(1)
في البحث الدائب عنه، لم نعثر على ما يشي باهتمامات غسان كنفاني السينمائية (1)، ربما باستثناء إشارة عابرة توميء الى أن غسان كان قد كتب سيناريو ليوسف شاهين بعنوان "أزهار الخوخ" أو (زهر البرقوق ) (2)، مما يحيلنا فورا الى عنوان روايته التي لم تكتمل.. "برقوق نيسان" ويدفعنا الى مزيد من البحث والتقصي!
وسواء ثبت لنا انشغال غسان كنفاني في الكتابة السينمائية أو لم يثبت، فإن الباحث عن عين غسان السينمائية سوف يجدها، بصفائها وحساسيتها، حاضرة في رواياته المكتملة وغير المكتملة (3).
وفي عودة الى فيلم "المخدوعون" الذي أخرجه توفيق صالح في العام 1971 عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" لعقد مقارنة سريعة بين الشريط السينمائي والكتاب، فإننا نعثر منذ اللحظة الأولى على تطابق بين المشهد الأول للفيلم والفقرة الأولى للرواية، وتكاد خيوط الامتداد والتواصل بينهما لا تنعدم حتى تخوم النهاية. ولعين الناقد أن تلحظ حتى أن اندفاع تيار الوعي في رواية كنفاني، يقابله عند النقطة ذاتها قطع مونتاجي في الفيلم وارتداد الى أحداث وذكريات الماضي نفسها، كما تدفقت من قبل في وعي شخصيات الرواية.
الاخلاص لرؤية غسان كنفاني، هو الذي ميز عمل توفيق صالح، بغض النظر عما أضافه المخرج من تفاصيل تضيء الفكرة، أو أسقط من النص جملا فائضة عن حاجة الشاشة، أو عدل قليلا بما تقتضيه متغيرات الزمن بين صدور الرواية وعرض الفيلم، وما تفرضه عليه رؤيته هو
كمبدع.
إذن لم تكن الترجمة السينمائية الحرفية للنص الروائي هي سر تميز "المخدوعون" وإنما الجدلية الصامتة بين القطبين، أي بين مبدعين ووعيين، والتي انتجت عملا آخر يفترق حينا ليتقاطع أحيانا مع أصله المكتوب ويضيء زواياه المعتمة. ولعل تلك الاضاءة، هي التي جعلت غسان كنفاني يكتشف – بعد مشاهدته الفيلم بمنظور جديد – أن شخصياته، بحواراتها وأفكارها وجذورها الاجتماعية وطموحاتها، وأحلامها، كانت متقدمة عن الأفكار السياسية للكاتب عندما انتج الرواية. وعلى ضوء ذلك وجد غسان في نفسه قدرا من الجرأة ليقر أن فيلما مأخوذا عن روايته، ساعده في كشف داخلي لحقيقة أن شخصيته كروائي كانت أكثر تطورا من شخصيته كسياسي (4).
(2)
لست موقنا إن كان غسان كنفاني قد شاهد فيلم "السكين" الذي أخرجه السوري خالد حمادة عن رواية "ما تبقى لكم"، إذ أن سنة انتاج الفيلم (1973) كانت هي نفسها سنة رحيل غسان..
وإذا كان غياب غسان قد شكل فجيعة لمحبيه، فإن "سكين " خالد حمادة قد خذلهم على الشاشة، مشاهدين ونقادا وسينمائيين، بحيث أن ذاكرة السينما السورية التي أنتجته باتت تتذرع بالنسيان، فلا تذكره إلا من قبيل الأرشفة والتوثيق !
ولم يكن "الكلمة – البندقية" لقاسم حول (1972) فيلما يشتق صورته من كلام لغسان، وانما عن غسان شهيد الكلمة، وتحية تسجيلية وثائقية في عشرين دقيقة للكاتب، المناضل، الشهيد (5).
لقد كان لتلك التحية أن تكتفي بحدودها، لولا إصرار قاسم حول على اخراج "عائـد الـى حيفـا" (1982)، فيلما روائيا طويلا عن عمل غسان الذي يحمل العنوان ذاته، ليضيف سكينا آخر الى جانب سكين خالد حمادة..
يقينا أن نوايا قاسم حول لم تتخط الاخلاص الشديد والحرفي لرواية غسان (6)، غير أن عجز المخرج عن إيجاد المعادل السينمائي البصري المقنع لحركية الرواية وطروحاتها الذهنية الحادة في وضوحها، إضافة الى فقر أدواته الفنية والتقنية، كل ذلك وضعنا أمام فيلم سينمائي ينسخ رواية كنفاني بشكل باهت بصريا، ومهتز تقنيا، ومباشر في طرح الأفكار على ألسنة شخصياته بفجاجة سياسية لا تراعي شروط الخطاب السينمائي، وكونه ينتمي في الأساس الى حقل الابداع لا الى الموعظة والتبشير.
(3)
أمام سينما إيرانية متقدمة، تستثمر غسان كنفاني وتعيد إنتاجه برؤيتها وبكفاءات تمثيلية عربية (سورية ) (7)، نعيد الى قاسم حول، رغم كل ملاحظاتنا على فيلمه، اعتبار المشهد الأ ساس في الفيلمين. ونعني مشهد الخروج من حيفا..
يتقدم فيلم "عائد الى حيفا" عن الفيلم الايراني "المتبقي" للمخرج سيف الله داد، الذي يستثمر رواية غسان كنفاني نفسها، في هذا المشهد الذي يعتمد على تحريك المجاميع الشعبية أثناء الهجوم الصهيوني على حيفا. ويبدو أن زمان ومكان تصوير المشهد كان لصالح الفيلم الأول، إذ اختار قاسم حول في مطلع الثمانينات،زمن تصوير الفيلم وزمن وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان، سكان مخيمي البداري ونهر البارد في طرابلس لبنان لتصوير مشهد الخروج.
لم تكن جموع الناس في هذا المشهد تمثل، وإنما تعيد لحظة قاسية بعضهم عايشها جسديا، والآخر من خلال ذاكرة آباء أسرفوا طويلا في وصفها فأصبحت ملكا لتجربة الأبناء أنفسهم.وعلى النقيض من ذلك جاء مشهد الخروج في "المتبقي" الايراني باهتا، إذ بدت جموع الناس وكأنها ليست مهيأة إلا للهروب العشوائي.. وكانت حركتها بليدة وانفعالاتها باردة، ومقاومتها متواضعة. ومما أسهم في هبوط المشهد، عدم التفات المخرج الى وصف غسان كنفاني لرحيل الناس في الزوارق من البحر، فكانت حيفا سيف الله داد بلا بحر، رغم انه صور الجزء الأخير من الفيلم في مدينة اللاذقية السورية، الواقعة على شاطيء البحر!
إن المقارنة بين المشهدين في الفيلمين تفضي الى حقيقة ان الحرارة والصدق، إذا لم يتوافرا في الجموع (الكومبارس)، فإن الافتعال يمكن أن يجهز على واحد من أكثر المشاهد أهمية في الفيلم.. وربما أكثرها كلفة وبذل جهد، وهو ما حصل في "المتبقي" الايراني.
غير أن ذلك المشهد لم يكن خطيئة الفيلم الوحيدة، وإنما جزء من رؤية متكاملة، فنيا وايديولوجيا، حورت رواية غسان كنفاني وسطت على بعض عناصرها، واقترحت علينا أن نرى غسان كنفاني في رداء ايديولوجي إيراني؟!
(4)
ينهض فيلم "المتبقي" للمخرج الايراني سيف الله داد، على خيوط يستلها من رواية غسان كنفاني "عائد الى حيفا" ليطرح رؤيته الخاصة التي تفترق بشكل فادح مع رؤية غسان، وخطابه الروائي والايديولوجي(8).
لم يشر سيف الله داد في "تيترات" مقدمة الفيلم الى غسان كنفاني وروايته، وإنما اكتفى بإشارة مترددة في تيترات النهاية (التي تراهن على جمهور يغادر الصالة المضاءة في تلك اللحظة ).. توميء الى القاء "نظرة" على كنفاني و"عائد الى حيفا"!
تتجلى تلك النظرة في بناء سيناريو يتقاطع جزئيا مع رواية غسان، ليعود ويفترق معها في الجوهر والتفاصيل، بحيث يشكل نقيضا لمنهج توفيق صالح في اخلاصه الفني والفكري للكاتب وروايته والعمل على اضاءتها عند تحويلها من شكل إبداعي الى آخر. ويتمثل التقاطع الجزئي بين فيلم "المتبقي" ورواية "عائد الى حيفا" في التشديد على حدث تاريخي هو سقوط حيفا عام 1948 وترحيل الجزء الأكبر من أهلها عنها، وحادثة ترك رجل وامرأة لطفلهما الوليد أثناء الهجوم الكبير على المدينة مع استيلاء العائلة اليهودية المهاجرة الى فلسطين على بيتهما وطفلهما.
أما نقاط الافتراق فإنها تحتشد بعد ذلك على امتداد الشريط. فزمن الفيلم يتوقف عند العام 1948 بأحداثه التاريخية مع أنه زمن مرتجع في الرواية التي تبدأ بعد سقوط الضفة الغربية عام 1967.
لن نتابع في الفيلم رواية غسان القائمة على عودة "سعيد س." وزوجته "صفية" الى حيفا بعد احتلال الضفة عام 1967 للبحث عن ابنهما الذي كانا قد تركاه قبل عشرين سنة،ولقائهما به بعد أن أصبح ضابطا في الجيش الاسرائيلي، ذلك لأن فيلم "المتبقي" منحهما الشهادة قبل مغادرتهما حيفا، إذ كانا يحاولان جاهدين الوصول الى بيتهما حيث الطفل. وفي مشهد سقوطهما، رصد المخرج الايراني كما هائلا من عناصر الميلودراما التي تستدرج العواطف الأولية بانفعالاتها الآنية، دون أن تترك أثرا يذكر في الوجدان..
وإذ يحتفظ الفيلم بأسماء كما وردت في الرواية، فإنه يحول بعضها الى شخصيات أخرى زرعها السيناريو في الفيلم دون أن يكون لها وجود في الرواية، أبرزها على الاطلاق شخصية "صفية" والتي هي في الفيلم والدة سعيد، ومحور الفيلم الأساسي.
تلملم "صفية" جراحها بسقوط المدينة والابن وزوجة الابن، وتقرر استعادة حفيدها اليتيم، الذي استولت عليه العائلة اليهودية، وتتحايل بالعمل لدى تلك العائلة كمربية للطفل.. في محاولة لاقتناص الفرصة من أجل استعادته، فتفشل، رغم المساعدة التي تقدمها لها خلية المقاومة الوحيدة التي يقودها زوجها الصحفي المناضل والد سعيد، والذي ينال هو الآخر الشهادة قبل تحقيق حلمه بتفجير قطار صهيوني يحمل الجنود والذخيرة من حيفا الى تل أبيب !!
وتشاء المصادفات التقليدية للميلودراما، أن تكون صفية والعائلة اليهودية، والطفل جميعهم في رحلة القطار تلك. فتحمل صفية وصية زوجها الشهيد، وحقيبة المتفجرات ثم تحتضن الطفل.. وتستقل القطار الذاهب الى مصيره الجهنمي..
وفي مشهد النهاية، يذهب سيف الله داد بالميلودراما الى تجنياتها القصوى، حيث تنسحب صفية والطفل والحقيبة الى مقدمة القطار المندفع بسرعة فائقة، وتجلس هناك لتتلو آيات مطولة من الذكر الحكيم، ولتقفز بعد ذلك من القطار وهي تحتضن حفيدها المتبقي، الصارخ في البرية، مع صوت الانفجار الرهيب.. الذي يمزق الحديد المندفع، والليل، والأعداء!
ما يسجل لصالح "المتبقي" ذلك المستوى الانتاجي الحرفي العالي الذي تميز به الفيلم مقارنة مع فقر هذا الجانب في فيلم قاسم حول، والتقشف الانتاجي في فيلم توفيق صالح..
غير أن الترف الانتاجي، مهما كان باذخا (وهنا لا أتحدث تحديدا عن "المتبقي")، يظل عاجزا عن أن يشكل شفيعا لأي فيلم، وعن الارتقاء بالتقنيات العالية الى مستوى الابداع !
واذا ما دخلنا في التفاصيل الشكلية لفيلم "المتبقي"، فإننا نجد الخلل متغلغلا فيها.. بدءا من الملابس التي لا تمت الى المكان بصلة، وانتهاء باللهجة غير المقنعة، والذي يفاقم من انكساراتها اختلاط العامية الشامية التي تتحدث بها الشخصيات الفلسطينية مع العربية الفصحى التي تتحدث بها الشخصيات اليهودية!
مع ذلك، فإن ما يطرحه "المتبقي" يظل يكمن في الأساس في سؤال مدى المباح فيه عند تحويل عمل أدبي الى عمل سينمائي، ومدى الاخلاص للنص الأصل، سواء في التقاط التفاصيل الدالة الدقيقة، أو في صياغة خطاب سينمائي برؤية جديدة لا تنأى كثيرا أو تتناقض مع جوهر الخطاب الروائي.
الهوامش
1- في كتاب ضم عشرات المقالات الصحفية النقدية التي كتبها غسان كنفاني (ا24 صفحة من القطع الكبير) لم نعثر سوى على إشارة واحدة عابرة توميء الى السينما، حيث يشير كنفاني الى مؤلف كتاب ساخر قائلا أنه "يشبه بوب هوب، بينما نريده شارلي شابلن اقبل اشتراكه في فيلم صهيوني)"، راجع كتاب: غسان كنفاني "فارس فارس"، (جمعه وقدم له محمد دكروب )، دار الآداب ومؤسسة غسان كنفاني الثقافية بيروت 1996.
2- عن حديث أجراه هينبل وخميس خياطي مع المخرج توفيق صالح في أيار/مايو 1976، راجع كتاب وليد شميط وغي فينبل "فلسطين في السينما" منشورات فجر – بيروت – باريس د. ت. (أواخر السبعينات .(
3- لا تندرج في السياق الرواية التي نشرها غسان كنفاني تحت عنوان "من قتل ليلى الحايك" مسلسلة في مجلة "الحوادث " اللبنانية (ابتداء من العدد 502 وحتى العدد 510-حزيران تموز، آب 1966)، والتي قدمت مقترنة بمجموعة كبيرة من الصور الفوتوغرافية التمثيلية برؤية سينمائية أخرجها الناقد السينمائي الراحل سمير نصري. وقد صدرت الرواية بعد سنوات من استشهاد غسان كنفاني تحت عنوان "الشيء الآخر"، مع احتفاظها بعنوانها الصحفي سابق الذكر كعنوان فرعي، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية ومؤسسة غسان كنفاني الثقافية – 1980.
4- من أخر حديث مع غسان كنفاني أجراه كاتب سويسري، راجع مجلة "شؤون فلسطينية" العدد 35، تموز/ يوليو 1974 (وقد أعيد نشره في كتاب "غسان كنفاني إنسانا وأديبا ومناضل" بيروت – الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين 1974).
5- يقول المخرج عن فيلمه هذا (16ملم – ابيض وأسود) أنه: "وثيقة عن الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي استشهد في الثامن من تموز عام 1972 بعد أن وضعت المخابرات الأمريكية والصهيونية متفجرة في سيارته وهو في طريقه الى مجلة الهدف التي يرأس تحريرها. ويؤكد الفيلم على أن الكلمة الشجاعة لها فعل البندقية في مسيرة الثورة". راجع: قاسم حول "السينما الفلسطينية"، دار الهدف ودار العودة -بيروت، 1976.
6- يقول بول وارن: "إن عملية تحويل شكل فني الى شكل فني آخر تؤدي الى خلق عمل جديد تماما. فعملية تحويل الروايات الى السينما، حتى تلك الي تحاول أن تكون أصدق العمليات نقلا للأصل (…) تولد شعورا جماليا يختلف كل الاختلاف عن ذلك الشعور الذي تولده قراءة الروايات الأصلية، ذلك لأن وسيلة الاتصال الجماهيري -أي اللغة – مختلفة. فاحداها لغة أدبية تقوم على الحروف الأبجدية الهجائية، أما الثانية فهي سمعية مرئية". راجع بول وارن "السينما بين الوهم والحقيقة"، ترجمة علي الشوباني، الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1972.
7- قام بالأدوار الرئيسية فيه: سلمى المصري، خالد تاجا، بسام كوسا، جمال سليمان، جيانا عيد.
8- يرى لوي دي جانيتي أن بعض التغييرات الفنية التي يجريها سينمائيون على النصوص الأدبية "تبدو أقرب الى الكفر"، وهو يعود الى التأكيد على أن "الرائعة الأدبية كثيفة الاشباع بالمعلومات، وعلى صانع الفيلم أن يسعى جاهدا للعثور على المعادل السينمائي بدون تشويه لطبيعة المادة الأصلية"، راجع: لوي دي جانيتي "فهم السينما"، ترجمة جعفر علي، منشورات وزارة الثقافة والاعلام ودار الرشيد للنشر – بغداد 1981 ص 468- 426.
فاروق وادي ( روائي وناقد فلسطيني)