكتابة والفنّ والرؤيا من اليمين إلى اليسار، وارتضى أن يعيش مع ذلك تحت سماء واحدة بلا سجالٍ أو ضربٍ من التنجيم. وعلى هذا الاعتبار، يشقُّ علينا أن نجمع أفراد هذا الجيل في كتلة قارّة وإطار منسجم، أو أن نحجرهم على تصنيف عقدي- تحقيبي كما كان جاريًا من قبل. وبالنتيجة؛ لم أجد في مفهوم (الجيل) ما يدلُّ حقيقةً عليه، فاقترحتُ استبداله بمفهوم (الحساسيّة) كخطاب ورؤية في آن.
“الحساسية” لا “الجيل”…
ماذا تقصد بهذا المفهوم؟ وما أهم الإضافات الفنيّة التي قدّمتها هذه الحساسيّة الشعريّة؟
مصطلح الحساسية كان متداولًا في خطاب بعض الشعريّات الحديثة في الغرب، مثل الرومانسية والرمزية (كولريدج، هيغو، بودلير..)، وانتشر في النقد العربي خلال العقدين الأخيرين، ولا سيّما بعدما أطلقه الناقد المصري إدوارد الخراط في مقاربته للكتابة عبر النوعيّة داخل القصة والسرد عمومًا. أحيانًا كثيرة، كان المصطلح يستخدم بشكل عابر؛ أي بلا فائدة منهجيّة أو وعي نقدي. وليس بدعًا أن أقول إنّ كتاب “في راهن الشعر المغربي: من الجيل إلى الحساسية”، (2014)، أعاد مَفْهمة هذا المصطلح ضمن قراءته للشعر المغربي المعاصر وتأويله، فهو أوسع من مفهوم الجيل الذي لم يعد له ما يقوله أمام مشهديّة الغنى والتعدّد التي أصبحت تطبع الحركة الشعرية.
إنّ مفهوم الحساسية بوصفه أداة إجرائية يتركّز على بيان أثر الإبدالات الجمالية التي أخذت تطبع الفضاء الشعري المعاصر، أو تلك التي اعترت المادّة الشعريّة قياسًا إلى اجتهاداتهم واقتراحاتهم النصّية ووعيهم باشتراطات الزمن وتاريخيّة الكتابة فيه. فهي تظهر ممتدّةً وناشئة بصمت، وأوسع من أن تتأطّر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، أو تحجبها المعاصرة، فما فتئت تكشف عن أثر التغيُّر الذي يحدث باستمرار في وعي من يكتبها/ يكتب بها.
نجد أنّ هذه الحساسية أكثر حضورًا في نصوص الشعراء الجدد من كلّ البلاد العربية، التي لا تخضع لقواعد، أو على الأقلّ تفرض قواعد خاصة بها تُفجّرها من داخلها. وقد مالت هذه النصوص؛ نصوص الومضة والهايكو والأمثولة والنبذة تحديدًا، إلى القصر والاقتصاد في اللغة والتكثيف أكثر من ذي قبل، وإلى تشظية وعي الذات بنفسها وبالعالم، مثلما عملت على تشذير البناء النصي وأولت الدالّ الأسبقية في تشييد مُتخيَّلها وشَخْصنته في آن. لم تعد الكتابة مجرد شكل أو أسلوب، وإنما باتت تحمل محتوىً يعكس فلسفة ما، وفهمًا خاصًّا للذات والكتابة واللغة والعالم، لا يخلو من سمت القلق وروح المفارقة الهازئة بمرأى حياة سيميولوجية متفكّكة وعالم يسوده منطق الخلل.
الإصغاء لروح الشعر
من خلال اهتمامك بنقد الشعر تحديدًا، وبحث ممارساته النصّية الجديدة، يلاحظ عزوفك عن كلّ نقاش شكلاني أو تسويغ أيديولوجي. هل للأمر علاقة بوضع تلقّي الشعر وانسحابه من المنصّات الجماهيرية ومنابر السجال “المتهافت”؟
وضع الشّعر العربي تَغيّر، لا أقول إلى وضع أسوأ أو أقلّ اعتبارًا، بل إلى ظروف أخرى تبعًا لـ(إبيتسم) العصر. نماذج النقد الشعري التي سادت منذ بدايات القرن هي انعكاس لمرحلة سياسيّة وسوسيوثقافية عاشها هذا الناقد أو ذاك وتأثّر بها على نحو من الأنحاء، واستجابة طبيعية لما تقوله النصوص الشعرية وقتذاك. فلا يمكن – مثلًا- أن نفهم نقود ميخائيل نعيمة، أو طه حسين، أو محمد مندور، أو محمد خليفة التليسي، أو عباس الجراري، أو نازك الملائكة، أو إحسان عباس، أو كمال أبي ديب، بدون أن نستقرئ أسئلة تلك المرحلة وسجالاتها وخصوماتها العنيفة. ولكن نرى اليوم بعض الناس يتحاملون على الشعر من موقف أخلاقي وأيديولوجي ضيّق، وبعضهم يُتفّه خطابه ويُرْجع وضعه الحاليّ إلى سوء فهم رسالته، ومقاييسهم في الكلام تتمّ على ما جرى. فليس من المقبول أن نكرّر الموتيفات السابقة وألا يتغيّر خطابنا حول الشّعر. ونحن إذا عدنا فلكي نستفيد منها ونتبيّن مواطن الضوء فيها، لأنّها صارت جزءًا من تراث الفكر النقدي.
بالنسبة إليّ، أحاول أن يكون خطابي حول الشعر وليد مرحلته التي يعيشها الآن، وهي مرحلة خفت فيها الزعيق الأيديولوجي وخفّ عبء السياسي على الثقافي والجمالي، وأن يكون مُصْغيًا لروح الشعر المعاصر وأسئلة تلقّيه من منظور إبستيمولوجي. وفي هذا الصدد، بحثتُ تحوّلات المعنى في الشعرية العربية وكيف انتقل الاهتمام به من تراتبية المدلول وأسبقيّته إلى الاهتمام بدلاليّة الخطاب في سياق ما حدث من إبدالات معرفيّة وجمالية. ثُمّ درستُ إيقاع الشعر بعد تحريره من نظريّة العروض وأقيسته الثابتة بشكل يُساعدنا على فهم عمل الإيقاع وإمكاناته الثرّة في شعر اللغة العربية، وهذا ما يترتّب عليه الوعي بمشكلات التقابل الداخلي بين الشعر والنثر، وفكّ الارتباط والخلط القاسي بين الإيقاع والوزن الذي لا يسهم إلا في تعقيد وضعية الكتابة. وحاليًا، ينصرف جهدي إلى قراءة السيرة الذاتية في الشعر وتأويل اشتغالاتها الخاصة عبره، بعدما لفت نظري أن المكوّن السيرذاتي لم يعد الأمر مُجرّد إشارات أو مقاطع عابرة يتلبّسها الملفوظ الغنائي مثلما كان في معظم أزمنة الشِّعر، بل ارتقى هذا المكون في الشعر إلى درجة عالية من الفعل والحضور، وذلك في ظلّ تغيُّر أوضاع الدالّ الشعري، وانحسار صوت الأيديولوجيا المعمّمة، وأزمة الذات المعاصرة، وبروز حساسيّات جديدة قادمة من الأطراف المنسيّة ومسحورة بالمكان الشخصي (السودان، سلطنة عمان، اليمن، تونس..)، عدا التداخل النصي للأنواع أو التخلُّل الأنواعي الذي كسر الحدود بين الشعري والسردي.
إملاءات الحدس الشعري
هل استطاع الوعي الشعريّ، كما تمثّل عليه، أن يعيد تحديد السيرة الذاتية ويفقدها صلاحيّتها، وذلك عندما تنتقل من النثر إلى الشعر باعتباره خطابًا ذاتيًّا وفعالية لُغويّة خاصّة؟
عندما تنتقل السيرة الذاتية إلى الشعر؛ فإنّ هذه السيرة تتخفّف من قواعد تآلفت معها داخل السرد لتتخذ صيغًا وممكناتٍ جديدة نابعة من إملاءات الحدس الشعري. لهذا، علينا أن نُحرّك مفهوم السيرذاتي ولواحقه (النثر، الاسترجاع، الذات، المرجعية، التطابق الاسمي..)، وذلك حتى نجعله يتجاوز المتن السرديّ كما تمّتْ دراسته والتنظير له، ويعنى بكيفيّات صوغه شعريًّا، أي بالممارسة التي اتخذتها مُكوِّناته ضمن السيرورة الشعرية التي تتسم بالتشذير والتشظّي أكثر منه بالانتظام والمطابقة، وهي اليوم بالغة التنوّع والرهافة.
انفصال عن المرجع
في كتابك الجديد المعنون بـ”سير الشعراء: من بحث المعنى إلى ابتكار الهُويّة”، نتوقّف عند هذا التصوّر الإجرائي في تحليل السير التي كتبها الشعراء. إلى أيّ مدى يُمكن الحديث عن سيرة شعرية لا تُبنى من القبلي والمرجعيّ بل من المحتمل والمرجأ باستمرار؟
في هذا الكتاب درستُ ثلاثة أنواع السير التي كتبها الشعراء: سير ذاتية، وسير ثقافية موازية، وسير شعرية. كان قصدي من النوعين الأوّلين إبراز التباس الحدود بين الشعري والسردي الذي أتاح الحوار الأنواعي على صُعد اللُّغة والبناء ومتخيَّل الكتابة، أو التعرّف على ثقافة الشاعر المعاصر وحدوساته النظرية والتأمُّلية، وأما في السيرة الشعرية، أي انتظام السيرة داخل الشعر، فإننا صرنا لا نتعرّفُ على سيرة ذات الشاعر إلّا وفق ما يمليه عليها المشروع السيرذاتي الذي بات ينزاح عن التاريخيّ والمرجعيّ، ولم يعُد يرتبط بواقع ثابت وقارّ، أو هو يتطابق كُلّيًا أو شبه كلّي مع إحالاته التي كانت تتقيّد بالقناع، وإنّما أصبح ينفصل عمّا يشدُّهُ إلى المرجع ويكفُّ عن أن يكون هو نفسه، فما يُنْجز سيرذاتيًّا لا يتمُّ إلا عبر سيرورة الكتابة ودلاليّتها الخاصة فحسب. فالمشروع يصير تحويليًّا يعيد إحياء ما انقطع في التاريخ، أو هو يحيل على وقائع من محكيّ حياة الشاعر ولكن سرعان ما يفسخها خارج كلِّ ميثاق بواسطة آليّات إعادة الكتابة والمحو واللعب.
في شعرنا المعاصر نجد هذا النوع من السيرة الشعريّة لدى شعراء مارسوا على ما يكتبونه وعيًا سيرذاتيًّا بقدر ما مزجوا هذا الوعي بخبرة الحياة وشرط التخييل وفعاليّته التي تُحرّر الأنا من وعي التاريخ وتُطلق إمكاناته في شبكة هائلة من التخييل، مثل وديع سعادة، وصلاح فائق، وسيف الرحبي، ومحمد بنطلحة، وأحمد الشهاوي.
خطورة قصيدة النثر…!
هل هذا الشعر كما أفهم يخصّ فقط قصيدة النثر؟
ليس دائمًا، فإلى جانبها ثمّة تعبيرات شعرية، وزنية وشذرية، يمكن أن تحتضن السيرذاتي. غير أنّ خطورة قصيدة النثر تكمن في أنّه لا شكل محدّدًا لها، فهي قد تكون على نمط السطر، أو على الكتلة أو مزيجًا بينهما، وقد تطول فقراتها أو تقصر تبعًا للموضوع. كما تكمن في أنّه لا يمكن أن نضع لها شروطًا، وأن نقول ينبغي أن تكون كذا وكذا، لأن هذه القصيدة هي في الأصل جاءت ضدّ إملاءات السنن الشعري التقليدي وقوانينه السابقة، واستبدلت بالوزن فاعليّة الإيقاع الذي يرتفع بمواجع الذات وأشواقها الحرّى ولا يحدُّ من حركة السرد كفعاليّة سيميائية بقدر ما ينفتح على مدوّنة الكلام الإنساني الذي يمتحن سؤال البحث عن النفس ومعرفتها في الوجود وعبره. مثل هذه المرونة التي تتميز بها قصيدة النثر هو ما يجعلها أكثر من غيرها استعدادًا لتخييل آثار الكتابة، بما في ذلك الأثر السيرذاتي.
الشعر لا يُقارن بأجناس أدبية أخرى
نلمس من حديثك إيمانًا بالشعر وضرورته في حياتنا، ولكن في المقابل نسمع باستمرار عن أزمة الشعر، وعن دوره الذي أخلاه لفنّ جماهيري مثل الرواية. هل هو سلاح مقاومة في أرض ملغومة؟
قد يكون مثل هذا السلاح فرض كفاية، ولكن ليس على شاكلة (درع أخيل). لقد صار من المعتاد أن نسمع دعاوى القائلين بأنّ الشعر خفت صوته وانحسر دوره، أو أنّه يمرّ بأزمة حقيقيّة تهدّد وجوده، أو أنّه لم يعد يستأثر بأولوية لدى الذائقة المعاصرة بفعل بروز فنون أخرى أكثر جاذبيّة وتمثيلًا لحركة المجتمع، مثل فنّ الرواية، أو أنّه يمثل ارتدادًا عن منجز القصيدة العربية. أعتقد أن هذا الكلام من تكرار المملّ صار سخيفًا ولم يعد يعير انتباه أحد.
الأزمة طبيعية وعلامة عافية وليست دليل إدانة، لأنّها تخص فنًّا حسّاسًا وخطيرًا مثل الشعر، وتمسّ علاقة فاعليه المستمرة في كل الأزمنة بذواتهم ورؤاهم للأشياء والقيم والعالم.
لهذا، لا يصحّ أن نتناول قضية الشعر المعاصر تحت تأثير أرقام أو إحصائيات آنيّة ومفبركة، أو نقوم بمقارنته بجنس أدبي آخر مثل الرواية التي صعدت بحكم شروط ليست دائمًا شروطًا فنّية بالضرورة، أو نتناوله بمعزل عن هذه التحوّلات بانفجاراتها وهجراتها وإحباطاتها وموجات اليأس والشك والعدمية التي أشاعتها. فالاقتراب من هذا الشعر يلزم تغيير زاوية النظر إليه وتجديد أدوات تحليله على نحو ما يميط اللثام عن مدى الإضافات النوعية التي تخلّقت في رحم التجربة الشعرية، وينقض المقولات المتحجّرة التي تعمى عمّا جرى للشِّعر وفي نهر الشعر من مناخ جديد ألقى بظلاله الكثيفة على طبيعة لونه ورائحته ومدى عمقه.
الشعر ليس من جنسه تهافت الرواية ولا شهرتها التي تتداخل فيها عوامل ذاتية وإبداعية (ممكنات الفضاء الروائي المغرية)، وأخرى خارجية (الجوائز، جاذبية الإعلام، الشهرة والانتشار..). وإذا كان بعض الشعراء في هذا العصر قد جرّب كتابة الرواية فعن ميلٍ إبداعيٍّ، وهو ما نتج عنه إضافات مدهشة بسبب روح الشعر التي يمكتلونها (جبرا إبراهيم جبرا، سليم بركات، إبراهيم نصر الله..)، وأما أولئك الذين يقولون ضاقوا ذرعًا بالشعر، فليس لهم ما يقولونه فيه ولا في غيره.
التنقيح وإعادة الكتابة
كيف تنظر إلى ظاهرة التنقيح وإعادة الكتابة؛ هل هي تدلّ على غياب نضج وضعف فنّي، أو سيرورة إبداع؟
هي ظاهرة طبيعيّة؛ لأنّ العمل الفنّي هو بطبيعته مفتوحٌ يحتفي بجماليّات النقصان وتخترقه البياضات، وهو سيرورة لا نهائية بتعبير أمبرتو إيكو. لكن وجدتُ أنّهُ قلّ بين كُتّابنا من يهتمّ بالتنقيح والمراجعة في وقتنا الراهن لأسباب ذاتية وموضوعية، وقلّ أن تجد على أغلفة الكتب صفة “طبعة منقحة ومزيدة”، ولا سيما في مجال الإبداع الأدبي (شعر، رواية، مسرح..)؛ لأنّ هذه الصفة يكاد يستأثر بها التأليف الفكري بمختلف مجالاته الدينية والفلسفية والنقدية، الذي وضعه علماء ومفكّرون لهم صيت وسمعة بين جمهور القرّاء، أو كانت آراؤهم موضع سجال لفترة ليست بالقصيرة؛ بمعنى أصبحت لها قدرة في تاريخ الأفكار، على مواصلة حوارها وتفاعلها مع التحوُّلات الجارية. ورُبّما استشهدتُ، هنا، بالمفكر المغربي عبد الله العروي الذي عاد إلى كتابه ذائع الصيت “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” منذ صدوره قبل نصف قرن من الزمان.
ولا أجد ما يناقض الأمر أن يعود الشاعر – مثلاً- إلى دواوينه السابقة من أجل تنقيحها والعمل عليها في الحاضر، وذلك قياسًا إلى خبرة الحياة ونضج الوعي الجمالي. ومن ثَمَّة لا أتّفق مع من يرى في هذه العودة بكونها سُبّة أو إقلالًا من قيمة نصّ الشاعر، كما لا أتفق في أن يتنكّر أحد الشعراء من المشاهير لباكورته الشعرية التي عادةً ما تحمل التوقيع الأول والواعد لتجربة تواجه مصيرها التالي بثراء وعنفوان، بمن فيهم محمود درويش.
غيابات كثيرة
كيف ترى مستقبل الثقافة العربية في ظلّ الانهدام الحضاري وفقدان الثقة بين الشباب؟
لا يمكن لنا أن ننكر أنّنا اليوم نعيش حركة ثقافية ونتفاعل مع ثمارها، غير أنها معرضة للتشويه والهدم في أي لحظة، بسبب كثرة الغيابات: غياب بنيات الاستقبال الضرورية، غياب دعم الدولة اللازم للفاعلين في الحقل الثقافي بلا إقصاء أو تمييز، غياب قواعد الشفافية والاعتبار بمبدأ الكفاءة، ثم غياب خطط المستقبل على المديين القريب والمتوسط، وهذا ما ينخر العمران من الداخل ويفقد شبيبتنا الثقة بنفسها
لنقُلْ إن ثمّة خَوْفًا غير مُبرّر مما هو ثقافي، يساهم فيه ويُشيعه قطاعٌ من المثقّفين أنفسهم، أولئك الذين تخلّوا عن مشاريعهم في الفعل والتغيير، وانكفأوا على ذواتهم، متواطئين ومتلذّذين ببرق السلطة الخُلّب، وعمائها الآنيّ. وهو ما يوحي بأنّ هناك أزمةُ في الجسد الثقافي، واختلالًا في أدوات تحليله للواقع العربي، الذي يُوهم بأنّ كلَّ شيءٍ يتغيَّر. لكنّنا لا نُدافع، بشكل سمجٍ، عن استقلال المثقّف. إنّ عمله العقلاني الملتزم بالسياسة دون أن يكون ذيْلًا لها، قد يكسب رؤيته للأشياء عمقًا ونفاذ ذهنٍ ورأيٍ يحتاجهما، دائمًا، في تفكيك آليّات السلطة وفضح ممارساتها، وفي الإصغاء لهموم عصره ومجتمعه، حارصًا على ثرائه المعرفي وتجديد أدوات ثقافته وقيمها الحيّة. وهو، بهذا الانخراط، قد يقطع الطريق على أدعياء السياسة الذين اتّخذوها سلعة للارتزاق، ويناضل من أجل تخليق الحياة السياسية التي لن تقوم إلا على قاعدة الثقافة في تعدُّدها واختلافها، ويبقي الباب مفتوحًا للمساءلة والنقد لوقف التدهور وإعادة الاعتبار لدور المثقف الأخلاقي فعلًا وممارسة.
لا يمكن أن نفصل المسألة الثقافية عن بقية المسائل الأخرى الأكثر تعقيدًا واستفحالًا، وفي مقدمتها ما هو سياسي وحضاري عام. واسمح لي هنا أن أُعبّر عن عدم رضاي مما يحدث في واقعنا العربي، بل عن غيظي الشديد منه: عنف، إرهاب، صراعات وانقسامات سياسية، مشاهد خراب، أمواج نازحين، ثُمّ – وهنا المفارقة المضحكة المبكية- لا أحد يتحدث عن عدالة القضية بعد أن اتّسع الخرق على الراقع.
إننا إذ نلقي نظرةً على خريطة العالم العربي الممزق والمهان، نشعر كأننا نسقط في هوة يأسٍ ما لها قرار. هل انحطّ الفكر العربي إلى هذا الحد؟ أين غاب المثقفون بعدما كانت تحليلاتهم تغص بها الصحف والمجلات، ولا سيما بعد أحداث (الربيع العربي)؟ ما دور مؤسسات الجامعة العربية التي أبانت قممها عن فشل ذريع في تدبير مآزق هذه المرحلة التي ستجرف الجميع حكّامًا ومحكومين؟
لكن مع السواد القاتم الذي تبعث عليه مسارح الحياة في راهننا العربي البئيس، فإننا مع ذلك نظلُّ “محكومين بالأمل” على حد تعبير سعد الله ونوس، وقد يصدق ما قاله برتولد بريخت: “غدًا لن يقولوا كانت الأزمنة سيئة.. سيقولون: لماذا صمت الشعراء !؟”.