لبيد العامري
شاعر وكاتب عُماني
عصر اليوم جلست حذاء الوادي، لكن لم تكن بالجلسة التي اعتدتُ عليها، تلك التي فيها أحلّق بأجنحة خيالي بعيدًا، إلى الماء المنساب والوجوه العابرة والجبال البعيدة والذكريات العالقة كالوشم.
فجلسة اليوم كانت وطأتها أثقل، إلى درجة أن جبهتي طفحت بالعرق، من شدة الحفر العميق حتى الغور، هناك حيث تكمن كنوز ولآلئ الفكر والعقل والمعرفة، حسب تعبير ميشيل فوكو.
ومن هنا استشففت أن التخيّل المحلق والتأمل أسهل بكثير من التفكير العميق، وقد يعود ذلك لكوني إنسانًا غارقًا في خيالاته وهواجسه وربما عواطفه، فإذا نظرنا من جانب أشمل، فكمْ كان الخيال رفيقًا وأنيسًا لنا منذ الصبا، في حين يحتاج التفكير إلى اكتساب وممارسة.
وهذا لا يعني أن التفكير أهم من الخيال، فالخيال هو الأساس الذي يعتمد عليه التفكير، حسب نظري، فدون الخيال لا تكتمل الفكرة، أو بمعنى آخر بإمكاننا أن نتخيل دون استخدام عقلنا، لكن لا نستطيع أن نستلّ لُقَيْمات الفِكر من خميرة الدماغ دون استخدام ملقط الخيال.
على العموم، تعمّقت في فكرة استحوذت على عقلي ووقتي الذي طال حتى الليل، وكانت عبارة عن اقتباس لمحمد الماغوط يقول فيه: “كلّما تقدم العقل خطوة تراجع الشِّعر خطوتين”. تساءلت هنا كيف يتقدم العقل فيتراجع الشِّعر؟ لكن ما استرعى انتباهي، هو خيط المثال الذي ضربته لتفسير هذه المفارقة المتعارضة، فالمقولة تجسدت، حسب نظري، لدى الكثير من الأدباء الذين أخذهم واستنزفهم الجانب الأكاديمي إلى درجة أنّه لم يعد يستطيع أن يكتب نصًّا إبداعيًّا واحدًا أو قصيدة أو لوحة أو أيًا كان. فأذكر هنا أني سألت دكتورًا سبق له وكتب القصة القصيرة، لماذا لم تعد تكتب القصة القصيرة؟ فأخبرني أنه لا يعرف كيف كتبها سابقا، ولا يستطيع أن يكتب مثلها الآن، وأضاف أن السبب في ذلك هو انغماسه الكبير في الجانب الأكاديمي!
وهذا طبعا لا يقتصر على الأدباء، بل في أيٍ من المجالات الإبداعية الأخرى.
أن تهتم بكيف يقوم العمل أو النص؟ وما هو هيكله؟ ومما يتكون؟ وتحليله؟ ..إلخ قد يقلص من شحذ طاقتك الإبداعية الاستلهامية التلقائية أو يتراجع الشِّعر خطوتين حسب تعبير الماغوط. وهنا لست بصدد التقليل من العمل الأكاديمي أو النقد، قدر ما هي محاولة لتوضيح وتفسير هذه الفكرة التي شغلت بالي، فللعمل الأكاديمي أهميته الكبيرة التي يحتاج لها العِلم والمُتعلم والمجتمع، لكن دعنا لا ننكر، فكما قلنا سلفًا أن الخيال هو الأساس الذي يعتمد عليه التفكير، فإن العمل الإبداعي كذلك هو الأساس الذي يقوم عليه العمل الأكاديمي.
لهذا الاستنتاج لم يمنع من توفر شذوذ، كالفلاسفة والمفكرين الذين كتبوا الشِّعر والرواية في إبداع لا يقل تميزًا عمّا كتبوه في الفكر، إلى جانب آخرين عديدين، منهم الأكاديميون الذين أبدعوا في كتابة الأدب، أو أي مهنة إبداعية أخرى، ما جعلني في آخر الجلسة، وقبل دخولي السيارة، أتمهّل بعض الشيء في استنتاجاتي، المتسرعة نوعا ما، حتى لا تتحول هذه الهواجس المتمردة إلى حقيقة راسخة أو فرضية في رأسي.
وبشكلٍ متقارب، يجدر أن أشير هنا إلى سيكولوجية الإبداع -حسب سيغموند فرويد- الذي يرى أن الإبداع ينشأ من عدد من العمليات النفسية المرتبطة بالعقل الباطن أو اللاشعور، كالتخيل والصراعات وأحلام اليقظة ولعب الأطفال والقمع النفسي والتفريغ الانفعالي والانسجام بين العقل الباطن والأنا. أما التحليل النفسي الحديث فيركز على ما قبل الشعور في الإبداع. أضف إلى ذلك الحدس الذي يلعب دورًا لا يقل أهمية عن سابقيه، فالحدس يُعرّف على أنه حكم أو استنتاج غير مبني على المنطق العقلي وإنما اللاشعور.
في حين ربط العرب القدامى الإبداع -الشعر بشكل خاص- بعملية ميتافيزيقية، وهي ضرب من الأسطورة والخرافة، فقالوا إن الشِّعر يصل إلى الشاعر عن طريق الجن الذين يسكنون في وادي عبقر.
الهوامش
1 – https://areq.net/m/%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9.html