إيمانويل بوف
ترجمتها عن الفرنسية: جانيت لوث
لا يبدو لي أن من يجلس من الناس إلى الموائد المتناثرة على الشرفات يلاحظ وجودي بالرغم من ملابسي الرثة. في أحد المرات نظرت إليّ امرأة تجلس خلف إبريق شاي صغير، من رأسي إلى أسفل قدمي، سعيدًا وممتلئًا بالأمل. تراجعت بخطواتي. ولكن الزبائن ابتسموا ونظر الخادم إليّ نظرة قاسية. وتذكرت لفترة طويلة تلك المرأة المجهولة، رقبتها وصدرها. وبلا شك، كنت مصدر سعادة لها.
آه، كم كنت أتمنى أن أكون ثريًا! كل واحد كان سيُعجب بياقة معطفي الفرو، وخاصة في الضواحي. سترتي ستكون مفتوحة. سلسال ذهبي سيعلق عبر صديريتي، ومحفظتي ستعلّق بمشبك في السلسال الفضي. وعليّ أن أحمل محفظتي في جيب مسدسي، كما يفعل الأمريكيون وعليّ أن أقوم بحركة أنيقة حتى أرى الوقت في ساعة ساعدي. يجب أن أضع يديّ في جيبَي سترتي وأخرج الإبهامين إلى الخارج، ليس مثل أثرياء الحرب في فجوات السلاح في صديريتي. يجب أن يكون لي عشيقة ممثلة. يجب أن نذهب هي وأنا لتناول المقبلات على سطح أكبر مقهى في باريس. سيجر النادل بعيدًا قواعد الموائد المغطاة بالمفارش والأزهار، ليفسح لنا الطريق. تدخل هي أولًا. ستعكس المرايا المصقولة شكلي مئات المرات، مثل صف من عمدان الإنارة. وعندما ينحني المدير لتحيّتنا، فإن قميصه المُنَشَّى سيفتح من الخصر حتى الياقة. عازف الكمان المنفرد يتمايل إلى الخلف وإلى الأمام وكأنه يقف على لوح رفاص، يوازن جسده. خصلات من الشعر تتطاير فوق عينيه، وكأنه قد خرج مباشرة من حمام. في المسرح يجب أن يكون لنا مقصورة خاصة، بحيث أستطيع ملامسة الستائر إذا ما انحنيت إلى الأمام. ينظر إلينا الناس في أرجاء القاعة عبر مناظير الأوبرا.
فجأة تسطع الأضواء من خلف الستائر الزئبقية المسرح، ونرى مشهدًا جانبيًا للمسرح وفي الجناحين، لا يحرك الممثلون ساكنًا.
يرمقنا مغن بزي مواكب للموضة له أزرار عاجية، بنظرة بعد كل مقطع. ثم تدور راقصة حول نفسها على رؤوس أقدامها. وتسقط الأضواء الكاشفة الصفراء والحمراء والخضراء التي تتبعت مسارها بشكل غير متسق مثل ألوان صور إيبينيال.
سنذهب في الصباح بتاكسي إلى غابة بولونيا.
يتحرك مرفقا السائق ببطء وينزلق عند منعطف، فيرمينا التاكسي من أماكننا وندخل في قبلة.
عندما نصل، يجب عليّ أن أخرج أولًا خافضًا رأسي ثم أعطي رفيقتي يدي.
يجب أن أدفع دون النظر إلى العداد ويجب أن أترك الباب مفتوحًا. يراقبنا المارّون وأنا أتظاهر بعدم رؤيتهم.
يجب أن أستقبل عشيقتي في شقة العزوبية في الطابق الأرضي من مبنى جديد. زجاج باب المبنى محمي بالحديد على شكل ورق شجر النخيل. يتلألأ الجرس في نهاية الممر ويمكن رؤيته من مدخل الباب.
كان من المفروض أن أستحم في الصباح وأن تصدر عن ثيابي الكتانية رائحة الكي الطازجة. أترك زرين من أزرار الصديرية مفتوحين حتى أبدو مرتاحًا.
ستصل عشيقتي في الساعة الثالثة.
يجب أن أقوم بأخذ قبعتها، وأدعها تجلس على كنبة. يجب أن أقبل يديها ومرفقيها وكتفيها.
ثم نمارس الحب معًا.
ترمي عشيقتي نفسها إلى الوراء، سكرانة من النشوة. عيناها لامعتان. أفك فستانها. تلبس قميصًا مزينًا بالدانتيل لتسعدني.
ثم تهبني نفسها، متمتمة كلامًا ودودًا وترطب ذقني بقبلاتها.
الفصل الأول
(فيكتور باتون – Victor Batton)
I
عندما أستيقظ، فمي مفتوح. أسناني مكسوة بالوخم، كان من الأفضل أن أنظفها بالفرشاة في المساء، ولكنني لم أكن أملك الشجاعة بشكل كاف. تحجرت الدموع في زوايا عيوني. لم تعد كتفاي تؤلماني بعد الآن. شعر كثيف يغطي جبهتي. أفرده بأصابعي وأرده إلى الخلف. لكن بلا فائدة.. يعاود القفز مثل صفحات كتاب جديد ويستقر فوق عينيَّ ثانية.
عندما أحني رأسي أستطيع أن أشعر أن ذقني قد نمت، إنها تَخِز رقبتي.
أستلقي على ظهري، خلفية رقبتي دافئة، وعيناي مفتوحتان، والملاءات مرفوعة حتى ذقني بحيث لا يبرد السرير مرة أخرى.
السقف ملطخ بالرطوبة، إنه قريب جدًا من السطح. هناك فقاعات هواء في بعض الأماكن تحت ورق الحائط. أثاث منزلي يبدو وكأنه بضاعة تاجر خردة على الرصيف. ماسورة مدفأتي الصغيرة مربوطة بخرقة، كأنها ركبة. وفي أعلى النافذة ستارة معطلة معلقة في مكانها.
عندما أتمدد أستطيع أن أشعر بقضبان السرير تحت قدميّ، وكأنها ممشاة من الحبال المشدودة.
تنسدل ثيابي على ساقيّ، مسطحة ودافئة من جانب واحد فقط. أربطة حذائي لم يعد لها أي رابط.
الغرفة باردة عندما تمطر. لن تتخيل أن أحدًا قد نام هناك. المياه، تجري أسفل حافة الشباك، تأكل المعجون وتشكل بركة صغيرة على الأرض.
عندما تسطع الشمس، وحدها في السماء، تلقي بأنوارها الذهبية إلى وسط الغرفة. يصنع الذباب آلاف الخطوط المستقيمة على الأرض.
في كل صباح تتمتم جارتي أغنيات بدون كلمات وهي تنقل أثاث الغرفة حول المكان. يخمد صوتها بسبب الحائط. أشعر وكأني خلف جرامافون. غالبًا ما ألتقي بها على السلم. إنها تعمل في محل ألبان. تأتي في الساعة التاسعة لتقوم بأعمال المنزل. خفها المنزلي مبقع بنقاط من الحليب.
أحب النساء بالخف المنزلي، تبدو سيقانهن سهلة المنال.
في الصيف يبدو صدرها وحمالة سترتها النسوية عبر قميصها.
قلت لها إني أحبها. ضحكت، بلا شك لأنني لست حسن المظهر وفقير. هي تفضل الرجال الذين يلبسون زيًا عسكريًا. لقد شوهدت ويدها تحت الحزام الأبيض لأحد أفراد الحرس الجمهوري.
إحدى الغرف الأخرى يقطنها رجل عجوز، وهو مريض جدًا: مصاب بسعال. هنالك قطعة مطاط في نهاية عصا المشي الخاصة به. يلقي كتفيه بإسقاطهما على ظهره. عرق ثابت يسير عبر جسده، بين الجلد والعظم. لم تعد سترته تلامس فخذيه بعد الآن، إنها تتأرجح وكأن جيوبها خاوية. يصعد الرجل المسكين الدرجات واحدة بعد الأخرى، مستندًا إلى الدرابزين. بمجرد أن أراه آخذ أعمق نفس ممكن بحيث أستطيع تجاوزه دون أخذ نفس آخر.
أيام الآحاد تزوره ابنته. إنها أنيقة جدًا. بطانة معطفها تبدو مثل ريش الببغاء. رائعة لدرجة أنني أتساءل إذا ما كان المعطف داخله خارجه. أما بالنسبة لقبعتها فلا بد أنها كلفتها غاليًا، لأنها حتى تحميها، تأخذ سيارة أجرة عندما تكون السماء ممطرة. هذه السيدة تفوح برائحة الطيب، رائحة حقيقية، ليست من الأصناف الرخيصة.
سكان منزلي لا يتحملونها. يقولون إنها بدلًا من أن تعيش حياة مرفهة كان من الأفضل لها أن تنشل والدها من فقره.
عائلة لوكوان أيضًا تعيش في مسكني.
في الفجر تدق ساعة منبههم.
الزوج لا يحبني. أنا اتصرف معه بأدب على أي حال. يهاجمني كوني أستيقظ متأخرًا.
يعود إلى المنزل عند الساعة السابعة كل مساء. يتأبط ثياب العمل التي يلفها تحت ذراعه ويدخن سيجارة إنكليزية من التي تجعل الناس يقولون إن العمال يكسبون جيدًا.
هو طويل وقمحي اللون. من الممكن لأحدهم استخدام قوته، إذا ما جامله. في العام الفائت حمل دولاب إلى الأسفل يخص سيدة في الطابق الثالث، وإن يكن ببعض الصعوبة، لأن الغطاء لم يقفل جيدًا.
عندما يتكلم الناس معه، يحدق بهم، لأنه يعتقد أنهم يهزأون به. وعند بادرة ابتسامة يقول «ترى… أربع سنوات من الحرب ….. الألمان لم ينالوا مني …. أنت لن تنال مني اليوم ….
في أحد الأيام، عندما مر بي تمتم: «أيها التافه الكسول!» اصفر لوني ولم أعرف بما أجيب. لم أستطع النوم لمدة أسبوع لأنني كنت خائفًا من أن يكون لي عدو. تخيلت أنه كان يبحث عن فرصة لينال مني، وكان يغار مني غيرة مميتة.
على أي حال، لو كان السيد لوكوان يعرف كم أحب الناس الذين يعملون وكم أشفق على طريقة حياتهم! لو كان يعرف ما الذي أحرم نفسي منه حتى أحصل على استقلالي الضئيل!
عنده ابنتان ويضربهما -فقط بيده- من أجل مصلحتهما. لديهما عروق منتفخة خلف ركبهما. قبعتاهما مثبتتان بمشد مطاط.
أحب الأولاد، ولذلك فأنا أحيي هاتين الفتاتين عندما ألقاهما. عندئذ تستديران، وفجأة وبدون أن تجيباني، تهربان.
كل ثلاثاء تقوم السيدة لوكوان بالغسيل على الأرضية. تسيل مياه الحنفية طوال النهار. عندما يمتلئ الوعاء الكبير، يتبدل الصوت.
تنورة مدام لوكوان قديمة الطراز. كعكة شعرها ضئيلة جدًا بحيث إنك ترى دبابيس الشعر من خلالها.
غالبًا ما تحملق في، ولكنني لا أثق بها. إذ يبدو أنها تجهز لي مصيدة. على أي حال، فهي لا صدر لها.
أخرج من تحت الملاءات وأجلس على حافة السرير. ساقاي تتدليان من عند الركبة. مسام فخذي سوداء اللون. أظافر قدميّ طويلة وحادة، الغريب سيجدها قبيحة.
أقف. رأسي يدور، ولكن الدوخة تزول بسرعة. عندما تكون السماء مشمسة تتلألأ في الأشعة غيمة غبار من السرير لدقيقة، كما المطر.
أولًا ألبس شرابي، إذا لم أفعل فعيدان الكبريت ستلتصق بكعبي قدميّ. ألبس بنطلوني وأنا أستند إلى كرسي.
قبل أن ألبس حذائي، أتفحص النعل لأرى كم سيتحمل.
ثم أضع وعاء غسيلي المحاط بمياه اليوم السابق القذرة، فوق فتحة دلو الغسيل. أنا معتاد على الغسيل وأنا منحن، وساقاي منفرجتان وحمالاتي مشبوكة من أزرارها الخلفية فقط. عندما كنت في الجيش كنت أغسل بهذه الطريقة في وعاء الصفيح الضيق. حوضي ضيق جدًا بحيث إن الماء يفيض إذا ما وضعت يديَّ الاثنتين في نفس الوقت. صابونتي لا ترغي بعد الآن، فقد أصبحت رقيقة جدًا.
أستخدم ذات المنشفة لوجهي ويديّ. وهذا ما سيكون حتى لو كنت غنيًا.
أشعر بتحسن فور انتهائي من الغسيل. أتنفس من أنفي. أسناني نظيفة. يداي ستظلان نظيفتين حتى منتصف النهار.
أضع قبعتي. استدارتها فقدت شكلها بفعل المطر. الشريط معقود بأناقة في الخلف.
أعلق مرآتي على النافذة. أحب أن أشاهد نفسي في الضوء. أبدو أفضل. خدودي، أنفي، وذقني تضيء. الباقي في الظل. إنها تبدو وكأنني آخذ صورتي تحت الشمس.
علي أن أنتبه ألا أبتعد كثيرًا عن المرآة، لأن نوعيتها ضعيفة. تشوه عن بعد انعكاس صورتي.
أفحص فتحات أنفي بانتباه، وزوايا عينيّ، وأسناني الخلفية. إنها مسوسة. لم تسقط حتى الآن.. إنها متآكلة. أستطيع بمساعدة مرآة أخرى أن أرى صورتي الجانبية. يعطي إحساسًا كأن هناك اثنين مني. ممثلو الأفلام لابد أنهم متعودون على هذه المتعة.
ثم أفتح شباكي. يهتز الباب. مطبوعة من الحرب العالمية الأولى تصدر صريرًا على الحائط. أستطيع أن أسمع أناسًا ينفضون بُسطهم. أرى أسقفًا من التوتياء الزرقاء، صفوف المداخن، ضبابًا يرتعش عندما تخترقه أشعة شمس.
قبل الخروج ألقي بنظرة على غرفتي. سريري أصبح باردًا. هناك بعض الريش يخرج من اللحاف المحشو. سيقان الكرسي بها حفر حيث كان من المفروض أن تكون الامتدادات. ورقتا المائدة المستديرة معلقتان إلى أسفل.
هذا الأثاث ملكي. أحد أصدقائي أهداه لي قبل أن يموت. عقمته بنفسي بالكبريت، لأنني أخاف من الأمراض المزمنة. كنت خائفًا لوقت طويل بالرغم من هذه الاحتياطات. أريد أن أبقى حيًا.
وضعت معطفي الخارجي ببعض الصعوبة، لأن دوائر الأكمام خرجت بطانتها.
وضعت دفتر جنديتي، مفتاحي ومنديلي القذر الذي يطقطق عندما أفرده في جيبي الشمال. عندي كتف أعلى من الآخر، وزن هذه الأغراض يساعد في استعادة مكانه إلى أسفل.
الباب لا يفتح جيدًا. لكي أخرج أرفع معطفي وأسير مواربًا عبره. أرضية الغرفة الخشبية مكسورة. قضيب معدني بثلاث حفر، معلق من برواز النافذة. الدرابزين ينتهي إلى الحائط، دون مقبض.
أنزل على السلالم ممسكًا الحائط حيث تتسع الدرجات. لا أمسك الدرابزين حتى لا تتسخ يداي. رزم من المفاتيح تتدلى من فتحاتها.
أنا سعيد وكأنني أخرج دون معطفي للمرة الأولى. رموشي وداخل أذنيّ لا تزال رطبة من الغسل. أنا آسف على الناس الذين ما زالوا نائمين.
دائما أرى البوابة تضع البسط على الدرابزين وهي تنظف الأرضية أو تفرش الممر بمكنسة صفراء. أقول «صباح الخير». نادرًا ما ترد، وتحملق في حذائي.
تتمنى أن تكون لوحدها في المنزل بعد الساعة الثامنة.
II
أنا أسكن في مونتروج.
إن مجمعات الشقق الجديدة في شارعي لا تزال لها رائحة الحجر المقطوع.
منزلي ليس جديدًا. الدهان على الجهة الأمامية يتساقط قطعًا. هناك سياج يغطي النوافذ. الطابق العلوي لا سقف له، فقط سطح. تعلق درف الشبابيك إلى الخلف على الحائط عندما لا يكون هناك رياح. مهندس المعمار لم يحفر اسمه فوق الرقم.
في الصباح الشارع هادئ.
بوابة تكنس ولكن فقط أمام بابها.
عندما أمر أمامها، أتنفس من أنفي بسبب الغبار.
عبر النوافذ المشرعة، أستطيع أن أرى بعض أصص الزرع التي تمت للتو سقايتها، الزينة النحاسية ورقائق الباركيه الضيقة الملمعة المغطية للأرضية بشكل متعرج.
أنا أخجل عندما تقابل عيناي عيني ساكن.
أحيانًا هناك قماشة بيضاء تتحرك خلف ستارة، بارتفاع رجل.. أحدهم يغسل نفسه.
أتناول قهوتي في مكان قريب من سكني، في مقهى صغير. الطاولة المغطاة بالزنك تتموج عند الأطراف. الأرض الخشبية المغسولة بلا صابون، تبدو قديمة جدًا. جرامافون، كان يعمل قبل الحرب، تم وضعه باتجاه الحائط. يتساءل الناس عما يفعله هناك، بما أنه لا يعمل.
صاحب المكان بشوش الوجه. إنه صغير مثل جندي في ذيل مفرزة. له عين زجاجية تشبه العين الحقيقية تمامًا، بحيث أنني لا أعرف أيهما الزجاجية- وهذا يزعجني. يبدو لي أنه ينزعج من نظرتي إلى عينه الاصطناعية.
أخبرني أنه قد جرح في الحرب، ولكن الناس يقولون إنه كان أعمى بإحدى العينين عام 1914.
الرجل القيم يشكو دائمًا. التجارة تتهاوى. ليس جيدًا بالنسبة له تلميع الأكواب أمام الزبائن؛ ليس جيدًا أن يقول: «شكراً يا سيدي؛ مع السلامة يا سيدي؛ لا تلق بالًا للباب»، لا يأتي أحد.
يتمنى لو تصبح الحرب منسية. يتأسف كوننا لم نعد في العام 1910.
في ذلك الوقت، حسب قوله، كان الناس محترمين وودودين. كان الجيش يبدو جيشًا. كان من الممكن أن تعطي تقييمات. كان الناس مهتمين بالقضايا الاجتماعية.
عندما يتكلم عن كل هذا، عيناه كلتاهما -الحقيقية والاصطناعية- تصبحان مبللتين ورموشه تلتصق ببعضها.
زمن ما قبل الحرب اختفى بسرعة لدرجة أنه لا يصدق كونه أصبح مجرد ذكرى.
نحن أيضًا نتعاطى مع المشاكل الاجتماعية. إنه يعلق أهمية كبيرة على فعل ذلك. هذا يشعره بالرضا ويؤكد له أن الحرب لم تغيره.
يؤكد لي يوميًا أنه في ألمانيا، بلد أكثر تنظيمًا من بلدنا، ليس هناك شحاذون. على السلطات الفرنسية أن تمنع الشحاذة.
«ولكنها ممنوعة!»
«أوه، تعال! انظر إلى هؤلاء الحثالة يبيعون أشرطة أحذية! إنهم أغنى مني ومنك.»
وبما أنني لا أحب المناقشات، أحاول ألا أجيب. أبلع قهوتي بنية اللون مضافًا إليها قطرة من الحليب، أدفع الحساب وأخرج.
«أراك غداً!» ينادي، وهو يضع فنجاني الذي ما زال ساخنًا تحت مجرى مياه هزيل يمكن إيقافه من القبو.
بعيدا إلى الأمام هناك دكان بقالة.
مالك الدكان يعرفني. إنه ممتلئ جدًا بحيث إن مريلته تبدو أقصر من الأمام منها من الخلف. يمكن أن ترى جلده تحت قصة شعره. شاربه ذو الطراز الأمريكي يسد فتحات أنفه ويمنع تنفسه من أنفه.
أمام دكانه هناك معرض -صغير، كما هو متوقع- لأكياس العدس والخوخ وبرطمانات الحلويات. يخرج ليقدم للزبائن، ولكنه يزن في الداخل. سابقًا كان يبادلني أطراف الحديث عندما يقف على عتبة بابه. كان يسألني إن كنت أريد شيئًا أو يقول لي إنني أبدو في صحة ممتازة. وقد يدخل عائدًا إلى الدكان بحركة من يده تعني «حتى المرة القادمة».
في أحد الأيام طلب مني أن أساعده في حمل صندوق. كان من الممكن أن أكون سعيدًا بأن أفعل ذلك، ولكني دائمًا أخاف من الفتق.
رفضت متمتمًا: «لست قويًا كفاية، أصبت بجرح كبير.»
ولم يكلمني كلمة واحدة بعد ذلك.
هنالك دكان جزار في شارعي أيضًا.
مربعات من اللحمة معلقة من وترها بخطافات فضية.
مكان الجزار مهترئ في المنتصف كسلّم. شرائح اللحم مربوطة بخيط تنزف على ورق أصفر. نشارة الخشب تلتصق بأقدام الزبائن. الأوزان الملمعة مرتبة حسب حجمها. هناك أعمدة على النوافذ، وكأن أحدهم يخاف أن يهرب اللحم.
في المساء. أرى من خلال الأعمدة، الملونة بالأحمر، بضع أوعية نباتات على الرخام الخالي في شباك الدكان.
مالك هذه الملحمة لا يتذكرني. اشتريت مرة واحدة منه أربع بقايا رخيصة الثمن لقطة مغطاة بالبراغيث وهذا كان العام الفائت.
المخبز مكان معتنى به كثيرًا. تغسل فتاة مدخل المحل كل صباح. المياه تنساب عبر الرصيف المنحني.
عبر النافذة يمكن رؤية المحل برمته، بمراياته وأعمال الخشب من عهد لويس الخامس عشر، والكعك على الصواني السلكية.
رغم أن رواد هذا المخبز هم من الأناس الأثرياء، وأنا واحد من الزبائن أيضًا.. الخبز يكلف نفس السعر في كل مكان.
أقف مرارًا أمام دكان يشتري منه أبناء المنطقة قبعات.
في الخارج هنالك صحف مطوية على طاولة ما، بحيث أن نصف عناوينها يمكن أن يقرأ.
«الاكسلسيور» لوحدها معلقة مثل غطاء مائدة. أنظر إلى الصور. الصور المكبرة دائمًا تظهر نفس الشيء.. حلقة مصارعة أو مسدس مع علب الخرطوش. بمجرد أن تراني صاحبة الدكان داخلًا، تخرج من دكانها. رائحة لعب مدهونة وقطن جديد يرافقانها.
إنها كبيرة في السن ورفيعة. عدستا نظارتها تبدوان وكأنهما زجاج تكبير. كعكتها الهزيلة محبوسة بشبكة شعر. شفاهها تراجعت بشكل دائم داخل فمها. مريلتها السوداء مربوطة بشدة فوق بطنها الذي يبدو في مكان خاطئ. تختفي داخل الغرفة الخلفية لتبدل خمس فرنكات.
أسألها عن حالها.
يبدو عدم إجابتها غاية في الوقاحة؛ لذلك فهي تهز رأسها. لقد تركت الباب مفتوحًا، فأنا أرى أنها تنتظر مغادرتي.
في يوم من الأيام التقطت صحيفة لأقرأ الخط الصغير.
قالت بنبرة وقحة:
«إنه ثلاثة سوس»
كنت أريد أن أقول لها إنني كنت في الحرب، وإنني قد جرحت جرحًا بليغًا، وإنني نلت نيشانًا على خدمتي، وإنني أحصل على تقاعد. ولكني أدركت أن هذا لا فائدة منه.
وأنا أغادر سمعت الباب يقفل بضوضاء.
على أن أذهب مارًا بدكان الألبان حيث تعمل جارتي. هذا يحرجني، لأنني متأكد أنها لم تحتفظ لنفسها ببوحي لها بحبي. قد يكون الناس يضحكون عليّ.
لذا أسرعت الخطى، وأنا ألتقط بنظري سريعًا قطع الزبدة المغطاة بشريط، وصور الريف على أغلفة «الكامومبير»، وشبكة موضوعة على البيض لحمايته من السارقين.