ترجمة غريب اسكندر
شاعر ومترجم عراقي
شاعر ومترجم عراقي
(1) أُغنِيَتان من الإسكيمو
الهُرُوبُ من الأبَديَّة
دونما اعتبار جاءَ الإنسانُ هائمًا في الأرض
دونما عينين ودونما فمٍ، بوجهٍ أجرَدَ جاءَ هائمًا
كانَ يعلمُ أنَّه داسَ على حجرِ المَوْتِ
كانَ يعلمُ أنَّه شبحٌ، هذا كلّ ما كان يعرفه.
هاربًا من مليون سنة تحت الحجر
وجدَ يَرَقَانةً، لكنَّ البرقَ ضربها
فتحولتْ إلى دخانِ إِكلِيلٍ يحترقُ على كفِّهِ المُخدَّرة.
هارباً من مليون سنة تحت الحجر
وجدَ سمكةَ سَلْمُون مُرَقّطةً،
لكنَّ صَقِيعًا وَهّاجًا سقطَ من احتراقِ نجمةٍ
فتّتها إلى بَلَّوْر.
هاربًا من مليون سنة تحت الحجارة
وجدَ فأرًا، لكنَّ تَنْهِيدَةَ الزمن
طَحَنتْهُ حتّى المفاصل.
ضربته صخرةٌ حادةٌ تسببتْ في جروحٍ في وجهه
فنظر إلى الأرض عَبرَ الدّمِ والألم.
جُرحَ مرةً أخرى بشكلٍ أعمق
فصرخَ على الضَّوْءِ والصَّقيعِ والزمنِ عَبرَ الدّم والألم.
بعد ذلك، وبينما كان ممددًا وسط العظام على أرض المقبرة
رأى امرأة تغني من جوفها
أعطاها عينين وفمًا مقابل الأغنية
فذرفتْ دمًا وبكتْ ألمًا.
كان الألمُ والدّمُ حياةً. لكنَّ الرجلَ ضحكَ –
كانت الأغنيةُ تستحقُ ذلك.
لكنَّ المرأةَ شعرتْ بالخديعة.
كيفَ بدأَ الماءُ يلعب
أرادَ الماءُ أن يعيشَ
ذهبَ إلى الشمس
وعاد باكيًا
أراد الماءُ أن يعيشَ
ذهبَ إلى الأشجار فوجدها تحترق
وعاد باكيًا
لقد تعفنت الأشجارُ هي الأخرى
وعادت باكية.
أراد الماءُ أن يعيشَ
ذهبَ إلى الزهور فوجدها تتغضن
وعاد باكيًا
أرادَ أن يعيشَ
ذهبَ إلى الرَّحِم فشاهد الدَّم
وعاد باكيًا
ذهبَ إلى الرَّحِم فرأى اليَرَقةَ وانحلالها
وعاد باكيًا.
أرادَ أن يموتَ
ذهبَ إلى الزمن
فدخله من الباب الحجري
وعاد باكيًا
ذهبَ إلى كلِّ الأزمنة
إلى كلِّ الأمكنة
باحثًا عن العدم
وعاد باكيًا.
أرادَ أن يموتَ
لم يتبقَ عنده دمعٌ يبكيه
فتمددَ هناك
في قاعِ الأشياء
الغامضة تمامًا الواضحة تمامًا.
(2) أمٌّ خَضْرَاء
لماذا أنتَ خائفٌ؟
في بيت الموتى ثمة العديد من الأسِرَّة
الأرضُ خليةٌ مزدحمة بالجِنان
ورقة يانصيب واحدة لا يمكن التفريط بها.
هنا جَنَّة الشجرة:
حيث تأتي الملائكة وتستعيدك.
وهنا أيضًا جَنَّة الزهور:
نعيم دائم ينبض في هناءة النوم.
وهنا جَنَّة الديدان-
الله غفور
سيرفضُ القليلَ منك-
لكنَّ ملائكة الزهور، مسرورة، ستدَّخِره لك.
ها هي جَنَّة الحشرات
حيث يمكنك التسلق
إلى جَنَّة الطيور،
إلى جِنان الدواب والأسماك.
هذه عينة من الجِنان
ليس كل شيء في نطاق اختيارك
هناك أيضا جِنان قناعاتك.
على أضواءِ الشموع
تجمدتْ صلواتُكَ مثلَ نجمةٍ أو ملاك-
مدينةُ الأديان
مثلُ مدنِ الفنادق، مدن الإجازات
سأكون أيضا دليلك فيها
لا يوجد في أيٍّ منها طعمُ الموت
ينطق بأسماء الفقراء.
هذه الأرضُ أجمل من جميع الجِنان.
إنها أمُّ الجِنان.
القبرُ ثديُها، حلمتُهُ هالتُها القاتمة.
حليبُها حياةٌ لا تنتهي.
سترى
كيف تمسحُ وجهَ طفلِها بلطفٍ
من قارِ الدم ودخان الدموع.
(3) بيبْروك*
يبكي البحرُ بصوتٍ فارغ
يعاملُ موتاه وأحياءه بالمثل،
ربما يشعرُ بالملل من إطلالة السماء
بعد ملايين الليالي من دون سكون
أو هدف أو زيف!
الصخورُ كذلك. لا مثيلَ
في الكون لسجن الحصاة.
خُلِقتْ للسكون القاتم
خُلِقتْ لتدركَ، من حين لآخر،
عينَ الشمس الحمراء
وتحْلُمَ بها جنينًا للسماء.
فوق الصخور تندفع الريحُ،
التي تتكفلُ بمعاشرة العدم،
كصخرٍ أعمى يصغي إلى نفسه
أو روحٍ حجرية تتحسسُ
جِمَاحَ المسارات.
تشربُ بحرًا وتأكل صخرًا
تعاني الشجرةُ كي تنتجَ أوراقًا-
سقطت امرأةٌ عجوزٌ من الفضاء
من دون أن تستعدَّ لمثل هذه الحادثة
ولأنَّ عقلَها اختلَّ تمامًا
فقد تشبثتْ بالحياة!
دقيقةً بعد دقيقة، ودهرًا بعد دهر
لا شيءَ يغور أو يتنامى
وهذا ليس سوءًا أو اختبارًا.
هذا هو المكان الذي تُحدِّقُ به الملائكة
هذا هو المكان الذي تنحني فيه النجوم.
(4) نَسَب
في البدءِ كانت الصرخةُ
التي ولَدت الدَّمَ
الذي أنجَبَ العينَ
التي ولَدت الخوفَ
الذي أنجَبَ الجَنَاحَ
الذي أنجَبَ العظمَ
الذي أنجبَ حجرَ النار
الذي أنجَبَ البَنَفسَجَ
الذي أنجبَ القيثارةَ
التي ولَدت القلقَ
الذي أنجبَ آدمَ
الذي أنجبَ مريمَ
التي ولَدت الربَ
الذي أنجَبَ العدمَ
الذي أنجَبَ الأبَدَ: الأبَد الأبَد الأبَد
الذي أنجَبَ الغرابَ
يصرخُ من أجلِ الَّدم، الحشرات وأديم الأرض،
يصرخُ لأجلِ أَيّ شَيْءٍ،
بينما مِرفَقاه يرتجفان، بلا رِيش، في قذارة العُشّ.
(5) لاهُوت
لا، الأفْعَى لم تغوِ
حَوّاءَ بالتفاحة.
كان هذا، ببساطةٍ،
تشويهًا للحقائق.
أكلَ آدَمُ التفاحة.
فأكلتْ حَوّاءُ آدَم.
ثم أكلت الأفعَى حَوّاء.
هذا هو سببُ الأمعاء الداكنة!
في أثناءِ ذلك
كانت الأفعى تنامُ متنعمةً في الجنة-
تبتسمُ لسماع
دعوةِ السماءِ المتشكية.
(6) موقف الغراب الأخير
يحترقُ
يحترقُ
يحترق
كان ثمة شيءٌ في الأخير
لم تستطع الشّمسُ أنْ تحترقَ
لقد صيّرتْ كلَّ شيءٍ عقبةً أخيرة
فاستعرتْ وتَفحمتْ
وتستعرُ وتتفحمُ
واضحةٌ وسطَ جمرِ الأتُّون الغاضب
الألسنةُ الزرقاءُ الخافقة وكذا الحمراءُ والصفراءُ
اللعقاتُ الخضراءُ للمحرقة الهائلة
واضحٌ وأسود-
بؤبؤُ عين الغراب، في برج حصنه المحترق.
(7) امتِحانٌ عندَ بابِ الرَّحِم
مَنْ يَمْلِكُ تلكَ الأقدامَ الصغيرةَ النَّحِيلةَ؟ الموت.
مَنْ يَمْلِكُ هذا الوجهَ المحترقَ الخشِنَ؟ الموت.
مَنْ يَمْلِكُ هاتين الرئتين المُنهَكتين؟ الموت.
مَنْ يَمْلِكُ هذا المِعْطَفَ النافعَ من العضلات؟ الموت.
مَنْ يَمْلِكُ هَذِهِ الأحشاءَ المريعة؟ الموت.
مَنْ يَمْلِكُ هَذِهِ العقول المُرِيبة؟ الموت.
كلَّ هذا الدَّم المُضطَرِب؟ الموت.
هَذِهِ العيونَ الكَلِيلةَ؟ الموت.
هذا اللسانَ الصغيرَ الشّريرَ؟ الموت.
هَذِهِ الاستِفَاقَةَ العابِرةَ؟ الموت.
هذا المُباحَ المَسلُوبَ الذي ينتظرُ الحساب؟ المُعتَقَل
مَنْ يَمْلِكُ كلَّ هَذِهِ الأرضَ الممطرةَ الصخريةَ؟ الموت.
مَنْ يَمْلِكُ كلَّ هذا الفضاء؟ الموت.
مَنْ هو أقوى من الأمل؟ الموت.
مَنْ هو أقوى من الإرادة؟ الموت.
أقوى من الحب؟ الموت.
أقوى من الحياة؟ الموت.
ولكنْ مَنْ هو أقوى من الموت؟
أنا، من الواضح.
اخرجْ أيُّها الغراب.
(8) المُتَّهَم
يعترفُ بأنَّ جسدَه-
قبضةُ خناجر.
وبأنَّ جلدَه-
نسرٌ يرقصُ ملطخًا وصارِخًا.
أما قلبُهُ –
فطاغيةٌ مُتَبَّلٌ بالروح.
يعترفُ بأنَّ بطنَهُ –
إلهةٌ تأكلُ الجثث.
وشهوةَ حياتِهِ الشَّرسة
بَجَعَةُ تخصيبٍ عمياء.
وعقلَهُ القاسي- اغتيالٌ مقدس.
على جبلٍ صخري مُقرَّن باللهب، تحتَ قرصِ الشّمس،
يكدسُهم واحدًا واحدًا للحساب.
وكما في الأشعة السينيَّة، تتصَلَّبُ ذراتُهُ
من زَيَغان دمائهم هناك-
جسدُهُ الموحلُ، سيدُ هذا الركام،
مَنجمُ رمادٍ قُزَحي وغِبطةٌ أبدية.
(9) زَهرةُ الثَّلج
تَقَلَّصَ الكونُ بشدةٍ الآن
حولَ قَلبِ الفأرِ الباهتِ الشَّتْوِيّ.
يتحركُ ابْنُ عِرْس والغرابُ في ظَلامٍ خارجي
وكأنهما صُبَّا في نحاس،
لم يكونا منطقيين إزاء الميتات الأخرى.
هي، أيضًا، تسعى وراءَ غاياتِها
العَصِيّةِ كنجومِ هذا الشّهر،
رأسُها الشّاحِبُ ثقيلٌ كمَعدِن.
(10) ثَعْلَبُ الفِكْرَة
أتخيلُ غابةَ هذِهِ اللحظةِ من منتصفِ الليل:
ثمة شيءٌ آخَر حيٌّ
فضلًا عن وَحشَةِ الساعة
وهذِهِ الصفحةِ الفارغةِ حيثُ تتحركُ أصابعي.
لا أرى نجمًا خلال النافذة:
سوى شيءٍ أكثر قربًا
أكثر غموضًا في الظلام
يلجُ الوحدة:
باردًا، ورقيقًا كثلجٍ داكنٍ
يلامسُ أنفُ الثَّعْلَبِ غصنًا صغيرًا، ورقةً؛
فتعزّزُ عيناه حركتَهُ، الآن
ومرة أخرى الآن، الآن، بلى الآن
وبين الأشجارِ، وبحذرٍ أعرجٍ
يتوانى الظلُ في بقايا الغصن
وفي أعماقِ الجسدِ الذي يغامرُ على الاقتراب
وعبر ممراتِ الغابةِ، عينٌ،
خُضرَةٌ تتَّسِعُ وتعْمُقُ،
جاءتْ، بكلِّ ما لها من مهارةٍ وتركيز،
كي تنجزَ مهمتَها
كي تلجَ فَجوَةَ الرأسِ القاتمةَ
بنَتَانةِ الثَّعْلَبِ الحادةِ الحارةِ المفاجئة،
لا تزالُ النافذةُ من دون نجوم؛
فالساعةُ تَتِكُّ، والصفحةُ تُطبعُ.